قصة…طيبة

تاريخ النشر:

2002

طيبة

أماني أبو زيد*

يحكى أن وردان اسم لرجل كان يعيش في بلد من بلاد الرحمن، ولوردان حكاية ولاسمه قصة، فوردان ليس باسمه الحقيقي، ولكن كانت له سبع بنات وكان يقال له يا أبا الوردات.. ومع مرور الوقت أصبح الناس يقولون له وردان.

عاش وردان سعيدًا ببناته فخورًا بهن، فقد كن خير مثال للعلم والثقافة والحكمة، فكن ينظمن الشعر كما كن كاتبات وفقيهات يفقهن الرجال والنساء في أمور دينهم ودنياهم. ولكن ضاق العيش بوردان وبناته وشح الرزق ببلدهم، وكان وردان قد كبر ووهن فقررت بناته ضرورة الرحيل وراء لقمة العيش، وبعد المشاورة قررن أن تقوم صغراهن بهذه المهمة على أن تمكث أخواتها في محاولة لكسب العيش في بلدهم والعناية بأبيهم وردان.

ركبت طيبة وكان هذا اسمها النهر الكبير ليأخذها إلى مدن أخرى وأناس آخرين. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد هبت عاصفة هوجاء وارتطمت المركب بالصخور فحطمتها وبعثرت من فيها.

وأفاقت طيبة لتجد نفسها في مدينة واسعة، مترامية الأطراف. ولشد ما أعجبت طيبة بأبنية تلك المدينة وعظمة قبابها وروعة صنعتها وكثرة عددها، واستبشرت خيرًا بالضوء المنبعث من مشكاواتها وقالت في نفسها: “سيوسع الله على الرزق في هذا المكان فقد آنست له وأحببته“. واتجهت إليها تأنس بها في تعبها من رحلتها وغربتها وبعدها عن أهلها ووطنها.

وما أن همت بالدخول حتى خرج عليها جمع من الناس وعلى وجوههم علامات الغضب والاستنكار وأصواتهم تنذر بالشر يمنعونها من الدخول. ودهشت طيبة لأمر هؤلاء الناس وقالت في نفسها: “لابد أنهم غير معتادين على وجود غرباء بينهم، ولكني سأروي لهم قصتي حتى يرحبون بي ويدعونني للدخول.” ثم قالت: “اسمي طيبة، في أهلي فقيهة وخطيبة، وقد رحلت عن بلدي وراء الرزق وجاءت بي الأقدار الى بلدكم وما قصدت الدخول إلا لاستريح من عناء رحلتي وما لاقيته فيها من مصاعب“.

نظر الناس إلى بعضهم في اندهاش وصاح أحدهم: “إنسية تلك أم تراها من أهل الجان؟ ومن أين جاءت؟ لا نفهم ما تقول“. وقال آخر: “إنسية كانت أم جنية فلن تقرب هذا المكان“.

ردت طيبة: “أنا لست جنية. أنا طيبة. أعيش مع أبي وردان وأخواتي الست، هناك، على الضفة الأخرى من النهر حيث نعبد الله الواحد القهار، الغفور الرحيم، الذي خلقنا من نفس واحدة فسوانا ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسني ونسبح له“.

نظر الناس إلى بعضهم ولم تزل دهشتهم بهم وقالوا: “ما هذا الكلام الغريبٌوما كان منهم إلا أن أخذوها إلى قاضي القضاة عَلّه يفهم ما تقول، وليقول هو كلمته في أمرها. وأمام القاضي حكت طيبة قصتها مرة أخرى، لكنه، مثله مثل بقية أهل البلد لم يفهم ما قالت.

وحقيقة الأمر أن قاضي القضاة لم يكن مهتمًا بما قالته طيبة قدر اهتمامه بجمال عينيها وحسن قوامها.. وبعد صمت طويل، وتأمل عميق قال قاضي القضاة كلمته في أمرها: “إن أمرها فعلاً غريب ويبدو أن مسا من الجنون قد أصاب تلك المسكينة وإني أرى أن خير علاج لها هو أن نزوجها حتى نعيد لنفسها الهدوء والسكينة علها تعود إلى صوابها وترجع إلى رشدها فنفقه قولها. وإني والله محب للخير فعال له وقد قررت الزواج منها، ابتغاء وجه ربي وحسن ثوابه. وسيكون زفافنا بعد ثلاثين ليلة من اليوم إن شاء الله.”.. لكن الله لم يشأ.

فقد أراد الله لطيبة أن تنجو من هذه المصيبة. فما أن مرت أيام حتى مرض قاضي القضاة مرض عضال احتار في أمره الأطباء ولم تفلح معه دعوات أهل البلد له بالشفاء.

ولم يكن يحزن القاضي ويؤلمه، في تلك الأيام الأخيرة العصيبة، إلا عدم تمام زواجه بطيبة. وذلك، بطبيعة الحال ودون أدنى شك، ابتغاء مرضاة ربه بإصلاح حالها وإرجاعها إلى عقلها وصوابها. ولكن القدر لم يمهله فقد توفي قاضي القضاة دون أن يتم معروفه الأخير في هذه الدنيا.

وبينما علا صوت المنادي يعلن وفاة القاضي، سمعت طيبة صوت المراكبي العجوز معلنًا العودة إلى الضفة الأخرى من النهر.. إلى هناك حيث كانت تعيش طيبة مع أهلها تكلمهم ويكلمونها، تفهمهم ويفهمونها.

اشتاقت طيبة إلى العودة، وجلست على شاطئ النهر. وبينما هي تفكر في أبيها وردان وأخواتها الست حفرت أصابعها كلمات على الشاطئ الطيني المخضب بحمرة الفيضان:

سأبقی.. .

وحديثي سيفهمون وبلغتي سيتكلمون

وبربي سيؤمنون.

 

* أخصائية النوع والتنمية. باحثة في ملتقى المرأة والذاكرة، عضو فريق قالت الراوية.

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي