سيدة المنام

تاريخ النشر:

2007

تأليف:

سيدة المنام (*)

سحر الموجى

أحب أوقات اليوم إليها وقت السحر تجلس فيه على المكتب المكدس بكتب وأقلام وأوراق بيضاء. يلفها صمت مفعم بالكلمات والموسيقي. لابد وأن تهدأ قليلاً حتى تبين شكل الحروف وصدى النغمات. من أين تبدأ ! سؤال أبدى يحيرها دومًا لأن كل قصة تبدأ من مكان مختلف. وكل نغمة تأتى من زمن غير الزمن، تغمض عينيها وتنتظر أن يهديها الفجر وليدًا. جلست القرفصاء في فسحة دار طينية صغيرة متهالكة تحت سماء صعيد مصر وسط حقول القمح المتمايلة على نغمات ريح بحرية. على حجرها استلقى رضيع متشبث بالثدى المستدير المتدفق شهدًا أبيض. انعكس وهج الفرن على عروق رقبتها النافرة وعلى سمرة وجهها الشاحب فاكتسى حمرة. انحدرت حبات عرق مالح على الثدى العاري المغطى بغبار دقيق العجين. أخذت يداها الكبيرتان الخشنتان تكوران العجين الدافئ المختمر. تفرده وتزج به داخل الفرن المشتعل بعد أن تكون قد أخرجت الأرغفة المستديرة وردية منتفخة. في ورشة عملها المطلة على زرقة المتوسط جلست لفترة طويلة يلفها هدوء كونى إلا من صوت هدهدة الأمواج يأتى من بعيد. أخذت تتأمل القطعة الجرانيتية المصمتة المثبتة فوق حامل حديدي في منتصف الغرفة. تحبها. ترويها من دفق خيالها ما أن اطمأنت إلى نشوء علاقة مودة بينهما حتى بدأت يداها في استخدام الأزميل والمطرقة. انقضى نهار واثنان وثلاثة. خبطة هنا وخبطة أخف هناك. خبطة هنا وخبطات أعنف هناك. يرفض الحجر أن يلين فتؤلمها دقات الأزميل الموجهة إلى رأسها هي. تبتعد قليلاً. تقترب. تمسك أزميلها من جديد ويداها تحاولان تطويع الحجر. وعيناها تحاورانه، تتشاجران معه. تهمسان إليه بحوار جديد. قطة حجر تطير وتفترش شظاياها أرض الغرفة وأخرى تعاند اليد الحازمة لوهلة ثم لا تلبث أن تتهاوى بين رقة الأصابع العارفة. تواترت دقات الأزميل مع حبات عرق مالح يسقط من جبين يقطر ألمًا سعيدًا عند رؤيته الحجر يكشف عن التواءة يد صغيرة بضة وذراع منمنمة في جسد وليد مفتوح الفم.. دهشة.. ضحكًا.. أم ألمًا ! دبت القدمان القويتان على أرض الدلتا السوداء اللدنة، أزاحت يداها عيدان الذرة الصفراء حتى وصلت إلى أول الحقل. شدت ربطة رأسها. رفعت بقوة الفأس لأعلي، ستقوم بعمل زوجها إلى أن يعود من بلاد النفط والغربة والموت.. بدأت تقلب طمي الأرض بعد أن اجتثت العروق الصفراء بالمنجل. مر الوقت عليها حتى اختفت لسعة صهد الشمس وجفت أنهار العرق. لم تتذكر حملها إلا مع إحساسها بطاقات الألم المتتالية تدق ظهرها بعنف من قرر ألا يتيح لها فرصة الذهاب للدار أو النداء على القابلة. جرجرت قدميها إلى شاطئ النهر وخناجر الألم تبعثرها أشلاء. أطلقت صرخة استجاع كل ما لديها من مخزون قوة سنين لا تعرف عددها. اندفق فيضان دماء وأغشية لحمية وسوائل بنية داكنة يغرق طين الأرض العطشى دومًا. انزلقت إلى الأرض المخضوضرة حديثًا طفلة خمرية حلوة الطلعة، مغمضة العينين، مفتوحة الفم، صارخة. تناولت المنجل وقطعت حبل الحياة الرابط بينهما ثم نزلت حتى وسطها في مياه النهر تزيح عن سمرة جلدها الدماء ولا يزال ألم الحلم الفرح يعتصرها. تناولت الطفلة من على الأرض وحممتها في دفقات مياه النهر المتتالية. لفتها في منديل رأسها الأبيض. تعرف ماذا ستسمى الطفلة. منذ أسبوع جاءتها امرأة جميلة في منام مبروك. سطع في الحلم قمر مكتمل النور وظهر لها جسد المرأة ممشوقًا ملفوفًا في ثوب بلون خضار الأرض وفى يديها كتاب وسنابل قمح ووليد مفتوح الفم. جاءتها وطلبت منها إن رزقها الله ببنت أن تسميها على اسمها. وهي لن ترفض لسيدة المنام الجميلة طلبًا! “إيزيس” هو اسم وليدتها.  

(*) من مجموعة سيدة المنام، دار شرقيات للنشر والمعلومات، 1998.

الكلمات المفتاحية: قصة قصيرة
شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي