الخروج من الظل

تاريخ النشر:

2003

الخروج من الظل *

عرض: هالة كمال**

تستهل جو فيشر كتابها الخروج من الظل: النساء والمقاومة والسياسة في أمريكا الجنوبية (Jo Fisher Out of the Shadows: Women, Resistance and Politics in South America, London: Latin America Bureau) باقتباس يرد على لسان مناضلة أرجنتينية هي أنا ماريا، تقول:

كان الجميع في الشوارع، رافعين الأعلام وضاربين على الدفوف يرقصون ويغنون ويبكون. وكانت أول مرة أرى فيها أعضاء من الحزبين السياسيين الرئيسيين يهتفون باسم نفس الرئيس! كان الأمل يملأ الجميع في أن هذه بداية جديدة، فقد فقدنا الكثير على مدار السنوات الماضية، ولم يكن يكفينا أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل عصر الديكتاتورية الوحشية، وإنما كنا نصبو إلى الأفضل (ص 1).

هكذا يبدأ الكتاب بعرض موجز لسقوط السلطات الديكتاتورية التي حكمت الطرف الجنوبي من أمريكا اللاتينية في كل من الأرجنتين وشيلي وأوروجواي وباراجواي، وقد انطلقت شرارة التحرر من النظام العسكري في الأرجنتين لتمتد عبر الدول المجاورة على مدار الثمانينيات بداية بالأرجنتين في عام ١٩٨٣ وانتهاء بشيلي عام 1990. وتسلط جو فيشر الضوء على الدور الذي لعبته النساء في أمريكا اللاتينية ونضالهن من أجل الديمقراطية وما أظهرته من شجاعة وإصرار على مواجهة بطش النظام العسكري، وقد صاحب ذلك المد الثوري الاحتجاجي تزايد في وعي النساء بخصوصية أوضاعهن كنساء ينتمين إلى مجتمع تسوده قيم الثقافة الذكورية، مما أدى إلى أن جمع نضال هؤلاء النساء بين العمل على مواجهة الأوضاع المترتبة على سياسات النظام من ناحية، وتوسيع نطاق نشاطهن لوضع قضايا النساء على برنامج العمل السياسي من ناحية أخرى.

ويتألف الكتاب من ٢٢٨ صفحة من القطع المتوسط وينقسم إلى ستة فصول يتناول كل منها دولة من دول أمريكا الجنوبية، مع إفراد فصلين لكل من شيلي والأرجنتين للكشف عن جوانب متعددة من أساليب نضال النساء في سبيل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ويسبق كل فصل من هذه الفصول تسلسل تاريخي لأهم الأحداث السياسية التي شهدتها البلاد خلال النصف الثاني من القرن العشرين، متضمنة أهم الإنجازات التي حققتها النساء. ويبدأ الكتاب بمقدمة تقدم خلفية عامة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في أمريكا اللاتينية، وينتهي بخاتمة تتضمن بعض الملاحظات الخاصة بالفكر النسوي والديمقراطية ونظرة مستقبلية، وتلحق المؤلفة بالكتاب معلومات تاريخية عامة عن كل من البلدان الواردة في الكتاب، بالإضافة إلى قائمة ببعض القراءات المقترحة المتعلقة بموضوع الكتاب، ثم قائمة مطولة بالمراجع، إلى جانب الفهرس.

وتأتي مقدمة الكتاب عارضة بشكل عام لأهم أشكال المقاومة التي ابتدعتها النساء في سبيل التعامل مع واقع حياتهن وتغييره بما في صالح المجتمع، فتشير من ناحية إلى كسر النساء الأرجنتينيات لحاجز الصمت والعزل، بخروجهن إلى الشوارع في مسيرات أسبوعية مطالبات بعودة المعتقلين والمفقودين، وخروج الفلاحات في باراجواي في مظاهرات عامة المطالبة بحقوق ملكية الأراضي وديمقراطية الحكم. ومن ناحية أخرى لم يقتصر احتجاج النساء على الحيز السياسي العام وخوض معارك الحياة اليومية لضمان سبل الحياة لأسرهن، وإنما بدأن في الاحتجاج أيضا على القيود المفروضة عليهن في ظل ثقافة سائدة تكرس دونية النساء وتميز بينهن وبين الرجال في الأدوار والحقوق والواجبات. إلا أن انخراط النساء في العمل المنظم جاء مفاجأة للجميع حيث اقتصرت أدوار النساء سابقا على أدوار الأمومة والأعمال المنزلية وقلما تجاوزت اهتماماتهن المباحة حدود البيت والأسرة، ناهينا عن العمل أو الخبرة السياسية، وفي ذلك تقول جو فيشر: “باسم الأمومة والأسرة وسعت النساء نطاق أدوارهن فامتدت إلى الحيز العام، وهي عملية أدت إلى إحداث تغيير على الصعيد السياسي، بل ومثلث تحديا للأفكار التقليدية عن النساء” (ص ۲).

ومن الجدير بالذكر أن الكتاب يقوم على شهادات حية للنساء المناضلات اللاتي يروين أحداثا معينة شهدنها في حياتهن أو يعقين على بعض الأوضاع والمواقف التي تبنينها خلال مسيرتهن، وهي شهادات ترد جنبا إلى جنب التعليقات التي توردها المؤلفة جو فيشر وتقوم من خلالها بإضافة المعلومات التاريخية وبعض التفاصيل للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتساهم في خلق خلفية تاريخية تشكل جانبا من السياق العام المحيط بحكايات النساء عن تجاربهن في الخروج من الظل، وتتبع الدراسة منهجا تاريخيا نسويا ماركسيا حيث تؤرخ جو فیشر لجهود النساء في حركات المقاومة الشعبية في أمريكا اللاتينية مع أخذ الأبعاد الطبقية وعلاقات القوى بين الجنسين في الاعتبار. ومما يلفت الانتباه في شهادات هؤلاء النساء هو أوجه الشبه في تفاصيل حياتهن اليومية وأشكال المقاومة التي ابتكرنها وتمسكن بها في مواجهة مجتمعاتهن التي تحكمها إلى جانب ديكتاتورية الحكم العسكري ثقافة الماشيزموأو التحيز الذكوري ضد النساء.

 

تعرف المؤلفة الماشيزمو” (machismo) باعتباره أيديولوجيا ترجع أصولها إلى الاستعمار الأسباني ونظرته الدونية للنساء، وهو كما تقول: “نظام من علاقات الجندر يبالغ في تحديد الاختلافات بين الرجال والنساء طبقا لما يطلق عليه الخصائص الطبيعية لكلا الجنسين مع تحديد إطار السلوك المقبول من كل منهما” (ص ۳). وتقوم هذه الأيديولوجيا على تصوير الرجال في صورة نمطية تحمل القوة والعدوانية و الرجولة في مقابل صورة الأنوثة الماريانيزمو (marianismo) القائمة على التضحية بالذات والتبعية والعاطفية. وبينما يحتل الرجال طبقا لهذا المفهوم الحيز العام ويشغلون مجالات العمل والسياسة، يتم تحديد إطار تحركات النساء في نطاق البيت والعمل غير المأجور في الحيز الخاص.

وفي إطار ثقافة تكرس للتمييز بين الجنسين، تشير جو فيشر إلى نماذج للتمييز كما تتضح لا على مستوى الأعراف والتقاليد وإنما تنعكس أيضا على القوانين المدنية والجنائية (والتي تتشابه إلى حد مذهل مع التمييز القائم في القوانين المدنية والأحوال الشخصية المطبقة في مصر!؟)، كما تبرز القصور الواضح في حقوق النساء في العمل والتعليم والرعاية الصحية، وتضيف أن حركة تحرير النساء قد تراجعت بشدة بمجرد حصول النساء على حقوقهن السياسية، إلا أن ذلك لا يعني وصولهن إلى المناصب القيادية، وهو ما يتضح من موقف الأحزاب السياسية من مطالب النساء الحقوقية والتي توردها جو فيشر فيما يلي:

اعتبرت أحزاب اليسار والنقابات المهنية أن مطالب النساء تسبب شرخا داخل وحدة الطبقة العاملة وأنها تمثل قضية ثانوية مقارنة بالصراع الطبقي. أما أحزاب اليمين فقد دعت النساء إلى التمسك بدورهن التقليدي كأمهات وربات للبيوت ولم توجه تلك الأحزاب سوى القليل من الاهتمام إلى موضوعات كالتعليم وفرص العمل (ص 8).

يتناول الفصل الأول من الكتاب الأوضاع التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في شيلي في عام 1973 وما تبعه من أعمال قمع على مستوى أنشطة الأحزاب والنقابات، في الوقت الذي وقعت فيه النساء من الطبقة العاملة الفقيرة في مواجهة النظام فقد قامت النساء اللاتي تعرض أزواجهن وأبناؤهن للاعتقال والتعذيب والقتل بإقامة شبكات للمساندة المتبادلة في صورة مجموعات تضامن مع المسجونين السياسيين ولكشف مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان. ومع تزايد حدة الأزمة الاقتصادية وانتشار البطالة لجأت النساء إلى تبني استراتيجيات جماعية لتوفير مصادر المعيشة، ومنها مشروع الوعاء المشتركالذي اتخذ شكل شبكة من المطابخ الجماعية المشتركة التي تعمل على توفير الطعام الأساسي لصالح الحي بأكمله، وهكذا نقلت النساء إحدى وظائفهن (الطبخ) من إطار الحيز الخاص أي البيت إلى إطار الحيز العام أي الحي، عن طريق العمل الجماعي المشترك بين النساء في الحصول على الطعام وإعداده ثم تقديمه لأبناء وبنات الحي جميعا، ويرد على لسان لوز ماريا وصف لكيفية عمل تلك المطابخ الجماعية:

ساعدتنا الكنيسة في إقامة المطابخ الجماعية حيث تبرعت بالأساسيات كالبقول والزيت والطحين، وكان علينا أن نأتي بالباقي من السوقكانوا يعطوننا الأشياء الفائضة التي لا حاجة لهم بها فكنا نحملها إلى المطابخ الجماعية (ص ۲۹).

وقد قامت تلك المطابخ بدورين، فمن ناحية كانت مصدرا لإطعام سكان الحي، ومن ناحية أخرى كانت بمثابة التعبير العلني عن السخط العام نتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية. ومن الجدير بالذكر أن معظم هؤلاء النساء لم يعتبرن عملهن هنا عملا سياسيا، حيث كان تعريف العمل السياسي قاصرا على نشاط الأحزاب والنقابات، وهو نشاط يقوم به الرجال، أما بالنسبة لنظام الحكم، فقد كان يعتبر كل عمل منظم بما في ذلك المطابخ الجماعية بمثابة فعل تحد، وبالتالي أصبحت المطابخ الجماعية وتناول الطعام جماعيا من الأنشطة السياسية، وهكذا وجدت النساء الأرجنتينيات أنفسهن في قلب أعمال المقاومة ضد الحكم العسكري.

ومما لا شك فيه أن المطابخ الجماعية قد ساهمت في تدريب النساء على التنظيم وإدارة العمل وتقسيم المهام. ومن هنا كان من الطبيعي أن تنضم النساء إلى العمل العام بعد سقوط الحكم العسكري في الأرجنتين، وفي عام ١٩٩٠ مع عقد أول مجلس وطني ضم العديد من النساء والرجال المنتخبين ممن كانوا ناشطين على مستوى المطابخ الجماعية، تقول سارة التي أصبحت رئيسة لفريق التنسيق في المجلس الوطني:

لدينا حوالي 1500 من القادة ومعظمهم من النساءوالعديد من قادة الحي كانوا ينتمون إلى المطبخ الجماعي وغالبيتهم من النساء، وقد أصبحت النساء اكثر وعيا ومساهمة في العمل السياسي عن ذي قبل بسبب خبرة المطبخ، فلقد تعلمت أنا كل شيء أعرفه من خلال المطبخ (ص ٤٢).

تمثل اللجنة النسائية في الاتحاد الوطني للنقابات في أوروجواي نموذجا فريدا في أمريكا الجنوبية حيث تقوم النساء من عاملات المصانع والموظفات في المؤسسات الحكومية والمعلمات وخادمات المنازل بحملات مند سنوات للمطالبة بالمساواة مع الرجال في الأجر وإقامة دور الحضانة ورياض الأطفال والمطالبة أيضا بالرعاية الصحية وحق الإجهاض ونشر الثقافة الجنسية، إضافة إلى إقامة ندوات حول قضايا تخص النساء مثل سرطان الثدي والعنف المنزلي.

ومع استيلاء الجيش على الحكم في انقلاب عسكري شهدته أوروجواي في عام ١٩٧3، تم تحديد الحريات وفرض الرقابة على الصحافة والتعليم، فما كان من اتحاد النقابات العمالية إلا أن دعا إلى إضراب عام سعت الحكومة العسكرية على إثره إلى التخلص من كافة النشطاء من النقابيين والنقابيات. ومع غياب حركة نقابية فعالة تحول النشاط لحل مشكلات الفقر من مقار العمل إلى الحي والمجتمع، وفي بداية الثمانينيات نظمت النساء أنفسهن في جمعيات ربات البيوتفانشان المطابخ الجماعية والعيادات المحلية والدكاكين للتعامل مع تدهور الخدمات والأزمة الاقتصادية الطاحنة، كما اتخذ الاحتجاج على الأوضاع المتردية صورا أكثر وضوحا ومن أشهرها الطرق على آنية الطبخ الفارغة بحيث يرج صداها أرجاء العاصمة لتدكير السلطة بروح المقاومة، كما انخرطت النساء في مجموعات للمطالبة بحقوق الإنسان في مواجهة أكثر صراحة مع النظام. وتستشهد المؤلفة بواحدة من قادة الحركة العمالية. حيث تقول ميبل:

بدأنا بعقد اجتماعات في بيوت النساء للحديث عما يمكننا القيام به على مستوى الحي، وكان نضالنا الأساسي ضد الديكتاتورية ولكننا بدأنا مناقشة المشكلات التي تواجهنا كنساء. النساء اللاتي ثم اعتقال أزواجهن، والنساء ذوات الأزواج العاطلين عن العمل، والنساء العاملات بأجور متدنية، كانت بيننا أعداد من النساء المنخرطات في مجموعات حقوق الإنسان، وقد عملت أنا مع مجموعة أسر السجناء السياسيين والمفقودين” (ص٥٢ ٥٣).

وقد بدأت الحركة النقابية تعيد بناء ذاتها من خلال الجمعيات العماليةمتضمنة المطالبة بالحرية والديمقراطية ضمن برامجها، ومع تزايد وعي النساء بالتمييز الذي يمارس عليهن كنساء تزايدت أعداد المنظمات النسائية العمالية والأكاديمية والطلابية، كما نشأت مجموعة سرية هي اتحاد نساء أوروجوايأخذت في الإعداد المظاهرة الأول من مايو عام ١٩٨٣، وعلى الرغم من أن بداياتها كانت على سبيل تدعيم نهضة الحركة العمالية إلا أن الاتحاد بدأ يتخذ شكل المنظمة النسوية. ومع اتساع هامش الحريات في الثمانينيات واجهت النساء صعوبة الوصول إلى المناصب القيادية والدفع بمطالب النساء وهو ما تعبر عنه الناشطة النقابية موريانا قائلة: “كانت النقابات تتحدث دوما بأصوات الرجال ولها وجه الرجال وتعبر عن فكر الرجال” (ص 60). ومن هنا تم إنشاء اللجنة النسائية التي تبنت مطالب النساء ومن أهمها: المساواة في الأجور وإقامة الحضانات في أماكن العمل ونشر الوعي الصحي، بالإضافة إلى إثارة موضوعات محرمةمثل الحياة الجنسية والإجهاض والعنف المنزلي. ويتضح من ذلك التماس القائم بين الحقوق العمالية والمطالب النسوية في مجتمع ينظر بالشك نحو مفهوم النسوية كما نستشفه من كلام موريانا:

حين بدأنا نشاطنا كان مفهوم الحركة النسوية بمثابة كلمة بذيئة المعنيوأذكر أنني في البداية حين كانوا يسألونني إن كنت نسوية، كنت أجيب: “لا، لست نسوية إذا كان ذلك يعني المواجهات مع الرجال وافتراض أنهم جميعا سيئون، أما إذا كانت النسوية تعني النضال من أجل المساواة عامة والمساواة في الأجور، فنعم، أنا نسوية“. وبشكل أو بآخر كانت هذه إجابتنا جميعا على هذا السؤال، وهي إجابة تكتيكية من ناحية، وكذلك لأننا لم نكن على نفس القدر من النسوية التي أصبحنا عليها الآن (ص ۷۲).

شهد شهر نوفمبر من عام 1985 اندلاع المظاهرات في مدينة كاجوازو الصغيرة وأكبر تجمع للنساء في البلاد ونشأة أول منظمة للفلاحات في باراجواي. فمنذ الانقلاب العسكري عام ١٩٥٤ تعرضت البلاد لحكم عسكري قمع كافة أشكال التنظيم الشعبي وغلف البلاد في حالة من الخوف، وخاصة مع استخدام الدولة لأساليب القمع الوقائي الممثلة في الاعتقالات العشوائية والتعذيب، وفي هذا الإطار كانت معاناة النساء مزدوجة نظرا لخضوعهن كذلك إلى ثقافة الماشيزمو بما فيها من تحيز سافر ضد النساء.

ومع تفاقم الفقر قام الفلاحون عام 1980 بإنشاء حركة الفلاحين في باراجواي السرية وكان من أهم مطالبها توزيع الأراضي ودعم الحكومة للفلاحين وحرية التنظيم واحترام حقوق الإنسان، دون أن يتضمن أي برنامج خاص بقضايا النساء، ويرد على لسان إحدى المناضلات وتدعى ماجي أن النساء توجهن إلى الرجال داعيات إلى إضافة مطالب النساء إلى برنامج الحركة وهو ما تحقق بالفعل بعد فترة ومشقة:

بحلول عام ١٩٨١ أدركنا أن النساء لا يشاركن في الحركة، فقد كنت أنا المرأة الوحيدة ضمن قيادات حركة الفلاحين في باراجواي. وقد بدأت مع ريجينا في عقد اجتماعات للنساء فقط لتشجيع النساء على المشاركة. ففي وجود الرجال تسكت النساء، فأردنا إيجاد حيز خاص بنا حيث يمكن للنساء مناقشة مشاكلهنكانت أكبر مشكلة واجهتنا هي أن الرجال لم يسمحوا لزوجاتهم بالخروج من البيت (ص ۸۳).

وفي عام 1985 تأسست لجنة الفلاحات واتجهت جهود النساء على مدى السنوات الماضية إلى العمل السياسي مع التركيز على المطالب العامة وعلى رأسها إعادة توزيع الأراضي الزراعية، ذلك إلى جانب مواجهة كافة أشكال التمييز ضد النساء، وعلى الرغم من التغيرات العارمة التي تحققت على مدى سنوات قليلة إلا أن نضال النساء في باراجواي من أجل العدالة الاقتصادية والاجتماعية ما زال حيا.

في تمام الثالثة والنصف من عصر كل يوم خميس تجتمع مجموعة من النساء في ميدان مايوبوسط مدينة بوينوس أيريس أمام قصر الرئاسة مرتديات غطاء رأس أبيض مطرز بعبارة أعيدوا أبناءنا أحياء“. وقد بدأ ذلك التجمع الأسبوعي منذ إبريل عام ١٩٧٧ بعد مرور عام على وصول العسكر إلى الحكم، فاجتمعت النساء مطالبات بإعادة بنائهن وأبنائهن المفقودينفي إطار بطش الحكومة الجديدة وقيامها بالاعتقالات العشوائية والسجن والتعذيب والإعدام للمعارضين أو من تظنهم من المعارضين للحكم العسكري. وما لبثت أن أصبحت حركة هؤلاء النساء معروفة باسم أمهات میدان مايو“.

وقد خضع النظام لتصوراته التقليدية بشأن النساء فلم تكن هنالك خطورة من وجهة نظر النظام من مجموعة من النساء ربات البيوت في منتصف العمر، واعتبرهن مجموعة من النساء المجنونات اللاتي لا يمثلن مصدر خطر حقيقي. وقد ظل الأمر كذلك إلى أن بدأ التنظيم يأخذ شكلا علنيا، فبالتعاون مع عدد من منظمات حقوق الإنسان نشرت الأمهاتإعلانا في الصحافة يطلبن معلومات عن أبنائهن المفقودين، كما أعددن بيانا وجمعن عليه خمسة وعشرين ألف توقيع يطالب بالإفراج عن المعتقلين ونظمن مسيرة لتقديم البيان إلى الحكومة، انتهت يتدخل الشرطة واعتقال حوالي ثلاثمائة شخص، وبالتدريج تغير خطاب الدولة وأصبحت الإشارة إلى الأمهاتتتم لا باعتبارهن مجنوناتوإنما أمهات الإرهابيين، وأعقب ذلك حملة اعتقالات ضد الأمهات، وتصف ماريا دل روزاريو الموقف بقولها :

جاء اعتقال الأمهات بمثابة ضرية شديدة لمنظمتنا ولكنها جعلتنا أكثر تصميما على معرفة حقيقة الأوضاع، وكنا بالطبع في حالة رعب شديد شعر به الجميع، وقالت لي أسرتي: “احترسي فقد يحدث لك مكروه، ولكني قلت لهم ما الذي يفوق اختطافهم لابني؟” (ص ۱۱۰).

وإضافة إلى الأمهات كانت هنالك الجدات ممن اعتقلت بناتهن الحوامل وأبناؤهن، فكان مصير المولود والأطفال الصغار لأبناء المعتقلين والمعتقلات التعامل معهم على أنهن أسرى حرب“. ومن هنا نشطت الجدات في محاولة التعرف على أسماء الأطباء والمولدين المتواطئين مع أجهزة الحكم، وذلك للتوصل إلى أماكن أحفادهن وحفيداتهن الصفار، وشهدت الثمانينيات محاكمة الضباط المسؤولين عن تجاوزات حقوق الإنسان في نفس الوقت الذي بدأت فيه عملية البحث عن المفقودين واللجوء إلى القضاء ومحاولات إثبات النسب بعد العثور على الأطفال، بالتعاون مع المحامين والأطباء النفسيين والباحثين.

وتختلف الأمهاتعن الجداتوعن غيرها من المنظمات في رفضها التعاون مع مؤسسات الدولة، ويتمحور نشاطهن حول رفض التعاون مع الحكومات التي قامت بحماية قتلة المفقودين، وتعتبر الأمهات أنفسهن خارج أي نشاط سياسي بل ويعتبرن أنهن يقمن بتحويل السياسةعن طريق تبني قيم جديدة تقوم على اللاعنف والتضامن والعمل من أجل العدالة الاجتماعية، والعمل بمعزل عن كافة الأحزاب السياسية، كما لعبت الأمهات دورا في تغيير الصورة النمطية للأمهات السلبيات غير الفاعلات سياسيا، فأصبحت الأمومة هنا هي الأساس في رفض المجتمع وقيمة السائدة، والنضال ضد القهر والقمع.

قام نظام الحكم العسكري بفرض قيود وممارسة أعمال قمع على نشاط منظمات الطبقات العاملة مع فتح الأسواق المحلية للتجارة الحرة، مما أدى إلى تدهور الصناعة المحلية وانهيار الاقتصاد، وعلى العكس من غيرها من دول أمريكا اللاتينية، لم تشهد الأرجنتين حركة واسعة في أوساط النساء في الأحياء الفقيرة، وإنما تمثلت أولى ردود الأفعال في نساء الطبقة الوسطى من ربات البيوت اللاتي خرجن عام ١٩٨٢ في مسيرات احتجاج، أعقبها بعد عامين تأسيس نقابة لربات البيوت باعتبار ربات البيوت يمثلن قوة عاملة لا مجرد طاقة مستهلكة.

وقد كان ولاء الطبقة العاملة في الأرجنتين لنظام الحكم البيروني (نسبة إلى الرئيس بيرون) وحزبه الذي جعل قضايا العدالة الاجتماعية على رأس برنامجه السياسي، ونتيجة للدور الذي قامت به الدولة وتبنيها على مدى سنوات طوال لقضايا الطبقة العاملة إضافة إلى دور الكنيسة الكاثوليكية في الأرجنتين أن اعتمد الشعب على الدولة والكنيسة وفقدوا روح المبادرة. ومن ناحية أخرى اشتركت الكنيسة مع النظام الحاكم في تأكيد أدوار النساء التقليدية في صون العقيدة والمحافظة على النظام الأسري، كما تحالفت الدولة والكنيسة مع رابطة ربات البيوتوهي من أقدم المنظمات النسائية في الأرجنتين التي تأسست عام 1956 وكان من أهدافها توعية نساء الطبقتين العليا والوسطى بكيفية إدارة شؤون المنزل واكتساب المهارات كالحياكة والتطريز من منطلق الدور التقليدي للنساء، كما أدارت حملات ضد استغلال جسد المرأة في الإعلانات والمواد الإباحية. ونظرا لطبيعتها النخبوية وأنشطتها الخيرية لم تتعرض لمواجهات مع النظام العسكري.

وعلى النقيض من ذلك انطلقت شرارة منظمة نسائية أخرى لربات البيوت من شوارع العاصمة بوينوس أبريس عقب حرب جزر الفوكلاند عام ١٩٨٢، حيث بدأت هؤلاء النساء في الدعوة إلى إضراب عام عن الشراء لمدة أربع وعشرين ساعة، معلنة ميلاد حركة ربات البيوتفي بوينوس أيريس عام ١٩٨٢، والتي جاءت معبرة عن الاحتجاج على ارتفاع الأسعار وكسرت قاعدة عدم التدخل التي عايشها الشعب الأرجنتيني على مدى عقود من الحكم، وما لبثت أن انتشرت حرب ضد الغلاءفي كافة أنحاء البلاد، وفي نوفمبر ١٩٨٢ بدأت النساء حملة على مستوى الأرجنتين الامتناع عن الشراء يوم الخميسوصاحبها بيان سلمنه إلى وزير الاقتصاد مطالبات بتحكم الدولة في الأسعار ودعم الخبز واللحوم والحليب وغيرها من المطالب، وتصف مارتا اندلاع تلك الحملة قائلة:

وقفنا أمام الدكاكين المحلية في مجموعات تحمل لوحات في محاولة لإثناء الناس عن الشراء. وقد دخلنا في جدل ومناقشات مع أصحاب الدكاكين، فلكم أن تتخيلوا أنهم لم يكونوا راضين عن ذلك التجمع النسائي أمام محلاتهم. وحين تعيشين في حي صغير فإنك تعرفين البقال والفران والجزار ويعرفونك مما يزيد من صعوبة الموقف، فكانوا يقولون لنا: “هذه المعركة ضدي أنا، وأسرتي في حاجة إلى الطعام هي الأخرى، وعلي أن أدفع فواتير الكهرباء وإيجار السكن!” وكانوا يأتوننا بفواتيرهم فقلنا لهم أن عليهم أن يحتجوا على الأوضاع للحكومة وليس لنا (ص ١٤٧).

وبحلول عام ١٩٨٣ تشكلت مجموعات ربات البيوت المؤلفة من آلاف النساء مما أدى إلى تحول حركة ربات البيوت في بوينوس أيريس إلى الحركة الوطنية لربات البيوتوتحددت مطالبها في 18 نقطة حول الغلاء والخدمات والسكن والعمل، وكان الأساس الذي تجمعن حوله هو العمل المستقل عن الأحزاب السياسية، وهو ما تصفه مارتا كالآتي:

لقد قالوا عنا أننا شيوعيات ويساريات مع أن معظمنا لم تكن لديه أية تجارب سياسية، فلم يكن من الممكن للشابات بيننا أن يتمتعن بخبرة سياسية لأننا قضينا سنوات المراهقة في ظل نظام ديكتاتوري، ونظرا لغياب خبرتنا السياسية نجحوا في استغلالنافقد استغلت وزارة التجارة الدولية حملتنا وطبعت بوسترات تدعم الإضراب عن شراء اللحوم، ولم يكن لدينا نحن أية بوسترات حيث لم تتوفر لنا الأموال اللازمة لطباعتها، بل وقامت الحكومة بتوزيع منشورات باسمنا. ولم يكن هدفهم تخفيض الأسعار وإنما خفض الاستهلاك المحلي وبالتالي زيادة الصادرات! وقد عرضت الأحزاب السياسية علينا المساعدة، ولكننا فضلنا الاحتفاظ باستقلاليتنا (ص ١٤٨ ١٤٩).

وبدأت الحركة الوطنية لربات البيوت تضع قضايا حقوق النساء على برنامجها وتختلف عن النقابات في كونها ترعى مصالح النساء اللاتي لا نقابة لهن، حيث تتبنى النقابات العمالية شؤون العاملين والعاملات بينما تحتل أعمال البيت ومكانة ربة البيت موقعا له خصوصيته، وفي عام ١٩٨٤ تم إنشاء اتحاد ربات البيوت في جمهورية الأرجنتينليرعى فئة ربات البيوت، وليكون تتويجا لجهود تحويل قضية ربات البيوت من مجال الحيز الخاص إلى الحيز العام. ومع التغيرات التي شهدتها الأرجنتين (وما زالت) والتطورات التي طرأت على أوضاع النساء يظل من أهم منجزات النساء الناشطات هو إثارة وعي المؤسسات الرسمية كالأحزاب والنقابات بأهمية إدراج حقوق النساء ضمن برامجها، ومن ناحية أخرى تمثل جهود العمل النسوي مصدرا لتمكين النساء، وهو أمر نسمع أصداءه في كلام تينا حين تقول:

ما يهمني هو الصحبة حيث أنني لا أشعر بالوحدة بل أشعر بالمساندة فتقل بذلك معاناتي. حيث تشعرين بأن الكثير من مشاكلك ليست مشاكل خاصة بك وحدك وإنما هي مشاكل تعاني منها كافة النساء، مما يعني بأن في إمكاننا العمل معا لتغيير حياتنا (ص ۱۷۰).

كانت بدايات الحركة النسوية في شيلي مرتبطة بنساء الطبقتين العليا والوسطى وكان يتم النظر إلى تلك الحركة باعتبارها نخبوية وبعيدة عن مطالب نساء الطبقة العاملة. ومع حصول النساء على حقوقهن السياسية تفككت الحركة النسوية وتم امتصاصها في إطار الأحزاب السياسية التي يتزعمها الرجال ويوجهها برنامج تحتل فيه هموم النساء مكانة ثانوية. ومع وصول الجنرال بينوشيه ونظامه العسكري إلى الحكم تراجعت إنجازات النساء حيث تمت السيطرة عليها لتخضع تماما للنظام ولتكون الأمانة العامة للمرأةومراكز النساءوسيطا لنقل ونشر الأيديولوجيا العسكرية.

إلا أن ذلك لم يمنع النساء في أحد أحياء العاصمة سانتياجو من إنشاء حركة النساءفي عام ١٩٨٢، وذلك في تحالف مع ما يصل إلى خمسة عشر تجمعا من التجمعات النسائية في غيره من الأحياء، وتضمن عمل المنظمة إقامة دورات تدريبية على المهارات المدرة للدخل وتوعية صحية وغيرها من القضايا الثقافية والاجتماعية، وذلك في إطار مستقل تماما عن الأحزاب والنقابات وغيرها من المؤسسات، وهو ما تصفه ماتيلدا كالآتي:

كان التحدي الذي واجهنا هو بناء حركة مستقلة بقدر المستطاع عن الكنيسة وعن الأحزاب السياسيةلقد شكلنا لجنة مؤقتة وحصلنا على بعض الدعم الخارجي وعقدنا ندوة حول النساء والتاريخ وتحدثنا عن دور النساء في أعمال النضال الشعبي، وهو ما اعتبروه عملا سياسيا” (ص ۱۸۰).

وقد اندمجت النساء في الدعوة العامة من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما بدأن في الضغط لإحداث تغييرات اجتماعية على مستوى الأسرة، وهكذا جمعن بين النضال الطبقي والنسوي رغم التحديات التي واجهت حركة النساءلما يحمله مفهوم النسوية أحيانا من تخوفات من كونه يعكس استراتيجية نخبوية إمبريالية لإحداث شرخ في النضال الطبقي، وهو ما تكشف عنه فلورا حين تقول:

الأمر اليقيني الوحيد هو أن الحركةكانت حركة اجتماعية مستقلة عن الأحزاب السياسية، وأننا كنا تجمع بين ربات البيوت المسيسات وغير المسيسات داخل حركتنا الديمقراطية، كنا نريد أن نلعب دورا في نضال الطبقة العاملة من أجل الديمقراطية، ولكننا كنا نريد تحولا ثقافيا ومجتمعا تحدث فيه تغيرات في القيم السائدةوقد بدأنا ندرك أننا تختلف عن التوجه النسوي القائم وأننا كنا نتبنى فكرا نسويا شعبيا (ص ١٨٦).

وفي ختام كتابها حول دور النساء في حركة المقاومة وخصوصية تلك التجربة في أمريكا اللاتينية تورد جو فيشر بعض الملاحظات النهائية مؤكدة على الدور الذي لعبته نساء الطبقة العاملة في سبيل تغيير أوضاعهن وكانت البداية بدافع مواجهة الفقر والبطالة مما شجع النساء على الاندماج في العمل السياسي مع تزايد وعيهن بخصوصية موقعهن كنساء، وقد بدأ تصورهن للعمل العام باعتباره امتدادا لأدوارهن المنزلية، إلا أنهن ما لبثن أن اقتحمن الحيز العام وكسرن الحدود الصارمة بين البيت والحي والمجتمع. ومن الجدير بالذكر عدم تخوف المناضلات من مواجهة أساليب القمع العسكري وتحولهن من خلال تجمعاتهن المستقلة عن الأحزاب والنقابات والمؤسسات الرسمية إلى قوة وموقع للمقاومة.

وتشير جو فيشر إلى تأثير الفكر النسوي على حركات المقاومة التي قامت بها النساء في أمريكا اللاتينية. وتوضح دور النظام العسكري والإعلام في تشويه مفهوم النسوية والترويج لها باعتبارها تعبر عن مصالح الطبقة الوسطى، كما قامت قوى أخرى باتهام النسوية بأنها تنتمي إلى مؤامرة إمبريالية تسبب شرخا في النضال العمالي. ومع ذلك اتخذ نشاط النساء طبيعة نسوية بل وتطور في بعض الحالات ليجمع بين النضال الطبقي والنسوي ونشأة النسوية الشعبية.

وتلفت جو فيشر أنظارنا إلى أن عودة الأحزاب والنقابات إلى نشاطها في أعقاب سقوط أنظمة الحكم العسكري يعني عادة عودة الرجال إلى مناصب القيادة وامتصاص النساء في المراتب الأدنى ضمن التراتبية الحزبية والنقابية. ومن هنا كانت أهمية نضال النساء من أجل وضع مطالبهن على برامج العمل الحكومية بتكوين جماعات ضغط من خلال منظمات وتجمعات مستقلة عن الأحزاب والنقابات.

وتختتم المؤلفة كتابها بنظرة تنطلق من الحاضر نحو المستقبل، فترى أنه في لحظة يبدو فيها المستقبل قاتما على المستويين الاقتصادي والسياسي، ومع تزايد خيبة الأمل في النقابات والأحزاب السياسية تمثل الحركة النسائية مصدر إحياء وتنشيط لدور الطبقة العاملة، فقد ساهمت النساء في أمريكا اللاتينية في إضفاء بعد ديمقراطي على السياسة باندماجهن في الحياة العامة والأحزاب السياسية والنقابات العمالية رغم ما يواجهنه من مصاعب في الوصول إلى المناصب القيادية، ومما لا شك فيه أن التحول والتغيير في أوضاع النساء يتضمن مواجهة الصور والأدوار التقليدية من خلال تنمية الوعي وقيام التعاون والتضامن بين النساء وفرض صور جديدة لأدوار النساء في الحياة بالنضال الفعلي والمقاومة المستمرة.

* الخروج من الظل: النساء والمقاومة والسياسة في أمريكا الجنوبية، تأليف: جو فیشر ۱۹۹۳.

** مدرسة مساعدة بكلية الآداب- جامعة القاهرة. عضو مؤسسة بملتقى المرأة والذاكرة. باحثة مهتمة بدراسات الجندر.

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي