المرأة والذاكرة

التصنيفات: النظرية النسوية

رقم العدد:

3

تاريخ النشر:

2015

اعداد بواسطة:

المرأة والذاكرة

(مقابلة* مع هدى الصدة)

 

تمت هذه المقابلة تحريريًا في خريف ١٩٩٨ مع هدي الصدة، الباحثة في قضايا المرأة والأستاذة في الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة وعضوة ملتقى المرأة والذاكرة” (مع أميمة أبو بكر وسمية رمضان وهالة كمال وإيمان بيبرس وباحثات أخريات) ورئيسة تحرير الحولية هاجر (بالاشتراك مع سلوى بكر). وكما عهدت ألف في مقابلاتها مع المفكرين والناشطين في حقل ما، فقد طلبت من المهتمين بمسيرة هدى الصدة العلمية طرح أسئلة تستفسر وتناقش (وأحيانًا تشاكس) منطلقاتها وتوجهاتها. تشير هدى الصدة لعدة أعمال من كتب ومقالات باللغة الإنجليزية والتي سيجد القارئ ثبتًا بمراجعها في نهاية المقابلة.

فريال غزول: ما الخطوات التي أدت إلى اهتمامك وتركيزك على قضايا المرأة؟ لقد كانت بداياتك الأكاديمية بعيدة عن هموم المرأة والبعد الجنسوي في الثقافة. فقد تخصصت في الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة ومن بعدها التحقت بالجامعة الأمريكية في القاهرة حيث كتبت رسالة ماجستير في الشعر المقارن بين والت ويتمان ومحمود حسن إسماعيل، ثم استكملت دراستك للدكتوراه في جامعة القاهرة وجامعة أكسفورد وكتبت رسالة عن الشعراء الإنجليز الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية على الجبهة المصرية وأبدعوا قصائد الحرب. وهذه بدايات لا تشي بهموم نسوية، فهل تعرفك على سلوى بكر وترجمتك لقصصها كان من دوافع تعديل مسار اهتمامك؟

هدی الصدة: ليس من السهل تحديد بدايات اهتمامي بقضايا المرأة بدقة. أستطيع مثلاً أن أسترجع من طفولتي مواقف كثيرة كنت أرفض فيها قواعد وتعليمات مخصصة للبنات دون الأولاد. إلا أني لم أعان بصفة شخصية من القواعد بسبب نشأتي في بيئة متسامحة تسمح بقدر عالٍ من الحرية والاختلاف، ومن ثم لم أتمرد في سن مبكرة ولم تكن هناك عجلة في نطاق خبرتي المحدودة. إذا حاولت رصد نقطة بداية ما، يتبادر إلى ذهني قراءتي لكتاب إدوارد سعيد، الاستشراق. كنت في هذا الوقت أحضر للحصول على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي والمقارن. آثار لدي هذا الكتاب أسئلة كثيرة عن العلاقة مع الآخر، عن دراسة الأدب الإنجليزي وأهميته للطلبة الدارسين له، عن دور الأب ووظيفته وعلاقته بالواقع الاجتماعي والسياسي، عن دوري وموقعي بصفتي باحثة في الأدب المقارن وأهمية كل هذا بالنسبة لعلاقتي مع المجتمع الذي أعيش فيه. أثار الكتاب أيضًا أسئلة أخرى عن التصورات الثقافية representations والدور الذي تلعبه في تحديد العلاقات وتوجيهها. والآن وأنا أسترجع هذه البدايات، أجد أنني أوليت أهمية كبيرة لموضوع التصورات ظهر بصور متعددة، مباشرة وغير مباشرة، في اهتماماتي البحثية. استرعي اهتمامي أيضًا في كتاب الاستشراق (رغم تجاهله الملحوظ لكتابات النساء وهي من الانتقادات التي وجهت إليه لاحقًا من قبل الباحثات النسويات) الشابه الواضع في اللغة المستخدمة لتصوير ووصف الطرف الأضعف أو الفئة المهمشة أو الشعوب المستعمرة واللغة المستخدمة لتصوير ووصف المرأة وأدوراها المتوقعة منها في المجتمع. هذا التشابه اللغوي التصويري أصبح هاجسًا يلح عليَ دائما، يظهر دومًا في الصور والتعبيرات الثقافية التي تؤنث الطرف المقهور أو الذي يقع عليه ظلم وتحمله ذنب القهر الواقع عليه.

كان هذا سنة ١٩٨٠، اهتممت بمتابعة الأدب العربي الحديث وكانت هناك أعمال كثيرة لم أقرأها بعد، وقرأت لكتاب وكاتبات أمثال لطيفة الزيات ورضوى عاشور. أثناء دراستي للحصول على درجة الدكتوراه أتيحت لي فرصة السفر إلى إنجلترا والاطلاع على النظريات الحديثة وكتابات في الأدب والثقافة من بلدان كثيرة خاصة الهند وأفريقيا وجزر الكاريبي. وبالتدريج، تركزت قراءاتي على أعمال الكاتبات. بعد انتهائي من رسالة الدكتوراه وجهت انتباهي للترجمة باعتبارها إحدى القنوات للتعبير عن الثقافة بأصوات أبناء وبنات تلك الثقافة. فإذا كان الشرق قد تم تصويره وتشكيل تصورات عنه في كتابات كتاب ورحالة غربيين، قد تلعب ترجمة نصوص أدبية قيمة دورًا فعالاً في تمثيل الذات والتعبير عنها بطريقة مباشرة أكثر دون ولاية أو وساطة (هذا بالطبع مع الأخذ في الاعتبار دور المترجم كوسيط ومفسر للثقافة والاعتبارات المثيرة التي تتدخل وتتشابك مع قضايا الترجمة). وإلى جانب هذا وددت لو كانت أعمال الكاتبات متاحة باللغة الإنجليزية ليقرأها ناس من بلدان أخرى، كما تسنت لي فرصة قراءة أعمال من الهند وأفريقيا باللغة الإنجليزية. خلال بحثي عن نص يعجبني ويشجعني على الترجمة، قرأت مجموعة قصصية لإبراهيم أصلان بعنوان بحيرة المساء ودون تكليف من أحد ترجمت مجموعة قصص وكتبت مقدمة وبعد الانتهاء من العمل عرضتها على مشروع الترجمة بالهيئة المصرية للكتاب وقبلت المجموعة ونشرت. ثم قرأت مجموعة قصص لسلوى بكر من مكتبة الجامعة الأمريكية ولم أكن قرأت لها شيئًا من قبل وأعجبتني كتاباتها جدًا وشعرت أنها تقدم صوتًا نسويًا مختلفًا، أو صوتًا يتميز بحساسية عالية تجاه الكثير جدًا من المسكوت عنه في العلاقة بين الرجل والمرأة ووجدتها تعبر عن وجهة نظر مغايرة للسائد فيما يخص الأدوار الاجتماعية السائدة واللغة المستخدمة. اخترت مجموعة من القصص لها وترجمتها مع كتابة مقدمة ثم عرضتها على الهيئة العامة للكتاب وصدرت المجموعة فعلاً عام ١٩٩٢ بعد انتهائي من العمل بسنتين. طيلة هذه المدة لم أكن قد تعرفت على سلوى (والآن أتعجب لماذا لم أبادر بالتعرف عليها واستشارتها مثلاً فيما أكتبه عنها، وأعتقد أن عذري الوحيد كان خوفي من التطفل واقتحام خصوصية الناس واستعدادي للعزلة والانكفاء على الذات وليس هذا بعذر.) التقيت سلوى بعد نشر مقالة كتبتها عنها في الأهرام ويكلي واكتشفنا قدرًا عاليًا من التفاهم والاتفاق على أهمية مؤازرة النساء بعضهن لبعض، عن المشاكل التي تواجهها المرأة في مجتمعنا وعن ضرورة وجود منبر لمناقشة قضايا المرأة بجدية وبعيدًا عن المزايدات والتحزبات. ولا أبالغ إذا قلت أننا بعد اللقاء الثاني أو الثالث اتفقنا على العمل على إصدار سلسلة كتب متخصصة عن قضايا المرأة اخترنا لها اسم هاجر. يمكنني القول أن هاجر أنارت لي الطريق الذي كنت أبحث عنه.

التجربة الثانية التي كان لها أثر كبير على تحديد اتجاهي في تناول قضايا المرأة، من منطلق إعادة قراءة التاريخ الثقافي العربي من وجهة نظر المرأة، كانت تجربة انضمامي سنة ١٩٩٣ إلى مجموعة من النساء عكفت على مشروع الإعداد لنموذج جديد من وثيقة عقد الزواج المتداولة. يستند مشروع تعديل وثيقة الزواج إلى فكرة أن الزواج في الإسلام يتم بمقتضى عقد مدني رضائي يسمح للطرفين بتضمين العقد لشروط توجه العلاقة وتحدد الحقوق، هذا على ألا تحل حرامًا أو تحرم حلالاً. كان الهدف وراء المشروع تعريف النساء بحقوقهن في الزواج وحثهن على التمسك بتلك الحقوق لتجنب الوقوع في براثن التعقيدات القانونية المنحازة ضد المرأة في قانون الأحوال الشخصية المصري. اعتمد المشروع على استطلاع رأي مجموعة من الناس في التعديلات المقترحة، واتضح من خلال هذه اللقاءات عدد هائل من المفاهيم الخاطئة أو المفاهيم المنحازة باعتبار أن هذه التعديلات دخيلة على الثقافة والتراث. حدث ذلك على الرغم من أن التاريخ سجل بالفعل تطور الوثيقة المطرد في شكل إضافات وتعديلات تتحدد بناء على رغبات طرفي العقد وبناء على عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية أيضًا، إلى تجميد الوثيقة في شكلها الحالي في بداية القرن العشرين وبدأنا نتعامل معها باعتبارها أبدية ولا يمكن أن تتغير. لم تكن هذه أول مرة تطرح فيها فكرة تعديل وثيقة عقد الزواج، فلقد قامت مجموعة من سبع نساء سنة ١٩٨٧ باقتراح شكل جديد للوثيقة كخطوة أولى في سبيل العمل على تعديل قانون الأحوال الشخصية. ولم تكن تلك أول مرة في القرن العشرين تقوم بها مجموعات من النساء بالمطالبة بتغيير القانون. ولم تكن هذه المرة الأولى في التاريخ العربي على مر العصور أن تصدت النساء لتشريعات ظالمة. والتاريخ خير شاهد على اختلاف وتنوع عقود الزواج في القرون الماضية بل وعلى تضمن بعض هذه العقود لحقوق لا تحلم المرأة في القرن العشرين بالحصول عليها. ومع هذا قامت حملة لمعارضة المشروع مستندة إلى مبررات عديدة، من أهمها دعوى أن التغييرات المقترحة، كما سبق وذكرت، دخيلة على الثقافة ومبنية على مفاهيم غربية. كان لهذه التجربة أثر كبير في توجيه تركيزي على التاريخ الثقافي العربي، فمنذ بداية القرن العشرين، نجد أن من الأساليب المتبعة دائمًا لسحب المصداقية من النشيطانت في مجال حقوق النساء، اتهامهن بالعمل من خارج الثقافة أو بالتغريبإلى آخره. واقتنعت تمامًا أنه آن الأوان لتحديد مفهوم الثقافة هذه وتفكيك الخطابات التي تحتكر الحديث باسم ثقافة المجتمع كله من أجل فرض شكل من أشكال الهيمنة الثقافية التي تقهر التعددية والتنوع. وبشكل عام، كان لتجربة العمل على تعديل عقد الزواج تأثير كبير علي شخصيًا وعلى اتجاهات البحث التي تبنيتها.

ملك رشدي: كيف يمكن تحديد أولويات دراسات النوع (gender studies) في المجتمع العربي لتلعب دورًا فعالاً في العلاقة بين الرجل والمرأة في إطار المؤسسات الاجتماعية والسياسية الموجودة؟ وما تلك الأولويات ومن يحددها؟ وما المقاييس التي يمكن تبنيها من أجل مشاركة حقيقية وفعالة من قبل المعنيين بذلك؟

هدى الصدة: لن أخذ على عاتقي مهمة تحديد أولويات البحث، أو طرح مقاييس تحكيمية وقيمية، ولا تعيين من له الحق في تحديد الأولويات، فهذه مسئولية يشترك فيها الجميع وتتشابك مع عدد هائل من الأسئلة والهموم ولا يمكن الإجابة عنها باختصار في هذا السياق. أفضل الحديث في هذا الموضوع من منطلق الباحثة المنتمية إلى مجموعة بحثية لها أسئلتها التي تحاول الإجابة عنها، ولها أيضًا خبرة بحثية وحياتية معينة تحدد هذه الاختيارات وتوجهها. وعلى هذا الأساس، نحدد كعضوات في ملتقى المرأة والذاكرةأولوياتنا البحثية في التاريخ الثقافي العربي بتبني منهج للبحث يقع تحت مسمى الـ gender studies. تعرف أنفسنا بأننا مجموعة من الباحثات والنشيطات في مجال حقوق النساء نكرس جهودنا في البحث في التاريخ الثقافي العربي من منظور يأخذ في الاعتبار التشكيل الثقافي والاجتماعي للجنس gender وذلك من أجل المشاركة في تشكيل خطاب ثقافي بديل يؤكد على أهمية وتنوع دور المرأة في الماضي والحاضر ويعزز من موقفها في السعي لتغيير النظرة السلبية لها في المجتمع المعاصر، استخدم مصطلح التاريخ الثقافي على أساس أن روايات التاريخ، أو كتابة التاريخ جزء لا يتجزأ من ثقافة أي مجتمع معاصر وأيضًا بهدف توسيع مفهوم التاريخ الذي ينحصر أحيانًا في تاريخ السلطة والحكام، أي التاريخ بمعناه التقليدي الذي يشمل التاريخ الرسمي فقط. التاريخ الثفاقي معني بتاريخ الناس، وبتفاصيل الحياة اليومية في علاقتها مع الممارسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكافة أفراد المجتمع الواحد. إنه التاريخ الذي لا يميز النخبة والذي نتلمس بعض خيوطه في مصادر غير تقليدية. أفترض أيضًا أنه لا يمكن فصل الماضي عن الحاضر وأننا نعيش ونتعايش مع تاريخنا الثقافي. فعلى المستوى الخاص، قد نجد أن الكثير جدًا من تفاصيل حياتنا اليومية لها بعد تاريخي. نجد أن قدرًا كبيرًا من أحلامنا وتطلعاتنا متسقى أو مبني على قصص من الماضي. أما في المحيطا العام، فإننا نجد أن التصورات التاريخية أو التصورات المستندة إلى شخصيات تاريخية أو أحداث ماضية في واقع الأمر ممارسات تسعى عن عمد إلى تشكيل الذاكرة الجماعية. نجد أيضًا أن عملية استحضار أحداث أو شخصيات من الماضي تتم لتحقيق هدف محدد في الحاضر، أو تتم للتأثير على مجرى قضية من القضايا المطروحة على الساحة. فمثلاً، إن عملية اختيار ونشر القصص عن شخصیات تاريخية معينة تنم عادة عن محاولة من قبل فئة ما أو نخبة ما لدعم وتكريس قيم محددة أو أنماط اجتماعية معينة.

أما عن المشروعات البحثية المحددة التي تعمل بها عضوات المجموعة فهي تشترك في هم رئيسي وهو فهم وربما تغيير التصورات والأنماط الثقافية عن النساء ودورهن في الواقع المعاصر. وانطلاقًا من هذا الهم، نبحث جميعًا في فترات تاريخية مختلفة ومن خلال طرح أسئلة متعددة للبحث عن جذور بعض المفاهيم والأنماط الاجتماعية والثقافية وذلك من أجل بيان تاريخيتها، أو ارتباطها بلحظة تاريخية محددة ومن أجل تفكيك سطوتها ومحاولات ترسيخها باعتبارها حقائق ثابتة لا يمكن زحزحتها. أركز اهتمامي، على سبيل المثال، على البحث في آليات تشكيل ونشر التصورات الثقافية عن النساء في القرن العشرين، ويأخذني اهتمامي هذا إلى الكتابة عن سير النساء في القرن العشرين والعمل على توثيق سير شفاهية للنساء اللآتي لم يهتم بهن التاريخ المدون، كما أسعى إلى الإجابة عن أسئلة تمس العلاقة بين التصورات عن النساء وعملية التحديث وآفاق الحداثة كما تجَلت في مصر والعالم العربي. وتبحث سمية رمضان عن دور المرأة المصرية وفهمه إبان الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وكما تقول، وقع اختيارها على تلك الحقبة لأن حملة نابليون يؤرخ لها بوصفها بداية تاريخ مصر الحديثأي مجتمع مظلم فاجأته الحداثة عن طريق جهود المستعمر التنويري. ينصب مشروعها على نقد هذه الفكرة من خلال رصد وتحليل علاقة النساء بالحملة وأثرها على حياتهن. وهي على وشك الانتهاء من كتابة رواية عن زواج أحد جنرالات نابليون بامرأة مصرية من رشيد. أما أميمة أبو بكر فتبحث في التاريخ الديني الإسلامي وتتَبع الآراء والتفسيرات التي تمس وضع المرأة في المجتمع من بداية الدعوة إلى يومنا هذا من منطلق أهمية وأثر ذلك التراث على حياة النساء المعاصرات وتركز هي أيضًا على تاريخية التفاسيروعلاقتها بالسياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، هالة كمال تتبنى مشروعًا لإعادة كتابة الحكايات الشعبية العربية من وجهة نظر المرأة وسوف أفصَل قليلاً في هذا المشروع لاحقًا. معنا أيضًا باحثات أخريات لهن توجهاتهن واهتماماتهن البحثية مثل رانيا عبد الرحمن التي تعمل أيضًا في جمع وتوثيق سير شفاهية. عمومًا، نرى أنفسنا نواة لمجموعة بحثية تتفق على هدف ورؤية واحدة قد تختلف في الاتجاهات أو الأساليب البحثية. ترى أيضًا أن مجموع الاتفاقات والاختلافات الموجودة بيننا هي من دعائم تفاؤلنا وقوتنا.

ديفيد بلانكس: ما أهم القضايا في رأيك من وجهة نظر استعادة تاريخ في النساء في الشرق الأوسط؟ بمعنى آخر، ما هي الأولويات التي ينبغي للباحثين المشتغلين بالدراسات الجنوسية والتاريخية التركيز عليها؟

هدى الصدة: قبل محاولة رصد بعض القضايا التي أجدها هامة من وجهة نظر استعادة تاريخ النساء في الشرق الأوسط، أبدأ بعرض سريع للقضايا التي تناولتها الباحثات النسويات في سياقات مختلفة وحدث بالفعل تراكم معرفي ذو شأن خاصة في الغرب، لأن هناك مساحات مشتركة كثيرة جدًا وتجارب يمكن الاستفادة منها، ولا أقول نقلها نقلاً، مع الأخذ في الاعتبار التمايزات الموجودة على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي.

هناك كما نعلم جميعًا علاقة وثيقة بين بدايات البحث في تاريخ النساء وبين حركات المطالبة بحقوق النساء التي نشطت ونمت بسرعة في القرن العشرين. ومع هذا لم ينحصر البحث في تاريخ النساء في نطاق أجندة مرسومة بصرامة لتلبية احتياجات الحركة، ونجحت الباحثات النسويات في إثارة موضوعات كثيرة والتفاعل مع الفرضيات المعرفية. وعمومًا سلكن أربعة اتجاهات رئيسية. أول اتجاه يركز على إنجازات النساء العظيمات على نسق إنجازات الرجال العظماء في التاريخ التقليدي. ثاني اتجاه يدرس أصول ومصادر المجتمعات والعلاقات غير المتكافئة بين الجنسين. ثالث اتجاه يسلط الضوء على الفترات واللحظات التاريخية التي شهدت محاولات منظمة من قبل النساء للتصدي لفكرة استبعادهن من الحياة العامة، فمثلاً هناك كتابات كثيرة دونت عن فترات تاريخية سابقة تشير إلى ثورات قامت بها النساء أو إلى امرأة تتصدى لمقولات معينة عن جنس النساء. رابع اتجاه مستوحی من مبادئ أساسية في الوعي النسوي وهو أن نعتبر ما هو شخصي سياسيًا ومن ثم نتعامل مع العام والخاص بوصفهما مساحات مرتبطة ومتشابكة. ومن الأشياء الهامة في البحث النسوي التشكيك في التضاد الثنائي بين العام والخاص.

مع حلول الثمانينات نجحت الباحثات التسويات والمؤرخات في انتاج كم هائل من المعرفة التاريخية عن النساء. هذا التراكم شجع محاولات عديدة من قبل باحثين وباحثات لتقييم هذا الاتجاه. فمثلاً في الثمانينات نجد كتابات تقيم ما حدث. وفي مقالة شهيرة للمؤرخة جيردا ليرنر Gerda Lerner تستعرض فيها بعض إنجازات الباحثات النسويات في التاريخ، وتبرز التحديات التي قدمتها المؤرخات النسويات للتاريخ التقليدي. فترى: أولاً، أن للنساء تاريخًا تم بالفعل طمسه وتهميشه. في مجال الأدب مثلاً، نكتشف أنه كانت توجد كاتبات كثيرات جدًا لم يعترف بهن النقاد واعتبروا أعمالهن غير جيدة رغم تميزها. والآن نقرأ لهن وتمتلئ المكتبات بكتبهن. ثانيًا، أثبتت أيضًا أن هناك تمييزًا ضد النساء في كتابة التاريخ. وهو تمييز مبني على الجنس وليس على القيمة، وهذه نقطة مهمة. ثالثًا، برهنت على ضرورة اعتبار فكرة التشكيل الثقافي والاجتماعي للجنسين عنصرًا تحليليًا في كتابة وقراءة التاريخ. رابعًا، ونظرًا إلى أن المصادر التاريخية في العادة تستبعد النساء، أصبح من الضروري إعادة قراءتها وتحليلها من منظور يعي هذا التمييز. أي أن الهدف هنا ليس كتابة مصادر جديدة فقط وإنما وجب علينا أن نذهب إلى القديم ونقرأ، مع الأخذ في الاعتبار انحيازات المؤرخين ضد المرأة. خامسًا، ذهبت إلى أن الحقب التاريخية المتعارف عليها تناسب إنجازات الرجال وهمومهم ويجب إعادة النظر فيها. سادسًا هناك حاجة لمراجعة مجموعة الافتراضات المعرفية الأولية.

جميع الأسئلة المتضمنة في هذا العرض السريع مطروحة ومازالت على أجندة البحث في تاريخ نساء الشرق الأوسط، هناك أيضًا أسئلة كثيرة أخرى مرتبطة بحياتنا وواقعنا توجه البحث في مناطق أخرى. نستفيد منها ونتفاعل مع باحثات أخريات من بلدان العالم الثالثأو بلدان لها قدر عالٍ من السمات المشتركة. لما عن الاتجاهات الهامة، من وجهة نظري، في البحث في تاريخ نساء الشرق الأوسط فهي بدأت بالفعل. ولكنها تحتاج إلى جهد وتركيز لتفرض نفسها على ساحة البحث في العالم العربي. هي اتجاهات تتناول تاريخ النساء، مع الأخذ في الاعتبار متغيرات أساسية، منها نشأة وصياغة خطاب الحداثة عن المرأة، والاستعمار وأثره على كتابة التاريخ، بعض المشاكل التي وعت بها أخيرًا الحركة النسائية العالمية وهي خصوصية التحديات وارتباطها بالواقع الفعلي المعاش، إلى أي مدى تتدخل هوية وانتماءات السائل أو السائلة في توجيه الإجابات وتشكيل أسلوب البحث، وتفكيك المركزية الغربية. على صعيد آخر، نحتاج في العالم العربي إلى الانفتاح على ثقافات العالم والتحرر من أن تلعب الثقافة الغربية دور الوسيط بيننا، فلا نتعرف على الانتاج الثقافي في الهند إلا عندما يجري الاعتراف به في الغرب. إلى جانب هذا، فإن إدخال المنظور المقارن في الدراسات التاريخية، خاصة تلك التي تتناول تاريخ النساء، من شأنه أن يثري البحث ويجنبه الوقوع في تبني الافتراضات السائدة. أخيرًا، إن استعادة تاريخ نساء الشرق الأوسط ليس بالأمر السهل، لأننا نفعل هذا ونحن محاطون بصراعات سياسية وحضارية كثيرة ومتضاربة، كلها تستخدم المرأة وتاريخها لكسب النقاط. فكتابة التاريخ مرتبطة بصياغة وتشكيل الوعي، وكتابة بحث عن عقود الزواج في القرن الثامن عشر يمكن أن تتحول إلى معركة سياسية على صفحات الجرائد. هذه المحاذير تقودنا إلى مناقشة مشاكل حرية البحث في العالم العربي وغياب المؤسسات البحثية التي تهيئ للباحثات والباحثين الظروف المواتية لإجراء الأبحاث. على صعيد آخر، هذه المحاذير تضع في صدارة الوعي والاهتمام العلاقة بين البحث والنشاط الاجتماعي من أجل التغيير وهو أمر له إيجابياته وسلبياته وسوف أتطرق إليه في سؤال لاحق.

حسن حنفي: كيف يمكن دراسة مفهوم فرعي مثل gender والمفهوم الأساسي نفسه غير وارد مثل المواطنة التي يندرج تحتها الرجل والمرأة باعتبار كل منهما مواطنًا؟

هدى الصدة: فكرة الفرعي تمس موضوع كيفية طرح قضية المرأة بصفة عامة في سياق مجتمعات لا تتمتع بالرخاء أو مجتمعات العالم الثالث. واستخدام مصطلح gender في هذا الصدد لا يراد به التمييز بين مناهج متعددة تطرح موضوع المرأة وإنما يستخدم للتعميم عن مسألة المرأة كما طرحت منذ أواخر القرن التاسع عشر. فليست هذه المرة الأولى التي نضع قضية المرأة في مواجهة قضية أخرى، قد تكون المواطنة أو الديمقراطية أو القومية أو التحرر من الاستعمار. فما دلالات كلمة فرعيوكيف توظف؟

كلمة فرعيتستدعي منطق الأولويات، وهو منطق عادة ما يوظف في تكريس مصالح فئة معينة تسعى إلى فرض اهتماماتها على مجتمع بأسره لتقنع جميع أفراد هذا المجتمع أن أولوياتها هي أولويات المجتمع. إن الخبرة التاريخية تقول لنا أن منطق الأولويات يساء استخدامه خاصة فيما يخص حقوق النساء أو حقوق الفئات الأضعف في المجتمع. وفي القرن العشرين، وفي كثير جدًا من دول العالم الثالث التي خاضت معارك تحرير مريرة ضد قوى الاستعمار، استخدم منطق الأولويات هذا لإقناع النساء بتأجيل قضيتهن أو معركتهن للمطالبة بحقوقهن في المجتمع بدعوى أنها قضية فرعيةمقارنة بالقضية الرئيسية وهي تحرير الوطن، وأن إصرار النساء على المضي قدمًا في المطالبة بحقوقهن من شأنه تفريق الصفوف وتجزئة المجتمع. وخير مثال على هذا الوضع ما حدث في الجزائر أثناء وإبان حرب التحرير، حيث شاركت النساء الجزائريات في حركة المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي مشاركة فعلية وقوية ووافقن على تأجيل النظر في قضيتهن واقتنعن بمنطق الأولويات ليفاجأن بعد الاستقلال بحالة نسيان جماعية من قبل رفاق الأمس، ووجدن أنفسهن مطالبات بالمكوث في منازلهن ومراعاة العادات والتقاليد، واكتشفن أن منطق الأولويات هذا كان تكتيكًا سياسيًا لكسب الوقت والمماطلة في إحقاق الحق، وهناك كتابات كثيرة في هذا الخصوص لنساء من المجاهدات والمهتمات بقضية المرأة.

مفهوم الفرعيأيضًا يفترض أن المطالبة بحقوق النساء هي حركة ضد الرجال أو ضد مصلحة الرجال وأن هذه الحركة بالتالي سوف تضعف الصفوف وتشتت الهمم وهذا مفهوم خاطئ أو بالأصح مفهوم سلطوي يرى أن هناك مصلحة في استغلال النساء وانتقاص حقوقهن. إن المطالبة بحقوق النساء لا تمس حقوق الرجال وليست المسألة وجود سلة من الحقوق إذا أخذت منها النساء جزءًا يترتب عليه انحسار الجزء المخصص للرجال. على العكس من ذلك، فالحريات كل لا يتجزأ، وكلما زادت حقوق كل أفراد المجتمع اكتملت سلة الحقوق وتمتع الجميع بجو من العدل والمساواة. وبنفس الطريقة، لا يمكن الادعاء بأن الحركة النسائية تأتي في أهميتها أو على قائمة الأولويت بعد حركة المجتمع للمطالبة بالديمقراطية وحقوق المواطنة، فالحركة النسائية جزء لا يتجزأ من الحركات الاجتماعية تدعمها وتستمد منها القوة في آن واحد. الحركة النسائية حركة تحرير المجتمع رجاله ونسائه، هي حركة ضد القهر بجميع أشكاله وممارساته، حركة ضد شكل من أشكال القهر المستتر والمتفشي في أدق الخصوصيات وفي أشمل العموميات، قهر يمارس على مستوى الأسرة والمؤسسات والثقافة بل وحتى على مستوى اللغة واستخدامها، وبالتالي فقد نعتبر أن التصدي للممارسات التي تميز ضد النساء هو من أصدق المواقف وأصعبها على الإطلاق لأنه يتطلب توافق واتساق العام مع الخاص.

فكرة أن مفهوم gender فرعي قياسًا على مفهوم المواطنة بحيث يشمل مفهوم المواطنة الرجل والمرأة بخلاف مفهوم الـ gender لا يأخذ في الاعتبار معنى ودلالات ونشأة مفهوم gender، وهو ما أنوي توضيحه في سياق الإجابة على السؤال التالي.

   

حسن حنفي: هل يمكن إسقاط مفاهيم غريبة من ثقافة على واقع اجتماعي آخر مثل مفهوم gender على المجتمع العربي الذي له مفهومه الخاص وهو وضع المرأة أو قانون الأحوال الشخصية؟ بل أن اللفظ نفسه ليس له ترجمة عربية.

هدى الصدة: هناك لبس في استخدام مصطلح gender، ففي خطابات كثيرة شائعة يتحول إلى مفهوم فرعييستبعد الرجال ويركز على المرأة، أو يناقش من منطلق أنه أسقط على المجتمع العربي الذي له مفهومه الخاص وهو وضع المرأة أو قانون الأحوال الشخصية، وهذه كلها آراء وتعريفات لا علاقة لها بمفهوم الـ gender ويحصر اهتمامات الباحثات والباحثين المهتمين بوضع المرأة في العالم العربي في إطار قانون الأحوال الشخصية. والسؤال ذو شقين: معنى gender ولماذا لا توجد ترجمة عربية له؟

خرج المصطلح gender من عباءة الدراسات النسوية أو من واقع عمل وبحث الباحثات النسويات اللآتي حاولن وما زلن، سد الفجوة البحثية المعرفية التي تميز ضد النساء في مجالات البحث الأكاديمية. وفي علوم كثيرة وبينية، نشأت دراسات المرأة، أو الدراسات التي اتخذت من المرأة اهتماماتها وتاريخها ووضعها في المجتمع موضوعًا للبحث والتنقيب بهدف كشف أنواع التمييز الذي تعاني منه وفرض قضيتها على المجتمع. كما نشأت الدراسات النسوية، أو المبنية على افتراض أن هناك تمييزًا ضد النساء مبنيًا على الجنس وأنه وجب التصدي لهذا التمييز. ثم استعارت الباحثات النسويات مصطلحًا نحويًا يستخدم في علم اللغويات ليدل على عنصري التأنيث والتذكير في اللغة، وأضفن عليه دلالات جديدة إلى أن أصبح يستخدم ليشير إلى التشكيل الثقافي والاجتماعي للجنس. فبناء على دراسات مقارنة حديثة، تبين أن صفات الأنوثة والذكورة متغيرة تاريخيًا وتختلف من مجتمع إلى آخر، وأن ظاهرة تقسيم الأدوار الاجتماعية بناء على الجنس كما نعرفها في المجتمعات الحديثة ليست ظاهرة أبدية أو شاملة لكل المجتمعات. ومن ثم يصبح التمييز ضد النساء بدعوى الفروق البيولوجية الملموسة مدعاة للشد والتدقيق. لقد ساعد ظهور وشيوع مفهوم الـ gender على توضيح قضية في غاية الأهمية وهي أن التمييز الذي تعاني منه النساء لا يمكن تبريره استنادًا للطبيعة البيولوجية للنساء وإنما وجب التصدي له بوصفه نتاج ممارسات ثقافية واجتماعية وسياسية.

والحديث عن gender يعني الحديث عن المرأة والرجل، يعني البحث في دلالات الأنوثة والذكورة. فلقد اكتشتفت الباحثات النسويات أن التركيز على موضوع المرأة في أبحاثهن قد يؤدي إلى تهميش دورهن ومشاركتهن في الساحة الأكاديمية، وإن إنتاج معرفة كبيرة عن النساء لن يغير بالضرورة من علاقات القوة السائدة في المجتمع ولن يعني بالتالي تعديل الأوضاع التي تؤدي إلى التمييز. إلى جانب هذا، فالعنصر الأساسي الذي يلعب دورًا حيويًا في إنتاج مفاهيم ومؤسسات عنصرية، أي تمييز ضد جنس دون الآخر، هو المجتمع الذي تحكمه أنماط يشار إليها على أنها رجولية ولكنها لست معبرة عن جميع الرجال وليست معبرة عن النساء بطبيعة الحال، وفي ظل هذه الأفكار يصبح الرجل أيضًا ضحية مجتمع يكبله بتعريفات عن الذكورة، مثلما يكبل النساء بتعريفات عن الأنوثة. وعلى هذا الأساس، يصبح البحث من منظور الـ gender بحثًا يهم الرجال والنساء معًا. بالإضافة إلى ذلك، تحاول الباحثات النسويات دمج اهتمامهن في صلب الاهتمامات البحثية الرئيسية وإدراج مفهوم gender من ضمن المفاهيم والعناصر التحليلية الأساسية لمقاربة جميع العلوم والموضوعات.

مفهوم gender يعتبر صباغة حديثة لهموم قديمة، فقد جاء تلبية لحاجة موجودة بالفعل في الأوساط البحثية الغربية، وهو ليس مرادفًا للبحث في قانون الأحوال الشخصية بأي حال من الأحوال. فهو يشير إلى اتجاهات وهموم أخرى كثيرة، تصبح فيها المساعي الدائرة لتعديل قانون الأحوال الشخصية جزءًا من العمل الواجب علينا القيام به. أما إذا كان المقصود بالإشارة إلى الاهتمام بقانون الأحوال الشخصية القول بأن الحركة النسائية الغربية ركزت جهودها على هذا الموضوع منذ نشأتها، وأن الاهتمام الحالي بمفهوم الـ gender مفتعل، فهذا، في رأيي، اختزال لقضايا المرأة والاهتمامات المعبر عنها من قِبل المهتمات بهذه القضية. والسؤال هل حدث أن طرح كاتب أو كاتبة فكرة أو رأيًا يمكن إدراجه ضمن اهتمامات البحث من منظور الـ gender؟ فالإجابة على هذا السؤال ليست صعبة ويكفي الاستشهاد بكلمات كاتبة عاشت في أوائل القرن واهتمت بقضايا المرأة من منطلق ناقد للحداثة ومعطياتها. تقول ملك حفني ناصف: “يقول لنا الرجال ويجزمون: أنكن خلقتن للبيت ونحن خلقنا لجلب المعاش، فليت شعري: أي فرمان صدر بذلك من عند الله، ومن أين لهم معرفة ذلك والجزم به ولم يصدر به كتاب“. تقول أيضًا في نقدها لمقولة أن المرأة لم تلعب دورًا بارزًا في الأحداث التاريخية الهامة: “لو كنت ركبت المركب مع خريستوف كلومب لما تعذر عليّ أنا أيضًا أن اكتشف أميركا” (النسانيات، القاهرة، طبعة أولى ۱۹۱۰، ملتقى المرأة والذاكرة 1998، ص134- 135).

تتصدى ملك بإيجاز شديد لمبدأ تقسيم الأدوار الاجتماعية وتحديد مهام كل من الجنسين فتشكك في مصداقيته وتأتي بحجة قوية للبرهنة على رأيها. هذا الاستشهاد يقدم وجهة نظر تأخذ في الاعتبار التشكيل الثقافي والاجتماعي للجنس أي gender. أسارع بالقول أنني لم أت بهذا الاستشهاد للإيجاء بأن هذا المفهوم خرج من واقع عربي. أتيت به فقط للتأكيد على فكرة أن الصياغة تأتي لتسمية شئ أو واقع موجود، وإن هذا الواقع قد يوجد في أماكن كثيرة من العالم.

أما، لماذا خرج هذا المفهوم من واقع غربي، علينا أن نسأل أيضًا لماذا تخرج المصطلحات والنظريات من الغرب في القرن العشرين ولا تخرج من العالم العربي؟ إلا أننا لا نجد غضاضة في استيعاب واستخدام مصطلحات مثل الديمقراطية، والمواطنة، وهي مصطلحات لم تصغ ولم تخرج من واقع البحث العربي. لماذا نترجم أو نعرب مصطلحات كثيرة جدًا ونألفها ونعتادها وندافع عنها ونتبناها، ولكن نتعثر دائمًا في الترجمة والألفة عندما يمس الموضوع المرأة؟ فإذا قلنا نوع، نرفض أن نفهمه، وإذا قلنا جندر نمتعض لأنه ليس له جذر عربي (الديمقراطية أيضًا لا يوجد لها جذر عربي).

أشير في سياق ردي على هذا السؤال إلى تحليل قام به الناقد الهندي بارثا تشاترجي للخطاب القومي في بلدان العالم الثالث التي عانت من الاستعمار. يلاحظ تشاترجي وجود علاقة مطردة بين الخطاب القومي وبين محاولات تناول قضية النساء ويرى أن كلما علا صوت القومية، زاد الهجوم على النساء. والسبب في رأيه يرجع إلى خصوصية من خصائص القوميات المناهضة للاستعمار. فلقد قسم الخطاب القومي العالم إلى مجالين، المادي والروحاني. أما المادي فيشمل كل ما يتعلق بالفضاء الخارجي من اقتصاد وشئون دولة وعلم وتكنولوجيا، وهو مجال أثبت الغرب فيه تفوقه، أما المجال الروحاني، فهو مرتبط بالفضاء الداخلي ويحتوي المعالم الجوهرية للهوية الثقافية، ويقع مركز هذا المجال في البيت وتجسده المرأة. ويصف تشاترجي هذا الوضع بأنه مبني على أساس انتقائي إيديولوجي“. هذا الانتقاء يؤدي إلى معايير متناقضة في التعامل مع المنتج الغربي أو المنتج القادم من جهة مستعمر الأمس وقد يجيب عن بعض التساؤلات التي أوردتها. وعلى هذا الأساس، ووفقًا لقواعد ومعايير هذا الخطاب، يستطيع مجتمع الرجال استيراد التكنولوجيا والعلم وركوب الطائرات والسيارات والتحاور مع النظريات الحديثة في الاقتصاد والسياسة والفلسفة وتطبيقها، كما يستطيع المجتمع تبني نظام تعليمي بأكمله يحاكي نموذجًا آتيًا من الغرب وتطبيقه ونشره على جميع المستويات، ولا تصبح قضية الهوية والوطنية هاجسًا ملحًا. ولكن، مع النساء واهتماماتهن وقضاياهن، يختلف الأمر وتختلف المعايير ويتحول مفهوم في علم الاجتماع مسرحًا لمناقشة قضايا الوطنية والانتماء.

سامر القرنشاوي: قد تكون فكرة ربط حقوق المرأة، ونضالها من أجل هذه الحقوق، بالتاريخ وغيره من وسائل تشكيل وعينا حقيقة لا تقبل الشك أو النقاش بالنسبة لك أو من يعملون من خلال ملتقى المرأة والذاكرة“. كيف يمكنك توصيل هذه الأفكار لآخرين لا يشاركونك الإيمان بحقوق المرأة ولا بأهمية تشكيل صورة المرأة؟ أم أن الأعمال الفنية والأدب والتاريخ تحمل مخاطرة فصل الذات عن واقع عدد كبير من غير المنتمين لـ النخبة المثقفة، بما في ذلك واقع الحياة اليومية لملايين النساء المصريات (واللآتي تصل نسبة الأمية بينهن إلى 70%). ما الخطوات التي اتخذتها أنت أو اتخذها ملتقى المرأة والذاكرةلتوسيع عمل الملتقى واجتذاب عدد أكبر من الجمهور، بخلاف المهتمين فقط بالقضايا التي تطرحونها؟

هدى الصدة: لم أفهم لأول وهلة المغزى وراء السؤال الأول لأنه في ظاهرة سؤال بديهي. فلا يمكن تصور باحثة أو كاتبة أو محاضرة أو عاملة نشيطة في المجال العام (مثلها مثل الباحث والكاتب، إلخ) لا تهتم بتوصيل أفكارها وآرائها بهدف استمالة الآخرين لفكرة ما أو لموقف ما. إلا أنني توقفت قليلاً عند دلالات الصياغة والطرح ووجدت أنها تحمل في طياتها قدرًا عاليًا من التحيزات المسبقة التي تطفو على السطح بحدة كلما تطرقنا إلى موضوع المرأة. اتضحت الصورة أكثر عند قراءتي للسؤال الثاني الخاص بعلاقة النخبة بالناس العاديين وخاصة بمن لم يتلقوا تعليمًا رسميًا. فمن المواقف الشائعة جدًا التي تواجهها الكثيرات من النساء المهتمات بحقوق النساء اتهامات بالنخبوية وبالانفصال عن واقع أغلبية النساء اللآتي لا يقرأن ويكتبن ومن ثم لا يمكن توصيل ما يحدث على المستوى الثقافيلهن. واعترف أنه في الماضي كانت هذه الدعاوى تصيبني بإحباط شديد، فالدفع بعدم جدوى العمل أمر خطير لا يمكن أن يمر بسهولة. إلا أنه بعد عدة تجارب، اكتشفت بعض الأمور التي أضفت على المسألة بعدًا آخر: أولاً، إن مشكلة الأمية المتفشية وعلاقة النخبة المثقفة بالجماهير العريضة وجدوى العمل الثقافي بشكل عام، كلها أمور هامة يجب مناقشتها وأخذها بجدية على مستوى واسع لأنها قضية بلد بأكمله. فمشكلة الأمية تخص النساء، كما تخص الرجال (40% من الرجال المصريين أميون) والتحدي الذي تواجهه الباحثات المهتمات بالصور الثقافية عن النساء يواجهه أيضًا الكتاب والمفكرات المنتجات لفكر أو مؤسسات لمبادئ، إلا أن استقطاع جزء من قضية عامة وطرحها للتشكيك في مصداقية موقف بعينه أو قضية بعينها، ولتكن المطالبة بحقوق النساء كما تطرحها فئة ما من المجتمع، مع تجاهل التداعيات الأخرى الكثيرة جدًا لنفس المشكلة لا يمكن أن تخدم مصلحة عامة ويتحول هذا الأسلوب في مناقشة المشاكل إلى وسيلة للهجوم لهدم ما لا نوافق عليه أو نعارضه.

السؤالان أيضًا يعبران عن قلق موجود وسائد تجاه جدوى البحث المتخصص في التاريخ الثقافي بالنسبة لقضايا الواقع المعاصر، أي كيف يمكن لبحث عن شخصيات تاريخية عاشت في الماضي إحداث أي أثر أو تطور في واقع النساء المعاصرات اللآتي يعانين من الفقر والجهل والمرض؟ والسؤال يستند في تشككه تشككه المضمر في أهمية وجدوى البحث في الماضي من أجل الحاضر، إلى تقليد فكري مسيطر وعتيد من التعامل مع قضية التنمية المطروحة بإلحاح على مجتمعنا، أي ما السبل الأوفق التي علينا أن نسلكها لكي يعم الرخاء على جميع أفراد المجتمع. في مجال التنمية والعاملين والعاملات فيه ساد لفترة طويلة جدًا اتجاه يختزل التنمية في التنمية الاقتصادية، وهو مبني على افتراض أنه إذا زاد دخل الفرد فسوف يتبع ذلك بطريقة أوتوماتيكية تحسين حالته على كافة المستويات. إلا أنه بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على هذا الاتجاه، ثبت أن التنمية الاقتصادية بمفردها لا تكفي ووجب العمل على مستويات أخرى. الآن، هناك إعادة نظر بصورة جذرية في هذا التراث العتيد، وأصبحت هناك اتجاهات عديدة تنادي بما يسمى بالتنمية المتكاملة والتي تأخذ في الاعتبار، على قدم المساواة، العوامل الاقتصادية إلى جانب العوامل الثقافية التي تتدخل بشكل أساسي في توجيه الإنسان وتحديد أولوياته وتطلعاته. فالبحث في التاريخ لا يؤدي بالضرورة إلى التقوقع في الذات لأن التاريخ الثقافي من صنع الجميع، والرأي الذي يرى أن الثقافةمحصورة في اهتمامات النخبة يستخدم تعريفًا ضيقًا للغاية للثقافة والعمل الثقافي، ولا يمكن تبسيط المسألة بدعوى أن من لا يكتب لا علاقة له بالثقافة، فعن أي ثقافة نتحدث؟

يحضرني في هذا الصدد، لقطة من حياة الأديب الروسي ماكسيم جوركي والذي تعلم القراءة في سن الرابعة عشرة – في فترة من حياته كان يعمل في ظل أوضاع سيئة وقاسية للغاية إلى درجة أن كل المحيطين به تطبعوا بهذه القسوة وتمثلوها، إلى أن قرأ أول كتاب فاكتشف عالمًا مختلفًا تظهر فيه مُثل ومبادئ لم تسمح له تجربته الحياتية بتخيلها أو تمنيها. فتحول عالم الكتب إلى الحافز الرئيسي وراء رفضه لواقعه وخروجه منه. أتذكر هذه القصة دائمًا عندما تحتدم المناقشة حول جدوى القصص التاريخية، مثلاً، لامرأة أمية فقيرة. فإن لم تتعلم القراءة والكتابة فهي ما زالت تستطيع أن تسمع القصص وتشاهدها في وسائل الإعلام المختلفة. فالتصورات الثقافية لا تنشر من خلال الكتب فحسب ولكن هناك قنوات عديدة ومتداخلة تجعل الصورة الكلية أكثر تعقيدًا وعمقًا.

ديفيد بلانكس: أعرف أن الأبحاث التاريخية تعتبر لديك شكلاً من أشكال النشاط الاجتماعي، ما شعورك نحو النقاد الذين يقولون بأن البحث التاريخي ليس في الواقع نوعًا من النشاط أو على سبيل المثال يختلف عن العمل بالمنظمات غير الحكومية؟

هدى الصدة: لدي قناعة أن الأبحاث في المجالات العلمية والاجتماعية والإنسانية التي تلبي حاجة حقيقية أو تحاول الإجابة عن أسئلة ليست زائفة ونابعة من واقع اجتماعي وتاريخي معين لابد وأن تصب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في دعم ودفع حركة النشاط الاجتماعي. أيضًا، لا أجد تعارضًا على الإطلاق بين البحث داخل الذات وتأملها وبين الفعل أو المشاركة في النشاطات الاجتماعية الهادفة إلى التغيير الاجتماعي. ما هو الفرق بين كاتبة سياسية أو كاتبة أدبية أو كاتبة اجتماعية؟ كل واحدة منهن تقدم رؤية وموقفًا، فالهدف واحد ولكن تختلف الأساليب وأشكال التعبير. اعتقد أنه في عصر ساده التخصص والنزعة المبالغ فيها لتصنيف العلوم والمعرفة إلى مواد عملية مثل الطب والهندسة وأخرى نظرية، وبالقياس، غير عمليةلا ترتبط بواقع الحياة، أصبحنا نميز أيضًا بين الأستاذة والنقابية النشطة. هناك اختلافات على مستوى الأسلوب والسياق ولكن كلتاهما تمارس عملاً اجتماعيًا وسياسيًا وتعليميًا بالأساس.

أما بالنسبة لي ومجموعة ملتقى المرأة والذاكرة، فنحن نقوم بعمل يختلف عن العمل الميداني المباشر الأكثر شيوعًا بين المنظمات الأهلية. ولكن، لا يمكن أن تعمل المنظمات وتكرس كل الجهود لخدمة فئة واحدة في المجتمع ونتجاهل التركيبة الاجتماعية المعقدة. نحن نخاطب مجموعات موجودة بالفعل من المتعلمين والمتخصصين والشباب. عملنا مهتم بالواقع الاجتماعي وينظر للتاريخ من منظور قضايا الحاضر وبالتالي فهو مرتبط بالحياة اليومية. إن البحث في التاريخ هو البحث في أشكال الوعي، في مصادر الانحيازات، في تصوراتنا عن أنفسنا وعن الآخرين، بين القوة والمعرفة، وهي أسئلة تمس الحاضر وتبحث لها عن جواب. ومن ثم، فالبحث في التاريخ بالنسبة لنا هو مدخل لتناول قضايا المرأة المعاصرة. ومن أهدافنا الرئيسية الربط الدائم بين البحث والنشاط الاجتماعي.

سامر القرنشاوي: إن المرأة جزء لا يتجزأ من مجموعات أخرى مقهورة في مجتمعنا ونضالها من أجل حقوقها لا ينفصل عن منظومة تحويل المجتمع بأكلمه إلى آخر أكثر ديمقراطية، فمن الممكن دائمًا أن يكون ثمة نظام رجعي تعسفي يسحق مكاسب المرأة مهما كان حجمها. هل تؤمنين بذلك؟ وإذا كانت إجابتك بنعم، كيف تحققين ذلك على أرض الواقع؟

هدى الصدة: أعتقد أنني أجبت ضمنًا عن هذا السؤال وعن بعض الافتراضات التي يستند إليها. باختصار لا أعرف أحدًا يقول بأن قضية المرأة منفصلة عن قضية المجتمع. ومن المنطقي أن تتأثر المرأة بالنظام السائد وأن تجهض حقوقها في ظل نظام رجعي تعسفي، تظل لموضوع المرأة خصوصيته التي تميزه عن موضوعات أخرى والتي تستوجب التركيز والعمل المتخصص.

داليا الحمامصي: لقد قدم ملتقى المرأة والذاكرةالعديد في مجال الأبحاث العلمية المعنية بتاريخ المرأة – خاصة في العالم العربي – وأعلم أن لديه مشروعات أخرى كثيرة في طريقها للتنفيذ. في رأيك، كيف يمكن للملتقى إلى جانب ذلك أن يغير واقع المرأة المعاصر بشكل عملي؟

هدى الصدة: كما ذكرت في جواب سابق، أرى ارتباطًا قويًا بين الأبحاث وعملية تغيير الواقع الاجتماعي، العمل في مجال الأبحاث من أجل التغيير أراه عملاً طويل المدى ويحتاج إلى نَفَسطويل. لا يمكن توقع نتائج سريعة على غرار المشروعات الخدمية أو المشروعات التي تتعامل مع المشاكل الآنية لفئة ما. بالإضافة إلى ذلك أؤمن إيمانًا قويًا بأن العمل يدور في حلقات متشابكة، ويغذي بعضه البعض، بمعنى أنه إذا أرادت الباحثة التركيز على العطاء في مجال البحث العلمي فقط، علينا احترام هذا الاختيار ولا نحملها مسئولية توصيل نتائج هذا البحث إلى جمهور أوسع من الناس وألا تعتبر مقصرة في حق مجتمعها. نحن نفتقد إلى الآليات والهيئات التي تعمل كحلقة وصل بين البحث والعمل العام، والباحثين والباحثات عادة ما يطلب منهم تحمل مسئوليات أكبر من طاقاتهم.

ومع اعتبار كل ذلك، تهتم عضوات ملتقى المرأة والذاكرةبهذا الموضوع ويحاولن التفكير في كيفية الوصول إلى عدد أكبر من النساء بشكل عملي. بدأنا العمل فعلاً في مشروع كتاب لا يخاطب المتخصصين بل يخاطب غير المتخصصين والشباب والشابات. نحاول فيه تقديم معلومات تاريخية سهلة كوسيلة للتعريف ببعض الأسئلة والمفاهيم التي تستخدم في سياق العمل في مجال حقوق النساء. أيضًا، بدأنا عقد أمسيات ثقافية لمناقشة موضوعات أو عرض أفلام، الهدف منها خلق قنوات للتواصل مع عدد أكبر من الناس.

فريال غزول: هناك جمعيات ومراكز ودور نشر عديدة في القاهرة وفي الوطن العربي تهتم بقضايا المرأة وتحارب التراتب والتمييز الجنساوي في المجتمع، منها على سبيل المثال لا الحصر نور، المرأة الجديدة، معًا، المركز المصري لحقوق المرأة، جمعية هدى شعراوي، إلخ. ما علاقة ملتقى المرأة والذاكرةبهذه المراكز والتجمعات؟ وهل هناك تنسيق أو توزيع أدوار أم أن كل واحد منها يعمل كجزيرة منفصلة؟

هدى الصدة: هناك علاقات قوية بين بعض المراكز والتجمعات مبنية على اتفاق على الهدف وعلى علاقات شخصية جيدة بين العضوات في التجمعات المختلفة. هناك أيضًا قدر من التخصص يميز التجمعات بعضها عن بعض، وإن كان هناك، بالضرورة، قدر من التشابة والتقاطع في الأنشطة ومجالات العمل. يشتكي الجميع من غياب تنسيق ومن عدم وجود قنوات كافية بين المراكز بعضها البعض وبالتالي فهناك رغبة حقيقية لدى الجميع لإيجاد هذه الروابط. أنا شخصيًا متفائلة في هذا الصدد، لأني أرى حركة نشيطة جدًا وتعددية مشجعة، واختلافات من شأنها دعم الحركة وتقويتها. التنسيق بين هذه التجمعات سوف يحدث تدريجيًا عندما تقوى وتشعر بالاستقرار. أما إذا جاء التنسيق بطريقة مفروضة أو مفتعلة فلن يؤدي إلى النتيجة المرجوة بل بالعكس، يمكن أن ينتج تشرذم أو تمركز للقوى وهو أمر لا تحمد عواقبه.

حسن حنفي: إلى متى سيظل الغرب هو الذي يغرس المفاهيم مثل “”civil society و“gender”، و clash of civilizations”، و “end of history” ونحن نقتصر على التهميش والشرح والرقص على أنغام الغير؟ ألا يمكن إبداع مفاهيم خاصة بكل ثقافة تعبر عن واقعها ومرحلتها التاريخية؟

هدى الصدة: يحضرني هنا ما قاله إعجاز أحمد Aijaz Ahmed في نقده لمقالة لفريدريك جيمسون لمس فيها ثنائية مقلقة في موقف كثير من النقاد في تناولهم لموضوعات متعلقة بالعالم الثالث، يرى أحمد أن مقالة جيمسون مبنية على افتراض أن مجتمعات العالم الثالثلا تتميز أو تعرف بعلاقات الانتاج ولكن بعلاقات السيادة بين الدول intranational… وعلى هذا تصبح القوة الدافعة في تاريخ تلك المجتمعات لا تنبع من تشكيلات الطبقات والصراع بينها، ولا من تعدد الصراعات المتشابكة المبنية على عوامل الطبقة والنوع والوطن والجنس أو المنطقة، وإنما تنبع من تجربة أحادية unitary من القهر الوطني. وعلى هذا الأساس، يكون الخيار المطروح دائمًا أمام بنات وأبناء تلك المجتمعات بين أحد طرفي الثنائية المضمرة في علاقة سيادة تضع الغرب في موقف السيد والشرق في موقف العبد. فإما أن نختار ما يسميه بثقافة العولمة الأمريكية وإما أن نختار الوطن. ويتساءل أحمد: ألا من خيار آخر؟ أو لماذا هذا الاقتراض بأنه لا يوجد خيار آخر؟

وعلى نفس المنوال، يعبر هذان السؤالان عن وجهة نظر تحيل جميع أشكال الحركة والصراع والتغيرات التاريخية في المجتمع العربي الحديث وتفسرها على أنها نتاج موحد لعلاقات غير متوازنة بين الشرق والغرب. ومن خصائص وجهة النظر هذه: 1. أنها تتبنى منظومة ثنائية تضع الشرق دائمًا في مواجهة الغرب وفي صراع حتمي معه. ۲. ترى التفاعل بين قطبي هذه العلاقة يسير في اتجاه واحد، غرب قوي يسيطر ويتحكم في شئون شرق ضعيف. 3. تضع الشرق في حالة دفاع مستمر عن النفس من منطلق ضعف. 4. ترى الغرب ينتج معرفة مستندًا على خصوصية خبراته وتاريخه ويصدرها إلى الشرق ويوظفها في إحكام سيطرته الثقافية على العالم. 5. ومن ناحية أخرى يستقبل الشرق المعرفة كمتلق سلبي لا دور له. فهو لم يساهم في صياغة تلك المعرفة لأنه يقبع خارج التاريخ ولأن هناك اعتقادًا أنه لا قدرة له على التعامل مع كل ذلك بطريقة نقدية تعكس قدرته على تحديد مصالحه، أتساءل أيضًا، ألا يوجد خيار آخر؟

أعتقد أننا نستطيع المشاركة في صياغة المفاهمي والإبداع الحقيقي عندما نتخطى المنظومة الثنائية المفروضة علينا ونتجنب التقوقع داخل الذات الإنتاج المفاهيم الوطنيةوهي في واقع الأمر عادة ما تعبر عن حالة دائمة من الدفاع عن النفس، وهي حالة يصعب أن تؤدي إلى حالة الإبداع.

حسن حنفي: كيف تفسرين استعداد الغرب لتمويل كل المشروعات الخاصة بموضوع “globalization” و “civil society” و “gender” و “governance” وهل هي مفاهيم value- free أم أنها مناهضة لمفاهيم الدولة الوطنية، السيادة الوطنية، القومية؟

هدى الصدة: موضوع التمويل موضوع شائك وملئ بالمحاذير، بداية لا أعرف أحدًا لا يجد فيه مشكلة. فمن منا لا يتمنى أن تصبح جامعاتنا مراكز بحث حقيقية تخرج منها الأبحاث العلمية والاجتماعية عوضًا عما يحدث الآن من تحويلها إلى أماكن تجمهر لطلبة تتوفر لديهم أبسط مطالب البحث والتحصيل، ومكان يضطر فيه الأساتذة إلى السفر لبلاد أخرى لسد احتياجات الحياة. من منا لا يتمنى أن يجيء اليوم الذي ينفق فيه المجتمع على الأبحاث وتدعم فيه الدولة العلم والمعرفة بحق. لا يمكن مناقشة الدور الذي يلعبه التمويل الأجنبي في مصر، ليس فقط في نطاق الأبحاث العلمية للأفراد، ولكن في نطاق مراكز البحوث القومية وكافة الهيئات الحكومية، في نطاق اعتمادنا المتنامي في الأكل والشرب على الخارج، في نطاق اعتماد الجامعات على المنح والمعونات من الدول الأجنبية، ولا يمكن مناقشة هذه القضية في معزل عن مأزق مجتمع بأسره. وبنفس الطريقة لا يمكن حصر موضوع التمويل في الأموال التي تأتي من الغرب ونتجاهل مصادر الأموال الآتية من جهات ودول كثيرة عربية كانت أو آسيوية. مشكلة التمويل الأجنبي هي مشكلة مجتمع فقير يسعى لإيجاد الحلول الممكنة للخروج من أزمته.

لست بالسذاجة التي تجعلني أتجاهل أو أنفي المشاكل والتحديات التي تصحب وجود أموال لها أصحابها ولها أهدافها، لكني، وبعيدًا تمامًا عن هذا السؤال بالتحديد، أتشكك وأتساءل عن نوايا وأهداف من يستخدم قضية التمويل كسلاح سياسي. فمن إرهاصات هذه الأزمة التي نعاني منها على كافة المستويات، نتعامل التمويل بطريقة الاستقطاع التي أشرت إليها في سياق آخر، فنستقطع شريحة ما أو قضية ما ونواجهها بالمعضلة ونحملها مغبة الاختيار بين التمويل أو عدمه، وننسي السياق الكلي للمسألة ونتجاهل مسئولياتنا وتورطنا جميعًا فيها. وبهذه الطريقة، يتحول التمويل من قضية مجتمع إلى وسيلة فعالة لتصفية الخصومات والتشكيك في جدوى أو مشروعية ما لا نوافق عليه أو ما نود هدمه.

يثير أيضًا حصر موضوع التمويل في ثنائية الغرب في مواجهة الشرق، أو الغرب يمول مصالحه في الشرق نظرة هي في تصوري نظرة تشكل مشكلة، في التعامل مع الغرب باعتباره كتلة واحدة أحادية المعالم والمصالح، لا فرق بين بلد وآخر أو بين مجموعة وأخرى. لن أفترض أن المفاهيم، أي مفاهيم لا تجئ محملة بدلالات تاريخية وثقافية معينة، ولكن كما تساءلت في سياق السؤال السابق، ألا من خيار آخر؟ هناك مجموعات متباينة وعلاقات متعددة وجسور يمكن مدها. هناك أيضًا قوى سياسية معادية ومحاولات كثيرة تسعى إلى تكسير البني الداخلية للمجتمع. إلى جانب هذا، فهي نظرة، كما سبق وأن تحدثت، تفسر التاريخ العربي المعاصر استنادًا إلى متغير واحد وتتجاهل الصراعات الكثيرة جدًا الأخرى الحاصلة في المجتمع.

أخيرًا إلى أن نصل كمجتمع إلى حل يساعدنا على التعامل مع هذه المعضلة، أضيف أن الخطر الحقيقي هو استخدام قضية التمويل لفرض الوصاية أو دعم سلطة مجموعة دون الأخرى. فإذا انتقدت الدولة التمويل الذاهب إلى مؤسسات المجتمع المدني بينما تعتمد كثير من مؤسساتها على أموال تأتي من الخارج، فعلينا أن نسأل في مصلحة من يحدث هذا، وإذا انتقد حزب ما تمويل مشروع معين في الوقت الذي يقيم فيه علاقات مع جهات تمويل غير معلن عنها، نتساءل أيضًا عن الدوافع. في الفترة الراهنة، وهي فترة أزمة وتغييرات سريعة، علينا نقيم المواقف من حيث العمل نفسه، نوع العمل، جدوى العمل، جدية العمل، فالعمل الجيد سوف يفرض نفسه. أما العنصر الثاني الهام أيضًا فهو عنصر الشفافية والصدق في الإفصاح عن الاتجاه والهدف وأساليب العمل من أجل تحقيق الهدف.

ديفيد بلانكس: ما أهم أهداف ملتقى المرأة والذاكرةالذي تساهمين في الإشراف عليه؟ ما الذي تأملين تحقيقه في خلال عشر سنوات على سبيل المثال؟

هدى الصدة: لا أريد أن أتحدث عن أهداف هي أقرب ما تكون من الأمنيات والأحلام تدور في خلد جميع المهتمين والمهتمات بقضايا المرأة وتنصب جميعها على الإعلاء من شأن النساء والقضاء على جميع أشكال التمييز الذي يعانين منه، ووجود مجتمع يسمح بالحرية والاختلاف. أتحدث من منطلق انتمائي إلى مجموعة من النساء الباحثات والنشيطات في مجال حقوق النساء. فـ ملتقى المرأة والذاكرةمجموعة قررت تركيز جهودها على البحث في التاريخ الثقافي والمكونات الثقافية التي تمس وضع المرأة في المجتمع. وكما ذكرت من قبل نستند في عملنا واختياراتنا البحثية على افتراض مؤداه أن هناك استبعادًا على المستوى الثقافي السائد للدور الهام الذي تلعبه النساء في الواقع الحالي وعلى مر التاريخ، وإن هذا الاستبعاد أو التهميش للنساء له أكبر الأثر على التصورات الثقافية السلبية عن النساء والتي بدورها تعوق المجهودات الجارية لتحسين وضع النساء بشكل عام. أما الهدف الأساسي وراء تأسيس ملتقى المرأة والذاكرةفهو دعم الأبحاث في التاريخ الثقافي العربي وتشجيع الإصدارات الثقافية التي من شأنها إضافة معلومات هامة تعين المجموعات النشيطة في مجال حقوق النساء على تحقيق أهدافها. وعلى هذا الأساس، ينصب اهتمام عضوات وأعضاء الملتقى في إنتاج مادة ثقافية متخصصة وأخرى غير متخصصة أو سهلة التداول لتكون متاحة لجمهور أوسع من القراء.

أما عما آمل في تحقيقه بعد عشر سنوات مثلاً، فتتبادر إلى ذهني المناقشات التي كانت تدور بين الطلبة والطالبات في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة. فعند تدريس موضوعات متخصصة، كنت أعقد مناظرات بين الطلبة والطالبات لمناقشة قضاية متنوعة منها ما كان يمس دور المرأة في المجتمع. في مواقف كثيرة جدًا، كان صوت الطلبة الذكور يعلو ويستأثر بالحديث وكان يبدو كأن لديهم مخزونًا هائلاً من المعلومات والحجج التي تؤيد مواقفهم التي كانت في مجملها تصر على وضع النساء في مرتبة أدنى من الرجال. كنت أشعر بحزن شديد خلال هذه المناظرات وكان يتملكني إحساس عارم بالظلم، فلم تكن المشكلة في ضعف مستوى الطالبات أو خجلهن أو ترددهن في الإدلاء بآرائهن، إنما كنت أشفق عليهن لقلة المعلومات المتوفرة لديهن والتي كانت من الممكن أن تساندهن في المناقشات مع الطلبة. فالطالب العادي، أي طالب، يستطيع من خلال قراءته للصحف والمجلات الشائعة التشبع بأفكار ومعتقدات تحط من شأن النساء وتعلي من شأن الرجال وتكرس شرعية تسلطهم على النساء. يستطيع أيضًا، بدون بذل أي مجهود التسلح بحواديت وقصص تاريخية وأمثلة شعبية ونماذج إعلامية تكرس منظومة اجتماعية مبنية على تقسيم الأدوار ضد مصلحة المرأة ولا تتفق مع الواقع الحقيقي المعاش. أما الطالبة، فتجد نفسها محاطة بكم هائل من الأقاويل والتصورات التي لا تدعم موقفها في المجتمع ولا تجد في الثقافة السائدة المتاحة الأسانيد التي يمكن أن تتسلح بها في مواجهة المحاولات التي تسعى إلى التقليل من شأنها. فكتب التاريخ ضدها، والمناهج الدراسية تخاطب الولد في الأساس، والإعلام يقول لها إن وظيفتها الوحيدة المقبولة اجتماعيًا هي وظيفتها كأم وزوجة، ومن ثم يتعين عليها بذل مجهود جبار للبحث عن حجج وأسانيد تؤيدها في سعيها نحو تحقيق حياة متوازنة. أتمنى بعد عشر سنوات أن تتوفر لهؤلاء الطالبات المعلومات والمواد الثقافية التي تدعم موقفهن وتساندهن في سعيهن للتحقق.

ملك رشدي: في إطار اهتمام ملتقى المرأة والذاكرةبإحياء دور المرأة في التاريخ العربي والمصري، وفي إطار محاولة استخدام مصادر تاريخية متعددة لهذا الغرض، تقوم بعض الدراسات عامة بعدم مقاربة هذا الدور من منطلق نقدي، أي بمعنى آخر، قد تحاول هذه الدراسات إحياء هذا الدور بشكل يحمل المرأة رموزًا أو معاني أكثر مما تحتمل خالقة منها أسطورة لا تنتمي للواقع. كيف يمكن تفادي إحياء صورة من صور الماضي الرومانسية التي لا تضيف إلى المعرفة سوى جانب أسطوري من هذا التاريخ؟

هدى الصدة: نهتم كمجموعة اهتمامًا خاصًا بجمع وتوثيق سير حياة النساء اعتمادًا على المصادر المكتوبة والشفاهية. هذا الحرص على توثيق التجارب والخبرات نراه شكلاً من أشكال المقاومة لعمليات الاستبعاد والتهميش التي عانت منها النساء على مدى فترات تاريخية مختلفة. بالإضافة إلى ذلك فهو حرص يعبر عن محاولة للمشاركة في تشكيل تصورات ثقافية مكملة أو مضاهية أو متناقضة مع التصورات السائدة عن النساء العربيات. هذه التصورات أو الصور التمثيلية أو التصويرية تؤثر على الوجدان الجماعي بل وتوجه مساره وتحدد تطلعاته. فهي تطالعنا في الكتب ووسائل الإعلام بل في أعين الناس لتملي علينا كيف نحيا وكيف يجب أن نكون. هذه التصورات تحمل في جعبتها الكثير من الافتراضات وأحيانًا الانحيازات تجاه فئة أو عرق أو شعب أو حضارة بأكملها. وتصبح هذه التصورات الثقافية خطرة إذا تحولت إلى نماذج نمطية لا تسمح بالاختلاف أو التعدد.

ما العلاقة بين سير حياة النساء وعملية تشكيل التصورات الثقافية في المجتمع؟ إن هذا الطرح لمشروع استعادة وكتابة سير حياة النساء العربيات مبني على الافتراضات النظرية والتطبيقية. أولها، إن كتابة سير الحياة تلعب دورًا قد يكون مباشرًا أو غير مباشر في تعريف معالم الذات وتحديد علاقاتها بالعالم الخارجي. ووفقًا لهذا المعنى، تصبح كتابة السير في مراحل تاريخية معينة مؤشرًا دالاً لاتجاهات اجتماعية سائدة في هذا الوقت تسعى إلى تشكيل الهويات وتوجيه التطلعات ورسم أسلوب الحياة المرغوب فيه. ثانيًا، إن السير بصفة عامة تعتبر من العناصر الأساسية في التأريخ لحقبة زمنية. ثالثًا، أنه قد تم تهميش دور النساء في السجلات التاريخية في معظم مناطق العالم ومن بينها المنطقة العربية. رابعًا، ونتيجة لما تقدم، أصبح هدف إعادة كتابة التاريخ من منظور يأخذ في الاعتبار مساهمة النساء، هدفًا للباحثين والباحثات المهتمين بوضع المرأة في المجتمع، وتحولت كتابة واستعادة سير النساء من أهم السبل المطروقة في الكثير من بلدان العالم لاكتشاف إسهامات النساء والتعريف بها وإعادة صياغتها في سياق الإطار العام. وفي هذه المرحلة، اتجه المؤرخون الجدد إلى البحث عن مصادر ليست تقليدية للحصول على معلومات تاريخية وكانت السير من أهم تلك المصادر. خامسًا، إن عملية تشكيل التصورات التمثيلية من خلال كتابة سير الحياة هي بمثابة فعل مقصود يحاول تشكيل الذاكرة الاجتماعية” (انظر سيمون Simon). بالإضافة إلى ذلك، فإن جميع العلمليات الاحتفالية التذكيرية أو التي من شأنها التذكير بشخصية ما أو فترة ما أو حدث ما تنطوي على منظومة من القيم أو التقديرات التي تؤسس لما يجب أن تحتويه المخيلة الاجتماعية، ومن ثم، فإن سير الحياة التي تذكر بشخصية ما أو بمجموعة معينة في المجتمع تصبح مؤشرًا هامًا لما يراه هذا المجتمع جديرًا بالحفظ أو بعبارة أدق، لما تراه النخبة المسيطرة في هذا المجتمع جديرًا بالحفظ. وبالتالي، فإن كتابة سير شخصيات بعينها من شأنه أن يثير تساؤلات حول اختيار الموضوع وأيضًا حول هدف الكاتبة.

على هذا الأساس، نرى أن هناك حاجة لكتابة سير حياة النساء العربيات المعاصرات منهن والماضيات. نضع أمامنا بعض المحاذير لكي لا نرتكب خطأ التحدث باسم جميع النساء العربيات (من هي المرأة العربية؟) وخطأ افتراض وجود تعريفات واضحة وصريحة لما نعنيه عند الحديث عن المرأة العربية. ويصبح السؤال: كيف نشرع في تشكيل تصورات ثقافية للنساء العربيات دون الانزلاق في فخ التفكير الجوهري essentialist وندعي الحديث باسم المرأة العربية الحقيقيةأو ندعي استرجاع أو تشكيل تصور ثقافي أصيلولكن مسكوت عنه في الخطاب السائد. يرجع هذا الحذر للسياق السياسي الذي تستخدم فيه مصطلحات مثل الهوية الثقافية أو الخصوصية الثقافية في العالم العربي المعاصر مما يجعلها غاية في الخطورة، قابلة لتأويلات متضادة، حاملة لمعان ولإيحاءات معظمها مكبل للحريات خاصة بالنسبة للمرأة. أما النوع الثاني من المحاذير فيتعلق بالنظرية النسائية للمعرفة. فلقد أدت مجهودات إعادة النظر والتفكير في إنجازات حركة كتابة التاريخ النسائي إلى لفت الانتباه إلى مخاطر التركيز المتزايد على تجارب النساء باعتبارها تعبيرًا حقيقيًاعن هويتهن كنساء. بعبارة أخرى، إن تصنيف المرأةكفئة أو كمجموعة واضحة المعالم ومتوافقة المصالح يثير تساؤلات عديدة حول الاختلافات الملحوظة بين النساء التي تنم عن تباين واختلاف في المصالح والتطلعات ومن ثم يشكك في شرعية التحدث باسم النساء جميعًا.

أما عن التخوف المعبر عنه السؤال، فهو تخوف مشروع ومبني على معرفة بالخبرة التي مرت بها الباحثات النسويات في إطار بحثهن الدؤوب عن اكتشاف والتعريف بإنجازات النساء. فمن المعروف أن هذا العمل أدى إلى إنتاج معرفة ليست بقليلة عن إنجازات النساء، وخرج اتجاهًا يعظم هذه الإنجازات ويحولها إلى أساطير لمواجهة الأساطير الموجودة عن الرجال. هذه المرحلة من البحث النسوي كانت مهمة في فترة ما وجاءت تلبية لاحتياجات الحركة النسائية في ذلك الوقت وهي احتياجات التأكيد على دور هام ومؤثر للنساء في التاريخ على نسق أدوار الرجال الهامة والمؤثرة. بعد هذا، دخل البحث النسوي مرحلة أخرى وهي مرحلة تفكيك الافتراضات السائدة الرجولية عما هو هام ومؤثر“. ومن هذا المنطلق بدأ اتجاه يفكك هذه الصفات القيمية وبدأت محاولات إعادة تعريف الهام“. على هذا الأساس، بدأ البحث عن النساء العادياتأو النساء اللآتي لم يشاركن مثلاً في مساحة السياسة أو في العمل الاجتماعي العام والظاهر للجميع، وبالطبع نتساءل مرة أخرى عن تعريف المرأة العادية“.

أتفق معك على أهمية تفادي الصورة الرومانسية للنساء في التاريخ، والعمل على تفكيك مفهوم الأسطورة وبيان مصدرها وأسباب قوتها. أشير هنا إلى ندوة نظمها ملتقى المرأة والذاكرةفي أكتوبر ۱۹۹۸ لإحياء ذكرى ملك حفني ناصف، ألقيت فيها أوراق تقدم وجهات نظر متعددة عن دور ملك وعلاقتها بمعاصريها وعصرها. حاولنا أن نتعامل مع الموضوع من منطلق نقدي وعبر التخصصات وأرجو أن تكون قد وفقنا.

داليا الحمامصي: قام ملتقى المرأة والذاكرةبإعداد ورشة عمل لإعادة كتابة الحكاية الشعبية – التي تقدم تصورًا تقليديًا عن المرأة من وجهة نظر أكثر إنسانية وموضوعية. فكيف ينوي الملتقى التعامل مع هذه المادة؟ وهل يمكن الاستفادة منها في محاولة لتغيير وجهة نظر المجتمع وأفكاره الخاطئة، خاصة الأجيال الجديدة التي تشكل أجهزة الإعلام وطرق التربية المختلفة وعيها وترسخ لديها مفاهيم معينة عن دنور المرأة والرجل؟

هدى الصدة: تشرف على هذا الموضوع كما سبق وأن ذكرت هالة كمال وتشترك فيه جميع عضوات ملتقى المرأة والذاكرة“. وينطلق المشروع من فكرة نقد وتحليل الحكايات الشعبية التي عادة ما تكرس تقسيم الأدوار بين الرجل والمرأة الذي يؤدي إلى التمييز ضد النساء والتقليل من إمكانية تحسين وضعهن في المجتمع. ويعتمد كثير من الحكايات على التنميط أو على تكريس نماذج نمطية عن الرجال والنساء، فالرجل دائمًا قوي وماهر وواسع الحيلة والمرأة جميلة وضعيفة وتنتظر فارس الأحلام لينقذها من مأزق أو عدو يتربص بها. والمشروع يعتمد على قراءة بعض النصوص المختارة ثم تحليلها ونقدها بالتركيز على النماذج النمطية، وتسلسل الأحداث وصفات البطل والبطلة واللغة المستخدمة. وبعد الانتهاء من مناقشة القصص، تقوم كل مشاركة بإعادة كتابة القصة ذاتها من وجهة نظرها أو من وجهة نظر تحاول أن تقدم صورة للمرأة والرجل تبتعد بعض الشئ عن التنميط السائد لهما في المجتمع كما تعبر عنه الحكايات.

نتعامل مع المادة التي تخرج من هذه الورشات على أنها تجارب أولية في الكتابة والتعامل مع القصص. نولي هذا المشروع اهتمامًا خاصًا بسبب إمكانيات وصوله لعدد كبير من الناس فالقصص لا تخاطب الباحثات والباحثين بل تخاطب الناس والشباب والشابات. إلى جانب هذا، فالقصص الشعبية تأسر المستعمين وتعمل على مستويات كثيرة من الوعي، فالحكايات التي نسمعها منذ الصغر توجه حياتنا وتؤثر علينا بطرق مختلفة.

من منطلق شخصي، أتحمس لهذه الحكايات التي قد يجئ اليوم الذي أقرأها لابنتي ولا أضطر إلى الارتجال السريع لتخفيف حدة التمييز ضد النساء فيها، أو أغير في مسار الحدوتة لكي تتحول الشخصية النسائية في الحدوتة إلى شخصية شجاعة وذكية ولا تنتظر الخلاص على يد البطل الأسطوري بل تساهم في إنقاذ نفسها والبطل والمجتمع.

فريال غزول: بالإضافة إلى ملتقى المرأة والذاكرةفأنت تشاركين مع الأديبة سلوى بكر برئاسة تحرير مجلة متميزة وطليعية في مدار المرأة. كيف نشأت هذه المجلة وكيف تخططون لها وما الملفات التي ركزتم عليها؟

هدى الصدة: عندما أتحدث عن هاجر أميل إلى نقد الذات والتركيز على الأخطاء التي كان من الممكن تفاديها، إلى أن قالت لي صديقة عزيزة لا أدري كيف لا تكونين أكثر فخرًا بمجلة هاجر؟أستمد شجاعتي من هذا السؤال واعترف أني في حقيقة الأمر فخورة جدًا بمجلة هاجر وأتشرف بالانتساب إليها. في البداية، كان التحدي الرئيسي يدور حول إيجاد منبر ثقافي جاد يتعامل مع قضايا المرأة من زوايا عبر التخصصات ومن منطلق تعدد الرؤى والتوجهات الفكرية والسياسية. توجهنا، سلوى وأنا، إلى الباحثين والباحثات، والمبدعين والمبدعات ودعوناهم للمشاركة معنا بالمقالات والأبحاث والأعمال الإبداعية. أولينا اهتمامنا بتنوع التخصصات وتعدد الرؤي ونشرنا آراءً نختلف معها، وأخرى نتفق معها. قوبلنا في البداية بالترحيب والاهتمام من قبل البعض، وبالاستهزاء والشك من قبل آخرين. استغرق الإعداد للكتاب الأول سنتين. كنا نطمح في الوصول إلى المتخصصين وإلى جمهور واسع من القراء غير المتخصصين. ومن ثم، نشرنا أبحاثًا متخصصة جدًا، وأخرى أقرب إلى المقالات القصيرة المنشورة في المجلات. نشرنا أيضًا قصصًا لكاتبات ومراجعات لكتب هامة تتناول جانبًا من موضوع يخص قضية المرأة. تحمس للفكرة زميلات وزملاء ودعموها وساعدونا باعتبارهم مستشارين للتحرير. عندما صدر أول كتاب من هاجر، تحمس لها باحثات وباحثون لم نكن نعرفهم وانضموا الينا وساهموا معنا في الأعداد اللاحقة. حاولنا، ولا أجزم أننا نجحنا تمامًا، في أن تكون هاجر منبرًا مفتوحًا للتعبير الجاد الحر. في البداية كنا ننطلق من محور محدد ثم نقبل إسهامات متنوعة تقدم لنا للنشر. العدد الأخير (٥٦) تناول قضية التعليم عبر تخصصات متنوعة. هناك موضوعات كثيرة مطروحة ونعمل عليها.

في العدد الثاني تحدثت في الافتتاحية عن أهداف وطموحات هاجر، وأنه من الممكن تلخيصها في جملة واحدة هي القراءة والكتابة من وجهة نظر المرأة، وحاولت شرح ما عنيته بتلك العبارة، أورد هنا فكرة مما كتبت: أعني قراءة العالم والحياة الحضارة والمجتمع من وجهة نظر المرأة ثم اتخاذ موقف مبني على تلك القراءة، أي الكتابة، بمعناها الرمزي، أي كسر جدار الصمت الذي يحيط عادة بالمرأة وعالمها، والخروج إلى العالم الخارجي لأداء دور حيوي وفعال في تصحيح الأوضاع، ومن ثم في تغيير مجرى التاريخ والمجتمع. إن القراءة تنم عن فهم وتنقيب وتفكّر، تعني تحدي المفاهيم السائدة، إنها القراءة الإيجابية التي يتحرر فيها القارئ من دوره السلبي في التلقي ليصبح مشاركًا فعالاً في عملية المعرفة. هذا النوع من القراءة يتحدى المسلّمات وينقب عن الأسباب ولا يكتفي بأنصاف الحلول. إنها القراءة التي تؤدي بالضرورة إلى الكتابة أو الفعل الإيجابي الذي يساهم في تغيير الواقع إلى الأفضل” (“مقدمة: القراءة والكتابة من وجهة نظر المرأة، هاجر ۲، ص ۱۹).

عن التحديات التي تواجهنا في المستقبل، فنحن في هاجر، نمر بمرحلة انتقالية. فبعد إصدار أربعة أعداد من سلسلة الكتب بشق الأنفس، إن جاز التعبير، نتوقف كمسئولات عن التحرير لتقييم التجربة ومحاولة تجنب الأخطاء. فمن الصفات المميزة لـ هاجر أنها خرجت من مبادرة حرة ومستقلة تمامًا عن أي جهة أو هيئة أو مؤسسة، وكان العمل فيها يتصف بقدر عال من المرونة. كان لعدم وجود هيكل تنظيمي مزاياه، لكن كانت له عيوبه أيضًا، من أهمها شعور دائم بعدم الاستقرار وتخوفات من عدم القدرة على الاستمرار أو الوفاء بالوعود، وكم لا بأس به من الأخطاء. نعترف بهذه المشاكل ونحاول مواجهتها، وكما قلت نمر الآن بمرحلة في رأيي أنها مرحلة حاسمة لتقييم ما فات والتخطيط للمستقبل على أسس صلبة تضمن الاستمرارية وجودة المستوى وتحقق الأهداف التي نطمح إليها.

* هدى الصدة، المرأة والذاكرة: مقابلـة، مجلـة ألـف 19 “الجنوسـة والمعرفـة: صياغة المعارف بين التأنيث والتذكير، قســم الأدب الإنجليـزي والمقـارن، الجامعـة الأمريكيـة بالقاهرة، ۱۹۹۹، ص۲۱۰۲۳۰.

Ahmed, Aijaz. “Jameson’s Rhetoric of Otherness and the National Allegory.” Social Text 17. Fall. 1987. 3-25. A Reply to Frederic Jameson’s “Third World Literature in the Era of Multinational Capitalism.” Social Text 15. Fall. 1986. 65- 88.

Chatterjee, Partha. The Nation and its Fragments: Colonial and Post-colonial Histories. Princeton & New Jersey: Princeton UP. 1993. 6, 120.

Lerner, Gerda. “Priorities and Challenges in Women’s History Research.” Perspectives: Newsletter of the American Association. April, 1988. 17- 20.

Simon, Roger. “Forms of Imagery in the Production of Popular Memories and the Pedagogy of Counter-Commemoration.” Between Borders: Pedagogy and the of Cultural Studies. Eds. Henry Giroux and Peter Maclaren. New York and London: Routledge, 1994. 130.

نتقدم بالشكر إلى كل الكاتبات والكتاب ممن استعنا بدراساتهم في هذا الكتاب، وأصحاب حقوق النشر الذين تكرموا بمنح مؤسسة المرأة والذاكرة حقوق الترجمة والطبع والنشر باللغة العربية عن المصادر التالية:

Joan W. Scott, “Gender: A Useful Category of Historical Analysis” in Feminism and History, ed. Joan W. Scott (1996). Oxford and New York: Oxford University Press.

Mrinalini Sinha. “Gender in the Critiques of Colonialism and Nationalism: Locating the Indian Woman”, in Feminism and History, ed. Joan W. Scott (1996). Used by permission of Oxford University Press.

“The Feminist Standpoint: Developing the Ground for a Specifically Feminist Historical Materialism” by Nancy C.M. Hartsock taken from The Feminist Standpoint Revisited, and Other Essays edited by Nancy Hartsock Copyright 1998 by Westview Press, a member of the Perseus Books Group. All rights reserved.

Joan W. Scott. “The Evidence of Experience.” Critical Inquiry 17.4 (1991): 773 797. The University of Chicago Press

Vron Ware. “Moments of Danger: Race, Gender, and Memories”, first published in History and Theory Vol. 31, No. 4, Beiheft 31: History and Feminist Theory (Dec., 1992), pp. 116-137. Blackwell Publishing for Wesleyan University.

Chandra Talpade Mohanty, “Under Western Eyes’ Revisited: Feminist Solidarity through Anticapitalist Struggles,” in Feminism Without Borders: Decolonizing Theory, Practicing Solidarity, pp. 221-251. Copyright, 2003, Duke University Press. All rights reserved. Used by permission of the publisher.

Sondra Hale, “Feminist Method, Process, and Self-Criticism: Interviewing Sudanese Women”; Republished with permission of Taylor & Francis Group from Women’s Words: The Feminist Practice of Oral History, ed. Sherna Berger Gluck and Daphne Patai, Rutledge: 1991; permission conveyed through Copyright Clearance Centre, Inc.

Hibba Abugideiri, “The Scientisation of Culture: Colonial Medicine’s Construction of Egyptian Womanhood, 1893-1929”, Gender and History, 16:1 (April 2004), Blackwell Publishing.

نشرت هذه المقابلة أولاً في: هدى الصدة، المرأة والذاكرة (مقابلة)”، ألف: مجلة البلاغة المقارنة، العدد ۱۹ (۱۹۹۹)، ص۲۱۰۲۳۰.

كما نشكر الأستاذة ميسان حسن على متابعة الحصول على حقوق الترجمة والنشر، وكذلك الأستاذة داليا الحمامصي والأستاذ رامي رياض على متابعة أعمال الإعداد للطباعة.

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي