دعوات قديمة تتجدد

تأليف:

سناء المصرى

هذا المقال فصلٌ من كتاب خلفَ الحجابللكاتبة، وهو عبارةٌ عن دراسة في موقف الجماعات الإسلامية من قضايا المرأة، وقد اختارت المرأة الجديدةهذا الفصل من الكتاب والذي تتناولُ فيه الكاتبة الموقف التاريخي للإخوان المسلمين من الحركة النسائية الوطنية الديمقراطية

المرأة الجديدة

مع العودة الجديدة للإخوان المسلمين في السنوات الأخيرة، عملوا بحرص واضح على إعادة طباعة أدبيات الجماعات التي أدخلت فيها قضية المرأة جانبًا لا يُستهان به، في إطار نسق فكرى يؤكد أن قضايا الحجاب أو الأحوال الشخصية وحقوق الزوجات أو عمل النساء في الأشغال العامة وتعليمهن، ليست قضايا شخصية أو خاصة، بل هي ترتبطُ بنوع الدور الاجتماعي الوظيفي الذي تريد الجماعةُ إسناده للنساء، أو تحجيمهنَّ به في إطار برنامج الإخوان المسلمين السياسي. وإذا تتبعنا وضع المرأة في فكر الإخوان منذ البدايات الأولى لتكوينهم بالإسماعيلية عام ١٩٢٨م، فسنجدُ أن حسن البناالمرشد العام والزعيم الروحي والمنظرُ الفكري للجماعة يشنُّ الهجوم على أفكار حركة تحرير المرأة ومطالبة النساء بالمساواة.

وربما تكونُ قوة الحركة واشتدادُ ساعدها وقدرتها على إحداث تأثير اجتماعی ملحوظ في ذلك الحين، قد عمل على زيادة قلقالبنا، ودفعه إلى المزيد من الهجوم على مطالبها وشعاراتها ورموزها من الرجال والنساء. فحسنُ البنا الذي عاصر في صباهُ مظاهرات ١٩١٩م ضد الإحتلال الإنجليزي من أجل الاستقلال حينما كان يبلغُ من العمر 13 سنة وهو الذي هاجم فيما بعد اشتراكَ النساء في الثورة.. وندد بتحطيمهن للقيود الشخصية مع مطالبتهن بحرية الوطن.

وحينما التحق بالجامعة في القاهرة، اطلع بشكل أو آخر على فترةَ الغليان الفكرى والسياسي التي ميزت العشرينات، وواكبتْ النهضة الصناعية وحاجةَ البرجوازية المصرية الصاعدة إلى التغيير في مختلف جوانب الحياة، ومنها التغيير في وضع المرأة المصرية.

وستجدُ أن البنااختارَ منذ البداية جانبَ المناهضين لتلك الروح الجديدة الداعية إلى استقلال ونهضة النساء مع نهضة الوطن، وسمى المشتركات في المظاهرات بالسافرات، كما سمى المدافعين عن حق المرأة في الانتخابات برعاة التفرنج وأصحاب الهوى، وحاربَ مطلب حق الفتاة في التعليم المتساوي، كما نادى بوجوب التفريق بين مناهج تعليم البنات ومناهج تعليم الصبيان. وعبر البنابوضوح على أن واجب النساء هو القيامُ بالأعمال التقليدية في تلبية رغبات الزوج ورعاية الأبناء، وإذا تعلمت يكونُ ذلك في حدود، ولا تخرجُ إلى العمل إلا تحتَ ضغط الحاجة والفقر، وبشروط تتحكمُ في مظهرها العام وسلوكها الاجتماعي.

ولقد حاول البنا أن يدعو لتكوين فرع خاص للأخوات المسلمات، لكن دعوته لم تجد رواجًا

 

سريعًا في ذلك الحين على عكس دعوته لتكوين الإخوان المسلمينفأنشأ مدرسة أمهات المؤمنين” *[ محمود عبد الحليم الاخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ، الجزء الأول – رؤية من الداخل ۱۹۸۳م – صـ ٢٥٢] بالإسماعيلية، وهي مدرسة ابتدائية تتلقى البنات فيها تعليمًا نوعيًا منعزلاً عن الأولاد.

ثم استتبعَ ذلك إنشاء قسم للأخوات المسلمات في إبريل ١٩٣٣، وهو زمنٌ متأخر عن تكوين الإخوان المسلمين عام ١٩٢٨م.

وسُمى هذا القسم في أول الأمر فرقة الأخوات المسلمات، ويتألفُ من نساء الإخوان وقريباتهن **[ المصدر السابق ص ٢٥٢ كما ورد ذلك في مذكرات الدعوة والداعية للإمام الشهيد حسن البنا – دار التوزيع والنشر الإسلامية].

ويبدو أن نشاطَ هذه الفرقة كان ذا طابع مدرسي أيضًا، حيثُ يذكرُ محمود عبد الحليم

أنه كانت تقوم بالتدريس فيه مدرسات على كفاءة خاصة من أهل الإسماعيلية نفسها“. *[رفعت السعيد]

والغرض من تكوينها: التمسكُ بالآداب الإسلامية والعودة إلى الفضيلة وبيان أضرار الخرافات الشائعة. أما عن وسائل الفرقة فكانت: “الدروس والمحاضرات في المجتمعات الخاصة بالسيدات، والنصح الشخصي والكتابة والنشر“.*[ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين]

ولما كانت فرص الاجتماعات أمام الأخوات غير متاحة بالقدر الذي هي متاحة للإخوان، فإن الأستاذ رحمه الله كان حريصًا على أن يجعل هذه الاجتماعات خالصةً للتثقيف والتربية دون أن يقتطع من وقتها قليلاً أو كثيرًا في الانشغال بالشؤون الإدارية، كما كان حريصًا على أن لا يُضيع جزء من جهود الأخوات في الالتفات إلى المناصب الإدارية والإعداد لها والتطلع إليها، مما قد لا يتناسب مع طبيعة المجتمعات النسائية“.*[ متى – كيف لماذا؟]

وهكذا غلب الطابعُ المدرسي على محاولة البنالتكوين نواة الأخوات المسلمات، ويبدو أنها لم تكن مدرسة ذات نشاط ملحوظ .. فمحمود عبد الحليم في نصه السابق؛ يكشفُ لنا عن مدى الجهد الضخم الذي بذله المرشد العام لتكوين تلك المدرسة، كما يكشفُ لنا عن خمولها الواضح، حيث يعترفُ بعدم تمكنها من عقد اجتماعات دورية وسريعة، وغلبة الطابع التلقيني في أسلوب الاجتماعات، بالإضافة إلى عزل نساء هذه المجموعة تمامًا عن إدارة شؤون أنفسهن، وحرمانهن من التجربة والخبرة باسم الحفاظ عليهن!!!..

وفي المحاولتين، المدرسيتين السابقتين، لم يستطع البناأن يحقق حلمه في تكوين فرع للأخوات المسلمات، حتى استطاع إقناع زينب الغزالي بعد حوالي عشرة أعوام من إنشاء الإخوان المسلمين بضم جمعية السيدات المسلمات التي تكونت في القاهرة عام 1936م، وظلت زمنًا قصيرًا على استقلالها، حتى انضمت إلى الإخوان المسلمين وأصبحت رسميًا فرع الأخوات المسلمات، لكن هذا الفرع لم يحقق نجاحًا وسطَ طالبات الجامعة إذ يبدو أن الفتيات المتعلمات كن يتصورن دعوةَ الإخوان كدعوة سلفية تعودُ بالمرأة إلى عصر الحريم” *[دار الثقافة الجديدة ص 110]

في نفس الوقت الذي كانت دعواتُ تحرير المرأة لا زالت تثيرُ جدلاً واسعًا منذ انطلاقها مع بداية القرن العشرين، وتحتفظُ بجاذبيتها وملاءمتها للنهضة الصناعية التي استدعيت الكثير من التغيير في بنية المجتمع المصري.

فظهرت مجموعةٌ من الكتب التي عبرت بوضوح عن حاجات الصعود الليبرالي، والإنفتاح على الفكر التنويري العالمي، وإدخال الميكنة والعلوم بقدر ما تسمحُ به الحاجةُ والظروف.. وبعد كتابي تحرير المرأةوالمرأة الجديدة لمؤلفها قاسم أمين، ظهرَ كتاب نبوية موسى المرأةُ والعملعام ١٩٢٠، وتكونت جمعيةُ المرأة الجديدة، وأقبلت بناتُ الطبقة العليا على التعليم الجامعي (ففي عام ١٩٢٨ ونتيجةً لضغوط النساء؛ بدأ التحاقُ المرأة بالجامعة المصرية التحقت 5 فتيات بكلية الطب، 8 فتيات بكلية العلوم، 4 فتيات بكلية الآداب، وفي عام 1931 التحقت فتاةٌ واحدةٌ بكلية التجارة، وبدأ التحاقُ الفتيات بكليتي الهندسة والزراعة 1945.

واستمرت دعواتُ تحرير المرأة في جذب أعداد متزايدة من فتيات البرجوازية الكبيرة والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة طوال العشرينات والثلاثينات وما بعدهما تحت شعار المطالبة بالمساواة في التعليم والعمل، في محاولة التخلص من ارتباط المرأة بالبيت والطاعة والوضع المتخلف الذي ظل لزمن طويل يُهمشُ وضعها الاجتماعي.

ومفهومٌ أن ترفض الفتاةُ التي حُرمت طويلاً من كل الحقوق دعوة الحجاب والعودة إلى البيت، لأنها كانت محجبةً فعلاً، وقعيدة البيت منذ زمن طويل، وليس لها أي حقوق، وتعاني من سيادة الرجل المطلقة.

فكان لابد من البحث عن منافذ للخلاص، لا الإقبال على دعوة تكريس لنفس الوضع السيئ. لقد كانت الفتاةُ المصريةُ تحلمُ بالتعليم ودخول الجامعة والعمل والاستقلال واختيار الرجل الذي ترتبطُ به بنفسها، كما تبشرها تلك الروحُ الجديدةُ السارية في المجتمع….

بينما كانت دعوة البناتحرمُ كل ذلك، وتهاجمُ البنات اللاتي كسرنَ التقاليدَ ودخلن الجامعةَ سافرات، مثل درية شفيقالتي حظيت بقدر كبير من هجوم الإخوان المسلمين، لأنها كانت من الرعيل الأول لطالبات الجامعة المصرية في أول عهدها بنظام اختلاط الجنسين الذي تبناه أستاذ التعريب، مشاركة في التحدى لمشاعر الأساتذة والطلاب بإبراز فتنتها، والمبالغة في الظهور أمام الرجال والشباب في الجامعة سافرةوبعد التخرج سافرت وحدها وعاشت دون محرم في فرنسا للحصول على الدكتوراة“*[منى ميخائيل عرائس في المولددراسات حول المرأة العربية. ترجمة د. محمد عوض خميس دار العربي1987 – ص57]

وزاد الهجومُ على تلك المرأة الرائدة وعلى غيرها من رائدات حركة تحرر المرأة، حينما راحت تطالبُ بالمزيد من حقوق النساء المدنية والسياسية، فكانت طامتها الكبرى أنها تجرأت وطالبت بـ: “منح المرأة حق الإقتراع وحق دخول البرلمان“.**[محمد عبد الحكيم خيال محمود محمد الجوهري – الأخوات المسلمات وبناء الأسرة دار الدعوة ص ٢٥٦]

كما طالبت إلغاء تعدد الزوجات، وإدخال قوانين الطلاق الأوربية في مصر“.

فالمرأةُ التي خرجت في مظاهرات ۱۹۱۹م وانغمست في السياسة، وشاركت في التحريض على الإضراب العام والإعداد له، واعتُقلت من جراء ذلك في أقسام الوايلي والخليفة والدرب الأحمر، دخلت بذلك في صراع واضح ضد القوانين والتقاليد والأفكار الجامدة

وبعد أن كان مركزُ الحركة هو لجنةُ الوفد للسيدات، ثم الاتحاد النسائي، تعددت الجمعيات التي تطالبُ بحرية المرأة وعملها حتى أن (الحزب النسائي الوطني الذي أسسته فاطمة نعمت راشدقبل نهاية الحرب العالمية الثانية من عضوات سبعة، لهن العملُ في الاتحاد النسائي وهن على درجة عالية من الثقافة – فوكيلته وسكرتيرته ممن اشتركن فيه محاميات احتلت الصدارة في برامجه مساواةً المرأة بالرجل والنهوض بها، ورفع مستواها الأدبي والفكري والاجتماعي، والسعى بكل الوسائل المشروعة لحصولها على حقوقها كاملةً، وذلك بفتح أبواب المعاهد العلمية للبنات، وقبولهن في كافة وظائف الدولة متي كانت لديهن المؤهلات، وإعطاء العاملات حق التمتع بكل قوانين العمال ومساواتهن بهم في العمل، واشتراكهن في النقابات وضرورة العمل عى منع تعدد الزوجات).*[د. لطيفة محمد سالم المرأة المصرية والتغيير الإجتماعي 1919 – 1945 سلسلة مصر النهضة.. الهيئة العامة للكتاب مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصرة ١٩٨٤م ص 58]

لقد انتزعت حركةُ تحرير المرأة نتيجةَ كفاحها في تلك السنين حقوقًا للمرأة البرجوازية في مجالات كثيرة، ومنها حق العمل في الطيران والبوليس فضلاً عن المحاماة.. وظلت أعدادُ الفتيات المقبلات على التعليم في تزايد مستمر حتىَ بلغ عدد مدراس البنات الحكومية فقط دون الخاصة عام 1945 إلى ۲۳۲ مدرسة تضم ٤٤٣١٩ طالبة،*[* د. لطيفة سالم – المصدر السابق ص ۷۷] وهو عددٌ كبير جدًا بمقياس الزمن وطبيعة مجتمع لا يزالُ في بداية عهده بتطور الصناعة الحديثة. وكانت الغالبيةُ العظمى لهؤلاء الطالبات يشكلنَ جمهور حركة تحرر المرأة، والدعوة إلى مساواة بين الجنسين. ولكن هذا الاتساع الجماهيري لحركة تحرير المرأة لم يتخط حدود الطبقة البرجوازية، والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة التي تسعى في ركابها.

فالمرأةُ العاملةُ بالمصانع البروليتريةوالتي سبق خروجها تاريخيًا إلى العمل، وبأعداد لا يمكنُ تجاهلها في الصناعات الرئيسية كالغزل

والنسيج وعصر للزيوت وغيرها من الصناعات، سبقَ خروجها إلى العمل خروجُ المرأة البرجوازية في الأعمال المهنية.

وبرغم ذلك لم تجد مطالبُها وحقوقُها من يدافعُ عنها وسطَ هؤلاء البرجوازيات.. ويتجاهلُ تاريخُ حركة تحرير المرأة وجودَ هؤلاء العاملات البروليتاريات، حتى أننا لا نجد في مذكرات هدى شعراويوكتابات سيزا نبراويوغيرهن من قائدات تلك المرحلة أي اهتمام بقضية المرأة العاملة البروليترية “.

وإذا كان التاريخُ يحفظُ لنا صورةً عن عداء القيادات الوفدية من الرجال لتاريخ الحزب الإشتراكي وأعضائه من القيادات العمالية، وكيفية استخدامهم في دفع الثورة على المستوى الجماهيري، ثم التنكيلُ بهم بعد تولى الوزارة بقيادة سعد زغلول“*[ لمزيد من التفاصيل أنظر أمين عز الدين تاريخ الطبقة العاملة المصرية ثلاثة أجزاء – دار الشعب ] فإن موقف حركة تحرير المرأة من قضايا المرأة العاملة البروليتاريةيحتاجُ إلى بحث ودراسة.

وإذا كنا نجدُ إشارات سريعة تردُ وسط المطالب النسائية كمطلب الحزب النسائي الوطنيبإعطاء العاملات حق التمتع بكل القوانين العُمالية، ومساواتهن بهم في الحقوق واشتراكهن في النقابات. فإننا نلاحظُ عدم تلاحم حركة هذا الحزب بحركة عاملات المصانع، أو اهتمامه بالعمل وسطهن أو جذب قيادات العاملات إليهفقط كان مطلبُ المساواة في الحقوق النقابية أحدُ المطالب التي تم ترتبها وسط الكثير من المطالب، وبشكل لا يوضحُ أن نضالاً حقيقيًا كان يدورُ في هذا الجانب، بالإضافة إلى أن هذا المطلب لا يتبلور إلا في زمن متأخر من عمر تاريخ حركة تحرير المرأة، حيثُ تكون الحزب النسائي الوطني في الأربعينات أثناء اشتداد ساعد

العمل النقابي.

وأيًا كان الحال، فإنني أؤكدُ على الفقر الشديد في المراجع التي توضحُ حال العاملة المصرية في ذلك الحين، ونضالها ومطالبها ومدى علاقتها بالحركة الوطنية من جانب، والحركة النسائية من جانب ثاني، والنضال العمالي من جانب ثالث.

وربما يكونُ تجاهلُ الدراسات التاريخية امتدادًا لنفس موقف البرجوازية المصرية من تجاهل النضال العمالي بشقيه من الرجال والنساء، وإذا كانت حركةُ تحرير المرأة قد حققت نجاحًا في الحدود الطبقية البرجوازية.. فقد كانت دعوةُ حسن البنا تتجه إلى نفس النطاق الطبقي، بعد إضافة بقية شرائح البرجوازية الصغيرة الأكثر عددًا، والباحثة عن دور سياسي تحمى به مصالحها الاجتماعية. وكانت دعواتُ البنا تجسيدًا للنزعات المحافظة في تلك الحدود الطبقية.

وبرغم حُلم البناوجهده الواضح في محاولة سحب البساط من تحت أقدام حركة تحرير المرأة، حيث كانت جهود الأستاذ موجهة في معظمها للعناية بالطليعة من الجامعيين، طلبةً وخريجين، فإنها كذلك وبنفس القدر من العناية والاهتمام كانت موجهة إلى الطليعة من الطالبات والخريجات والمدرسات، فكان يتعهد هذه المجموعة بالدروس الأسبوعية يُلقيها بنفسه، ولم يكن يتخلفُ عن هذه الدروس حتى في حالة المرض.*[ محمود عبد الحليم الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ دار الدعوة]

إلا أن طبيعةَ الدعوة كانت واضحةً للنساء، ولا تتعدى محاربةَ الخرافات والبدع كالزار والسير في الجنازات والتبرج“.*[ د . لطيفة سالم المصدر السابق ص ٥٨]

وهي مطالبُ كانت حركةُ تحرير المرأة قد تخطتها بزمان واسع، فلم يكن يناسبُ المرأةَ التي تلفظُ التقاليدَ الباليةَ، وتحارب من أجل العلم والعمل؛ أن تفكر في موضوعات كالزار والشعوذة. وفرقٌ بين دعوة في بداية نضالها من أجل مشاركة المرأة في البرلمان والحياة السياسية، في وقت يسمحُ بالحديث عن المطالب السياسية ويساعدها على تحقيقها بقدر تلاحمها مع مصلحة البرجوازية، وبين دعوة لا زالت تناقش الجوانب المحافظة كحق النساء مجرد الصلاة بالمسجد وهل تجوز أو لا تجوز!!!! ….

ومن هنا لم تجد ده دعواتُ الإخوان المسلمين وسط الشابات نفس الصدى الذي وجدته دعوات حركة تحرير المرأةوحتى حينما بلغ عدد عضوات جمعية الأخوات المسلمات المسجلات بدفاتر الإخوان المسلمين في زمن متأخر عام ١٩٤٨م، خمسة آلاف عضوة كما يدعي الإخوان، فإن هذا العدد لا يعكسُ بصدق حجم حركة الأخوات المسلمات الفعلي، لأن هناك فرقٌ بين الأعداد الدفترية والأعداد الفاعلة، والحكم لا يكونُ إلا بمدى التأثير الاجتماعي الذي استطاعت أن تحدثه أفكار الجانبين في ذلك الحين.

فبرغم أن مطالبَ الاتحاد النسائي كانت جديدةً على المجتمع المصرى، إلا أنها استطاعت مثلاً انتزاع حق تعليم 44319 فتاة حتى نهاية التعليم الثانوي، وكانت وراءَ كسر الاحتكار الرجالي للتعليم الجامعي، والدفع بمئات البنات إلى الجامعة، كما كانت وراءَ النضال من أجل دخول المرأة إلى البرلمان، وعملها في شتى التخصصات، وإثارة الجدل حول قوانين الأحوال الشخصية والحقوق السياسية للنساء

بينما دورُ الأخوات المسلمات ظل قاصرًا كما حدده البنا في: “المعاونة في حدود ظروف الأخوات وجهودهن في تحقيق البرنامج الإصلاحي الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين العامة، مع ملاحظة أن قوامَ جمعية الأخوات المسلمات كان يعتمد أساسًا على زوجات الإخوان وبناتهم وأخواتهم، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى فاعلية هؤلاء النسوة في ظل النظام العقائدي الذي يؤكدُ على تفوق الرجل على المرأة كما يتضح من حديث حسن البنا في تذكرة الداعي:

المسلمُ مسؤولٌ عن أسرته.. ومن واجبه أن يحافظ على صحتها وعقائدها وأخلاقها . وأتعهدُ بأن أبث تعاليم الإسلام في أفراد أسرتي ولا أدخل أبنائي مدرسة لا تحفظُ عقائدهم وأخلاقهم، وأقاطعُ كل الصحف والنشرات والكتب والهيئات والفرق والأندية التي تناوىء تعاليم الإسلام“.*[خيالالجوهرىالمصدر السابق ص ٤٣٧ ]

لذلك فليس من الغريب أن نجد زوجةَ حسن الهضيبي تشغلُ منصب رئيسة قسم الأخوات المسلمات أثناءَ زعامة زوجها لحركة الإخوان المسلمين، وآمال العشماوي زوجة منير دلهالعضو البارز بمكتب الإرشاد وأحد أعيان الصعيد، تحتل دورًا قياديًا أيضًا، وأمينة على الشهيرة بأمنية الجوهرى زوجة محمود الجوهري الذي عينه البنا سكرتيرًا للأخوات المسلمات مدى الحياة، والذي سبق أن شكا للبنا ضيقه من العمل وسطَ الحريم” **[ خيالالجوهرىالمصدر السابق ]

كما نجدُ زينب الشعشاعي زوجة الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي، واعظ قسم الأخوات، وفاطمة عبد الهادي حرم محمد يوسف هواشي، وحميدة قطب أخت سيد قطب، وغيرهن كثيرات من أقارب أعضاء جمعية الإخوان المسلمين، فاحتللن مكان الريادة والصدارة في الأخوات المسلمات بحكم وضعهن الأسرى، وليس بحكم قدراتهن الخاصة أو معتقداتهن.

وفضلاً عن انقطاع الصلة بين جمعية الأخوات المسلمات وسائر الحركة النسائية في مصر اللهم إلا إذا اعتبرنا الهجوم الشديد يمكن أن يشكل صلة فإن دور الجمعية لم تكن تحدده العضوات، بل كان دورًا يرسمه المرشدُ العام للجماعة، ويراهُ دائمًا في حدود المعاونة في تحقيق البرنامج الأساسي للإخوان.

حتى أن تعيين سكرتير الجمعية كان يتمُّ حسب إرادة المرشد وليس بالانتخاب كما حدث مع محمود الجوهري الذي يروي في کتاب الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية: “وأذكرُ مرةً أني قدمتُ لفضيلته مذكرةً أرجو فيها إعفائى من العمل بقسم الأخوات المسلمات لأتفرغَ لبعض النشاط الإخواني، على اعتبار أن بقسم الأخوات المسلمات من العناصر ما يسد مكاني، فابتسم ابتسامته المشرقة وكتب على المذكرة بالمداد الأحمر هذه العبارة:

الأستاذ محمود الجوهرى سكرتير الأخوات المسلمات حتى الممات، ووقع بإمضائه وأعطاها لي، ولم أملك وقتها إلا التسليم والرضا، وأجبته حاضر يا فندم“.*

وهذا النص يوضحُ مدى انعدام الديمقراطية في إدارة شؤون الأخوات المسلمات، وفي بنيتها التكوينية.. فعلى الرغم من تأفف الرجل من العمل وسط الحريم ورغبته في الانفصال، إلا أن الأمر يأتي من الزعيم فينتهى كل شئ بصرف النظر عن رغبته شخصيًا أو رغبة العضوات.

كما نجدُ في مذكرات زينب الغزاليأبرز الأخوات المسلمات وأنشطهن، دلائل أخرى على انعدام الديمقراطية والدور المستقل للأخوات. فهي تحكي:

حاولتُ في آخر لقاء لنا البنا وهي في دار السيدات المسلمات أن أخففَ من غضبه بعهد آخذه على نفسي أن تكون السيدات المسلماتُ لبنةً من لبنات الإخوان المسلمين، على أن تظل باسمها واستقلالها بما يعود على الدعوة بفائدة أكبر. على أن هذا أيضًا لم يُرضه عن الاندماج بديلا“.**

وربما تكشفُ رسالتها إلى البنا مدى الانسحاق الذي يصبغُ علاقتها شخصيًا وعلاقة الأخوات المسلمات أمام المرشد العام: سيدي الإمام حسن البنا زينب الغزال الجبيلي تتقدم إليكَ وهي أمةٌ عاريةٌ من كل شئ إلا من عبوديتها، وتعبيد نفسها لخدمة دعوة الله، وأنت اليوم الإنسان الوحيدُ الذي يستطيعُ أن يبيع هذه الأمةُ بالثمن الذي يُرضيه لدعوة الله تعالى، في انتظار أوامرك وتعليماتك سيدي الإمام“.*

إذا كان هذا هو وضعُ إحدى قائدات الأخوات المسلمات في علاقتها التنظيمية, فإننا نعجبُ حينما نجدُ في كتبهم صورًا غريبةً لعلاقات زوجات الزعماء بأزواجهمففى حوار بين محمود الجوهري وحسن الهضيبي يسأله فيه عن مدى حفاوة أهله به يقصد زوجته أيام الشباب:

ابتدرني مازحًا بهذه العبارة (عين الحسود فيها عود) واستطردَ يستشهدُ على مسارعتها فيما يُرضيه ويرفعُ من رأسه، فذكر أنها تعلمت الفرنسية إجادةً وهي الأم لأربعة أولاد، لمجرد أنها رأت صديقتها زوجةَ وكيل النيابة الذي كان يعملُ معى في إحدى المحاكم القريبة من المنصورة، تتقن الفرنسية وتتحدثُ مع عاملات المتاجر الكبيرة في عاصمة الدقهلية، فأكبرت أن تكون لزوجة وكيل النيابة قدرةَ التحدث بلغة لا تعرفها، وهي زوجةُ القاضيِ الذي يعلو في المرتبة على وكيل النيابة، سرعانَ ما استأجرت مُدرسةً تختلي بها لحظات فراغها النادرة لتتلقى عنها الفرنسية“*[ خيال – الجوهرى المصدر السابق ص 439]

فزوجةُ الهضيبي لم تتعلم الفرنسية حبًا في العلم وشغفًا به، بل من مُنطلق إحساسها بضرورة التميزِ الطبقى، وكبرياء وغرور زوجة القاضي التي يجب أن تتعالى حسبَ قيمهم على زوجة وكيل النيابة، هذا فضلاً عما تكشف عنه الحكايةُ من إعلاءِ قيمة الحسدِ والغيرة في علاقات زعماء الإخوان المسلمين، وأخيرًا في نوع الوظائف الذي تفضله تلك الجماعةُ للنساء في المجتمع المعاصر، فهناك زوجةُ الزعيم المرفهة المنعمة، والمدرسةُ التي تقدمُ لها عملاً خدميًا استهلاكيًا، بخلافِ الوظائف النسائية الأدنى كَما سنرى فيما بعد .

أما عُمر التلمساني المرشدُ العام التالي للإخوان، فكان متطرفًا في غيرته عليها يقصد زوجة التلمساني إلى درجة جعلته يمنعها من سماع أغنياتِ الموسيقار رياض السنباطي لشغفها بألحانه، بل وحرمها بأن تزوره في السجن (فيما بعد) عشر سنوات كاملة حتى لا يَراها ضباطُ السجن ورفاقه المسجونينَ عند زيارتها له“*[ زينب الغزالي المصدر السابق ص ٢٦]

وإذا كان هذا وضعُ زوجات الزعماء، أو زعيمات الزوجات كما وضعهن الترتيبُ القيادي للإخوان، فلنا أن نتخيلَ وضع القاعدة، ونوعَ العلاقات التي تحكمُ مختلفَ العلاقاتِ الشخصية بالأزواج وباقي أفراد الأسرة.

وفي مقابل إشادة الجماعاتِ الإسلاميةِ بصفات الطاعة والخنوع والغيرة، وهي الصفات السلبيةُ دائمًا في النفس الإنسانية، فإنهم يشددون على كل ما هو إيجابيٌ في المرأة قالبين بذلكَ الأمور على رأسها فالمرأةُ إذا ناقشت حقوقها فهي فاسقة، وإذا خرجت للعمل فهي منحلة، وظل موقفهم من الوضوحِ والثباتِ في نشر الدعاية المضادة لحركةِ تحريرِ المرأة، والتشهيرِ بكل عضواتها، والهجومِ على أي حق تنتزعه المرأةُ المصرية في مسيرة تحررها ….

وفي كتاب الأخوات المسلمات، لم تفلت من سهام القذف والطعن حتى في سمعتها الشخصية، لم يفلت رجلٌ ذكرَ له التاريخ أنه شاركَ أو ساهمَ في تلكَ المرحلة بالفكرِ والجهدِ من القذف: فالطهطاوی، ضعيفٌ ومغفل بسبب ابتعادهِ عن عقيدته الصافية” *[خيال – الجوهري المصدر السابق ص 437] وقاسم أمين والأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول، جميعهم ماسونيين وعبيد لليهودية العالمية والاستعمار الغربي، أما هدى شعراوى ونساءُ جيلها فهن منحلات …!!! **[ خيال – الجوهرى المصدر السابق ٢٣ ص ٤٩٨]

وسنجد تلكَ القذائف من السباب في جميع كتب الأخوان المسلمين والجماعات الإسلامية التي تناولت موضوع حركة تحرير المرأة…. ذلك لأنهم يفهمون حقوقَ النساء في المساواة السياسية على أنها فسقٌ وفجور، وفى نداء عام للأخوات المسلمات وجهته الجماعةُ في الاحتفال بالعيد السنوي الأول للأخوات المسلمات في أمريكا نجدُ أن:

التعاون بين قسم الأخوات المسلمات وبين الجمعيات النسائية الأخرى مُنعدمًا، نظرًا لاختلاف النظرتين والأهداف: فالأخواتُ يعملنَ على صد غارات العدو عن حصون الأمة، والنسائيات يعملنَ مع العدو لدك حصونِ الأمة…..”

وهذا الحديثُ الدعائي الذي يُطلقه الإخوان المسلمون من أحد معاقلهم بأمريكا، ينسى أن تاريخَ الأخوات المسلمات الذي يدعونَ أن هدفه هو صد غارات العدو، لم يُشارك طوال تاريخ مصر النضالي من أجل الاستقلال وخروج الإنجليز، سوى بمذكرة احتجاج مهذبة الأسلوب، تقدم بها قسمُ الأخوات المسلمات إلى المندوب السامي البريطاني:

في مارس ١٩٤٦ تقدم يقصد قسم الأخوات إلى المندوب السامي البريطاني بالقاهرة بمذكرة احتجاج على اعتداءات جنود الجيش البريطاني المحتل على الآمنين من المصريين.*[مجلة الحوادث العدد ١٥٤٣ الجمعة 30 مايو ١٩٨٦م]

مع ملاحظة أن أسلوبَ المذكرات كانَ الواقعُ المصرى قد تجاوزه منذ زمن بالمظاهرات والإضرابات وغيرها، فهل يمكنُ تصور أن نساء حركة تحريرِ المرأة اللاتى خرجن ضد الاستعمار، وشاركن في الإضراب بل وحرضنَ عليه وساعدن في تنظيمه، يُمكن أن يعملنَ في نفس الوقت مع العدو الذي يناهضونه لدك حصون الأمة….؟

إن دعايةَ الجماعات الإسلامية الإنشائية تلجأ في الحقيقة إلى أكبر قدر من الديماجوجية في مخاطبة جمهورها بهدفِ استثارته ضد المحاولات العقلانية في التاريخ.

وقد رأى البعضُ أنه إذا كان فرعُ الأخواتِ المسلمات قد تكون من زوجات زعماءِ الإخوان وبناتهم، فإن قيادةَ حركة تحرير المرأة قد كانت قاصرةً أيضًا على زوجات زعماء الوفد أمثال هدى شعراوي زوجة على شعراوى أحد زعماء ثورة 19، وصفية زغلول زوجة سعد زغلول، وإستر ويصا واصف زوجة ويصا واصف، وغيرهن من بنات الطبقة الراقية والبرجوازية الصاعدةفهذا صحيح.

ولكن هل يمكن أن نستنتجَ من ذلك أن حركة تحرير المرأة كانت مجردَ جناح من أجنحة حزب الوفد، وأنها كانت تابعةً لسياسته ؟

واذا كان سبق لنا الحديثُ عن أن حركةَ السيدات لم تكن قاصرةً على التنديد بالاستعمار الإنجليزي والمطالبة بالجلاء، بل أدركت خصوصيةَ وضع المرأةِ، وضرورةِ المطالبة باستقلالها وتعليمها وعملها في شتى المجالات.

فإن التاريخَ يذكرُ لنا أيضًا أن العلاقةَ بين لجنة الوفد للسيدات وباقي الحزب لم تكن علاقةً تبعية، حتى أن تلك اللجنة أعلنت احتجاجها على أعمال الوزارة عام ١٩٢٣ وهي وزارة وفدية برئاسة سعد زغلول لأنها أغفلت مجهودَ المرأة وكفاحها فلم تُشركها في البرلمان والحياةَ النيابية، وتطورَ أمرُ الخلاف حتى هاجمت هدى شعراوی سعد زغلول وهو زعيمُ الأمة* في ذلك الحين.

وأعلنت الصحفُ أنه: “لا يوجدُ خطرٌ على القضية المصرية أكبر من أن يتولى المفاوضات مع الانجليز رجلٌ يعترفُ علانيةً أمام هيئة نيابية بأنه عاجزٌ عن تنفيذ ما عاهد به الأمة.

وكان عهدُ سعد زغلول الذي لم يُنفذه خاصًا بدخولِ المرأةِ البرلمان وإشراكها في الحياةِ السياسية الرسمية، وخرجت مُظاهرةٌ بزعامة هدى شعراوی تطالبُ بدخول المرأة البرلمان في يوم افتتاحه.

وحينما بلغ الخلافُ بين هدى شعراوى وقيادةِ حزبِ الوفد حدًا ملحوظًا، سعت إلى تشكیل تنظیم نسائي آخر في 16 مارس ۱۹۲۳ على أنقاض لجنة الوفد المركزية للسيدات وعُرفَ باسم الاتحاد النسائي المصريولم يكن هذا هو الخلافُ الوحيد بين حزب الوفد وزعيمة النهضة النسائية، حيثُ لم يكن للحركة النسائية فقط، بل كان لها رؤيتها السياسية المستقلة أيضًا في فترات لاحقة، حيثُ عارضت هُدى شعراوى والاتحاد النسائي المصري معاهدةَ 1936 التي عقدها مُصطفى النحاس زعيمُ الوفد الثاني مع الإنجليز، ثم عارضت وبشدة موقف الوفدِ من حادثة 4 فبراير ١٩٤٢ التي تولى فيها حزبُ الوفد الوزارة برئاسة مصطفى النحاس تحت حماية الدبابات الإنجليزية.

وسواءً تفردت تلك الحركةُ بمطالبها السياسية التي اتفقت مع الوفد حينًا واختلفت معه حينًا آخر، أو تفردت بمطالبها النسائية التي اختلفت مع الوفد والقصر والقوانين والتقاليد

إلا أنها وفي كل الحالات كانت تعبيرًا عن مطالب قطاع من النساء البرجوازية التي تأثرت بظهور التيار الليبرالي في الفكر المصرى الحديث، ومحاولة تهيئة المناخ للتطور الاقتصادي والسياسي.

على قدر تكتلٍ المرأة وقوة حركتها استطاعت أن تنتزع بعض الحقوق الملائمة لمدى تطور المجتمع في ذلك الحين. وظلت هناك مجالاتٌ للعمل لم تستطع حركةُ تحرير المرأة إقتحامها، مثل حقلِ الفضاءِ والنيابةِ والبرلمان وإدارة الدولة وغيره، كما ظلت تحت وطأة قوانين الأحوال الشخصية ذات الصبغة الدينية، وظل التعليم العالي والوظائف حكرًا على عدد محدود من نساء الطبقة العليا، على الرغم من انسياب أفكار تلك الحركة في شرايين البرجوازية وإحداثها لمجرى أكثر اتساعًا في الثلاثينات والأربعينات، التي شهدت نهايةَ انحلالِ جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٤٩ بعد اصطدامها المباشر مع جهاز الدولة، ومات حسن البنا، وانتهت الحلقة الأولى في تاريخ الإخوان والأخوات، دون أن تستطيع إيقاف تيار حركة تحرير المرأة.

ومع الحلقة التالية للإخوان المسلمين بقيادة المرشدِ العام الثاني حسن الهضيبي، وما واجهته الجماعة في محنة الحل الثانية عام 1954، وجدت نساءُ الأخوان أو ما يُسمى بالأخوات المسلمات أنفسهن أمام ضروة القيام بالدور الخدمي، فتألفت لجانُ الزيارات للسجون، وأصبحت زوجاتُ الزعماء هن حلقةُ الوصل مع الملك سعود من ناحية، والإخوان من ناحية ثانية. كما يتضحُ من رسالة زوجة الهضيبي إلى لملك سعود بعدَ أن تشفع في تخفيف الحكم على زوجها**

كما دخلت القليلاتُ منهن السجن، مثل زينب الغزالي أمامَ التنكيل الناصري الشامل بهؤلاء الأعداء السياسيين لنظامه….

ولكن ماذا فعل عبد الناصر بعد القضاء على خصومه السياسيين إزاءَ قضيةِ المرأة؟

يذكرُ لنا تاريخُ تلك الفترة أن بعض الحقوق قد أعطيت للنساء على المستوى القانوني، كحق التمثيل في المجالس النيابية مع تحديد العدد أو النسبة، وحق الترقى في المناصب الإدارية، وحق المشاركة في مجلس الوزراء. مع الاحتفاظ بقوانين الأحوال الشخصية كما هي من الناحية الجوهرية، وبشكل يؤكدُ قَوامَةَ الرجل وتبعية المرأة

كما راحت أجهزةُ الإعلام الناصرية تعبرُ عن هذا الوضع المزدوج، فتتحدثُ عن عمل المرأة ولكن في حدود . وبذلك حاولت السلطةُ الناصرية السيطرةَ على الحركةِ النسائيةِ واستيعابها في أجهزتها الرسمية، لمحاصرتها سياسيًا واجتماعيًا.. فإذا كانت النساءُ يطالبنَ بالعمل والترقي في المناصب، فهي تُعلنُ أنها تسمحُ بذلك وترحبُ به، ولكنّها تحتفظُ لنفسها بحق الرقابة والتعيين في تلك المناصب بشكل محدود ومُعد سلفاً

حتى أن عددَ النساء الشاغلات للمناصب العليا في تلك الفترة لا يكادُ يُذكر. “في عام 1961 عينت الدولةُ أربع سيدات فقط في مناصب إدارية“*[ إقبال بركة تأثير الفكر العربي المعاصر على حركة المرأة بحث مقدم إلى المؤتمر الأول لجمعية تضامن المرأة العربية.]

وإذا كانت النساءُ يطالبنَ بالتمثيل في الحياة النيابية، فإنه يُمكنُ تمثيلهن عبر مصفاةِ النظام فقط.

كما حدثَ حينما عَينتِ الدولةُ وزيرةً للشؤون الاجتماعية، تُشرف من خلال منصبها على جميع الجمعيات النسائية.

وهكذا على الطريقة الناصرية، يُمكن أن تتحدث أجهزةُ الإعلام عن المساواةِ والحقوق النسائية، حتى تُقنع النساءُ بأنها حامية مصالحهن، ولكن بهدوء لا تُعطى على المستوى الفعلى سوى فُتات الحقوق، وفي أضيق الحدود

بالإضافة إلى الرقابة السياسية الشديدة، حتى يظل اختيارُ الوزيرةِ وعضوات مجلس الأمة وغيرهن من الصحفياتِ والإذاعياتِ مرهونًا باختيار أجهزةِ الدولةِ ومصالحها الطبقية

وبذلك لا يتمُّ اختيارُ ممثلات للنساء، وإنما ممثلات لمطالب الدولةُ أو لما تريده الدولة من النساء، تمامًا كما حدثَ في مختلفِ القضايا الاجتماعية بهدف استيعاب الضغطِ الجماهيري في إطار السلطة.

وعلى الرغم من هذا الموقفِ الوسطي للسلطة الناصرية إزاء وضع المرأة، إلا أنَّ التغييرات التي سمحت بها على المستوى القانونى لم تَسلم من رفض الإخوان المسلمين وانتقادهم لها، ليؤكدون بذلك رفضهم لأى حقوق سياسية يُمكنُ أن تحصل عليها النساء، حتى ولو كانت حقوقًا هامشية، فيقول خيالباستهجان شديد في كتابِ الأخوات المسلمات:

أصبحَ من حق المرأة في مصر التصويت في الانتخابات، والترشيح لعضوية المجالس النيابية والشعبية، والجلوسُ على كراسى الوزارة، وصدرت القوانينُ التي تؤكدُ هذه الحقوق وتلتها قوانينٌ أخرى: قانونٌ يفرضُ ثلاثين نائبة على الأقل في مجلس الشعب، قانونٌ يُفرض خمسة وعشرين في المائة من النساء على الأقل في عضويةِ جميع المجالس الشعبية والمحلية. قانونٌ يجعلُ الانتخابَ والتصويت إجباريًا على كل أنثى تبلغُ الثامنةَ عشر من عمرها، مع كونهما ليسا بالإجبار على الرجل، قانونُ تعديل أحكامِ قانون الأحوال الشخصية.

إن اشتراكَ المرأة في الحكم في أي صورة من الصور مخالفٌ للشريعة الإسلامية تمامًا، وهو بدعةٌ مستوردةٌ من الخارج عملت الثورةُ على اتباعها وتقليدها غير عابئة بأحكامِ الشريعة الغراء التي نصت على أنه لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة.

واشتراك المرأة في الوزارة، وفي مجلس الشعب والمجالس المحلية والمجالس الشعبية، هو اشتراكٌ فعليٌ في الحكم والولاية وهو ما لا يرضاه الله ورسوله*.

واضحٌ إذن العداءُ الجذري لدى الإخوان المسلمين. وبقية الجماعات الإسلامية بدرجات أشد لإشراك المرأة في أي رأى سياسي، حتى ولو كان ذلك من خلال محاولة وسطية لم تُعط إلا الفتات، كما في حالة حركة ٢٣ يوليه وتاريخها اللاحق. فالمرأة في نظرهم مكانها البيت دائمًا، وبرغم الاستهجان الإخواني، فلقد ظل الصوت الوحيد المتحدث باسم النساء والمانح لهن فتات الحقوق في محاولة استيعاب طاقتهن وتوظيفها لخدمة أهداف رأسمالية الدولة؛ هو صوت السلطةَ النصارية حتى انفجرَ الوضع عام 1968م, أمام عجز الدولة وفسادها الواضح, وخَرجت مظاهراتُ العمال والطلاب تُطالب بمحاكمة المسؤولين في تلك الخديعة الكبرى التي استغرقت شعبًا بأكملها ، وكانت نتيجتها هزيمة 5 يونيو ١٩٦٧ وفضائح محاكمات الطيران

وشاركت الطالباتُ بقوة في هذا التمرد على جهاز الدولة وبدأت أسئلةٌ جديدةٌ تنفجرُ في رحم تلك الحركة، عن وضع كل الطبقاتِ والقوى الاجتماعية في مصر….

عن وضع الرأسمالية التي ما عادت قبضة الدولة القوية تلائمها.

عن وضع الطبقة العاملة من ناحية أخرى. واكتشافها أن صيغة تحالفها مع الطبقات الأخرى كانت أكذوبةً طالما استغلتها واستنزفت قواها.

وعن وضع البرجوازية الصغيرة التي راحت تبحثُ لنفسها مرةً أخرى عن مكان وسط الصراع الدائر، يراودها في ذلك حلم الصعود السريع، بينما الواقعُ يهددها بالإفقار واحتمال الهبوطِ إلى درجة اجتماعية أقل..

وبالطبع فإن التحليل الطبقي لتلكَ الفترة مستقلة، لكن الواضح الزمنية يحتاجُ إلى دراسة مستقلة، لكن الواضح في هذا الصراع، والخاص بموضوع دراستنا, هو اشتراكُ عدد كبير من الطالباتِ في مظاهرات عام 1968 م، ونجاح اليسارَ في جذب قطاع كبير من جمهور الطالبات اللاتي تمردنَ على قيود السلطة الأسرية وسلطة الدولة، وشاركن في الإضراب عن الدراسة

 

والاعتصام، ومناقشة القضايا الوطنية المطروحة، كضرورة الحرب والانتصار على العدو الإسرائيلي.

ودخل عددٌ كبيرٌ منهن السجن ليسجلن بذلك علامة اتساع النطاق الجماهيرى لوجود المرأة السياسية. لكن الحركة اليسارية الواسعة التي كانت تطرحُ على نفسها مهمةَ مناقشةِ القضية وطبيعة النظام القائم، لم تُلق بالاً إلى خُصوصية وضع جمهورها من البنات من ناحية مناقشة وضعهن الاجتماعي، وحقوقهن في المساواة الكاملة.

وإذا كانت الحركةُ الطلابية اليسارية قد انحسرت بشكل ملحوظ بسبب أخطاء ليس الآن مكان دراستها .

لكن الوضعُ لا يعني التسليم الكامل، فلقد خرجت من هذه المعركة فتياتٌ لازلن يبحثن عن حل.. فاندرجت بعضهن في صفوف حزب اليسار الرسمي، الذي لا يستوعبُ عب طاقتهن بتقديمه للتفسيراتِ الإصلاحيةِ السهلة والجاهزة.

وتكونت بعضُ الجمعيات المستقلة .. كما لم ينضم إلى أي تنظيمات عددٌ لا يستهانُ به من بقايا جمهورِ حركةِ تحرير المرأة..

وخلالَ رحلة التسعين عامًا الماضية من عمر البرجوازية المصرية، نستطيعُ أن نرصد ببساطة أن جمهور حركة تحرير المرأة في البداية كان يعتمدُ أساسًا على النساء من بنات الملاك وكبار رجال الدولة، ثم دَخل الحلقةَ بنات مثقفي البرجوازية الصغيرة، حتى اتسعَ نطاقها الجماهيري، بين طالبات الجامعة وشرائح البرجوازية الصغيرة، والآن تجدُ أنَ نفس هذا القطاع من الطالبات وصغار الموظفاتِ وبعض ربات البيوت من الجمهور النسائي للجماعات الإسلامية. ويرصدُ البحثُ الذي أعده المركز القومي للبحوثِ الاجتماعية ظاهرةَ الحجاب:

أن الظاهرةَ اتضحت في البيئات الحضرية بشكل رئيسي، بمعنى أنها انتشرتَ في المدن الرئيسية أكثر من انتشارها في قرى الريف.

أن هذه الظاهرة شملت معظم فئات العمر بين الإناث، إلا أن الانتشارَ لظاهرة الحجاب كان بالإحساس بين الشابات، خاصةً طالبات الجامعة، حيث انتشرَ من الجامعات الرئيسية: (القاهرة – عين شمس – الإسكندرية) إلى ما عداها.

أن الظاهرة قد انتشرت بينَ مختلفِ المستويات الثقافية المتباينة، بحيث تجدُ أن انطلاقها الرئيسي كان من المستويات الثقافية العليا والمتوسطة، ثم انتشر منها إلى مختلف المستويات الثقافية الأدنى من ذلك“.*[ خيال الجوهرى الأخوات المسلمات المصدر السابق الصفحات من ٢٣٧ إلى نهاية الفصل تحمل هجوم على كل رموز حرة تحرير المرأة حتى بعد ٢٣ يوليو.]

ويخلصُ البحثُ إلى أن الطبقةَ المثقفة المقيمة بالمدينة، والتي عملت على إنجاح دعوات قاسم أمين، خرجت منها بعد أكثر من نصف قرن، الدعوةُ إلى ارتداء الحجاب مرةً ثانية.

أما موقفُ عينة البحث من التعليمِ والعمل فكانت إجابة 76.5% من عينة المحجبات أن أهمية التعليم تنحصرُ في أنه يُعدُّ الفتاة لتكون زوجة صالحة.

والموافقاتُ منهنَّ على مبدأ عملِ المرأة، يخلطنَ هذه الموافقة بشروط الجماعات الإسلامية، ومنها أن يكون عملُ المرأة في مهن معينة كالطبِّ والتدريس أو أعمال أدنى في المكانة الاجتماعية في حالة العوز الاقتصادية. إذن فالصراعُ الذي كان يقوده مثقفو ومثقفات البرجوازية المصرية من أجلِ خروج المرأة للعمل، تقوده الآن نفس الشرائحِ الطبقية للعودة مرة أخرى إلى البيت والحجابِ، وبين الدعوة للتحررِ والدعوة للتحجب حوالي ثمانين عامًا، حققت فيها البرجوازية المصريةُ بعض مهامها في قضية تحرير المرأة، ومُنيت بالكثير من الهزائم.. ليعلَنَ لسانُ حالها أنها لا تستطيعُ إنجاز بقيةِ المهامفانكفأت على ذاتها مرةً أخرى، وراحت تبحثُ عن حل يُخرجها من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تُطبقُ على صدر جُمهورها من الموظفين والموظفات، والتكنوقراط وصغارُ التجار والحرفيين وزوجاتهم.. راحت تبحثُ عن حل يَنفى عنها العجزَ.. ويجدُ هذا الجمهورُ المتعبُ والمثقفُ بالهزائم في أشدِّ الدعوات عنصريةً وديماجموجية، ما يظنُّ أنه الحل!…

شارك:

اصدارات متعلقة

أزمات متوازية، ما نصيب النساء منها؟
الانتقام الإباحي.. تهديد رقمي يلاحق النساء ويقتلهن أحيانا
هل يجب علينا الاهتمام بالتغيرات المناخية
نص مليون من العاملين / ات بالخدمات المنزلية منزوعين/ ات الحقوق
التغيرات المناخية تمثل خطر كبير علي صحة الحوامل والأجنية بشكل خاص
“تمكين النساء لمواجهة التغيّرات المناخية”… مبادرة “عالم بالألوان” في مصر
نساء السعودية.. حقوق منقوصة وقمع متواصل
العنف الأسري ضد المرأة