الجندر والتكنولوجيا

تاريخ النشر:

2009

الجندر والتكنولوجيا (*)

عرض: فاطمة الزهراء أحمد رامي

في دراسة مستفيضة لرصد العلاقة المتبادلة بين مفهومي الجندر والتكنولوجيا تقدم لنا كل من (نينا ليرمن)، (روث أولدنزايل)، و (أرون موهان) مراجعة دقيقة في 415 صفحة لأربعة عشر مقالا لمؤلفين عدة بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة من إعداد المحررات أنفسهن. قسم الثلاث المقالات إلى أربعة أجزاء: الأول والثاني يدرسان مدى تأثير مفهومي الجندر والتكنولوجيا على بعضها البعض، أما الثالث والرابع فيناقشان بعض التطبيقات التقنية في قارة أمريكا الشمالية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية كعالم صناعي، وتتخذ المقالات تجربة الرأسمالية الصناعية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين كنقطة انطلاق لموضوعاتها البحثية.

تستهل المحررات الكتاب بمقدمة يرين فيها أن كثيرًا من الناس ينظرون إلى مسألة الجندر كمجرد وسيلة لتحليل النشاط الإنساني من منظور مجتمعي وإلى التكنولوجيا كمكون حيوى من مكونات العالم المادي من حولنا، إلا أن كلا المفهومين مرتبطان ببعضهما كثيرًا. فسابقًا، كتب كثير من الدارسين عن تشكيل متبادلبين المجتمع والتكنولوجيا: كل يشكل الآخر. لذلك نجد أن في أوقات التطور التكنولوجي. نستطيع أن نتوقع قيام خلافات حول بعض المفاهيم المجتمعية مثل الجندر – والعكس صحيحأي أننا قد ننتظر تغيرات مماثلة في العالم المادي في حال حدوث تغيرات مجتمعية. ولكن ما يود هذا الكتاب إثباته هو عدم حدوث كل هذه التغيرات بطريقة سهلة أو اتوماتيكية بل على العكس، فإن مفهومي التكنولوجيا والجندر ليسا بأي حال من الأحوال من الثوابت أو اللامتغيرات، ولكنهما مرا بمراحل عديدة خاصة في التاريخ المعاصر، لذلك فالكتاب يعرض للحدود التي تفصل بين المفهومين في الماضي كي نستطيع إعادة رسمها في الحاضر ونستشرفها في المستقبل أيضا.

يتكون الجزء الأول من أربعة مقالات ويرتكز على دراسة مدى تأثير الجندر في التكنولوجيا، وكيف أنشا الناس التكنولوجيا واستخدموها بناءً على مفاهيمهم وقيمهم المجتمعية إلى حد تقسيمهم لها على أساس النوع – فبعض التكنولوجيات منسوبة للمذكر وبعضها للمؤنث.

تزعم صاحبة المقال الأول «جودث ماجاو» أن التكنولوجيا المؤنثةهي التي تستخدمها النساء والتي غالبا ما ترتبط بهن كالتقنيات الخاصة بأدوات المطبخ أو المساحيق والمنظفات إلخ. وتعلل وجود هذا الارتباط بارتباط أشمل ألا وهو القائم بين المجتمع والتكنولوجيا بصفة عامة فالثقافة المجتمعية السائدة في زمن ما هي المسئولة عن نسب أشكال تكنولوجيا معينة سواء للرجل كانت أو المرأة.

«ماجاو» تحاول إعادة النظر في مفهوم كلمة تكنولوجيا فترفض تحديدها في الإطار الذي يبادر أذهان معظمنا كمجموعة من الآليات المعقدة أو كأجهزة صلبة فقط وإنما تريد التعامل مع التكنولوجيا كعلم أيضا. وهذا العلم لا يجب ألا يقتصر على الفنيين والمهندسين فحسب ولكن يجب أن يمتد ليشمل الباحثين الاجتماعيين والدارسين أيضًا لأحوال المرأة، والتي تحمل على عاتقها مسئولية تنشئة جيل جديد يربي على مفاهيم وعلاقات معينة تربط بين التكنولوجيا والنوع.

على عكس نظرة «ماجاو» للتكنولوجيا النسائية، تدرس كاتبة المقال الثاني، «روث أولديتزايل»، تدرس التكنولوجيا الذكوريةأي التقنيات والمعدات التكنولوجية التي طالما ارتبطت بالرجل كالسيارة مثلاً. لذلك فالكاتبة تتساءل عن أسباب وكيفية هذا الارتباط في داخل المجتمع. في محاولة للإجابة عن هذا، تزعم «أولدنزايل» أن هذا الارتباط يرجع إلى تنشئة الطفل نفسه، فالوالدان عادة ما يعطيان ابنهما ألعابًا ذات طابع هندسي أو ميكانيكي كالسيارة اللعبة مثلاً. يرجع السبب في ذلك إلى مفهوم اللعبة للطفل وأهميتها، فهي ليست أداة للتسلية فحسب وإنها كأداة تعليمية لتدريب الطفل على مواجهة مجتمعه مستقبلاً في ظل نظام اجتماعی معين يوكل مهام القيادة في شتى أمور الحياة للرجل. لذلك فإن كل ما يتعلق بصنع التكنولوجيا وتطويرها هو مهمة الرجل، أما المرأة فهي مجرد مستهلك سلبي لها فالرجل يصنع السيارة والمرأة تقودها.

يتعرض المقال الثالث إلى كيفية استخدام المرأة للتكنولوجيا في ظل قيم اجتماعية معينة، فمؤلفته، ريبكا هيرزج، تعرض لمثال أثناء فترة ما بين الحربين الأولى والثانية في الولايات المتحدة حيث كانت النساء يسئن استخدام آلية من آليات التكنولوجيا الطبية، ألا وهي الأشعة السينية المعروفة بأشعة إكسحتى يصلن إلى صورة الجمال التي يتوقعها المجتمع منهن وهي إزالة الشعر الزائد في الجسم.

ولكن هذه العملية تخفى وراءها الكثير من الإصابات الخطيرة أو الوفاة في بعض الأحيان، ففي دراسة أجراها فريق من الباحثين عام 1970 أظهرت أن سبب إصابة 35 % من النساء بالسرطان يرجع إلى تعرضهن لجرعات مكثفة من الأشعة السينية إكس من أجل إزالة الشعر الزائد في أجسامهن. وبالرغم من معرفة هؤلاء النساء بخطورة العملية، فإنهن كن يقمن بها بارادتهن لأن المرأة ذات الشعر الزائد تخالف معايير الجمال السائدة في المجتمع الأمريكي حيث يعتبر أي شعر زائد عند المرأة بمثابة شر بالغ لابد من معالجته! ورغم استحداث تكنولوجيات جديدة في هذا المجال أكثر أمنا، فإن المفاهيم الاجتماعية هي الأولى بالتطوير من وجهة نظر «هيرزج».

تتطرق راتشيل مانز في المقال الرابع إلى شكل آخر من أشكال استخدام التكنولوجيا الطبية من قبل النساء ولكنها تكنولوجيا مقنعةلماذا؟ الكاتبة هنا تزعم أن تقنية التدليك الكهروميكانيكي للجهاز التناسلي للمرأة لم يكن مقبولاً في المجتمع سابقًا ولكنه اكتسب شرعيته ليس فقط بسبب سهولة استخدامه ولكن لأنه اكتسب قناعًا اجتماعيًا مقبولاً من خلال ربطة بآليات العمل الحديثة، وأيضًا بالمعتقدات السائدة في قدرة الطاقة الكهربائية كعامل معالج. لذلك، ففي ظل معارضة المجتمع لأمر من الأمور، فإن الآليات التكنولوجية لا تملك إلى الإخفاء والتمويه في استخدام اللغة والتعبيرات كي تكسب التأييد والقبول من أفراد هذا المجتمع.

وبالانتقال إلى الجزء الثاني من الكتاب، ينتقل الاهتمام إلى مدى تأثير التكنولوجيا في الجندر وكيفية نسب المجتمع بعض المهن إلى الرجل وأخرى للمرأة. فمن خلال ثلاثة مقالات أخرى، يوضح هذا الجزء حقيقة أن العلاقة بين النوع والوظيفة هي عملية متغيرة باستمرار مع تغير المكان والزمان والظروف الاقتصادية والمجتمعية.

يلقى المقال الخامس الضوء على بعض الجوانب المجتمعية في المجتمع الأمريكي في خمسينيات القرن التاسع عشر، وكيف كان يوكل المجتمع بالمهام المختلفة إلى كل من الرجل والمرأة. ولكن مع التطور التكنولوجي السريع انتقلت بعض المهام إلى الجنس الآخر، بل وإلى جماعات معينة من الأمريكيين. لذلك، فإن «نينا ليرمن»، كاتبة المقال، تحاول فك الشفرة بين التكنولوجيا وثلاثة عناصر وهي: النوع والعرق والطبقة، فالثورة الصناعية الأمريكية في ذلك الوقت أخفت وراءها تحولات اجتماعية مفاجئة بقدر التحولات التقنية والاقتصادية المتوقعة.

فبالنسبة لعلاقتها بالنوع أو الجندر أثبتت الدراسات مدى اهتمام الحكومة وقتئذ بالتعليم المهنى والحرفي في السن المبكرة والذي يختلف من الولد إلى البنت حتى تجهز جيلاً جديدًا من الأفراد يعرف تمامًا الفرق بين المهن الذكورية مثل: صناعة الأحذية مثلاً وبين تلك النسائية كالحياكة وأمور المنزل. شهدت هذه الفترة بالتحديد من تاريخ الولايات المتحدة اضطرابات ساخنة بين البيض والملونين، لذلك نجد أن المعارف والتكنولوجيات الموكلة إلى الأقلية الملونة مختلفة عن تلك الموكلة للبيض، حيث حرموا من حرية التفكير النقدي في المدارس، وإنما اكتفت الحكومة بتلقينهم المواد الحسابية والدينية فحسب. أما بالنسبة للتغيرات الطبقية في المجتمع فقد كانت ترجع أسبابها بشكل رئيسي إلى اختلاف نوعية التقنيات والوظائف حيث ازدهر مفهوم أصحاب الياقات البيضاءمما أدى إلى تطور الطبقة المتوسطة إلى الأمام بشكل أكبر.

ينتقل المقال السادس، بقلم «أرون موهان»، إلى اتساع رقعة تحليل التكنولوجيا من خلال الجندر لتشمل علاقات أكثر بين مفاهيم اجتماعية متعددة مثل الموجودة بين المنتج والمستهلك، البيت والعمل. إلخ وكمثال على ذلك ففي فترة الثمانينيات من القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة وبريطانيا انتشرت مهنة العمل في مغسلة للملابس بين الرجال على عكس ما كان سائدًا في اقتصار هذه المهنة على النساء في السابق، ولكن لمواجهة هذا العرف الراسخ في المجتمع بدأ الرجال في تعليل عملهم في هذا الجزء على أنه عمل تكنولوجي معقد، لذلك فهو ذكورى. بل وأكثر من ذلك فان إعطاء الفضل لأى من الرجل أو المرأة يرسخ مفاهیم خاصة بكل منهما في مجالات الإنتاج، فالرجل هو المنتج في حين أن المرأة إما مستهلكة أو في أحسن الأحوال مقلدة لما أنتجه الرجل. وحتى إذا أوكلت مهمة إدارة مغسلة للملابس لامرأة فإن مسئوليتها تقتصر فقط على الإشراف والتعامل مع العملاء، وليس في أمور قيادية مثل شراء أو بيع آلات أو ما شابه.

يقدم «بول أدواردز» المقال السابع مناقشًا فيه ارتباط علوم الحاسب الآلى بالمجالات العسكرية ومدى ارتباطها بالقدرات الذهنية للرجل والمرأة فالبرغم من احتلال النساء في عام 1984 لنسبة 35% من إجمالي المبرمجين في الولايات المتحدة فإن عمل الحاسب الآلى يظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالرجل، حيث تظل النظرة للنساء على أنهن غير مؤهلات وغير راغبات في هذا العمل هي السائدة، ولكن لماذا ؟ يقول ادواردز أن السبب في هذا يرجع إلى مفاهيم موروثة في العقل الباطن ترجع إلى فترة الحرب الباردة على الخصوص حيث ارتبط عمل الحاسب الآلى بالعمل العسكري والأغراض الحربية والتي هي من أهم الوظائف المنسوبة للرجل. ولكن يرفض الكاتب إرجاع السبب إلى الاختلاف ما بين القدرات العقلية بين المرأة والرجل، مشيرًا إلى كفاءة كلا الجنسين في دراسات علوم الحاسب رافضًا احتكار القدرات العلمية من قبل أي من الطرفين. وينهى المؤلف مقالته متفائلاً بما تستطيع النساء تحقيقه من إنجازات في هذا المجال خاصة على الصعيدين السياسي والنسوي.

يناقش الجزء الثالث من الكتاب مدى تأثير الرأسمالية الصناعية في تشكيل العلاقات الإنسانية داخل المجتمع خاصة تلك التي بين الرجل والمرأة. فبحلول الثورة الصناعية اختلف شكل الحياة ليس فقط من ناحية إنشاء المصانع والطواحين ولكن في داخل البيوت نفسها مغيرة العلاقات والفوارق السائدة بين الجنسين يقع هذا الجزء في أربعة مقالات تختبر تأثير الصناعة في إعادة رسم العلاقات المتعارفة بين المنتج والمستهلك، النزول للعمل والبقاء في البيت.. إلخ، كما يتطرق أيضًا إلى سبب ارتباط الميكنات والآلات التكنولوجية بشكل أعم – بالرجل.

يبدأ المقال الثامن – هذا الجزء – والذي كتبته «باتريسيا كوبر» لتدرس صناعة السيجار كسلعة ترتبط كثيرًا بالرجل رغم مساهمة المرأة بصفة متساوية في صناعتها، سواء عندما كانت حرفة يدوية في السابق أو عندما تطورت كسلعة تنتج وتستهلك على نطاق واسع في ظل العمل المصنعي. تزعم «كوبر» أن معاملة الرجل للمرأة في العمل كانت أشبه بتلك الواقعة بين البيض والسود، فكل من المرأة والأسود كانا يوكلان الوظائف الأقل ويعطيان أجورًا أقل من تلك الموكلة إلى الرجل الأبيض. وتضيف كوبر قائلة: إن مفهوم الجندر لم يتحسن كثيرًا في مجال العمل ذلك لأن هذا المفهوم يساء استخدامه للإشارة للمرأة بالتحديد، في حين أنه أن يطلق على العملية التي يتم من خلالها تحويل النوع البيولوجي (ذكرًا كان أم انثى) إلى مفهوم اجتماعي.

أما المقالة التاسعة، بقلم «ویندی جامبر»، فتناقش موضوع منتج آخر ألا وهو صناعة الثباب. قبل القرن العشرين، كانت حياكة الثياب وصناعتها حرفة نسوية متقنة فمعظم النساء كن يتعلمن الحياكة كمكون من مكونات الصورة المجتمعية للمرأة المنتجة، ولكن بحلول القرن العشرين استبدلت هذه الصناعة اليدوية بتكنولوجيا واسعة النطاق يقوم على إدارتها الرجل، وهو الوحيد القادر على التعامل مع أي آليات تقنية أو علمية. هذا التحول إن دل على شيء فإنما يدل على عدم حتمية تقسيم الأعمال بين الرجل والمرأة ولكن هذه الفوارق هي من صنع الإنسان، لذلك فإنها دائمة التغير والتبدل.

أما «روجر هورويتس»، فيقدم في المقالة العاشرة شكلاً آخر من أشكال المنتجات الصناعية وهو تعليب اللحم. فتمامًا مثل صناعتي السيجار والثياب، مرت عملية تعليب اللحوم بعدة مراحل في أواخر القرن التاسع عشر، فبعد اختراع الثلاجات العملاقة بقدرتها على تخزين اللحوم لفترات زمنية طويلة، قامت بعض المصانع خصيصًا بتقطيع هذه اللحوم وتعليبها على نطاق عمل واسع، ورغم أن هذا العمل المصنعي استدعى تقسيم العمل بين أفراد المجتمع فإن معايير العرق والجندر قد كان لها تأثير كبير في تحديد المهام الوظيفية لكل فرد. فبينما كان الرجل الأبيض مسئولاً عن قطع اللحم الباهظة، كانت النساء مسئولة فقط عن بقايا اللحم كأدوار فرعية. لذلك فإن بعض المهن قد تشكلت في المجتمع على أنها خاصة بالرجل وحده حيث إنه إذا اشتغلتها النساء كانت مصدر مهانة لهن على عكس ارتقاء مستوى الرجل المشتغل بها.

في المقالة الحادية عشرة تتعرض الكاتبة جينفز لايت لشغل النساء لوظيفة برمجة الحاسب الآلى خلال الحرب العلمية الثانية، حيث تتطلب منهن تدريبًا متطورًا في علوم الرياضيات والحسابات المعقدة. وعلى الرغم من صعوبة وأهمية هذا العمل فإنه كان يعتبر عملاً ثانويًا ومكتبيًا إلى حد كبير، لذلك فإن «لايت» تستنكر إغفال دور النساء وقتئذ من خلال إعلام ما بعد الحرب الذي اعتبرها مجرد بديل مؤقت للرجل في أوقات الأزمات، رغم أنه طوال سنوات هذه الحرب كان للنساء الدور الرئيسي في العمل خاصة في مجالات العلوم التكنولوجية والهندسية لخدمة الأهداف العسكرية. ولكن «لايت» ترى أن هذا الإهمال للدور الفعال الذي تقوم به المرأة هو جزء من إرث تاريخي قائم على تهميشها في المجتمع.

يختتم الجزء الرابع الكتاب عارضًا للتكنولوجيات المؤثرة في الجندر في ظل المجتمعات الصناعية وكيفية ربط نساء الطبقة المتوسطة بالبيتالملاذ الآمن والهادئ لكل أفراد الأسرة من صخب الحياة شديدة التنافسية خارجه، وعلى الرغم من أهمية هذا العمل الداخلي لكن المجتمع لا يعترف به رسميًا كعمل منتج ذي قيمة اقتصادية، لذلك فعمل المرأة داخل المنزل هو العمل الوحيد غير المأجور على مستوى العالم! لذلك فإن الباحثين قد ربطوا بين التقنيات المساعدة في أعمال المنزل دور المرأة في الإلمام بمعرفة هذه التقنيات. لذلك فإن هذا الجزء يتطرق إلى اختيارات المستهلك وأهداف المصنع في ظل أعمال البيت المميكنة.

أما المقال الثاني عشر فيناقش رؤية «جوى بار»، لدور العوامل الاقتصادية في أمور المنزل ضاربا المثل بالغسالات الكهربائية المنزلية كآليات للتكنولوجيا. فمع النصف الثاني من القرن العشرين انتشر وجود الغسالات الكهربائية صغيرة الحجم في بيوت كثيرة مما أدى إلى اختلاف الأذواق لدى المستهلكين حول أشكال هذه الماكينات. ولكن تقبل بعض المجتمعات هذه التقنية يختلف عن تقبلها في مجتمعات أخرى، فالنساء في كندا مثلا في خلال خمسينيات القرن العشرين لم يقبلن تقنية الغسالة الاوتوماتيكية بسرعة كما فعلت قريناتهن في الولايات المتحدة. يرجع ذلك إلى الطبيعة التكنولوجية الخاصة بكل منزل، فالبيوت الكندية كانت تعطى أولوية أكبر لتقنية التحكم في استخدام المياه وتفضلها على تقنيات أخرى قد تناسب البيوت الأمريكية مثلاً. لذلك يؤكد المقال ليس فقط على طبيعة المنزل التقنية ولكن على أهمية الدور الذي تقوم به التقاليد المجتمعية السائدة في التأثير على كل من الصناعة ورؤية الأفراد لفكرة غسيل الثياب نفسها. حيث إن بعض المجتمعات قد لا تقبل بديلاً لطرق الغسيل التقليدية التي نشأت عليها.

ثم تنتقل الكاتبة «كارولين جولدستاين» في المقال الثالث عشر إلى دراسة اقتصادات المنزل وقيام اقتصاديين منزليين مكلفين من قبل المؤسسات المنفعية والتطبيقية بدور الوساطة بين هذه المؤسسات وجمهور المستهلكين من النساء. هؤلاء الوسطاء كانوا ينقلون متطلبات النساء إلى شركاتهم، وفي المقابل يقومون بتعليم هؤلاء المستهلكات عن مدى فاعلية تقنيات الكهرباء والغاز في تدبير المنزل خاصة بعد فترة الحرب العالمية الأولى. ومما ساهم في إنجاح هذه الوساطة هو قيام بعض النساء بالدور نفسه، فعندما تكون المرأة وسيطًا بين المرأة المستهلكة والمؤسسة الخدمية فإنها تكون خير وسيط بين المنتج والمستهلك بسبب تفهمها لوجهة نظر المستهلكة، لذلك فحتى في المرحلة اللاحقة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية والتي ازداد فيها دور الوسيط كمسئول مبيعات أكثر منه ناصح اقتصادي فإن المرأة ظلت عنصرًا حيويًا في عملية التغير التكنولوجي.

ويختتم «رونالد کلاین»، الجزء الرابع بالمقالة الرابعة عشرة والأخيرة متسائلاً عن حجم التطور الحاصل في ايديولوجيات المنزل بفضل التكنولوجيات الحديثة، فمن المثير للدهشة أنه رغم انتشار التقنيات الموفرة للجهد والوقت في أعمال المنزل فإن النساء ما زلن يقضين الوقت نفسه الذي كانت تقضيه جداتهن منذ خمسين عامًا فائتة. فقد تكون التطبيقات الكهربائية وتقنيات المنزل الحديثة وفرت من استهلاك الطاقة اللازمة لإنجاز مهام منزلية معينة فعلاً، إلا أنها لم توفر الوقت لفاعلى هذه المهام. ولكن هذه الحقيقة تلقى الضوء على مدى إيمان النساءسواء كن مروجات للسلعة أو مستهلكات لها – بالأيديولوجية التقدمية للتكنولوجيا واقتناعهن بأنها السبيل الوحيد لهن من أجل حياة أسعد وأقل شقاءً.

ويناقش «كلاين» أيضًا أحوال المرأة الريفية على أنها ليست كما يتصورها الكثير من الباحثين كحياة بائسة وشاقة، بل على العكس فإن النجاحات المنجزة في المناطق الريفية يرجع أكبر الفضل فيها إلى المرأة، فهي تتمتع بمزايا العيش في بيئة صحية وسعادة العمل الجاد، ذلك إلى جانب وجود جميع التقنيات الحديثة لمساعدتها في شئون منزلها. لذلك فإن الكاتب ينصح هنا بانتقاء المعلومات الصحيحة والتي تساعد في فهم العلاقة الحقيقية بين التكنولوجيا والتغير الاجتماعي لهذه الطبقة من النساء الريفيات.

وتختتم محررات الكتاب الثلاث هذه المقالات العديدة محللات للواقع من حولهن في ظل الملامح التاريخية الماضية حتى يستطعن تحديد اتجاهاتهن البحثية في المستقبل، ويوضحن أيضًا أن محتويات هذا الكتاب ما هي إلا مزج وتفاعل بين مجالات التعلم المختلفة مثل تاريخ التكنولوجيا وعلم الاجتماع النسوى نظريات الجندر…. إلخ. فهذا التبادل المعرفي هو خير سبيل للارتقاء بمستوى البحث العلمي من خلال استخدام وتطبيق أحدث النظم البحثية والتي تدرس المتناقضات في إطار نشاط تبادلي وليس من خلال علاقات ضدية. لذلك ففي مجال التكنولوجيا يجب علينا دراسة الثقافة المحيطة بها كي نفهم مدى تأثير كل من التكنولوجيا والمجتمع الإنساني في فهم بعضهما البعض.

وهكذا نجد كاتبي الجزء الأول مهتمين بالتأكيد على أن تعريفات التكنولوجيا مرهونة بمفاهيم المجتمع نحو الجندر، في حين يعكس الجزء الثاني هذه المعادلة بحيث يثبت مؤلفوه أن التكنولوجيات الحديثة هي التي تسهم كثيرًا في تشكيل ممارسات المجتمع تجاه الرجل والمرأة. لذلك نجح كاتبو الجزءين الأول والثانيعن طريق ذكر أمثلة حية مثل ارتباط تقنية السيارات والبرمجيات على سبيل المثال بالرجل وإقصاء المرأة عنهما رغم تفوقها في ميادين العمل بهافي إيضاح العلاقة الثنائية القائمة بين مفهومي التكنولوجيا والجندر لنستدل على أنهما في الواقع وجهان لعملة واحدة. وينتقل مؤلفو الجزءين الثالث والرابع إلى إعطائنا نظرة عن قرب لنرى مدى تأثير ممارسات التكنولوجيا على العلاقات الاجتماعية في ظل مجتمعات صناعية مثل مجتمعات أمريكا الشمالية. لذلك، فإن صناعات مثل السيجار والملابس وتعليب اللحوم والبرمجيات إلى جانب الوظائف القائمة على مسئولى المبيعات والناصحين الاقتصاديين ما هي إلا تطبيقات عملية لتوضيح مدى تهميش النساء في مجال العمل حيث يوكل إليهن المهام الثانوية في هذه الوظائف كغير مؤهلات لشغل مناصب أكثر أهمية كمراكز الإدارة وصنع القرار.

ورغم أن هذه الصورة قد تغيرت كثيرًا في الوقت الحالي فإن حرص مؤلفى هذه المقالات على الدراسة التاريخية لعلاقات التكنولوجيا والجندر توضح صورة التحديات القائمة الآن في وجه المرأة كمفاهيم اجتماعية يجب استبدالها بمفاهيم أخرى قائمة على إعطاء كل من المرأة والرجل حقوقا متساوية في مجتمعهما.

إن كتاب الجندر والتكنولوجيا هو مرجع أصيل للدارسين والباحثين عن العلاقة القائمة بين تقنيات العلم وانتسابها لأى من الجنسيين بناءً على قيم ومفاهيم مجتمعية وثقافية. وقد عبر كاتبو الأربعة عشر مقالا. هذه العلاقة من خلال حرص كل واحد منهم على استخدام لغة مبسطة وأسلوب يتراوح بين طرح الأسئلة والإجابة عنها وإعطاء الأمثلة التي توضح الفكرة للقارئ بشكل أعمق وأقرب للواقع، فمع اختلاف أساليبهم التعبيرية إلا أنهم قادرون على عن عدد إيضاح أفكارهم بشكل جيد. وبالرغم من الإطالة والتكرار لبعض الأفكار بسبب عدد المقالات، فإنها تصلح كمادة علمية مفصلة، سلسة اللغة، ودقيقة التوثيق.

 

(*) Nina E. Lerman, Ruth Oldenziel, Arwen P. Mohun. Gender & Technology. Baltimore and London: The Johns Hopkins University Press, 2003.

اصدارات متعلقة

الانتقام الإباحي.. تهديد رقمي يلاحق النساء ويقتلهن أحيانا
هل يجب علينا الاهتمام بالتغيرات المناخية
نص مليون من العاملين / ات بالخدمات المنزلية منزوعين/ ات الحقوق
التغيرات المناخية تمثل خطر كبير علي صحة الحوامل والأجنية بشكل خاص
“تمكين النساء لمواجهة التغيّرات المناخية”… مبادرة “عالم بالألوان” في مصر
نساء السعودية.. حقوق منقوصة وقمع متواصل
العنف الأسري ضد المرأة
كيف تعزز ألعاب الفيديو الصور النمطية للجندر
عبور الفجوة الجندرية في صناعة الأمن السيبراني
إنترنت الأشياء والتقاطعات بين الجندر والتقنية