اختراع الجنسانية

تاريخ النشر:

2016

اعداد بواسطة:

اختراع الجنسانية *

يمكن التفكير في الجنسانية وتجربتها والتفاعل معها بأشكال مختلفة بحسب السن والطبقة والإثنية والقدرة الجسدية والميل الجنسي والتفضيل والدين والمنطقة.

(كارول س. فانس) 1

 

حين بدأت الكتابة عن تاريخ الجنسانية كنت أميل إلى استخدام جملة مقتبسة من المؤرخ الأمريكي فيرن بوللو Vern Bullough: أن الجنس في التاريخ “مجال بكر”2 قد تكون هذه تورية شريرة لكنها كانت مفيدة في إبراز حقيقة هامة كثيرًا ما يتم تجاهلها. الكثيرون يتحدثون ويكتبون عن “الجنسانية” لكن معرفتنا بتاريخها لازالت ضئيلة قليلة للغاية. هؤلاء المغامرون الذين تجرءوا على النزول إلى الميدان اعتادوا أن يقرروا تعميمات عابرة للثقافات (“تاريخ حرب طويلة بين الدوافع الخطيرة والقوية ونظم التحريم والموانع التي رفعها الإنسان ليتحكم فيها”) 3 أو أن يطرحوا الموضوع تحت عناوين محايدة وأكثر قبولاً (خاصة “الزواج” و”الأخلاق”). وبدا الجنس هامشيًا في المساحات الشاسعة من التاريخ الأرثودوكسي.

خلال العقد الماضي تغير الكثير، وأحيانًا بشكل حاد. أصبح هناك طفرات صغيرة من الكتابات التاريخية عن الجنس. نعلم الآن الكثير عن موضوعات مثل الزواج والأسرة، الدعارة والمثلية الجنسية، أشكال التنظيم القانوني والطبي، المنظومة الأخلاقية السابقة على المسيحية وتلك غير المسيحية، أجساد وصحة النساء، اللاشرعية وتحديد النسل، الاغتصاب والعنف الجنسي، تطور الهويات الجنسية وأهمية الشبكات الاجتماعية والجنسانيات المعارضة. وابتكر المؤرخون أساليب معقدة لدراسة تكون الأسرة والتاريخ الديموغرافي، وبحثوا بكثافة عن الجديد، أو فتشوا المصادر التوثيقية القديمة وأولوا اهتمامًا أكبر لاستخدام مقابلات التاريخ الشفهي لإعادة بناء التجارب الذاتية أو المحظورة. وبسبب التشجيع بواسطة كم هائل من التاريخ القاعدي الذي نما تحت تأثير النسوية الحديثة وسياسات المثلية الذكورية والأنثوية، أصبح لدينا الآن مكتبة هائلة من المقالات والمطويات والكتب. أما تاريخ الجنسانية فليس بعد مجالاً بحثيًا يحظى بالاحترام: فكما أشار عالم الاجتماع كين بلامر Ken Plummer، أبحاث الجنس ما زالت تحيطك “بالشكوك الأخلاقية”.4 لكنه اكتسب الآن على الأقل درجة من الاعتراف المهني وأصبح له جمهور مهتم وفي بعض الأحيان شغوف. بل هناك مبادئ اعتراف بأنه قد يلقي الضوء على حاضرنا المربك والمرتبك.

ورغم ذلك لا زالت تواجهنا اشكالية تخص ما هو بالضبط موضوع دراستنا. يمكن أن أعدد. مثلما فعلت أعلاه، عددًا من الأنشطة التي نصفها عادة بأنها جنسية. ولكن ما هو الشيء الذي يربطها؟ ما هو العنصر السحري الذي يصف بعض الأشياء بالجنسية دون غيرها؟ في لب اهتمامنا، بالتأكيد، يكمن الاهتمام بالعلاقة بين الرجال والنساء. أحد الأشكال المحددة لتفاعلهم هو الإنجاب البيولوجي والاجتماعي. ما من باحث في الجنس يجرؤ على تجاهل ذلك. لكن تاريخ الإنجاب ليس تاريخ الجنس. يلاحظ ألفريد كينزي Alfred Kinsey بشكل قاسٍ:

علماء البيولوجيا وعلماء النفس الذين قبلوا بأن الوظيفة الوحيدة الطبيعية للجنس هي الإنجاب تجاهلوا ببساطة وجود نشاط جنسي لا يستهدف ذلك. وافترضوا أن تفاعلات الجنسية الغيرية هي جزء من أدوات الحيوان المتأصلة و”الغريزية” وأن كل أشكال النشاط الجنسي الأخرى تمثل “انحرافًا” عن “الغرائز الطبيعية”. لكن مثل هذه التفسيرات لا تعدو كونها خيالية. 5

أغلب التفاعلات الشهوانية، حتى بين من نصفهم بسهولة بأنهم “غيريي الميول الجنسية” لا تؤدي إلى الإنجاب. وهناك أشكال كثيرة من الجنس غير الغيري، بين النساء وبين الرجال. بعض هذه الممارسات تشمل الجماع بشكل أو بآخر. والبعض الآخر لا يشمله. أغلبها يحمل إمكانية الوصول إلى النشوة، لكن بعض النشاط المرتبط بالجنس بوضوح (مثل ارتداء ملابس الجنس الآخر) قد تؤدي مصادفة إلى “التفريغ الجنسي” وقد لا يحدث ذلك نهائيًا. حتى الحميمية لا تبدو بالوضوح بحيث يمكن اعتبارها معيارًا لتحديد ما هو جنسي. وبعض الأنشطة التي نصفها باعتبارها تفريغ جنسي لا تشمل، في الظاهر على الأقل، شخصًا آخر؛ بعض جوانب الحميمية لا علاقة لها بالجنس (وبعض الجنس ليس حميمًا). علماء البيولوجيا الاجتماعية المعاصرين الذين يسعون إلى تفسير كل ظاهرة في الحياة الاجتماعية بالإشارة إلى “الطاقة اللانهائية للجينات الأنانية” قد يجدون منطقًا بيولوجيًا في كل هذه الأنشطة. لكن الباقين منا، وأعتقد عن حكمة، قد يشعرون بقدر أكبر من التشكك. نحن أكثر من “آلات تسعى إلى البقاء – مخلوقات آلية مبرمجة للحفاظ على الجزيء” كما يصفنا ريتشارد دوکینز Richard Dawkins. 6

إذًا، أي تاريخ يقصد بتاريخ الجنسانية؟ إجابتي المخيبة للآمال هي أنه تاریخ بدون موضوع محدد، أو كما اقترح روبرت بادجوج Robert Padgug، هو تاريخ لموضوع دائم التدفق. 7 إنه في كثير من الأحوال تاريخ انشغالاتنا المتغيرة بشأن كيفية إدارة حياتنا، وكيفية التمتع أو حرمان أجسادنا، مثلما هو أيضًا بشأن الماضي. الطريقة التي نكتب بها عن جنسانيتنا تقول لنا الكثير عن الحاضر وهمومه مثلما عن الماضي.

لسنا بالتأكيد الجيل الأول الذي يتأمل في تاريخ الجنسانية ولا نحن أول من يكشف عن انشغالاتنا حين نفعل ذلك. لطالما كانت المعرفة بالماضي عنصرًا هامًا لمن يبحثون في معنى وتبعات الحياة الشهوانية. في كتابها “سوابق أبوية”، وصفت روزالیند کوارد Rosalind Coward المناقشات المعقدة والساخنة التي دارت في النصف الأخير من القرن التاسع عشر بشأن طبيعة الأسرة المعاصرة والأشكال الجنسية. 8 وقد رأى رواد علماء الاجتماع في الجنسانية مدخلاً مميزًا للبحث في الأصول الأولى للمجتمع الإنساني. من هنا تدفقت نظريات متعارضة بشأن التطور وتبلور الأنماط المختلفة للحياة الجنسية. هل نشأت الأسرة الحديثة من القبيلة البدائية، أم كانت قائمة من البداية، بشكل “طبيعي” منذ ميلاد التاريخ؟ هل كان أسلافنا يعيشون في حالة من الاختلاط البدائي، أو هل كانت أحادية الزواج ضرورة بيولوجية وواقع؟ هل كان هناك – يومًا – فردوسًا من المساواة الجنسية قبل “الهزيمة التاريخية العالمية للجنس الأنثوي” أم كانت الهيمنة الأبوية قائمة منذ فجر الحضارة؟ وبناء على كيفية حسم مثل تلك النقاشات تشكلت المواقف، ليس تجاه الأشكال الاجتماعية القائمة فحسب (الزواج، عدم المساواة بين الجنسين، ازدواجية المعايير الأخلاقية) وإنما أيضًا تجاه الثقافات الأخرى “البدائية” التي تزامن وجودها مع الثقافة الغربية. هل يمكن أن نجد أدلة على تاريخنا التطوري في طقوس وسلوكيات السكان الأصليين في أستراليا الذين توقفوا على سلم التقدم؟ أم أن لهؤلاء البشر ما يقولوه لنا بشأن تنوع الحضارات؟

لم نتمكن تمامًا من التخلص من آثار الخلافات في نظريات التطور. حيث أن الممارسات العنصرية استمرت لقدر كبير من هذا القرن بل وأصبحت شرعية من خلال الإشارة للحالة البدائية للأجناس الأخرى. حتى هؤلاء الذين يمجدون فضائل الحرية الجنسية في المجتمعات غير الصناعية يعتمدون على اليقين بأن شعوبهم هي بشكل أو آخر “الأقرب إلى الطبيعة”. كذلك، الكثير من النقاشات النسوية المعاصرة بشأن ديمومة الهيمنة الذكورية الأبوية يعيدون حرث أرض سبق أن تم حرثها منذ قرن مضى. لكن منذ عشرينات القرن العشرين استبدلت الأسئلة القديمة بشأن تطور الثقافة البشرية، بتناول أنثروبولوجي جديد طرح أسئلة مختلفة عن الجنسانية.

ارتبط هذا الأمر بداية بكُتَّاب مثل برونيسلاف مالينوفسكي Bronislaw Malinowski ومارجريت ميد Margaret Mead، الذين فطنا إلى خطورة محاولة فهم حقب ما قبل التاريخ البشري من خلال البحث في المجتمعات القائمة. نتيجة لذلك أصبح هناك جهد جديد لمحاولة فهم كل مجتمع على حدة في إطار السياق الخاص به. وقد نتج عن ذلك نوع من النسبية الثقافية عند النظر إلى عادات جنسية أخرى، واعتراف بشرعية وجود نظم جنسية مختلفة، مهما كانت تبدو غريبة بمعايير المجتمعات الصناعية في القرن العشرين. وقد كان هذا التناول شديد التأثير من حيث المساعدة على وضع الثقافة الغربية، بكل سخطها، في سياقها. كذلك، أدى الاعتراف بتنوع الأنماط الجنسية في كافة أنحاء العالم إلى المساهمة في تشكيل فهم أكثر تعاطفًا مع تنوع الأنماط الجنسية في مجتمعنا ذاته، أحد أشهر الأمثلة على ذلك نجده في تصوير مارجريت ميد الرومانسي “للبلوغ” في ساموا والذي كان له تأثير ضخم في ثلاثينات القرن العشرين لأنه أوضح أن الطريقة الأمريكية “القمعية” في التعامل مع مشكلة المراهقة ليست مرغوبة ولا حتمية ولا ضرورية. 9

مع ذلك، كانت هناك صعوبات. من ناحية كانت هناك مخاطر محاولة فهم كل الأفعال الجنسية عن طريق وظيفتها باعتبارها استجابات دقيقة لمتطلبات المجتمع. وقد رأى مالينوفسكي أن فهم قوانين المجتمع لابد وأن يصاحبه فهم علمي لقوانين الطبيعة، وأشار في ذلك إلى إليس Ellis وعبر عن احترام نقدي لفرويد Freud لمساعدته على فهم ما هو “إنساني وأساسي”.10

وجد مالينوفسكي في دراسته للحضارات عمليات دقيقة تستهدف إرضاء الطبيعة البشرية الأساسية؛ هذه العمليات لا تطرح تساؤلاً حول حالة ما هو طبيعي بقد ما يتم التأكيد على تلك الحالة، وما إذا كانت هذه الحالة نتاج الاحتياجات الغريزية الأساسية أم هي نتاج التطور. من ناحية أخرى فإن افتراض “مرونة لا نهائية” للاحتياجات الإنسانية الذي طرحته روث بنيديكت Ruth Benedict ومارجريت ميد وأتباعهما لم يؤد إلى قراءة أكثر تاريخية للأنماط الجنسية، وإنما إلى توصيف أنثروبولوجي تمامًا قدم للقراء تداعيات رائعة ولامعة للحياة الجنسية للشعوب الأخرى, دون أن يفسر لماذا أصبحت تلك الأنماط على ما هي عليه. في غياب أي نظرية محددة للعناصر التي تشكل الجنسانية نجد أنفسنا مرة أخرى أمام افتراضات مجردة تعيد التأكيد على نفسها.

يكمن إبداع المحاولات المعاصرة لتطوير التناول التاريخي للجنسانية في الاستعداد للتساؤل والبحث في مدى طبيعية وحتمية الفئات والافتراضات الجنسية التي ورثناها. تحدث عالما الاجتماع جانیون Gagnon وسيمون Simon عن الحاجة – التي وجدت في زمن ماضٍ غير محدد – إلى “اختراع” أهمية للجنسانية – قد يكون ذلك بسبب قلة عدد السكان ومخاطر الاندثار الثقافي. 11

وقد ذهب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو Michel Foucault إلى أبعد من ذلك حين سعى إلى البحث في فكرة “الجنسانية” ذاتها.

لا يجوز أن نفكر في الجنسانية باعتبارها معطى تحاول السلطة السيطرة عليه، أو باعتبارها مجال غامض تسعى المعرفة إلى كشف غموضه تدريجيًا. إنه اسم يمكن منحه لبنية تاريخية.١٢

ساهمت أعمال فوكو مساهمة كبيرة في المناقشات الحديثة حول تاريخ الجنسانية، تحديدًا لأنها انبثقت وتطورت من الكتابات التي تبلورت من إبداعات علم الاجتماع والتاريخ الاجتماعي للجندر. وقد ساهمت أعماله في التركيز على الأسئلة المطروحة عندئذ. إضافة إلى الأسئلة الخاصة بكيفية تشكل المعتقدات والسلوكيات الجنسية أضيف سؤال جديد عن تاريخ فكرة الجنسانية ذاتها. وقد رأى فوكو أن الجنسانية كانت عبارة عن علاقة بين عدة عوامل وسلسلة من الممارسات والأنشطة ذات المعنى وآلية اجتماعية ذات تاريخ وجذور معقدة في الماضي المسيحي والسابق على المسيحية, لكنها اكتسبت وحدة مفاهيمية جديدة، ذات آثار متنوعة، فقط في العالم الحديث.

أهم نتائج هذا التناول التاريخي للجنسانية هو أنه يفتح مجالاً كاملاً أمام التقييم والتحليل النقدي، وأصبح من الممكن الربط بين الجنسانية وظواهر اجتماعية أخرى. من ثم أصبح هناك ثلاث أنواع من الأسئلة على درجة كبيرة من الأهمية: أولاً، كيف تتشكل الجنسانية، وكيف تتمحور مع البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ أي بجملة واحدة، كيف “تتشكل اجتماعيًا”؟ ثانيًا، كيف ولماذا اكتسبت الجنسانية هذه الدلالة التنظيمية والرمزية في الثقافة الغربية؛ ولماذا نعتقد أنها على هذا القدر من الأهمية؟ وثالثًا، ما هي العلاقة بين الجنس والسلطة؛ وما هو الدور الذي يلعبه التقسيم الطبقي وأنماط الهيمنة الذكورية والعنصرية؟ البحث في كل هذه الأسئلة أصبح همًا متكررًا: إذا كانت الجنسانية تتشكل بواسطة الفعل الإنساني، إلى أي مدى يمكن تغييرها؟ هذا هو السؤال الذي سوف أحاول التعامل معه في الفصول التالية. أما الأسئلة الثلاث الأولى فسوف أتناولها تباعا في هذا الفصل.

“التشكل الاجتماعي للجنسانية” مصطلح شائع الاستخدام وله رنين قاس وميكانيكي، لكنه في جوهره يحمل همًا واضحًا ومباشرًا بشأن “الطرق الدقيقة والمتعددة التي تتشكل بها مشاعرنا ورغباتنا وعلاقاتنا مع المجتمع الذي نعيش فيه”. 13 في الممارسة يفترض أغلب من كتبوا عن ماضينا الجنسي أن الجنس طاقة طبيعية لا تقاوم، حتى أن قشرة رقيقة من الثقافة قادرة على التحكم فيها. يقول مالينوفسكي:

الجنس غريزة قوية للغاية … ما من شك أن الغيرة الذكورية والاحتشام الجنسي والمكر الأنثوي وعملية الانجذاب الجنسي والمصاحبة الجنسية كلها جعلت من الضروري – حتى في أكثر التجمعات الإنسانية بدائية – أن تكون هناك أساليب فعالة وقادرة على تنظيم وكبت وتوجيه هذه الغريزة.

وفي مقال آخر كتب “الجنس خطر حقيقي” ومصدر كل المشكلات الإنسانية بداية من آدم وحواء والى ما بعدهما. 14

يمكننا أن نلتقط من هذه الكلمات صدى آراء كرافت ابينج Krafft- Ebing عن الجنس في أواخر القرن التاسع عشر، حين وصف الجنس بأنه غريزة قوية للغاية، تطالب بالإشباع في مواجهة متطلبات الأخلاق والمعتقد والقيود الاجتماعية. لكن هناك أيضًا مؤرخين أكاديميين كلاسيكيين تحدثوا بلغة شبيهة. يرفض لورنس ستون Lawrence Stone على سبيل المثال في مقاله “الأسرة والجنس والزواج” فكرة أن “الهو” (مصدر الطاقة في اللاوعي الفرويدي) هو أكثر الدوافع قوة وأقلها قابلية للتغيير. وأضاف أن التغيير في البروتينات، في الغذاء، في المجهود الجسدي وفي الضغط النفسي كلها لها تأثير على تنظيم الجنس. مع ذلك فإنه يتحدث عن “الأنا الأعلى” (منظومة القيم المستبطنة) التي أحيانًا تكبت وفي أحيان أخرى تطلق الدافع الجنسي. وهو رأي يؤدي بسلاسة إلى إعادة إنتاج الصورة التقليدية القديمة. 15

تفترض هذه المقاربات أن الجنس يشمل “تفويض بيولوجي” أساسي يضغط على المنظومة الثقافية التي بدورها تسعى إلى تقييده. هذا هو ما أعنيه بالتناول الأصولي للجنسانية، والذي قد يتخذ عدة أشكال. يميل المنظرون التحرريون مثل رايخ Reich وماركوز Marcuse إلى اعتبار الجنس طاقة مقيدة تكبتها حضارة فاسدة. أما علماء البيولوجيا الاجتماعية، من ناحية أخرى، فيعتقدون أن الأطر الاجتماعية، بطريقة ما غير محددة، هي نتاج مادة وراثية أساسية. إلا أن جميعهم يتفق على وجود عالم ما من الطبيعة يوفر المادة الخام التي لابد من استخدامها لفهم كل ما هو اجتماعي. في مواجهة هذه الأطروحات أود أن أؤكد على أن الجنسانية تتشكل بواسطة قوى اجتماعية، وحيث أنها أبعد ما تكون عن عنصر طبيعي في الحياة الاجتماعية ومقاوم بشدة للتشكل الثقافي، أرى أنها الأكثر عرضة للضبط. بل قد أذهب حد القول بأن الجنسانية غير موجودة خارج أشكالها الاجتماعية وحدود ضبطها الاجتماعي. كذلك فإن القوى التي تشكل وتقولب الإمكانيات الجنسية للجسد تختلف من مجتمع لآخر. كتبت إلين روس Ellen Ross وراينر راب Reiner Rapp أن “التكيف الاجتماعي الجنسي ليس أقل خصوصية في أية ثقافة عن اجتماعيات الطقوس أو الملبس أو الطعام الخاص بها”. 16 يوجه هذا الموقف الاهتمام إلى ما يجب التركيز عليه وهو المجتمع والعلاقات الاجتماعية بدلاً من الطبيعة.

لا أريد أن أنكر هنا أهمية البيولوجيا، ذلك أن فسيولوجيا وتكوين الجسد تمثلان الشروط اللازمة للجنسانية الإنسانية؛ البيولوجيا تقيد وتحدد الممكن، لكنها ليست المسئولة عن أنماط الحياة الجنسية. لا يمكن أن نفسر مثلاً السلوك الإنساني بالأداء الغامض لسلاسل الحامض النووي أو إلى ما أطلق عليه كاتبان معاصران مؤخرًا “رقصة الكروموزومات”، 17 بل أفضل أن أرى في البيولوجيا عددًا من الإمكانيات التي لا تتشكل أو يصبح لها معنى إلا في إطار العلاقات الاجتماعية, فالوعي الإنساني والتاريخ الإنساني ظاهرتان معقدتان للغاية.

للموقف النظري الكثير من الجذور: في علم الاجتماع الجنسي وأنثروبولوجيا الجنس، في ثورة التحليل النفسي وفي التاريخ الاجتماعي الجديد. ولكن رغم اختلاف نقاط الانطلاق إلا أنها كلها تلتقي حول عدد من الافتراضات المشتركة. أولاً، هناك رفض عام لاعتبار الجنس مجالاً مستقلاً، أو مجالاً طبيعيًا له آثار محددة، أو طاقة متمردة تخضع لسيطرة ما هو اجتماعي. لم يعد بمقدورنا أن نضع “الجنس” في مواجهة “المجتمع” كما لو كانا مجالين منفصلين. ثانيًا، هناك توافق واسع حول التنوع الاجتماعي في الأشكال والمعتقدات والأيديولوجيات والسلوكيات الجنسية. للجنسانية تاريخ – أو لنكون أكثر واقعية – لها أكثر من تاريخ، وكل منها بحاجة إلى أن يُفهم سواء من حيث تفرده كما من حيث كونه جزءًا من نمط شديد الدقة. ثالثًا، يجب أن نتخلى عن فكرة أن بإمكاننا أن نفهم تاريخ الجنسانية من خلال ثنائية الضغط والتفريغ، الكبت والتحرر. فالجنسانية ليست رأس حربة يجب تهذيبها كي لا تدمرنا؛ ولا هي طاقة الحياة التي يجب إطلاقها لإنقاذ حضارتنا. بدلاً من ذلك علينا أن نتعامل مع الجنسانية باعتبارها شيئًا ينتجه المجتمع بأساليب معقدة. إنها نتاج ممارسات اجتماعية مختلفة تضفي معنى على الأنشطة الإنسانية، ونتاج تعريفات اجتماعية وأخرى ذاتية وصراعات بين من يملكون سلطة التعريف والضبط ومن يقاومون ذلك. الجنسانية ليست معطى، بل نتاجًا لعمليات من التفاوض والصراع والفعل الإنساني.

يقول بلامر Plummer، لا يوجد شيء جنسي، لكن تسميته بالجنسي تجعله كذلك. 18 لو صح هذا الأمر لترتب عليه ضرورة أن نتحرك بحذر شديد في تطبيق تعريفاتنا الغربية على الثقافات الأخرى. ذلك أن الأهمية المولاة للجنسانية والمواقف من المظاهر المتعددة للحياة الجنسية تتباين كثيرًا. بعض المجتمعات تعير النشاط الجنسي اهتمامًا قليلاً حتى أنهم قولبوا بأنهم “غير ذوي/ ات ميول جنسية” 19 من ناحية أخرى بلورت الثقافات الإسلامية رؤية غنائية للجنس مع محاولات مستمرة

لإدماج الديني مع الجنسي. في هذا الشأن يكتب بو حديبة Bouhdiba عن تجذر مشروعية ممارسة الجنسانية في العالم الإسلامي – طالما ليست مثلية، الأمر الذي يدينه الإسلام بشدة. 20 أما الغرب المسيحي فقد اشتهر برؤيته في الجنس مجالاً للمعاناة والصراع الأخلاقي، مع تكريس ثنائية حازمة بين الروح والجسد، والعقل والجسد، ما ترتب عليه حتميًا منظومة ثقافية تدين الجسد في نفس الوقت الذي تنشغل به حد الهوس.

في إطار الاختلافات الشاسعة بين المواقف الثقافية العامة، تحدد كل ثقافة الممارسات التي تعتبرها ملائمة وتلك التي تعتبرها غير ذلك، أخلاقية كانت أو غير أخلاقية، صحية أو منحرفة. والثقافة الغربية مستمرة في تحديد السلوك الملائم ضمن طيف محدود من الأفعال المقبولة، ويبقى العرف المقبول هو الزواج الأحادي بين زوجين، مختلفين في الجندر، متقاربين نوعًا في السن. إلا إن هذا العرف لا يعكس بالضرورة الواقع، وهو – رغم كل ما طرأ عليه من تغيرات – الإطار المقبول في عالم الرشد والنشاط الجنسي. أما المثلية الجنسية، فتحمل من ناحية أخرى، ميراثًا ثقيلاً من التحريم، وقد لاحظ دنيس ألتمان Denis Altman أن المثليين قد يكونوا مقبولين اليوم، إلا أن المثلية ذاتها تظل غير مقبولة، ويبدو هذا الرأي صحيحًا في ظل مناخ يمكن فيه لمرض مثل الايدز أن يؤدي إلى فزع إعلامي بشأن نمط حياة المثليين. 21 لمع ذلك هناك ثقافات أخرى لم تجد ضرورة في توجيه مثل تلك النصائح، حيث وجد عالمًا الأنثروبولوجيا فورد Ford وبيتش Beach أن 15% فقط من 185 مجتمعًا مختلفًا تناولهم البحث يقصرون العلاقة الجنسية على علاقة أحادية. وأشارت نتائج كنزي إلى أن الممارسات الغربية تتضمن الكثير من الممارسات التي لا تظهر على سطح الالتزام الظاهري: في العينة التي درسها في أربعينات القرن العشرين وجد كنزي أن 50% من الذكور و٢٦% من الإناث. بحلول سن الأربعين، كانوا مارسوا الجنس خارج إطار الزواج.٢٢

ليس الزواج بالضرورة غيريا. بين قبائل النوير الأفريقية، على سبيل المثال، “تتزوج” النساء الأكبر سنًا من النساء الأصغر سنًا. 23 كما أن المثلية الجنسية ليست محرمة في كل أنحاء العالم, وهناك أشكال متنوعة من المثلية الجنسية داخل إطار مؤسسي بداية من طقوس البلوغ في القبائل الأفريقية إلى العلاقات “التعليمية” بين الرجال والشباب (مثلما في اليونان القديمة) وانتهاء بعلاقات الشراكة المتكاملة بين المتحولين جنسيًا بين السكان الأصليين في أمريكا. ٢٤

ما زلنا في الغرب نحدد معايير الجنس المقبولة في علاقتها بأحد نتائجها المحتملة: الإنجاب. وقد كان هذا هو المبرر الوحيد للعلاقات الجنسية على مدى قرون طويلة من الهيمنة المسيحية. مع ذلك، هناك ثقافات أخرى، عجزت حتى عن الربط ما بين الجماع والإنجاب. بعض المجتمعات تعترف فقط بدور الأب، ومجتمعات أخرى تعترف فقط بدور الأم. أما سكان جزر كيريوينا فلا يربطون بين الجماع والإنجاب ولا يكتسب الجماع لديهم أهمية إلا “بعد” دخول الطفل الروحاني إلى الرحم مشكلاً طابع ووجدان الطفل في المستقبل. 25

يقول بلامر أن كل ثقافة تحدد الممنوعات من حيث شخصية الفاعل وطبيعة الفعل. الممنوع الأول يتعلق بجندر وعرق وسن ودرجة قرابة وأصل وطائفة وطبقة الشريك التي تحدد من يمكن إتخاذهم شركاء/ شريكات. أما طبيعة الفعل، فتشمل الأعضاء التي يجوز استخدامها والفتحات التي يجوز إيلاجها وطريقة التواصل الجنسي والجماع الجنسي: أي ما يجوز أن نلمسه ومتى يجوز أن نلمسه وبأي معدل وما إلى ذلك. 26 تتخذ هذه القواعد أشكالاً كثيرة، رسمية وغير رسمية، قانونية وخارجة عن القانون، وعادة لا تطبق بالتساوي على كل أفراد المجتمع. على سبيل المثال، توجد في العادة قواعد تطبق على الرجال وتختلف عن تلك التي تطبق على النساء، تتكون بطرق تُخضع جنسانية النساء لجنسانية الرجال. وعادة ما تكون هذه القواعد مقبولة، بمعناها المجرد، أكثر منها إرشادات عملية ملزمة. لكنها مجتمعة تشمل المسموح به والممنوع والحدود والإمكانيات التي تتشكل من خلالها الحياة الجنسية.

هناك خمسة موضوعات رئيسية تطرح نفسها لما لها من دور هام للغاية في الضبط الاجتماعي للجنسانية: درجة القرابة ونظام الأسرة والتنظيم الاقتصادي والاجتماعي واللوائح الاجتماعية والتدخلات السياسية وتبلور “ثقافات المقاومة”.

(۱) القرابة والنظم الأسرية

تبدو هذه وكأنها أكثر الأشكال تأثيرًا وثبوتًا على الإطلاق؛ المحور “الطبيعي” للتكيف الاجتماعي والخبرة الجنسية. في هذا السياق يبدو تحريم سفاح القربى، الذي هو تحريم العلاقات الجنسية بين درجات معينة من القرابة، وكأنه موقف يتفق عليه العالم أجمع، وعلامة على الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع البشري: أي أنه مكون أساسي من مكونات الثقافة (كما أنه أيضًا أساس أكثر الأساطير شهرة وديمومة: أسطورة أوديب). مع ذلك فإن أشكال التحريم متنوعة بشدة. على سبيل المثال في التقاليد المسيحية في العصور الوسطى كان الزواج حتى الدرجة السابقة من القرابة ممنوعًا. اليوم يُسمح بالزواج بين أقارب الدرجة الثانية. وفي مصر الفرعونية كان يسمح بزواج الشقيق من شقيقته وفي بعض الحالات زواج الأب من ابنته بهدف الحفاظ على نقاء السلالة الملكية. 27 هذا التحريم للعلاقات الجنسية بين المحارم يوضح حاجة كل المجتمعات إلى تنظيم الجنس بشكل أو بآخر، ولكن ليس طريقة ممارسته. حتى “علاقات الدم” يجب تفسيرها من المنظور الثقافي.

الحقيقة أن علاقات القرابة ليست علاقات دم طبيعية، وإنما هي علاقات اجتماعية بين جماعات, تستند في كثير من الأحوال على تقارب محلات الإقامة وتنافر التقارب الوراثي. يقول مارشال سالینز:

قد يكون تقدير البشر لدرجات القرابة أبعد ما يكون عن الارتباط البيولوجي بحيث يستبعد الكل ما عدا نسبة صغيرة من المرتبطين وراثيًا من دائرة “الأقارب المقربين”, في نفس الوقت الذي قد تشمل فيه هذه الفئة، باعتبارها علاقات دم، درجات بعيدة جدًا من القرابة أو حتى غرباء تمامًا. وقد يضم هؤلاء الغرباء (بالوراثة) من تعتبرهم الثقافة أبناء لها.٢٨

من نعتبرهم أقارب ومن نصفهم “بالأسرة” يعتمد بوضوح على عدد من العوامل التاريخية. هناك أشكال كثيرة متباينة للأسرة، خاصة في المجتمعات الغربية المتطورة صناعيًا، تختلف باختلاف الطبقة والجماعة الجغرافية والدينية والعرقية والإثنية. تتشكل أنماط الأسرة ويعاد تشكيلها من خلال عوامل اقتصادية وبحكم الإرث وبتدخلات الدولة في تنظيم الزواج والطلاق، أو من خلال الدعم الاجتماعي للأسرة أو السياسات الضريبية. كل هذه العوامل تؤثر على الأنماط المحتملة للحياة الجنسية من خلال تشجيع أو عدم تشجيع الزواج، وتحديد سن الزواج ومعدلات الإنجاب والموقف من عدم الإنجاب أو الجنس المثلي والسلطة النسبية للرجال على النساء وما إلى ذلك. صحيح أن كل هذه العوامل هامة في ذاتها، إلا أن أهميتها تتضاعف لأن الأسرة هي المساحة التي يكتسب فيها أغلبنا – في الثقافة الغربية – إدراكنا لاحتياجاتنا وهوياتنا الجنسية الفردية؛ وإذا عدنا للتحليل النفسي فإن تلك المساحة هي التي تشهد تنظيم رغباتنا منذ المراحل الأولى من حياتنا. لذلك، ولكي نفهم الجنسانية، علينا أن نفهم ما هو أكثر من الجنس؛ علينا أن نفهم العلاقات التي تحيط بأغلب الممارسات الجنسية.

(۲) النظام الاقتصادي والاجتماعي

أوضحت فيما سبق أن الأسر في حد ذاتها ليست وحدات مستقلة وطبيعية، بل تتشكل بواسطة العلاقات الاجتماعية الأوسع. كما يمكن للعلاقات المنزلية أن تتبدل بواسطة القوى الاقتصادية وبالانقسامات الطبقية التي تنجم عن الوضع الاقتصادي، وبدرجة التحضر والتغيرات الصناعية والاجتماعية السريعة.29 في الماضي، وربما أيضًا في الحاضر، أثرت هجرة الأيدي العاملة على أنماط علاقات القرابة والنسب، وساعدت على تحديد معدلات عدم الشرعية. كما ساهم تحول سكان الريف إلى الصناعة في انجلترا في أوائل القرن التاسع عشر في زيادة كبيرة في معدل الممارسات غير الشرعية نتيجة انقطاع أنماط علاقات المغازلة القديمة بسبب التخلخل الاقتصادي والصناعي، فأصبحنا بصدد حالة من “كبت الزواج” أكثر منها ثورة جنسية واعية. كذلك فإن أوضاع العمل قد تؤثر على الحياة الجنسية، فنجد مثالاً جيدًا على ذلك في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين حين كانت النساء العاملات في المصانع أكثر دراية بوسائل منع الحمل الصناعية ومن ثم أكثر قدرة على تحديد حجم أسرهن عن النساء اللاتي اقتصر عملهن على المنزل أو الخدمة المنزلية. 30

تتأثر العلاقات بين الرجال والنساء دائمًا بالتغير في الظروف الاقتصادية، فقد أثرت زيادة انخراط النساء المتزوجات في العمل مدفوع الأجر في خمسينات وستينات القرن العشرين على أنماط الحياة المنزلية لا محالة، كما غذي موجة استهلاكية ضخمة، مثلت أحد شروط انتعاش أسواق جديدة للسلع الجنسية في الجيل السابق. صحيح أن الجنسانية لا “تتحدد” بواسطة نمط الإنتاج، إلا أن سرعة إيقاع الحياة الاقتصادية توفر الشروط اللازمة وكذلك الحدود لضبط وتنظيم الحياة الجنسية.

(3) الضبط الاجتماعي

إذا كانت الحياة الاقتصادية تنشئ بعضًا من الإيقاعات الأساسية، فإن أشكال الضبط الفعلية للجنسانية تتمتع بقدر من الاستقلالية. تتباين الأشكال الرسمية لضبط الحياة الجنسية من زمن لآخر بحسب أهمية الدين وتبدل دور الدولة ووجود أو غياب توافق أخلاقي ينظم أنماط الزواج ومعدلات الطلاق والممارسات الجنسية غير النمطية. أحد أهم التحولات التي شهدتها المائة عام الأخيرة تمثلت في الانتقال بعيدًا عن الضبط الأخلاقي بواسطة الكنيسة نحو نمط أكثر علمانية للضبط بواسطة الطب والتعليم وعلم النفس والعمل الاجتماعي والرفاهة. كذلك من الضروري أن ندرك أن تأثير هذه التدخلات ليست بالضرورة حتمية، ففي كثير من الأحوال تتبدل الحياة الجنسية بالنتائج غير المتوقعة لفعل اجتماعي ما مثلما بنوايا القائمين به. على سبيل المثال القوانين التي تمنع المطبوعات الإباحية كثيرًا ما تؤدي إلى رفع دعاوى قضائية تؤدي إلى مزيد من المعرفة بشأن تلك المطبوعات، ومنع الأفلام الجنسية يمنح تلك الأفلام شهرة ما كانت لتحصل عليها لولا هذا المنع. والأكثر خطورة هو أن القوانين التي تستهدف التحكم في سلوك بعض الجماعات من البشر قد تؤدي في الواقع إلى تعزيز شعورهم المشترك بالهوية وإلى المزيد من التماسك فيما بينهم، وهو ما حدث بكل تأكيد مع تدقيق القوانين ذات الصلة بالمثلية الجنسية الذكورية في أواخر القرن التاسع عشر. 31

لكن الوسائل الرسمية ليست وحدها ما يشكل الجنسانية، فهناك العديد من الآليات العرفية غير الرسمية بنفس قدر الأهمية. كذلك فإن الأشكال التقليدية لضبط علاقات المراهقين يمكن أن تكون وسائل خطيرة للضبط الاجتماعي. من الصعب للغاية الانفصال عن إجماع قرية الشخص أو مجموعة الأقران من الجنسين في المدرسة، وينطبق هذا الأمر اليوم مثلما كان في مجتمعات ما قبل الصناعة. إن لغة السب الجنسي تساهم في تحجيم سلوك الفتيات وفي تكريس التمييز التقليدي بين الفتيات اللاتي تفعلن واللاتي لا تفعلن. هذه الوسائل غير الرسمية تدعمها حزمة من القواعد شديدة الإلزام، كثيرًا ما تنتج – بمعايير اليوم – مظاهر شديدة الغرابة من السلوك الجنسي. أحد الأمثلة على ذلك نجده في الشكل التقليدي لعلاقة كانت تمارس في مناطق من انجلترا وويلز حتى القرن التاسع عشر، عرفت باسم “الجمع” bundling والتي هي عبارة عن طقوس من اللهو والحميمية الجنسية تمارس في السرير مع ارتداء كامل الملابس. وفي وقت أقرب إلى حاضرنا نجد ممارسة الملاطفة التي تحترم تحريم الجماع الكامل وإن كانت تشمل أشكالاً أخرى من التلامس الجسدي يعتبر ممارسوها أنها لا تنخرط ضمن “الفعل الجنسي”. في هذا الصدد كتب كنزي في أوائل خمسينات القرن العشرين:

أحيانًا ما يفاجأ الرحالة الأجانب بالممارسة العلنية لذلك الفعل الشهواني…. هناك كم كبير من هذه الملاعبة يحدث في أماكن عامة مثل وسائل النقل والترام والطائرات، وقد تعلم باقي المسافرين أن يتجاهلوا تلك الأفعال إذا مورست ببعض التعقل؛ وأحيانًا تتحقق النشوة خلال تلك المداعبات التي تحدث في الأماكن العامة. ٣٢

تخضع هذه الظواهر لقواعد دقيقة، وإن كانت نصف واعية، تحدد ما يمكن وما لا يمكن فعله هذه الأساليب غير الرسمية في ضبط الممارسات الجنسية يمكن أن يكون لها آثار اجتماعية هامة، على سبيل المثال من خلال تقييد الحمل خارج إطار الزواج. في الماضي، كانت هذه القواعد تُفرض بواسطة أشكال عرفية من التشهير وطقوس الإذلال والسخرية العلنية والتجريس، مثل إحداث لغط فاضح بموسيقى مرتجلة لحث من هم على علاقة بالإقدام على الزواج (انتشر هذا الطقس في بعض المجتمعات الريفية في أوروبا والموسيقى التي استخدمت كانت عبارة عن دق على الأواني المنزلية في العلن عند بيت من هم على علاقة خارج إطار الزواج charivari)، وهو طقس يسعى إلى التأكيد على تقاليد المجتمع.

(٤) التدخلات السياسية

تُمارس هذه الأساليب الرسمية وغير الرسمية لضبط الحياة الجنسية في سياق سياسي متغير، حيث يؤثر التوازن بين القوى السياسية في أي لحظة بعينها على درجة التحكم التشريعي أو التدخل الأخلاقي في الحياة الجنسية. المناخ الاجتماعي العام هو الذي يشكل السياق الذي تكتسب فيه بعض الأمور أهمية أكثر من غيرها، ووجود مفاوضين مهرة في المسائل الأخلاقية قادرين على التعبير عن أفكار جديدة يمكن أن يلعب دورًا حاسمًا في تفعيل التشريعات القائمة أو استحضار تشريعات جديدة. ويمكن أن نشير هنا إلى نجاح اليمين الجديد في أمريكا في الفترة الأخيرة في وضع أجندة تحث على مزيد من المحافظة في الحياة الجنسية من خلال التعبئة ضد الليبراليين في مواقفهم من الجنس و/أو ضد ذوي الجنسانيات غير النمطية. هذا النجاح يوضح ما يمكن للتعبئة السياسية حول قضايا الجنس أن تنجزه.

(5) ثقافات المقاومة

ليس تاريخ الجنسانية مجرد تاريخًا من التحكم والضبط، وإنما هو أيضًا تاريخ المعارضة ومقاومة النواميس الأخلاقية. ذلك أن محاولات التحكم وأشكال الضبط واللوائح الأخلاقية تخلق أيضًا ثقافات مقاومة. أحد أهم الأمثلة على ذلك هو ما نجده في الشبكات النسائية التي تعمل على تعريف النساء بوسائل منع الحمل، خاصة الإجهاض. يقول آنجوس ماكلارن Angus Mclaren: “في دراستي عن المعتقدات المحيطة بالإجهاض وجدت أنه بالإمكان أن نلمح جوانب ثقافة جنسية أنثوية منفصلة تدعم استقلال النساء عن الأطباء والمدافعين عن الأخلاق والأزواج”.

لدينا تاريخ طويل من أمثال تلك المعرفة البديلة. المثال الكلاسيكي على ذلك نجده في الاستخدام الواسع للمشمع اللاصق في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في أواسط إنجلترا, حيث كانت هذه المادة تستخدم كمضاد للالتهاب ثم وجد بالصدفة أنه بالإمكان أيضًا استخدامها لإحداث الإجهاض. كما أن هناك دلائل تشير إلى انتشار استخدامها بعد ذلك بين نساء الطبقة العاملة كواق من الحمل، وذلك حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى.٣٣

كذلك نجد أمثلة أخرى على ثقافات المقاومة نشأت مع ظهور الثقافات والشبكات التحتية التي أسستها الأقليات الجنسية. كما أن لدينا تاريخ طويل من الثقافات الفرعية للذكور المثليين خلال سنوات من تاريخ الغرب، ظهرت على سبيل المثال في المدن الايطالية في أواخر القرون الوسطى وفي إنجلترا منذ نهايات القرن السابع عشر، وقد كانت هذه الثقافات محورية في ظهور الهويات المثلية الحديثة والتي تشكلت إلى حد كبير في إطار هذه الشبكات الاجتماعية الأوسع. وفي أوقات لاحقة, خلال المائة عام الأخيرة تقريبًا، كانت هناك سلسلة من الحركات السياسية المعاصرة بوضوح والتي انتظمت حول الجنسانية والقضايا الجنسية. هنا تطرح النسوية نموذجًا كلاسيكيًا. ولكن إضافة إلى ذلك كشفت الأبحاث التاريخية الأخيرة عن وجود حركات إصلاح جنسي منذ زمن طويل، عادة ما كانت تقترن بحملات الدفاع عن حقوق المثليين. حركات المثليين الحديثة إذًا لها جذورها التي تعود إلى القرن التاسع عشر في بلدان مثل ألمانيا وبريطانيا.34

ما نصفه بمنتهى الثقة “بالجنسانية” هو إذا نتاج العديد من المؤثرات والتدخلات الاجتماعية. ومن ثم فإنه لا توجد جنسانية خارج إطار التاريخ، بل هي منتج تاريخي وهذا ما نقصده “بالتكوين الاجتماعي” للجنسانية.

كل المجتمعات يجب أن تتخذ إجراءات لتنظيم الحياة الجنسية. إلا أن ذلك لا يحدث في كل المجتمعات بذات الاهتمام القهري مثلما يحدث في الغرب. عبر تاريخ الغرب كله، بداية من عصر اليونانيين القدامى، كان ما نطلق عليه اسم الجنسانية موضوعًا للاهتمام الأخلاقي، إلا أن مفهوم الحياة الجنسية لم يكن مثلما هو عليه الآن. فقدماء اليونانيين تعاملوا مع المتع الجسدية باعتبارها أحد جوانب الحياة، وليست بالضرورة أكثرها أهمية، جنبًا إلى جنب مع التغذية وتنظيم العلاقات داخل الأسرة الواحدة. كما كان الجدال يدور حول أمور مختلفة، وقد تمكن فرويد، بدقة ملاحظته المعهودة أن يلخص أحد جوانب هذا الاختلاف كالتالي: “الاختلاف الأكثر لفتًا للنظر بين الحياة الجنسية في القدم وحياتنا يكمن بلا شك في كون القدماء اهتموا بدرجة أكبر بالغريزة نفسها في حين نركز نحن على موضوع تلك الغريزة “. 35

نحن منشغلون بمن نمارس الجنس معه، أما القدماء فانشغلوا بمسألة الإفراط أو الإغراق فيه، والفعالية والسلبية. كان أفلاطون ليمنع المثلية من مدينته، ليس لأنها ضد الطبيعة، وإنما لكونها فائض عما تحتاجه الطبيعة. اعتبر لبجنس الشرجي المثلي فسوق، ولم يكن السؤال الأخلاقي بشأنه يتعلق بممارسته مع رجل آخر، وإنما بما إذا كان الممارس هو الطرف الايجابي أو السلبي فيه. وكانت الممارسات المثلية ومن يمارسوها ملفوظين من المجتمع، ليس بسبب المثلية وإنما بسبب السلبية. 36 أما نحن، على الجانب الآخر، فمهووسون بما إذا كان الشخص طبيعيًا أم غير طبيعي، بحسب ما إذا كان غيريًا أو مثليًا، نحن نبحث عن حقيقة طبيعتنا في ممارستنا الجنسية، وهو أمر يمثل تحولاً شديدًا في الدلالة المنسوبة للجنسانية.

إن ذلك نتيجة تاريخ طويل ومعقد. لكن يبدو أن هناك ثلاث لحظات فارقة في هذا التطور. اللحظة الأولى جاءت مع إبداعات القرن الأول بعد الميلاد، قبل أن يصبح الغرب بشكل عام مسيحيًا. تميزت هذه الفترة بحالة جديدة من الصرامة والتقشف وعدم الرضا عن ممارسة الجنس بدافع المتعة فقط، وقد قبلت الكنيسة ودققت في الرأي القائل بأنه لا يجوز للأزواج أن يفرطوا مع زوجاتهم، فالغرض من الجنس هو الإنجاب وبالتالي فإن الجنس خارج إطار الزواج لا يستهدف سوى المتعة ومن ثم فهو خطيئة. يقول فلاندرين Flandrin في هذا الشأن “كان الزواج نوعًا من العلاج الوقائي الذي منحه الله لينقذ الإنسان من الوقوع في الخطيئة”. 37 وخطايا الجسد كانت تمثل إغراًء مستمرًا يحرف عن الطريق المقدس.

جاءت اللحظة الفارقة الثانية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر بعد سلسلة من الصراعات العنيفة والدينية مع انتصار التقاليد المسيحية بشأن الجنس والزواج. لم يؤثر ذلك بالضرورة على سلوك الجميع في المجتمع وإنما أسس لعرف جديد أو تقاليد جديدة أرساها كل من الجناح الديني والعلماني في المجتمع، حيث الزواج أمر يخص التنظيم العائلي في الأسرة الصالحة، وبالتالي حين يلتقي غريبان لابد من وضع نظام صارم من القواعد لتنظيم علاقتهما. لذلك “لم يكن الزوجان وحدهما في سرير الزوجية وإنما كان شبح كاهن الاعتراف شاهدًا على مداعباتهما”. 38 تناول علماء اللاهوت والمشرعون الحياة الجنسية للزوجين حتى أدق تفاصيلها، ليس فقط كتمرين ذهني، وإنما لتقديم إجابات تفصيلية على أسئلة أخلاقية عملية.

اللحظة الثالثة المحورية والحاسمة جاءت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر مع تصاعد تعريف الجنس الطبيعي بأنه العلاقة مع الجنس الآخر، وما تلا ذلك من وصف ما هو غير ذلك باعتباره انحرافًا. نحن الورثة المباشرون لهذا التحول الأخير، والذي تمثل في تحول مطرد من التنظيم الديني للحياة الأخلاقية إلى التنظيم العلماني لها الذي تجسد في ظهور معايير طبية ونفسية وتعليمية جديدة. بالتوازي مع ذلك برزت تسميات جديدة للانحراف وأصبح هناك زيادة واضحة في الهوبات الجنسية الجديدة، وانتقلت المثلية من كونها أحد أنواع الخطيئة إلى كونها استعداد نفسي، وبدأ علم الجنس في تقديم الأطروحات بشأن قانون الجنس، وظهرت “الجنسانية” في النهاية باعتبارها قارة مستقلة من المعرفة لها آثارها المميزة.

بزوغ فئة المثلية الجنسية و”المثلي” و”المثلية” يوضح طبيعة ما كان يجري. نعلم أن ممارسات المثلية كانت منتشرة بالطبع في كل الثقافات، كما يملك الغرب تاريخًا طويلاً من المثلية الجنسية، لكن فكرة “المثلي” أو “المثلية” كانت فكرة جديدة نسبيًا. كل ما لدينا من أدلة يشير إلى أنه قبل القرن الثامن عشر، كانت هناك بدون شك ممارسات مثلية جنسية بمعناها الواسع الذي يشمل نشاط جنسي بين أفراد الجنس الواحد، لكن لم يكن هناك “مثليون” أو “مثليات”. أدينت أفعال بعينها بشدة مثل الجنس الشرجي، وفي بريطانيا كانت عقوبة ذلك الإعدام – رسميًا على الأقل – حتى عام ١٨٦١. لكن يبدو أنه لم يكن هناك تصور عن وجود نوع معين من الشخصية المثلية. لم يكن الجنس الشرجي جريمة مثلية على وجه التحديد، وكان القانون يُطبق بدون تمييز على العلاقات بين الرجال والنساء، وبين الرجال والحيوانات كما بين الرجال والرجال. وعلى الرغم أنه بحلول القرن الثامن عشر كان ممارس الجنس الشرجي المستمر في ممارساته ينظر إليه باعتباره نوع خاص من البشر إلا أن تعريفه كان يعتمد على طبيعة الفعل وليس بناء على شخصيته. لكن، منذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأت النظرة إلى “المثلي” تتبلور باعتباره ينتمي إلى فصيلة خاصة من المخلوقات تتميز بالمشاعر والكمون وحالة نفس – جنسية خاصة. ظهر مصطلح المثلية لأول مرة في ستينات القرن التاسع عشر، وقد تطورت هذه النظرة بواسطة رواد في علماء الجنس ابتكروا تفسيرات وشروحًا شديدة التعقيد لشرح هذه الظاهرة وتفسيرها. هل كانت المثلية نتاجًا للفساد والتفسخ الأخلاقي، أم هي وراثية، أم نتيجة صدمات ما في فترة الطفولة؟ هل هي تنوع طبيعي أم تشوه منحرف؟ هي يجوز التسامح معها أم علاجها؟ ميَّز هافيلوك إليس Havelock Ellis بين المتحول والمنحرف، كما ميز فرويد بين المتحول تمامًا ومزدوج الميل الجنسي والمحتمل. ولاحقًا اقترح كليفورد آلن Clifford Allen اثنا عشر نوعًا مختلف من المثليين والمثليات تراوحت بين القهري والمتوتر والذهاني ومعادي المجتمع (السيكوباتي) ومدمن الكحول. واخترع كنزي قياسًا من سبع درجات لتحديد درجة السلوك الغيري/ المثلي، الذي سمح لمن جاءوا بعده بالتمييز بين “كنزي 1″ و”كنزي 5” أو “كنزي 6″، وكأن الحياة تتوقف على ذلك. 39

دفعت هذه الطاقة والجهد المبذول في التصنيف عددًا من المؤرخين إلى طرح أن ظهور فئات محددة من الكائنات الجنسية خلال القرن الماضي هو نتيجة جهد مستمر لإحكام الضبط الاجتماعي. واقترح من كتبوا عن تاريخ المثلية الأنثوية أن ظهور هوية جنسية مثلية للإناث في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان بتدخل من علماء الجنس الذين استهدفوا تحديدًا تمييز نساء عن نساء، وكسر روابط التعاطف والتضامن بين النساء ضد الرجال. 40 لا شك أن هناك بعضًا من الحقيقة في ذلك. مع ذلك أعتقد أنه من الأدق أن ننظر إلى ظهور هويات محددة في تلك الفقرة كنتاج للصراع ضد التقاليد والمعايير السائدة، والتي كان لها بالضرورة آثار مختلفة على الرجال والنساء. الحقيقة أن علماء الجنس لم يخترعوا المثلية الذكورية أو الأنثوية بقدر ما حاولوا تطبيق مصطلحات علم الأمراض على ما كان يجري أمام عيونهم. فقد ووجه رواد علم الجنس من أمثال كرافت – أبينج Krafft – Ebing بأشخاص تظهر في المحاكم أو تأتي إليهم طلبًا للمساعدة نتيجة حركة سياسية جديدة تسعى إلى التحكم في كل مظاهر الحياة الجنسية. في هذا الإطار كان تعريف المثلية كأحد مظاهر الانحراف واحدة من محاولات التعامل مع هذا الواقع الجديد، وقد تسبب في رد فعل حتمي تمثل في ظهور الحاجة إلى تعريف الذات.

هكذا أصبح النشاط الجنسي محددًا لنوع الشخص. وعلى الجانب الآخر بدأ الناس في تعريف أنفسهم من خلال اختلافهم عن الباقين، وتمحور هذا الاختلاف حول الجنسانية. في عام ١٧٢٦ ألقي القبض على شخص يدعى بتوماس نيوتن في لندن، وشى به مخبر شرطة وهو يمارس الجنس المثلي. وعندما واجهته الشرطة قال “فعلت ذلك لأنني تصورت أنني أعرفه وأعتقد أنه لا توجد جريمة في استخدام جسدي بالطريقة التي أرغب فيها.” 41 هنا نجد دافعًا جنينيًا لتعريف الذات, الأمر الذي سوف يتسع لعدد من الهويات المثلية في القرن العشرين. كذلك فإن اتساع فئة المثلية الجنسية في أواخر القرن التاسع عشر مهد الطريق أمام ظهور عدد كبير من الأنماط والهويات الجنسية الجديدة في القرن العشرين: المرتدي لملابس الجنس الآخر، والمتحول جنسيًا، وثنائي الجنسانية والراغب في الأطفال والسادي – المازوخي، وهكذا. وفي القرن العشرين تزايدت ظاهرة تعريف البشر لأنفسهم من خلال تحديد جنسانيتهم. السؤال الواجب طرحه هو: لماذا أصبحت الجنسانية إلى هذا الحد مركزية في تعريفنا لأنفسنا ولما هو طبيعي؟

تتشكل الجنسانية من تقاطع محورين أساسيين: ذواتنا، بمعنى من نحن؟ والمجتمع بكل ما يحمله من إمكانيات النمو والازدهار والصحة والرفاهة في المستقبل لمجمل السكان، والاثنان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا لأن محور كليهما يتمثل في الجسد وإمكانياته. يقول لوو Lowe: “حين يصبح الجسد مستقلاً وواعيًا بذاته”، أي حين يصبح موضوعًا لإدراك علماني كامل، “ومع ارتداد المشاعر وحبسها عن العالم، برزت الجنسانية كظاهرة في المجتمع البورجوازي.” 42

مع اهتمام المجتمع المتزايد بحياة أفراده – من أجل الانسجام الأخلاقي والرفاهة الاقتصادية والأمن القومي أو النظافة والصحة – يبدأ في الانشغال أكثر فأكثر بحياتهم الجنسية، الأمر الذي ترتب عليه ابتداع أساليب دقيقة في الإدارة والقيادة وتنامي مظاهر القلق الأخلاقي والتدخلات الطبية والصحية والقانونية أو البحث العلمي وكلها من أجل مزيد من فهم الذات من خلال المزيد من فهم الجنس.

نتيجة لذلك أصبحت الجنسانية قضية اجتماعية وسياسية وكذلك أخلاقية هامة. إذا بحثنا في الأزمات الكبرى التي شهدتها بريطانيا منذ بداية القرن التاسع عشر، سوف نلحظ في كل منها انشغالاً بشكل أو بآخر بالجنس. أثناء أزمة الحروب الثورية الفرنسية في بدايات القرن التاسع عشر، كان أحد أهم الموضوعات التي شغلت المفكرين وقتها هو الانحطاط الأخلاقي الذي رأوا أنه تسبب في بداية سلسلة من الأحداث انتهت بانهيار النظام الملكي في فرنسا. وفي ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، مع أولى أزمات المجتمع الصناعي الجديد، كان هناك هوس بجنسانية النساء والمخاطر التي يتعرض لها الأطفال العاملون والعاملات في المصانع والمناجم. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، ركزت محاولات إعادة تنظيم المجتمع على مسألة النظافة والأخلاق والصحة. ومن ستينات إلى تسعينات القرن التاسع عشر، كانت الدعارة والمعايير الأخلاقية والإصلاح الأخلاقي للمجتمع في لب الجدل العام، حيث رأى كثيرون في الانحطاط الأخلاقي المنتشر علامة السقوط الحتمي للإمبراطورية. وفي العقود الأولى من القرن العشرين أعيد ترتيب هذه الهموم في هم جديد تمحور حول صلاح سكان بريطانيا. ومن ثم ظهرت موضة تحسين النسل التي أثرت بدورها على سياسات الرفاهة ومحاولة إعادة ترتيب الأولويات الوطنية في مواجهة المنافسة الدولية، الأمر الذي صب لا محالة في تغذية الروح العنصرية خلال ذلك القرن. خلال فترة ما بين الحربين وحتى أربعينات القرن العشرين أشعل انخفاض معدلات الإنجاب نقاشات ساخنة حول فوائد تحديد النسل والتشجيع الانتقائي لسياسات تنظيم الأسرة ووقوع البلاد في أيدي الأعراق التي كانت في يوم ما محل الاضطهاد. وبحلول الخمسينات – في فترة الحرب الباردة – بدأت ملاحقة جديدة للذين سموا بالمنحلين جنسيًا, خاصة المثليين والمثليات، والذين اعتُبروا – بطريقة غريبة – أكثر استعدادًا للخيانة، الأمر الذي ساهم بدرجة كبيرة في ملاحقات المكارثية في الولايات المتحدة والتي كان لها صداها في بريطانيا وأماكن أخرى. بحلول الثمانينات، عشية مرحلة ما أطلق عليها اسم عصر التحرر، ألقي اللوم على الأقليات الجنسية – خاصة المثليين والمثليات – فيما أصاب الأسرة من ضعف، وقد منح هذا اليمين السياسي طاقة جديدة للحياة.

في ضوء هذه الأزمات تبلورت سلسلة جديدة من الهموم شملت تقاليد الحياة الأسرية والعلاقات بين الرجال والنساء وطبيعة الجنسانية الأنثوية وقضية الانحراف الجنسي والعلاقات بين البالغين والأطفال وما إلى ذلك، وهي قضايا هامة في أي مجتمع. وقد كان الجدال بشأن تلك القضايا حاميًا خلال العقود القليلة الماضية تحديدًا لأن النقاش حول الجنسانية هو نقاش حول طبيعة المجتمع: حيث يتجه الجنس يتجه المجتمع.

هذه طريقة أخرى للقول بأن قضايا الجنسانية تكتسب أهمية متزايدة في أداء السلطة في المجتمع المعاصر. ذكرت سابقًا أن أحد آثار التناول التاريخي للجنسانية يكمن في اعتبار التحكم في الجنسانية أمرًا منتجًا ومفيدًا أكثر منه سلبيًا أو كابتًا. ينبع مجاز الكبت هنا من علم السوائل المتحركة hydraulics، حيث يطرح صورة طاقة متدفقة يجب التحكم في تدفقها. أما التناول التاريخي للجنسانية فيركز بدرجة أكبر على تأثير الممارسات الاجتماعية المختلفة التي تشكل القواعد الجنسية وتمنح النشاط الجسدي معنى وتشكل التعريفات وتقيد وتضبط السلوك الإنساني.

رفض نموذج الكبت (ما يطلق عليه فوكو اسم “فرضية الكبت”) لا يعني بالطبع أن كل نظم القواعد الجنسية لها نفس القوة والكفاءة، حيث بعضها ولا شك أكثر قسوة وسلطوية وقمعًا عن البعض الآخر. تتمثل إحدى النتائج الهامة – التي نجمت عن البحث التاريخي الحديث في الجنسانية – في إعادة تقييم العصر الفيكتوري. لقد اعتبرت هذه الفترة تاريخيًا فترة من النفاق الأخلاقي الفريد والإنكار الجنسي. الآن يتضح لنا أن هذا ليس صحيح تمامًا؛ ذلك أن القرن التاسع عشر كان أبعد ما يكون عن تجنب الجنس، بل يمكن القول أنه شهد هوسًا بالأمور الجنسية، وكان الجنس أبعد ما يكون عن أمر خفي، بل كان موضوعًا للنقاش في علاقته بمختلف جوانب الحياة الاجتماعية. لكن ذلك لا يعني أن ننظر إلى العصر الفيكتوري باعتباره عصرًا شديد الليبرالية، فقد كان الإعدام هو عقوبة الجنس الشرجي في كتب القانون حتى عام ١٨٦١، وكانت القيود شديدة على الاستقلال الجنسي للإناث، ووصل التمييز ذروته بين النساء المحترمات والنساء غير المحترمات (العذراء والعاهرة، مريم العذراء ومريم المجدلية) في تلك الفترة. ورغم أن الوقت الحاضر لم يأت بحلول مثالية لهذا الصراع، إلا أنه بالتأكيد أفضل للكثير منَّا عما كان الحال عليه منذ مائة عام مضت.

تكمن أهمية رفض نموذج الكبت – بشكله الفج – في أنه يوجهنا نحو ضرورة محاولة فهم الآثار الفعلية للسلطة في أي فترة بعينها. لم تعد السلطة هي الهيئة الوحيدة التي يمتلكها أو يتحكم فيها جماعة محددة، أو الدولة أو الطبقة الحاكمة، بل هي كما يصفها شور Schur “أقرب إلى الصيرورة منها إلى الشيء الثابت”، 43 قوة مرنة ومتحركة، تتخذ أشكالاً كثيرة وتُمارس من خلال مختلف التدخلات والعلاقات الاجتماعية. إذا وافقنا على هذا التوصيف للسلطة سوف نحتاج إلى التخلي عن أي تناول نظري يرى أن الجنسانية تتشكل بواسطة إرادة واحدة مهيمنة ومسيطرة، سواء كانت إرادة “المجتمع” كما يقترح علم الاجتماع الوظيفي، أو “الرأسمالية” كما يطرح الماركسيون، أو “الأبوية” كما تقترح بعض النسويات. السلطة لا تتحكم من خلال آلية واحدة وإنما من خلال عمليات معقدة ومتداخلة – وغالبًا متناقضة – تنتج الهيمنة وكذلك المعارضة، الخضوع وكذلك المقاومة.

هناك العديد من هياكل الهيمنة والإخضاع في عالم الجنسانية، لكن هناك ثلاث محاور أساسية تبدو هامة بشكل خاص اليوم: وهي محاور الطبقة والجندر والعرق.

(1) الطبقة

ليست الفروق الطبقية في التنظيم الجنسي خاصة بعالمنا الحديث. في مجتمع العبيد فيما قبل المسيحية في روما تنوعت المعايير الأخلاقية باختلاف المرتبة الاجتماعية. كتب سينيكا Seneca العجوز: “السلبية عار على الرجل الحر، لكنها واجب مطلق على العبد تجاه سيده، لأن على العبد التزامًا أخلاقيًا بالخضوع”. 44 ما كان صحيحًا في العالم القديم أصبح أكثر وضوحًا في العالم الحديث، بل أن فوكو يرى أن فكرة “الجنسانية” ذاتها هي فكرة بورجوازية بالأساس، تبلورت كأحد عناصر الطبقة لذاتها، سواء في مواجهة الارستقراطية المنهارة أو الانحلال المنتشر بين الشرائح الدنيا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لقد كان نظامًا استعماريًا عقائديًا ذلك الذي سعى إلى إعادة تشكيل الدولة على شاكلته. وأصبحت المعايير الصالحة للحياة الأسرية والمنزلية – مع مزيد من تحديد أدوار الذكور والإناث، وزيادة التمييز بين الحياة العامة والخاصة، والاهتمام الشديد بالضبط الأخلاقي والصحي في الجنسانية غير الغيرية وخارج إطار الزواج – العرف والمعيار الذي يقاس عليه كل السلوك. لكن ذلك لا يعني بالطبع أن كل أو حتى أغلب السلوك التزم بهذه المعايير, بل هناك العديد من المؤشرات على أن سلوك الطبقات العاملة ظل مرنًا تجاه أخلاق الطبقة الوسطى. مع ذلك فإن الأنماط الجنسية المعقدة التي سادت في القرن العشرين هي نتيجة صراع اجتماعي، لعبت فيه الطبقة دورًا حاسمًا. ولا عجب أن يؤدي ذلك إلى أنماط طبقية متمايزة في الحياة الجنسية. وقد كشفت دراسة لكينزي على عينة من ثمانية عشر ألف شخص في أربعينات القرن العشرين أن إمتاع الذات أو الجنس المثلي أو الجنس الفموي أو التلامس أو جماع العاملات بالجنس أو ممارسة الجنس السابق على أو الخارج عن إطار الزواج، أو أي طريقة أخرى “للتفريغ الجنسي”، كلها شهدت ممارسات جنسية مختلفة بحسب الطبقة التي ينتمي إليها الرجال، إلا أن الفروق الطبقية لعبت دورًا صغيرًا نسبيًا في حالة النساء حيث كان السن وأيديولوجيات الجندر عوامل أكثر أهمية في تحديد سلوكهن. ورغم التآكل التدريجي للحدود بين الطبقات إلا أن المسوح اللاحقة أكدت على استمرار الجنسانيات الطبقية. ومن ثم ليس من المفاجئ أن تمتلئ الأدبيات بصور للعلاقات بين الرجال والنساء (وأيضًا بين الرجال والرجال) التي تتدخل فيها عناصر الطبقة والسلطة والرغبة الجنسية.

(۲) الجندر

لا تمثل الطبقة، كما رأينا، فئة منسجمة. فالطبقة تتكون من رجال ونساء، كما أن الفروق الطبقية والفروق في المرتبة الاجتماعية قد لا تؤثر بنفس الدرجة على النساء كما على الرجال. الجندر هنا عنصر حاسم.

رأت بعض الكاتبات النسويات في تفصيل الفروق الجنسية عنصرًا حاسمًا في قمع النساء، حيث الجنسانية ليست مجرد انعكاس بل عنصر أساسي في تشكيل والحفاظ على علاقات القوى بين النساء والرجال. 45 هذا صحيح بشكل عام، ذلك أن أنماط الجنسانية الأنثوية هي بلا شك نتاج سلطة الرجال التاريخية التي حددت وقررت ما هو ضروري وما هو مرغوب. تقول روزاليند کواردRosalind Coward :

أن تكوني امرأة معناه أن تكوني دائمًا محل مخاطبة، أن تكوني دائمًا محل مراقبة… الرغبة الأنثوية محورية لمجمل هيكل مجتمعنا. لا عجب إذا أن تكون دائمًا محل

تحكم دقيق، وملاحقة لا نهائية، وأن تكون في أحيان كثيرة محل إعادة صياغة وتفسير. 46

وهي لا تزال بالطبع محل ملاحقة وإعادة صياغة وتفسير بواسطة الرجال. يقول ريتشارد دایر Richard Dyer: “الجنسانية الذكورية تشبه الهواء، تتنفسه طوال الوقت دون أن تشعر به كثيرًا. 47 إننا نرى العالم من خلال فهمنا للجنسانية الذكورية، حتى أننا حين لا نفكر بها بالذات، يظل تفكيرنا محصورًا بإطار مرجعيتها.

مع ذلك، نكون مخطئين لو تصورنا أن هذا التعريف ثابت أو مطلق، ذلك أن القانون والطب، بل وحتى الرأي العام، متناقض للغاية ويتغير مع الوقت. في فترة ما قبل القرن الثامن عشر، كانت النظرة إلى الجنسانية الأنثوية باعتبارها شرهة، تستهلك كل ما حولها. وفي القرن التاسع عشر، بُذل جهد كبير لإقناع الرأي العام أن النساء المحترمات ليس لديهن جنسانية. وفي القرن العشرين، كان هناك تحريض ضد الجنسانية الأنثوية باعتبارها مصدر كل أشكال الاستهلاك. هكذا تراوحت جنسانية النساء بين فترة وأخرى من كونها خطيرة إلى مصدر للمرض إلى وسيلة لنقل القيم الوطنية في عصر تحسين النسل إلى حارسة للنقاء الأخلاقي في النقاشات التي دارت حول التثقيف الجنسي وأخيرًا كانت هي محور النقاش حول التحرر الجنسي في ستينات القرن العشرين. قُيدت الجنسانية الأنثوية بواسطة التبعية الاقتصادية والاجتماعية وسلطة الرجال في تعريفها بقيود الزواج وبأعباء الإنجاب وبالعنف ضد النساء الذي أضحى ظاهرة وبائية. في نفس الوقت منحت هذه التعريفات المتضارية النساء فرصة لتحديد احتياجاتهن ورغباتهن. منذ أواخر القرن التاسع عشر، اتسعت المساحات المقبولة لتعريف الذات سريعًا لا لتشمل المتعة في الزواج فحسب بل لتشمل أيضًا أشكال مقبولة نسبيًا من الغيرية الجنسية بدون زواج أو إنجاب. مع ذلك، يلاحظ فانس Vance أن الابتعاد العام والعلني عن “معايير المرأة الصالحة” – مثل المثلية الأنثوية أو تعدد العلاقات أو الغيرية غير النمطية – لازال يستخدم في تبرير الانتهاكات لحقوق النساء. 48 كما أن أنماط التميز الذكوري ما زالت قائمة لم تنكسر. في نفس الوقت تشهد التغيرات الحقيقية التي حدثت في هذا القرن والحيوية المستمرة للحركة النسوية على أن هذه الأنماط ليست حتمية أو غير قابلة للتغيير.

(3) العرق

تتقاطع التصنيفات الطبقية وتلك الخاصة بالجندر مع التصنيفات الإثنية والعرقية. في الماضي لم يتجاهل مؤرخو الجنس عنصر العرق، لكنهم أدرجوه ضمن الإطار السابق عليه. بالتالي فإن نموذج الجنسانية التصوري الذي طرحه المنظرون في أواخر القرن التاسع عشر تناول بالضرورة الشخص الأسود – البدائي – باعتباره في درجة أدنى من التطور الإنساني عن الرجل الأبيض، أو بمعنى آخر أنه أقرب إلى الطبيعة. وقد استمرت هذه النظرة حتى في كتابات مارجريت ميد التي اتسمت بالنسبية الثقافية والليبرالية في ظاهرها. فقد كان أحد النقاط المثيرة للاهتمام في تصويرها للحياة في ساموا بالتحديد هو أن السامويين بالتحديد أكثر تحررًا من القيود وأقرب إلى الطبيعة عن الأمريكيين المعاصرين. أما أكثر الأساطير انتشارًا فهي تلك الخاصة بالاحتياجات الجنسية غير القابلة للإشباع للشعوب غير الأوروبية، ومن ثم ما يمثلوه من تهديد للعرق الأبيض. لقد مثل الخوف من الانتصاب الدائم للرجل الأسود، ومن ناحية أخرى استغلال النساء السوداوات في خدمة أسيادهن، عناصر هامة في مجتمع العبيد في الجنوب الأفريقي في القرن التاسع عشر واستمرت في سلسلة من الصور التنميطية في القرن العشرين. في جنوب أفريقيا العنصرية كان قانون منع الزواج المختلط والقسم السادس عشر من قانون “الأخلاق” اللذين وضعا لمنع تمازج الأجناس من بين أول التشريعات العنصرية التي صدرت بعد وصول الحزب الوطني إلى الحكم عام ١٩٤٨ ليؤكد على سياسة الفصل العنصري. وإذ سعى النظام إلى التعامل مع أزمة العنصرية في ثمانينات القرن العشرين من خلال إعادة صياغتها، كانت هذه القوانين أول ما سعى إلى إزالته باعتبارها دعائم العنصرية. نتيجة لذلك تعرض النظام لنقد شديد من جماعات اليمين المتطرف الذي رأى في إلغاء تلك القوانين إطاحة بصرح العنصرية. على مستوى العالم، يتضح الاعتقاد في تفوق المعايير الأوروبية ربما بأوضح أشكاله في الهوس الغربي بالانفجار السكاني في العالم الثالث, الأمر الذي دفع بالهيئات التنموية – كما بالسلطات المحلية – إلى بذل مختلف الجهود من أجل فرض الأنماط الغربية في استخدام وسائل منع الحمل الصناعية، ما تسبب أحيانًا في نتائج كارثية بما أحدثه من خلخلة في التركيبة الدقيقة للحياة الاجتماعية. يجب أن نتذكر أن جذور المواقف الحديثة من تحديد النسل تمتد إلى رغبة النساء في تحديد خصوبتهن وكذلك في سياسات تحسين النسل وتنظيم الأسرة التي تستهدف نقاء وتفوق الأعراق الأوروبية. كما نجد عناصر من هذا الماضي الذي استهدف تحسين النسل في كثير من الممارسات المعاصرة في إسرائيل حيث تحصل الأسر اليهودية على إعانات للأطفال أعلى مما تحصل عليها الأسر العربية. وفي بريطانيا، استخدمت حقن ديبوبروفيرا Depoprovera الخطيرة لمنع الحمل حصريًا تقريبًا على النساء الملونات والفقيرات, ووجدت أحد الدراسات أن عدد مطويات تحديد النسل باللغات الآسيوية في عيادات تنظيم الأسرة تفوق تلك المكتوبة بالإنجليزية. كل هذه الأمثلة تعكس افتراضًا بوجود نمط متحضر وملائم للسلوك الجنسي، يجب أن يخضع له الجميع. ويترجم هذا الافتراض نفسه في سلسلة من الممارسات، بداية من قوانين الهجرة إلى الدعاية لتحديد النسل، من المواقف الطبية وحتى علم النفس والاجتماع حين يلصقان صفة “المريض” بالأنماط المختلفة للحياة الأسرية. 49

ليس غريبًا إذا أن ترفض الكثير من الشعوب الملونة والأقليات الإثنية في كل من البلاد الغربية والعالم الثالث تحليلات النسويات المعاصرات والسياسات الجنسية الراديكالية باعتبارها تستند بدرجة أو بأخرى من الوعي على عقائد عنصرية. وقد أدى ذلك إلى ظهور وتبلور أشكال من السياسات الجنسية خاصة بخبرات الشعوب السوداء وفي نفس الوقت مشتبكة مع سياسات مناهضة العنصرية.

لا شك أن حدود العرق والجندر والطبقة تتداخل. فنجد السود في بريطانيا – وهم الأكثر عرضه للممارسات العنصرية – على الأغلب بين صفوف الطبقة العاملة، على حين يعتمد الانتساب إلى جماعة إثنية في كثير من الأحيان على الأداء الكفء لما هو متوقع من أدوار الجندر، تعمل السلطة بخفاء وحذر من خلال سلسلة معقدة من الممارسات المتقاطعة فيما بينها. نتيجة لذلك قد يحمل التحدي السياسي للقمع هو الآخر تناقضاته الخاصة به. لذلك فإن السياسات الجنسية لا يمكن أبدًا أن تختصر في شكل واحد من أشكال النشاط. بل هي متداخلة في شبكة كاملة من التناقضات الاجتماعية والتضادات التي تشكل العالم الحديث. مع ذلك، هناك نقطة هامة يمكن أن نستنتجها من هذا النقاش. بدلاً من النظر إلى الجنسانية باعتبارها وحدة منسجمة، يجب أن ندرك أن هناك أكثر من شكل للجنسانية، بل أن هناك جنسانيات متعددة. هناك جنسانيات طبقية وجنسانيات جندرية وأخرى عرقية، كما أن هناك جنسانيات مرتبطة بالنضال والاختيار. فلم يكن “اختراع الجنسانية” حدثًا واحدًا في الماضي السحيق، بل هو صيرورة مستمرة، نلعب نحن فيها دور المفعول به والفاعل، نحن موضوع التغيير ونحن أيضًا من نقوم به.

* Jeffrey, Weeks, “The Invention of Sexuality”, Sexuality, Jeffrey Weeks, Routledge, 2003, 19- 44.

1 Carole S. Vance (ed.), Pleasure and Danger. Exploring Female Sexuality, Boston and London: Routledge &Kegan Paul, 1984, 17.

2 Vern L. Bullough, Sex Society and History, New York: Science History Publications, 1976.

وقد صدرت هذه المقال لأول مرة عام ١٩٧٢ بعنوان:

“sex in History: a Virgin Field”

3 Gordon Rattray Taylor, Sex in History, London: Thames & Hudson, 1953, 13.

4 Kenneth Plummer, Sexual Stigma: An Interactionist Account, London: Routledge & Kegan Paul, 1975, 4.

5 Alfred C. Kinsey, Wardell B. Pomeroy, Clyde E. Martin and Paul H. Gebhard, Sexual Behaviour in the Human Female, Philadelphia and London: W. B. Saunders Company, 1953, 448.

6 Richard Dawkins. The Selfish Gene, St. Albans: Granada 1978, x.

7 Robert A Padgug, “Sexual Matters: on Conceptualizing Sexuality in History, Radical History Review, Special Issue on Sexuality in History, no. 20, Spring/ Summer 1979.

8 Rosalind Coward, Patriarchal Precedents: Sexuality and Social Relations, Routledge & Kegan Paul, London (1983).

9 Margaret Mead. Coming of Age in Samoa: A Study of Adolescence and Sex in Primitive Societies. Harmondsworth: Penguin, 1977 (first published 1928).

وللحصول على نقد دقيق لهذا الكتاب، أنظر/ ي:

Derek Freeman, Margaret Mead and Samoa: The Making and Unmaking of an Anthropological Myth, Harvard University Press, 1983.

10 وترد في دراسة مالينوفسكي بصيغة “الثقافة باعتبارها محددة للسلوك”, وصدرت مجددا في كتاب:

Bonislaw Malinowski, Sex, Culture and Myth, London: Rupert Hart- Davis, 1963, 167.

11 J. H. Gagnon and William Simon, Sexual Conduct: The Social Sources of Human Sexuality, London: Hutchinson, 1973.

12 Michel Foucault, The History of Sexuality, Vol. 1, An Introduction, trans. Robert Hurley, London: Allen Lane, 1979, 105.

13 Sue Cartledge and Joanna Ryan (eds.), Sex and Love: New Thoughts on Old Contradictions, London: The Women’s Press, 1983, 1.

14 Bronislaw Malinowski, Sex, Culture and Myth, London: Ruper Hart- Davis, 1963, pp. 120, 127.

15 Lawrence Stone, The Family, Sex and Marriage in England 1500- 1800, London: Weidenfeld and Nicolson, 1977, 15.

16 Ellen Ross and Rayna Rapp, “Sex and Society: a Research Note from Social History and Anthropology”, in Ann Snitow, Christine Stansell and Sharon Thompson (eds.), Desire: The Politics of Sexuality, London: Virage 1984, 109.

وقد صدر الكتاب في الولايات المتحدة بعنوان مختلف:

Powers of Desire: The Politics of Sexuality, New York: Monthly Review Press, 1983.

17 Jeremy Cherfas and John Gribbin, The Redundant Male. London: The Bodley Head, 1984.

18 Plummer, Sexual Stigma.

19 يمكن المقارنة على سبيل المثال مع المصدر التالي:

  1. C. Messenger, “Sex and Repression in an Irish Folk Community,” in D. S. Marshall and R. C. Suggs, Human Sexual Behaviour: Variations across the Ethnographic Spectrum, London: Basic Books, 1971.

20 Abdelwahab Bouhdiba, Sexuality in Islam, trans. Alan Sheridan, London: Routledge and Kegan Paul, 1985 pp. 159, 200.

21 Dennis Altman, The Homosexualisation of America, The Americanization of the Homosexual, New York: St. Martin’s Press, 1982.

22 C. S. Ford and F. A. Beach, Patterns of Sexual Behaviour, London: Methuen, 1965 (first published 1952), Kinsey et al., op cit.

كذلك يمكن المقارنة بما يلي:

Michael Argyle and Monika Henderson, The Anatomy of Relationships London: Heinemann, 1985, 159.

23 F. Edholm, “The Unnatural Family”, in Elizabeth Whitelegg et al. The Changing Experience of Women, Oxford: Martin Robertson, 1982.

24 يمكن الحصول على عرض ملخص فيما يلي:

Ford and Beach, op.cit.

25 Bronislaw Malinowski, The Sexual Life of Savages, London: Routledge and Kegan Paul, 1929,.

26 Kenneth Plummer, “Sexual Diversity: a Sociological Perspective” in K. Howells (ed.), Sexual Diversity, Oxford: Blackwell, 1984.

27 Jean Renovize, Incest: A Family History, London: Routledge and Kegan Paul, 1982.

28 Marshall Sahlins, The Use and Abuse of Biology: an Anthropological Critique of Sociobiology, London: Tavistock 1976, 75.

29 للمزيد من التفاصيل، أنظر/ ي الفصل الرابع من المصدر التالي:

Jeffrey Weks, Sex, Politics and Society The Regulation of Sexuality since 1800, Harlow: Longman, 1981.

30 Diana Gittins, Fair Sex: Family Size and Structure 1900-1939, London: Hutchinson, 1982.\

31 أنظر/ ي كتابي:

Jeffrey Weeks, Coming Out Homosexual Politics in Britain from the 19th Century to the Present, London: Quartet, 1977.

32 Kinsey et al., Sexual Behaviour in the Human Female, 259.

33 Angus McLaren, Reproductive Rituals, London: Methuen, 1984, 147: Angus McLaren, Birth Control in 19th Century England, London: Croom Helm, 1978, 390.

34 أنظر/ ي: Weeks, Coming Out.

35 Sigmund Freud, “Three Essays on the Theory of Sexuality”, in James Strachey (ed.), The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, Vol. 7, London: Hogarth Press and the Institute of Psychoanalysis, 1953- 1974.

36 Paul Veyne, “Homosexuality in Ancient Rome”, in Philippe Aries and Andre Bejin (eds.), Western Sexuality Practice and Percept in Past and Present Times, Oxford: Blackwell, 1985, 27.

37 Jean- Louis Flandrin, “Sex in Married Life in the Early Middle Ages: the Church’s Teaching and Behavioural Reality,” in Aries and Bejin, op. cit., 115.

38 Ibid., p. 126.

39 انظر/ ی:

Jeffrey Weeks, Sexuality and its Discontents. Meanings, Myths and Modern Sexualities, London: Routledge and Kegan Paul, 1985, 89- 91.

وكذلك الفصل الثامن من نفس المصدر.

40 Lillian Faderman, Surpassing the Love of Men, London: Junction Books, 1981.

41 Alan Bray, Homosexuality in Renaissance England, London: Gay Men’s Press, 1982, 114.

42 Donald M. Lowe, History of Bourgeois Perception, Chicago: Chicago University Press, 1982, 100.

43 Edwin Schur, The Politics of Deviance: Stigma Contests and the Uses of Power, N. J. : Prentice Hall, 1980, 7.

44 Veyne, op. cit., p. 31.

45 انظر/ ي على سبيل المثال:

Coveney et al., The Sexuality Papers: Male Sexuality and the Social Control of Women, London: Hutchinson, 1984.

46 Rosalind Coward, Female Desire: Women’s Sexuality Today, London: Paladin, 1984, 13.

47 Richard Dyer, “Male Sexuality in the Media”, in Andy Metcalf and Martin Humphries, The Sexuality of Men London: Pluto Press, 1985, 28.

48 Carole Vance, Pleasure and Danger, 4.

49 انظر/ ي عرضًا موجزًا للأدلة على ذلك في كل من:

Valerie Amos and Pratibha Parmar, “Challenging Imperial Feminism”, in Feminist Review No. 17; “Black Feminist Perspectives”, July 1984; and Floya Anthias and Nira Yuval-Davis, “Contextualizing Feminism – Gender, Ethnic and Class Divisions”, Feminist Review No. 15, Winter 1983.

 

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي