بحث في القرآن والجنسانية

تاريخ النشر:

2012

اعداد بواسطة:

بحث في القرآن والجنسانية*

يبدو القرآن وكأنه من ناحية يعمل داخل بنية من المحاذير اللغوية المتعلقة بالجنسانية (exuality) وبأية أمور تختص بالجماع، بينما يعلى من ناحية أخرى من منزلة جنسانية الرجل، طبقًا للاقتباسات الثلاثة الآتية: (۱) تعدد الزوجات/ الخليلات المغلف بلغة الرغبة، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع” (سورة النساء، الآية 3). وبالرغم من أن النص يبيح تعدد الزوجات فهو مشروط بمتطلبات تكفل العدالة ولكنها شبه مستحيلة التحقيق. (۲) يشار إلى النساء بالحرث، وهو ما يُفلح أو يُحرث: “نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم” (سورة البقرة، الآية ٢٢٣). وسواء كانت الآلية تناقش أوضاع الجماع أو الأوقات المسموح فيها بالجماع بحسب الفقهاء المتعددين، فإنها لا تزال موجهة إلى الرجال وإلى رغبات الرجال الجنسية، بينما تبقى النساء ورغباتهن الجنسية في حالة سلبية تأثرية. (3) الحور العين الشهيراتفلا ينبغي تجاهل رغبات الرجال، حتى بعد موتهم! (سورة الطور، الآية ٢٠، وسورة الرحمن، الآية ٧٢، وسورة الواقعة، الآية ٢٢). ومن الصعب فصل أيًا من هذه التأكيدات عن توجهاتها الجنسية الذكورية الواضحة، حيث لا يرد في أي موضع أي إطراء على فضائل زوجاتهم في الحياة الدنيا” (1) [تم اقتطاع الجزء الافتتاحي من المقالة الأصلية في الترجمة تبعًا لرؤية المحررة، ولهذا فقد قمت بتعديل أرقام الهوامش في بقية المقالة حتى تبدو متجانسة في الترجمة.( المترجمة)]. بل وإن الإشارة في القرآن إلى القواعد من النساء، التي تفهم منها غالبًا الإشارة إلى النساء اللاتي بلغن سن انقطاع الطمث، تتضمن أن هؤلاء النساء أيضًا لا يأملن في الزواج لا يرجون نكاحًا’ (سورة النور، الآية 60) ويمكنهن أن يضعن ثيابهن“. وقد أكدت الأبحاث التي تتناول حياة الإنسان الجنسية أن النساء يبقين نشطات وقادرات وراغبات في المشاركة الجنسية بعد وصولهن سن انقطاع الطمث، بل وإنهن يصل إلى ذروة رغباتهن واستمتاعهن الجنسي في الأربعينيات والخمسينيات من أعمارهن، وهي الفترة التي يحدث فيها بالتحديد انقطاع الطمث. هل تمثل الآية فهمًا غير دقيق لرغبات النساء الجنسية كما يبدو مما تقول؟ يعد تحليل لفظة نكاحمحوريًا لفهم تلك المقولة. فقد أشار الفقهاء إلى أن لفظة نكاحتعنى جماع، وهي اللفظة التي تتطابق في الوقت نفسه في المعنى مع الزواج” . وقد أدى هذا الاختلاف بين تلك الدلالتين إلى تعقيد القراءة المبسطة للآية. فقد ترغب النساء في الجماعفي الوقت نفسه الذي لا يرغبن في أن يُخترن للزواجالذي يعد المجال الشرعي الوحيد للجماع في القرآن، فيما عدا لو كنا نتكلم عن محظيات. فالنساء المصابات بأعراض تشبه أعراض انقطاع الطمث، والنساء اللاتي وصلن إلى سن انقطاع الطمث لا يُعتبرن حتى اليوم في كثير من الثقافات من أفضل الاختيارات للزواج.

وقد دعتني أسباب كثيرة ألا أتناول مثل تلك القضايا في دراساتي السابقة. فأنا أولاً أدرك أن القرآن كان يخاطب مستمعيه الأولين في سياق الظروف الاجتماعية والتاريخية والثقافية التي نزل فيها، والذي كان يحدث، بحسب وصف فضل الرحمن (Fazlur Rahman) “من خلال عقل النبي“. وقد أثرت تلك الظروف بالضرورة في البني اللغوية في القرآن، بل وعلى رقعة معانيه.(۲) فقد كان من اللازم أن يكون للقرآن معنى سياقي وإلا فلسوف يفشل منهجه المعلن في أن يكون عربی مبین” (سورة النحل، الآية 3[وردت هكذا في أصل المقالة المنشورة، والصحيح أنها الآية ١٠٣ من السورة نفسها. (المترجمة)] وسورة الشعراء الآية ٢٦)- وهو ما تقر به العلوم القرآنية التأويلية – كما يُعدُّ السياق جزءًا من المعرفة المطلوبة مسبقًا لفهم النص. ونجد في القرآن أن بعض النصوص عام (general) وبعضها الآخر خاص (specific). ويتطلب التحقق فيما إذا كان العام والثابت الأزلي (universal) هما الشيء نفسه اعتبارات تأويلية أكثر تفصيلاً. ولأن لفظة عامقد تكون مرهونة بالسياق العام لنزول القرآن، فهناك مجال لإعادة النظر في الآيات التي تعد في الغالب عامةبوضعها في سياقات عامة أخرى خارج سياق القرن السابع الميلادي في شبه الجزيرة العربية.

وقد دعتني مقولة القرآن بأنه يقدم هداية وتوجيهًا كونيًا للإنسان والبشرية أن أخلص إلى أنه حتى بعض الآيات التي تصنف على أنها عامة غالبًا ما تكون مرتبطة بسياق التنزيل. ولم يكن ذلك السياق سياق شبه الجزيرة العربية في القرن السابع سياقًا ذا بنية أبوية فحسب، بل كان أيضًا شبه منعزل تمامًا عن بقية العالم، بل ويمثل نمطًا مندثرًا بالقياس إلى واقعنا الراهن. وإذا لم تدرس هذه الآيات دراسة ممعنة في داخل سياقاتها فقد تؤدي الطرق التي يتم بها تناولها إلى فقدها معانيها الثابتة الأزلية. فكما ذكرت بالتفصيل في مواضع أخرى من هذا الكتاب(۳)، لم يكن المفهوم العام للأسرة وقت نزول القرآن مفهومًا ثابتًا أزليًا، ذلك أن الأسرة مؤسسة اجتماعية تتغير تبعًا للتطور الاجتماعي. ولم تكن قضية الثابت الأزلى قضية جوهرية في الأعمال التفسيرية المبكرة، ولهذا جاءت كلمة عامأكثر استخدامًا عن الكلمات التي تعني الثابت الأزلي، وهو المفهوم الذي لم يكن بعد يشكل جزءًا من التفكير الإنساني، وهو أمر يعزى جزئيًا إلى دور التفاصيل الدقيقة في بناء المعنى والفهم. وهكذا، فقد يكون الأمر المفهوم بشكل عام أمرًا غير ذي أهمية في مجتمعات أخرى. فكما كانت فكرة التعددية العالمية” (“global pluralism”) غير موجودة في ذلك الوقت، فإن كلمة عامكانت مقصورة على المكان والزمان المحددين الذين نزل فيهما الوحي. ولكن علماء الدين الإسلامي والمسلمين العاديين كانوا يؤمنون بأن الإسلام يقدم هداية وتوجيهًا ثابتين أزليين، حتى وإن كانت لبعض الأمكنة والأزمنة زوايا للرؤية تحصر فهم ما هو ثابت أزلى داخل الفهم العام في سياقات معينة. وهكذا، فان مفهوم الثابت الأزلى وقت نزول القرآن لم يكن مفهومًا عالميًا شاملاً. بل إننا نجد التصنيف القرآني للأنساق العقائدية الانسانية معتمدًا على الأنساق التي كانت سائدة ومعروفة في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، والتي تضم أهل الكتاب أو المؤمنين بالأديان الإبراهيمية: اليهودية، المسيحية والإسلام. كما كان هناك في ذلك الوقت مشركون، ولكن الشرك في الخطاب القرآني لم يتضمن أية إشارة مباشرة للديانات الهندوسية أو الأفريقية التقليدية التي تنطوي على مفهوم تعدد الآلهة ومفهوم المقدس في صورة المُطلق، فقد كانت هذه التراثات الدينية ترتكز على الطبيعة المقدسة المطلقة التي تدعمها عمليات من المحاكاة والتصوير اللفظي لآلهةأخرى بقصد إعادة صياغة الخصائص المتعددة للتجليات الإلهية، مع احتفاظها بطبيعتها الجوهرية الموحَّدة، أى التوحيدية، فيما يتعلق بكون المقدس ثابتًا أزليًا.

وقد كان عبدة الأصنام موجودين في السياق الذي نزل فيه القرآن، ويُعدُّون هم والمشركون شيئًا واحدًا نظرًا لتعدديتهم. ولم يكن ثمة أرواحيين (animists) ممن يؤمنون بتجلي الإله في الخلق كافة، مثلما نجد في الكثير من ديانات السكان الأصليين في أماكن مختلفة، مثل ديانات السكان الأصليين في أفريقية وأستراليا وأمريكا الشمالية والجنوبية، سواء منها التي سبقت نزول القرآن أو التي تلته. ولا يخاطب القرآن هذه الديانات مباشرة. وعلاوة على ذلك، نجد أن تناول القرآن العقيدة أو الدين قد تجاهل كافة أشكال البوذية والتاوية والكنفوشية التي تقوم على مفاهيم المقدس غير المتجسد أو غير المتمثل في صورة ما، وذلك بالرغم من انتشار هذه الديانات في أجزاء أخرى من العالم قبل القرن السابع الميلادي. نرى إذن أن الفكر الإسلامي الرائج لا يتطرق إلى مناقشة العلاقات الدقيقة بين فكرة وجود جوهر كوني إلهى ومفهوم ما هو مقدس، ولا إلى التجليات المتعددة لتلك العلاقات التي يمارسها الناس في أجزاء أخرى من العالم. وفي الوقت نفسه نرى أن الفكر الإسلامي يقصر السياق الذي يتقصى فيه طبيعة ما هو إلهي على شبه الجزيرة العربية والمناطق المحيطة بها. وبدلاً من استخلاص مقاصد القرآن الثابتة الأزلية مما يخاطب به مستمعيه في مكان وزمان محددين، فإننا غالبًا ما نجد واقع العلاقات الأكبر بين الإلهي والإنساني يختصر في مظهر مبسط من مظاهر التداول القرآني المرتبط بالسياق، ذلك إذا لم يتم تجاهل ذلك الواقع تمامًا، وعليه، نجد أن الشريعة تحرّم الزواج بين المسلمين ومن يعتنقون تلك الديانات العالمية الأخرى، في حين تقر بفكرة الزواج القائم على إخضاع المرأة بسماحه للرجال الزواج من الكتابيات.

وعلى الرغم من كل ذلك فإنني أؤمن بأن للقرآن مقصدًا ثابتًا أزليًا في الوقت نفسه الذي أتسلح فيه بدراسات الأديان المقارنة في القرنين العشرين والحادي والعشرين. إن كل صورة من صور فهم البشر لكلية الطبيعة الإلهية لهي بمثابة نافذة يمكن من خلالها للفرد أو للجماعة الوصول إلى تلك الكلية. ولا يسعني الدفاع عن التصور القائل بأن النافذة في ذاتها تمثل المقدس بكليته. فما هي سوى إطار أو وجهة نظر مقصورة على من ينظر من خلالها. وهكذا، فإن الآيات العامة ليست هي نفسها الآيات الثابتة الأزلية. أن ما أعدُّه ثابتًا أزليًا في مقولات القرآن لا يمكن فهمه إلا في ضوء ما هو متجاوز للوجود المادي (transcendental) . ونحن لا نستطيع تحديد ما هو متجاوز للوجود المادي بحدود دنيوية مادية، بل إنه من الأفضل أن نتناوله بصياغات دينية تستند إلى النفي، بأن نعدد أو نركز على ما هو ليس من المقدس أو الإلهي. إن عبارة الله واحدتدل على تصور محتمل وغير محدود لما هو ليس في الله أو في وحدانيته“. فهو ليس آلهة متعددة، ولا أصنامًا ولا أوصافًا حرفية لتجلياته في الخلق، وبخاصة في الطبيعة. ونحن نرى أن تعددية الاستجابات الإنسانية لفكرة المقدس أو المطلق كانت – ولا تزال – تعبر عن نفسها باشكال متأثرة بكل تلك الصفات السلبية، بالرغم من التطابقات الواضحة بينها.

بتعبير آخر، فإذا كان لله تسعة وتسعين اسمًا، أو صفة أو خاصة، إذن فالتركيز على واحدة منها بعينها لا يعد انفصالاً عن وحدانية الله المتكاملة، كما لا يعد مساويًا لحقيقة الله الشاملة التي تضم التسعة والتسعين اسمًا بلا تناقض بينها. ويعد هذا أحد الأسباب التي تجعل صفات الجمال التي يتصف بها الله، وهي صفات أنثوية، وصفات الجلال التي يتصف بها، وهي صفات ذكورية، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بوحدة الله المتكاملة. فقبول رحمة الله يعني قبول غضبه. والتركيز على الرحمة لا يعني إنكار الغضب، بل أنه مجرد نزوع إنساني نابع عن إمكانات دنيوية لا عن إمكانات متعالية أو ثابثة أزلية أو مطلقة. وهكذا، فقد كان السبب الثاني لردي على الخلل، بل التناقضات، التي قد تبدو حتى في مقولات القرآن العامة هو أنها كانت ضرورية تاريخيًا في وقت ومكان معينين، بينما لا يمكن تناول الحقيقة المتعالية لما هو إلهي في حدود أية لغة إنسانية تمثل نسقًا رمزيًا لإنتاج المعنى. “إن اللغة في جوهرها ليست مؤهلة لتناول الفوقطبيعي تناولاً حرفيًا“. كذلك فإن الكلمات التي تتحدث عن الله وعما هو غير مرئي يجب أن تستخدم بصورة تشبيهيّة لأن مثل هذه الأمور ’تتجاوز كل الأنساق الرمزية’“.(4) وعليه، فعندما أبحث في غاية القرآن من الهداية الكونية لا أبقى أبدًا منغلقة على معنى حرفي للنص القرآني. يحقق هذا المنهج تحرر الفاعلية الإنسانية ويمكنها في كافة الأزمنة من التشابك مع ما يرد في القرآن، ومن تعيين مواضع الخلل في اللغة فيما يتعلق بالمعنى، ناهيك عما يتعلق بالإمكانات الإلهية.

أما فيما يتعلق بما هو خاص في القرآن، أي المقولات المحددة، فأنا أعُدُّ ذلك أمرًا مباشرًا وبسيطًا، فعلى سبيل المثال، عندما يخاطب القرآن أهل المدينة، أو عندما ينهي نساء النبي محمد عن الزواج بعد وفاته (سورة الأحزاب، الآية 53)، فليس ثمة غاية عامة لانطباق هذه المقولة على هؤلاء النسوة بعينهن، ناهيك عن غياب أية غاية ثابتة أزلية. ولا يمكننا استخلاص أي معنى وتطبيقه خارج الإطار الخاص الذي تشير إليه الآية. إن الآية تخص نساء النبي وحدهن، اللاتي توفين منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان، وذلك بالرغم من أنها تشكل جزءًا حرفيًا من ذاك النص الذي يهدف إلى الهداية الكونية. وفي الواقع، فإن استخلاص غاية عامة، ناهيك عن غاية ثابتة أزلية، من مقولة كهذه سوف يشكل قراءة خاطئة لها تمثل بدورها انتهاكًا للقرآن. إن الطبيعة الصريحة والواضحة لآية كهذه في نطاق مجال تطبيقها المغرق في التحديد لينبغي أن ينبه كافة قراء النص إلى أن للقرآن بحق سياقًا محددًا، وأن النص القرآني كان سريع الاستجابة لذلك السياق.

لم أدع تلك الفروق الدقيقة تعوقني. فلقد تخطيت تحديداتها وتخصيصاتها اللغوية داخل السياق، ونظرت من خلالها بوصفها نافذة على ما هو متجاوز للوجود المادي – على إمكاناتها الكامنة، كأن الكلمات آيات، أو علامات، تشير إلى ما ورائها، إلى معان مطلقة تقود إلى تحولات. وبذلك يكون لزامًا على من يقرءون العلامات أن يوظفوا فاعليتهم الإنسانية بوصفهم كائنات عقلانية ذات إرادة حرة تطمح إلى الاستسلام للإرادة الإلهية. تستقصى هذه الذوات الفاعلة العلاقات القائمة بين عبارات القرآن بقدراتها الكامنة على توجيه البشرية جمعاء نحو الهداية الإلهية، لا نحو التطبيق الحرفي لآية بعد آية في نطاقات محددة وضيقة مثل سياق شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، وكأن تلك التطبيقات يمكنها أن تحقق الهداية الكونية.

ما يهمنا هنا هو أن تفسير القرآن يشكل انعكاسًا لبحث الإنسان عن معنى الله. ولا يتعلق هذا الفهم بإيماننا الراسخ بالقرآن بوصفه كلام الله أو كشفًا عن ذات الله فحسب، لكنه يتعلق كذلك بمعنى أن الله موجود وقد كان دومًا موجودًا، وعليه فلا يمكن الإحاطة به أو تقييده بنص ما، ناهيك عن بحث أي إنسان عن معانٍ لذلك النص، بكل ما في الإنسان من خلل ونواقص. كأن القرآن نافذة نطل منها. إنه بوابة لها عتبة يتعين على الإنسان المرور فوقها ليصل إلى الاحتمالات اللانهائية التي تقود الإنسانية نحو سلسلة متصلة من التطور الروحاني والاجتماعي. ولا يسعني أن أسمح لجوهر القرآن بأن يخضع للأبويين الذين تلقوه وقت نزوله ولا لنطاق جمهور قرائه على اتساعه، سواء في وقت نزوله أو الآن. وأقبل بأن قراءتي نفسها قاصرة نتيجة ارتباطي أنا الأخرى بسياقي التاريخي وبعجزي الإنساني وقصور فهمي. يحررني ذلك القبول من الدفاع عن أي فهم أنتجه وأي معنى أعثر عليه بوصفه القيم الصحيح الوحيد، ويتيح الفرصة أمام فهمي لكي يمر بتغيرات لا حصر لها، بينما أنا نفسي أتطور وألاقي خلق الله في كليته، والكتاب في كليته، والمدى الإنساني لإنتاج المعنى المستظل بالهداية الإلهية في كليته أيضًا. ولا أخشى جهودي في فهم النص، ولا أن أفعل ما هو مبني على ذلك الفهم، ولا أخشى أن أشرك الآخرين في كل مرحلة من مراحل ذلك الفهم كجزء من الحب والإيمان والاستلام الإنساني لصاحب النص، إذ يمكن أن ألاقي الله بين لحظة وأخرى في غضون بحثي. لا يمكن المقولات القرآن المحددة ولا لمحدودية قرائه أن تقيّد جوهره. فكما أكد على بن أبي طالب خلال الجدل مع الخوارج (المتطرفين)، القرآن كلام مسطور بين دفتي كتاب، لا ينطق وإنما تتكلم به الرجال“.(5) وبوصفنا مسلمين فقد كنا دومًا وسنبقى أبدًا مجرد بشر. ويحدونا تطور البشرية في فروع المعرفة التي تبحث في المعنى، مثل اتجاهات ما بعد الحداثة والتفكيك، إلى القبول بحقيقة أن النص قادر على أن يرشدنا حتى ولو لم نكن مقيدين بمقولاته المحددة.

إن النص صامت، ويحتاج إلى مفسر، وطالما خضع للتفسير، سواء في الماضي أو في الحاضر. ونحن عندما نسأل النص نجعله يتحدث إلينا. وإذا كنا ضيقي الأفق فلسوف نحصل على استجابات أو ردود ضيقة. أما إذا كنا منفتحين فلسوف يقودنا النص إلى أن ننفتح على احتمالات أعظم. إن السياقات تجعل تفاسير بعينها سائدة بينما تجعل تفاسير أخرى قاصرة. ونحن مرتبطون بتاريخنا الآخذ في التشكل، كما أننا مرتبطون بماضينا التاريخي الذي نرتكز عليه، سواء كنا ندری أو لا ندري. يحدث خلق الطبيعة الإنسانية تاريخيًا بفضل علاقة جدلية بين طبيعة البشر الحيوية وبيئتهم المادية. ويؤثر العمل أو الفعل الإنساني في هذه العلاقة تأثيرًا غير مباشر، كما أن النوع المحدد من الفعل الذي يسود في مجتمع ما يخلق الأنماط البشرية المادية والنفسية المميزة لذلك المجتمع“.(6) ولهذا، تتشكل حتى قدرتنا على تصور أي شكل من أشكال الله بالسياقات الشخصية والحضارية التي نعيش فيها، كما تتشكل ببني المفاهيم المتاحة لنا. وكما تتطور الحضارات تتطور قدرة الإنسان على فهم طبيعته وفهم طبيعة الله.

وللأسف، فإن وحي الله مقيد بعقول الرجال والنساء الذين يتكشف لهم ذلك الوحي. فعندما نتصور المطلق في لا تناهيه، أيًا كانت لحظات التجليات الإلهية الخاطفة التي نخبرها، تبقى لدينا مهمة إدماج تلك اللحظات في هويتنا التي تتفاعل مع سياقاتنا المحددة والتي تتحدد بتلك السياقات في الوقت ذاته. ثم نعود إلى لوحتنا لنصوغ احتمالات أخرى أقل تحديدًا. ولا أحاول هنا القول بأن الله في ذاتها God… in Herself[أنظري مقدمة المترجمة لمطالعة تعليقي على إشكالية ترجمة هذه العبارة. (المترجمة)] مقيدة بنا. ولكننا نجد أحسن ما يمثل تصوراتنا عن الله فيما يراه ممارس اليوجا الهندوسي في صورة الشاكرا السادسة، حيث مفاهيمنا الشخصية الله.” ولا يسعنا أن نبقى للأبد عند الشاكرا السابعة، وهي التاج، حيث الله فيما وراء كل الأسماء والأشكالإلا لغمضة عين، وإلا أصبحنا نحن أنفسنا آلهة. وحتى مع أن ذلك ينطوي على بعض الحقيقة، فإن هيئاتنا المادية ستسمح لنا فقط بلمحات ثملة من تلك الحقيقة، نعاني بعدها من الاستفاقة على آلام الفراق والشوق واليأس. إن هيئاتنا الأرضية تقيدنا، ولا يبقى لنا بعد زوال لحظة التكشف تلك سوى إحساس عميق بالانسلاب.

الآية 34 من سورة النساء، وما يترتب على التطبيق الحرفي في إقامة الحدود

لقد بدأت بحثي في العملية المعقدة التي تتضمن كلا من الكشف عن المعاني في النص القرآني وتحقيق غاية القرآن في الهداية الثابتة الأزلية بتناول السياق الأبوي الذي نزل فيه القرآن، مولية جل اهتمامي إلى تجارب الرجال، بما فيها جنسانية الرجل. بينما يقبل المسلمون القرآن بوصفه هداية ثابتة أزلية، فإن أسلوب التطبيق الحرفي لمقولات محددة قد أصبح الطريقة السائدة لتحقيق تلك الصيغة الثابتة الأزلية في سياق دنيوي. وقد ذهبت في كتابي القرآن والنساء إلى أن ذلك الأسلوب ينطوي على تناقض ضمني مع روح القرآن. وقد جاءت كلمة روحنتاج دراستی لكتابات فضل الرحمن، جنبًا إلى جنب مع بحثى وتجربتي في الجندر (النوع) وتجاوز الوجود المادي. ولكن التباس معاني الكلمة قد استوجب بعض التوضيح.(7)

يشير وجود العديد من التفاسير إلى أن عملية تفسير القرآن اتخذت أشكالاً عديدة، وأنها سوف تستمر في الغالب في اتخاذ أشكال عديدة. ومن الضروري أن تبقى الطبيعة التكيفية للتفسير مستمرة إلى الأبد من شخص إلى آخر ومن زمان ومكان إلى زمان ومكان آخرين. أولاً، لأن ذلك أمر طبيعي. وثانيًا، لأن عملية التفسير المستمرة تلك هي الطريقة الوحيدة التي تتحقق بها حكمة القرآن. وسوف يكون ذلك التحقق مرتبطًا بالتجارب المختلفة للحضارة الإنسانية.

ما من تفسير نهائي. وقد حاولت هنا أن أقدم تفسيرًا معقولاً ووجيهًا لبعض الأمور. وترتكز تلك الوجاهة على المغزى الذي أستقيه من النص فيما يتعلق بالنساء في العصر الحديث: ما يربط أسلوب حياتهن باهتماماتهن وتعاملاتهن داخل السياق الذي يعشن فيه. إنني أؤمن بأن القرآن يتكيف بسلاسة مع سياق حياة النساء في العصر الحديث مثلما تكيف مع المجتمع المسلم الأول منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان. ويمكن الوقوف على ذلك التكيف لو أننا فسرنا النص واضعين النساء في حسباننا، وبذلك نكون قد أوضحنا طبيعة النص الثابتة الأزلية. إن أي تفسير يطبق إرشادات القرآن تطبيقًا ضيقًا محوللاً إياه إلى تقليد حرفي للمجتمع المسلم الأول لهو تفسير يسيء إلى النص [سواء في الحاضر أو في المستقبل]. لن نجد أبدًا مجتمعًا مثل الآخر تمامًا. وعليه، فلا يمكن أن يصبح مجتمع ما نسخة من ذلك المجتمع المسلم الأول. ولا يعلن القرآن أن ذلك هو هدفه. ولكن الهدف هو محاكاة بعض المبادئ الأساسية للتطور الإنساني: مثل العدل والمساواة والتآلف والمسئولية الأخلاقية والوعي الروحاني والتطور. وتتحقق غاية القرآن للمجتمع [والتقوى] حيث تتحقق هذه السمات العامة، سواء كان ذلك في المجتمع المسلم الأول أو في مجتمعات الحاضر والمستقبل. (الخطوط الداكنة في الفقرات السابقة أضيفت بواسطة كاتبة المقالة، كما أضافت الكاتبة بعض العبارات)

تأتي الآية 34 من سورة النساء كثاني موضع يثير الجدل في سياق تناول القصور النصي، بعد التعبير غير المتوازن عن الجنسانية الإنسانية بأسلوب يشير على وجه التحديد إلى التسيد الذكوري في إطار العلاقات الجنسية الغيرية(heterosexual).(8) تقول الآية:

الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا.”

لا يمكن الالتفاف حول هذه الآية، بالرغم من كل المحاولات التي قمت بها مستعينة بمناهج مختلفة خلال العقدين الماضيين. لا يسعني أبدًا أن أبارك إعطاء الإذن للرجل بأن ينزل عقابًا بدنيًاعلى المرأة أو أن يمارس نحوها أي نوع من أنواع الضرب. ويدفعني الوقت الطويل الذي استغرقته في دراسة هذه الآية إلى أن أعدها أفضل موضع لعرض الإمكانات التأويلية والتنفيذية المتعددة المتاحة في تناول الآية. ولذلك أقوم بعرض بعض الأمثلة والظروف التاريخية بما فيها محاولاتي الشخصية في تطويع التأويل. ويقودني ذلك إلى توضيح السبيل الذي انتهى بي إلى الرفض الواضح والصريح للتطبيق الحرفي لهذه الفقرة. ولهذا الرفض أيضًا تبعات فيما يتعلق بتطبيق إقامة الحدود. إن الآية والتطبيق الحرفي للحدود ينمان كليهما عن معايير أخلاقية لسلوكيات بشرية قد أضحت في عصرنا الحالي سلوكيات همجية عفى عليها الزمن. وهي سلوكيات ظالمة لو نظرنا لها بمنظور تجربة وفهم الإنسان المعاصر للعدالة، وهي بذلك تصبح أفعالاً لا تقرها المفاهيم الكونية للكرامة الإنسانية.

وقد كانت لى وقفة أملاها علىّ ضميري، وهنا أستعير عبارة خالد أبو فضل ( Khaled Abou Fadl)،(9) مع إقامة الحدود ومع الآية التي تورد ضرب الزوجات.

إن فهم الشريعة وتطبيقها قد فرض على كل مسلم بالغ ومسلمة بالغة. وإن المسئولية مسألة شخصية وفردية، ولا يمكن لفرد واحد أو مؤسسة واحدة أن تمثل المقصد الإلهي. وعليه، فإن الفرد مسئول مسئولية مباشرة عن البحث عن منهج اللهالشريعة.. أو الحقيقة، وتعلمها.

إن كلمة الحقيقة هنا ترتبط بموضوع المقصد الالهي ومعناه. وكما يقال، فإن الله لا يريد حقيقة واحدة موضوعية، بل يريد من البشر أن يبحثوا عن المقصد الإلهي ويسعوا إليه. وتلتزم الحقيقة بالبحثفالسعي في ذاته هو الحقيقة المطلقة. وعليه، يقاس الصواب بحسب إخلاص الفرد في البحث.

إن علامة البحث عن المقصد الإلهي هي الدليل (جمعها أدلة). الدليل هو المؤشر، هو أداة الإشارة أو البرهان على المقصد الإلهي. وقد أمر الله البشر ببذل الجهد في طلب البرهان على مقصده (طلب الدليل أو طلب العلم)، وذلك بهدف توجيه البشر واختبارهم، وكدليل على رحمته وعطفه. (الخط الداكن في الفقرة السابقة لضيف بواسطة كاتبة المقالة)

ويوضح أبو فضل الأشياء التي قد تتطلب وقفة ضمير“. فاذا تسببت التقاليد، نتيجة لتغير مقاييس الزمان والمكان أو مقاييس التطور لأخلاقي الإنساني، في وخز الضمير، فإن أقل ما يسع المسلم هو أن يتوقف قليلاً ليفكر مليًا في مكان تلك التقاليد وفيما تستتبعه. “هل يسعنى بما يتسق مع إیمانی وفهمي لله ورسالته، أن أؤمن بأن الله مسئول مسئولية أساسية هذا الأمر أو ذاكأو أن هذا الأمر أو ذاك يمكن أن يكون حقيقيًا؟” “كل منايعمل في سعيه وراء الأدلة في نطاق الممكن والمحتمل. إن ادعاء المعرفة التامة أو المثالية بمقصد الله ليعني التشكيك في تفرد كمال الله واستثنائيته“.(۱۰)

ولكن إذا كانت كل المساعي تأخذ في الحسبان المؤشرات والبراهين، فكيف لنا أن نفهم الأخلاق أو المعنى الأولى الصواب والخطأ؟ هل نستقي كل الخطأ والصواب من النص المقدس دون عداه؟ إن النص ليس الممثل الوحيد لما هو إلهي.

يطور الفرد معرفته بالله، لا من خلال المؤشرات النصية وحدها ولكن من خلال مصفوفة مركبة من العلاقات المصاحبة للنص. يصوغ الفرد علاقة مباشرة من خلال الصلاة والدعاء مثلاً، وقد يصوغ فهمًا للخالق بأن يمعن التفكير في الخلق، أو قد يتأمل في أفعال الله وأفعال إبليس بأن يفكر مليًا في التاريخ. إن لهذه الطرق المتعددة التي تقود إلى المعرفة بالله وجودًا منفصلاً عن مؤشرات النص، ولكنها تعمل سويًا مع النص لصياغة مفهوم ما عن طبيعة الله وصفاته المعيارية. وبالرغم من أن للنص دورًا في تشكيل ذلك المفهوم، فلا نملك استبعاد إمكان أن التصور الذي نصوغه قد يشتبك مع محددات معينة في النص. فقد يقرأ/ تقرأ الفرد نصًا يبدو كما لو كان مناقضًا لكل ما يؤمن/ تؤمن به عن الله، مما يؤدي إلى إحساس بعدم التصديق وقد يدعو حتى إلى التعجب: “لا يمكن أن يكون هذا أتيًا من الله، الله الذي أعرفه!” (۱۱)

وعندما تحدث مثل هذه الاشتباكات بين مقولات النص والأدلة المصاحبة، يتعين علينا أن نؤكد على تحرِّ متقن وشامل” (١2) للنص. وسوف أشرح ذلك من خلال بحثى في الآية 34 من سورة النساء، الذي أضمنه اعتبارات تاريخية لما يمكن أن نتخذه وسائل لفهم نص بعينه وتطبيقه بغرض تحقيق مبادئ أو روحالنص ككل. ولهذا التطور التاريخي أربعة مراحل.

مراحل تطور وتفسير النص

يمكن القول بأن أول مراحل تطور تفسير النص حدثت في وقت التنزيل وسياقه. هذا تبدو الاستجابة البسيطة لمقولة أن يضرب الزوج زوجته هي القبول. وبالرغم من هذه الاستجابة البسيطة، فنحن نعرف أيضًا أن استجابة النبي لهذا الوحي كانت: “أردنا أمرًا وأراد الله غيره“. ولم يطبق النبي هذا النص أبدًا طيلة حياته. فلم يضرب امرأة أو يقرع عبدًا. ومن السهل القول بأن السبب وراء ذلك هو أن كل زيجة من زيجاته لم يحدث فيها ما يستدعي ذلك. ويجب ألا ننسى أننا نتحدث عن أمهات المؤمنين، الرفيقات النموذجيات في زمن نزول الوحي. وعلى الجانب الآخر، يؤكد الوصف الخاص في القرآن لأكثر من نزاع بين النبي وواحدة أو أكثر من زوجاته أن الأمر لم يكن كذلك. فالنبي لم تراوده شكوك كبيرة تجاه إخلاص زوجته عائشة الجنسي له عندما ثارت الشائعات حول ذلك فحسب، ولكن المواجهة المباشرة بينه وبين عائشة لم تخفف من تلك الشكوك، التي استمرت حتى نزلت آية خاصة تشهد ببراءتها. وتعرج الآيات لتقدم وصية عامة بتجنب التشهير والشائعات، بل وتعين حدًا لمن يثبت عليهم ترديد الشائعات دون تدعيم شكوكهم بشهادة شهود عيان أو بأدلة أخرى (سورة النور، الآيات ٤٢٥).

وترد في موضع آخر من القرآن حادثة قطع فيها النبي عهدًا على نفسه أن يعتزل كل زوجاته شهرًا كاملاً بعدما اشتركن في مكيدة ضده جرَّاء فعله شيئًا أغضبهن. وقد ذهب النص الخاص الذي نزل في هذه المناسبة إلى حد التلويح باستبدال كل زوجاته (سورة التحريم، الآيات ٣٥). ويمكن اعتبار ذلك الانفصال الذي استمر شهرًا تطبيقًا للحل الثاني المذكور في سورة النساء، الآية 34، أي الهجر في المضاجع.(13) وعلى أساس أن النبي هو الممثل النموذجي لمعاني القرآن، كان من المتوقع أن يتطور في ردة فعله من اعتزال زوجاته إلى ضربهن. ولكننا نجد القرآن يتحدث عن إمكان الطلاق (سورة التحريم، الآية 4)،[وردت هكذا في أصل المقالة المنشورة، والصحيح أنها الآية رقم 5 من السورة نفسها. (المترجمة)] فيما يقدم لنا النبي إمكانًا إضافيًا للتأويل والتطبيق، إلا وهو التأمل الذاتي.

أما ثاني مراحل تطور تفسير النص فتتضح بصورة مستمرة وبأشكال مختلفة خلال القرنين أو الثلاثة قرون التالية لنزول القرآن، التي شهدت تطور الفقه وتقديمه طروحًا تأويلية أخرى، ولقد مثل ذلك تداخلاً عمليًا بين التطبيق الحرفي للنص والتطبيق المشروط. وقد كانت أهم صور هذا التداخل هي أن الفقه قد حدد الضربةبأن جعلها غير مبرحة، أي لا تُلحق أذى“. ثم إذن الفقه قد فسر الضربة كذلك بأنها رمزية“. ويعضد ذلك التفسير فهمًا للنص يحظر إيذاء الأزواج لزوجاتهم دون رادع، أو العنف الأسرى. ويبدو أن الفقهاء هنا يقدمون طروحًا متأثرة بمحيطهم الاجتماعي، مؤكدين فهمهم لمقصد النص بصفة عامة، وقد يكونون مستندين في ذلك أيضًا إلى سلوك النبي. ولكن يبقى ذلك التداخل مخالفًا للتطبيق الحرفي. وقد يبدو وكأنه يقترح فكرة القبول، ولكنبشروط. ولن يصبح من قبيل الاختزال أن نقول بأن تلك الشروط نابعة من تفسير القرآن المستند إلى جوهر القرآن، الذي يرى في العدلمبدأ أصيلاً في كل المعاملات الإنسانية.

وقد اقترحت في كتابي القرآن والمرأة وجود مرحلة تطور ثالثة قادتني إليها قراءتي للسياق الذي أعيش فيه. فمن الممكن استنتاج معان عدة من الاستخدامات والتعريفات المتعددة لكلمة ضربة كما ترد في القرآن وفي مواضع أخرى. وتشير الرقعة الكبيرة من الفروق الدقيقة في المعنى، والقائمة الطويلة للمعاني التي يقدمها معجم لسان العرب، إلى أن الكلمة قد تعنى أكثر مما هو متفق عليه، وهو الأمر الذي يمكن استخدامه في محاولاتنا لفهم الآية. وقد كان واضحًا لي أن هذه التعددية تسمح بتطويع معان متعددة تتيح إمكانات تطبيقية متعددة. وقد خلصت إلى تفسير بديل، ألا وهو أن القرآن كان يسعى إلى كبح استخدام العنف المنفلت. ويعتمد هذا الطرح على عملية تطويع المعني التي تتيحها إمكانات اللغة، بينما يعضد احتمال مفاده قد لا يكون الأمر كذلك“. قد لا يكون القرآن قاصدًا تأكيد قراءات ضيقة الأفق، إذ إننا نجده في مواضع أخرى يحث بقوة على نبذ العنف ضد الأبرياء والمقهورين، وقد يكون تطبيق النص في القرن السابع الميلادي جاء لمواجهة ما كان سائدًا وقتها من ممارسات عنيفة ضد النساء ومن إساءة معاملتهن، في حين تقدم لنا مقاييس القرن الحادي والعشرين إمكانات أخرى، كما توضح لنا التبعات السلبية للعنف على كافة أفراد الأسرة، سواء كانوا ممن يمارسون العنف أو من ضحاياه أو ممن يشهدونه.

أما آخر مرحلة أتناولها هذا فتتعلق بمعرفتنا المعاصرة وما لدينا من بيانات مفصلة عن العنف الأسري؛ فتأخذ في حسبانها المعلومات التي تحصل عليها من الأبحاث التي تتناول العنف، بالإضافة إلى تجارب نساء تعرضن له، أي أنني أستخدام الطرق المختلفة التي تقودنا إلى معرفة الله والتي توجد بمنأى عن مؤشرات النص“. (14) هنا، أرفض مجددًا أية فكرة ترى بأن ضرب الرجال زوجاتهن أمر مقبول بأي حال من الأحوال. إن أي نوع من أنواع الضرب، أو أية نية لتطبيق الآية بتلك الصورة تنتهك مبادئ أخرى من مبادئ النص ذاته، أهمها العدلوكرامة الإنسان، كما جعل الله البشرية تفهمها في العصر الحاضر.

وهكذا، يجب رفض استخدام النص في إعطاء الإذن للرجال بضرب زوجاتهن. وقولنا لالهذه الآية الآن يمثل ببساطة المنحى الذي اتخذه تفسير النص وتطبيقه على مر التاريخ. وهكذا، نتدرج من النظر في سياق النص الثقافي الذي يتضمن سلوك النبيالذي جاء مخالفًا لتلك الممارسات – إلى تحديد الفقه لشروط معينة، ثم إلى تطويع التعددية التأويلية، حتى نصل في النهاية إلى موضع يجعلنا ندرك ونعترف بأننا نتداخل مع النص. وتتمثل الخطوة التالية في اعترافنا بأننا مستمرون في عملية التداخل بين النص والمعنى، بوصفنا مؤمنين بالله والوحي، وتتيح لنا كذلك إيجاد وسيلة لرفض التأويل الحرفي لهذا النص، ولمفردات نصية أخرى، رفضًا تامًا.

إن ما أذهب إليه هنا هو أن الجماعة المسلمة طالما طوعت النص ليتواءم مع التطور الحضاري، أو من الأفضل أن نقول التطور الإنساني. وما علينا الآن إلا أن نعترف ببساطة أن ذلك كان يحدث على مر العصور، وأن نتقبل مسئولية دورنا بوصفنا ذواتًا فاعلة في تحقيقه، وهو الدور الذي نقوم به علنًا وبالتعاون مع الجماعة المسلمة. ولأننا نعيش في زمن يسمح على الأقل بتصور فاعلية النساء الإنسانية وبتصور المساواة بين الرجال والنساء، فعلينا إذن أن نقوم بمناورات دقيقة وحذرة بين النص وفاعلية النساء بقصد تأكيد تطور الأوضاع نحو تحقيق العدالة بين الجنسين. وقد قدمت طرحًا واضحًا بأن النص يمكن أن يفسر بطريقة تأخذ مبدأ المساواة في الحسبان. وها أنا الآن أقترح خطوة يراها البعض متخطية لذلك. نحن الذين ننتج معنى النص. ويتولد عن المعنى الذي نتتجه واقع مرتبط بالتجارب الإنسانية والعدالة الاجتماعية. نحن في حاجة إلى إنتاج معنى للنص يؤكد كرامة النساء الإنسانية الكاملة بشكل أكبر مما كان عليه في أية فترة من تاريخ الإسلام، سواء من حيث فهم النص أو استخدامه. ولكن يظل دافعنا وراء هذا المسعى محكومًا بفهمنا للإسلام بوصفه نظامًا لإنتاج المعنى يسعى نحو تحقيق العدالة الاجتماعية متخذين النص دليلاً، أو مؤشرًا أوليًا للمعنى، فيما نقر بأنه ما من نص واحد بوسعه أن يكشف كشفًا تامًا عن طبيعة الله، أو أن يمثل التعبير التام والوحيد عنها.

وبوصفنا مؤمنات بعقيدة الإسلام فنحن لا نستطيع إعادة كتابة القرآن. إن كلمات القرآن ثابتة لا تتغير بوصفها سجلاً تاريخيًا لكلمات أنزلها الله على النبي محمد. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كانت تلك الكلمات دائمًا مصدرًا لمعان متعددة وتفسيرات مختلفة. إن الهدف من التفسير هو كشف المعاني التي تعكس جوهر فكرة أن الله، المطلق، الذي لا نقدر على معرفته، يريد أن تستخدم الذوات الإنسانية الفاعلة المعاني التي يكتشفونها بطريقة تعكس مبادئ الرسالة على أحسن وجه. وقد اشترك الفقهاء والشعراء والصوفيون والفلاسفة وعلماء المنطق جميعهم في التحاور مع معانى النص ليقيموا مجتمعًا عالميًا يتميز بالتعادل والتوازن: مجتمعًا عادلاً.

وبإمكاننا من خلال الفقه أن نعيد كتابة القانون، أى الشريعة، بل إننا يجب أن نعيد كتابة الشريعة. فقد كان للفقه في العصور الأولى، كما له في عصرنا الحالي، معنى واحد هو فقه الواقع، ذلك الذي يساعد على وضع مجموعة من المبادئ تيسر تحقيق النظام الاجتماعي العادل والأخلاقي الذي توصي به مبادئ القرآن. ولم يكن الجندر وقت نزول القرآن تصنيفًا فكريًا يدرس في ضوء الواقع المعيش بتنويعاته النسبية. كما لم يكن غياب مثل ذلك التصنيف الفكري وقت نزول القرآن يمثل نوعًا من أنواع التعصب ضد النساء، ولكنه هكذا وبوضوح في عصرنا الحالي. وحيثما وجدنا تعصبًا ضد النساء في كلمات القرآن الثابت الذي لا يتغير، فإن هذا يمثل فقط انعكاسًا للسياق التاريخي لنزول القرآن. واليوم فإن التعصب ضد المرأة أمر منبوذ في كل تجلياته من نظريات وممارسات مجحفة تعطى الرجال امتيازات تعوق تقدم النساء وتعرقل تحرير قدراتهن الكامنة بوصفهن ذواتًا إنسانية فاعلة كلفها الله بهذا الدور. ومن خلال إعاقة كتابة مبادئ الشريعة، بعد تعيين اتجاهاتها المتعصبة ضد النساء، يمكننا تحقيق واقع إسلامي أكثر قدرة على تمثيل مبادئ القرآن تمثيلاً صادقًا في إطار توازن متآلف.

وكما أن هناك قواعد أخلاقية طبية تلزمنا بأن نعتمد على متخصصين في مجالات أخرى، فإننا في هذه الحالة لدينا متخصصون في مجالات المعرفة الإنسانية الاجتماعية والنفسية يمكنهم مساعدتنا في تدعيم سعينا المتصل في الوصول إلى ما يمكن أن يقودنا إليه القرآن. ومن الأمور الواضحة أننا تمكنا من القضاء على مؤسسة الرق ولم نتهم أنفسنا بمخالفة النص. ولا نجد حتى أكثر المسلمين الأصوليين محافظة يقدمون حججًا للعودة إلى موقف القرآن الذي يقبل الرق كما كان يمارس في القرن السابع الميلادي. وأين لنا أن نجد دافعًا على تصحيح الخلل في التوازن في أمور الجندر أكبر من إصرار القرآن القوى على التعامل مع تلك الموضوعات حتى في سياق مزرٍ وخسيس مثل سياق النظام الأبوي الذي كان سائدًا قبل الإسلام؟ إن الآيات التي تتناول كرامة النساء الإنسانية الكاملة في القرآن أكثر عددًا من الآيات التي تتناول أية قضية اجتماعية أخرى. ومن المؤكد أنه لا يحق لنا أن نحول مسعى القرآن نحو الهداية الكونية في اتجاه مقاييس وممارسات أبوية رجعية.

وأخيرًا فنحن لدينا القدرة على دفع تطور الفاعلية الإنسانية المستمر، وعلى إعادة كتابة الأساس المعياري لما يمكن عَدُّه القواعد الأخلاقية الإسلامية، وذلك من خلال وسائل متعددة متاحة في الحاضر أمام الفهم الإنساني الذي يبحث في معنى أن نتبنى ونمارس ونؤكد الطريقة التي نحيا بها بوصفنا كائنات يلتزمن بأنساق أخلاقية وبوصفنا ذواتًا أخلاقية فاعلة تحقق المقصد الإلهي. ويعد الجندر بوصفه تصنيفًا فكريًا واحدًا من أهم جوانب هذا التطور في الفهم الإنساني، كما أنه لا غنى عنه في تطوير الأنساق الأخلاقية الإسلامية ورفعها إلى درجة تجعلها تقترب من مقصد الرسالة الإلهية الثابت والأزلي الذي يتكشف سياقيًا من خلال آيات القرآن.

 

آمنة ودود (Amina Wadud): باحثة أمريكية مسلمة متخصصة في الدراسات الإسلامية، وتحديدًا علوم القرآن وقضايا النوع. وكان من أولى دراساتها أطروحتها حول “القرآن والمرأة: إعادة قراءة القرآن والنص المقدس من منظور المرأة”. وهي من مؤسسات “أخوات في الإسلام”. وقد تنقلت كأستاذة في جامعات عدة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وماليزيا وإندونيسيا. كما أنها تحاضر في سياقات متنوعة ما بين جامعات ومنابر حكومية وأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا وجنوب شرق آسيا تناولت فيها موضوعات مثل “الشريعة وحقوق الإنسان”، و”الإسلام والعدل والنوع”.

*Amina Wadud, “Inside the Gender Jihad: Women’s Reform in Islam (Oxford, England: One World Publications, 2006), 192-206.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ورد شرح مفصل للبنى اللغوية في الفصل الأول، ماذا في الاسم؟

(2) انظر/ى الفصل الرابع، نموذج هاجر الجديد: الأمومة والأسرة.”

(3) آمنة ودود: Amina Wadud, Qur’an and Women: Re-Reading the Sacred Text from a Woman’s Perspective (Oxford: Oxford University Press, 1999), 15-16 ، وتتضمن اقتباسًا من كينيث بيرك: Kenneth Burke, the Rhetoric of Religion (Boston: Beacon Press, 1961) ، حاشية رقم 14.

(4) كما يرد في كتاب أبو فضل Speaking in God’s Name ،٢٤.

(5) جاجار Jaggar, Feminist Politics ،125.

(6) آمنة ودودAmina wadud, Qur’an and Women ، 94-95.

(7) المرجع السابق، 70.

(8) أبو فضل Speaking in God’s Name ، 33.

(9) المرجع السابق، ۲۱۳.

(۱۰) المرجع السابق، ٩۳٩٤. وانظري كذلك ماری دالي (Mary Daly) والمفاهيم عن الله والأبوية

(11) المرجع السابق، 213.

(12) سبق أن قدمت طرحًا في كتابی Qur’an and Women مفاده أن القرآن يقدم ثلاثة اقتراحات للتعامل مع الخلافات الزوجية، ينبغي تطبيقها تبعًا للتسلسل الذي نزلت به في الآية. وينبغي استنفاذ إمكانات كل واحدة من تلك الطرق قبل تطبيق الطريقة التي تليها. إن أول وصية ترد في الآية 34 من سورة النساءهي الحوار المتبادل بين الزوج والزوجة. وتوصي آية أخرى بحوار أكثر توسعًا مع آخرين (أفراد الأسرة الممتدة، أو مستشارين مهنيين يقومون بدور المحكمين). أما ثاني اقتراح فهو الفصل بين الزوجين. وأؤكد هنا أن التطبيق التام لهذا الفصل يمكن أن يعني الانفصال الدائم المتضمن في الطلاق. وسوف يحول هذان الاقتراحان دون اللجوء إلى الاقتراح الثالث وهو الضربة. ويقدم القرآن دليلاً على الانفصال طويل الأجل بضربه مثالاً نبويًا. أما في الواقع فنجد أن الرجال والنساء اللاتي يلجأن إلى رد فعل عنيف على الخلافات الزوجية أو الخلافات مع أى فرد آخر من أفراد الأسرة يفعلون ذلك کرد فعل أولی. ولا تُستمد هذه الممارسات المسيئة من القرآن، مهما حاول المسيئون تقديم مبررات من النص بعد قيامهم بتلك الأفعال.

(13) أبو فضل، Speaking in God’s Name، 93.

(14) وعلاوة على ذلك، يؤكد القرآن أنه فهل على الرسل إلا البلاغ المبين؟ (سورة النحل، الآية 35).

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي