ملك حفنى ناصف

ملك حفنى ناصف بين رؤى قديمة وجديدة

إن التعتيم والتقليل من أهمية ذكـرى ملك حفني ناصف وذاكرتنا عن حـيـاتهـا وأعمالها جزء من الخطاب السائد عن الحداثة وعلاقته بتاريخ المرأة المصرية. هناك شبه إجماع من داخل هذا الخطاب بأن أفكار هذه الكاتبة أقل أهمية من أفكار أب الحركة النسوية الحديثة قاسم أمين، وأمها هدى شعراوي. المقارنات الكثيرة التي تعقد بين أفكار قاسم أمين وملك حفنى ناصف تقدم الأخيرة كأكثر محافظة وأقل ثورية لأنها انتقدت دعوة الأول لرفع الحجاب عن المرأة، لأنها لم تأخذ في الاعتبار معاملة الرجل المصرى غير اللائقة للمرأة في الشارع خلال هذه الفترة. هناك أيضاً مقارنات غير عادلة تعقد بين ناصف وشعراوى رغم أن الأخيرة لم تكن شخصية مهمة أو ذات أفكار نسوية مهمة في الفترة التي كتبت فيها الأولى. إن كتابات ملك في العقد الأول من القرن العشرين قدمت الرأي المستقل والرؤية الخاصة للمرأة النابعة من معرفتها بظروف حياتها وخصائص الحياة الاجتماعية المصرية. رغم ذلك فهذه المقارانات تقدم ناصف وكأنها شخصية نسوية تراجعت عن الطريق الثوري الذي بدأه أمين بالدعوة ضد الحجاب، أو كما لو أنها وقفت في منتصف الطريق الذي أتمته بعـدها هدى شعراوي بعناقها الحار للحركة النسوية الغربية في العشرينيات من هذا القرن.

في محاولة لتوضيح كل هذا، أود أن أبدأ الورقة بمراجعة ما كتبه المؤرخون المصريون وغير المصريين عن ملك كجزء من تعريف الخطاب السائد عن الحداثة وتاريخ المرأة المصرية. في الجزء الثاني من الورقة، أريد تقديم خطاب نقدي جديد عن الحداثة تطرحه هدى الصده عن ناصف بوصفه جزءاً من مشروعها(ومشروع ملتقى المرأة والذاكرة) لتشكيل ذاكرة المرأة بطريق معاكسة تصلح أساساً لفهم جديد ومختلف.

أ- ملك حفنى ناصف في خطاب الحداثة:

في كتابه الجذور التاريخية لتحرير المرأة المصرية في العصر الحديثوالذي صدر عام ١٩٨٣، يذكر محمد كمال يحيى في نهاية فصل بعنوان المرأة المصرية شريكة الرجلدور ناصف في النضال السياسي والاجتماعي لمصر الحديثة. في هذا الفصل، يبدأ يحيى بتقديم الحملة الفرنسية بوصفها نقطة بداية لتاريخ مصر في القرنين الماضيين ومقاومة شعبها لأهدافها الاستعمارية. في هذا المجال، يذكر يحيى أن النساء المصريات ظهرن بوصـفـهـن مـقـاتلات في الدفاع عن الإسكندرية وكن ضـحـايا عنف الفرنسيين. زيادة على ذلك، قامت النساء المصريات بجمع أوانيهن النحاسية لصبها من جديد لتصبح ذخيرة حية يستعملها المقاتلون الرجال(۱).

وعلى الرغم من عنف الفرنسيين ونواياهم الاستعمارية تجاه مصر، يقول يحيى إن حياة المرأة المصرية أو القاهرية بالتحديد تأثرت بتقاليدهم الاجتماعية والتي كان فيها كثير من التسامح والتلطفبين الرجال والنساء في نفس الوقت أدت الخلطة العلنية بين الرجال والنساء إلى ظهور اللهو والخلاعة” (٢).

فيما سلف يقترح الكاتب دور مزدوج للفرنسيين وللنساء المصريات. فالفرنسيون غزاة وقتلة، ولكنهم أيضاً يمثلون تقاليداً اجتماعية متسامحة ولطيفة! رغم سماحة هذه التقاليد، فلقد أدت إلى اللهو والخلاعة قيم ممقوتة في الثقافة المصرية آنذاك وقد كان وقت نشر هذا الكتاب في الثمانينيات من القرن الحالي.

للمرأة المصرية دور مزدوج كذلك في تاريخ هذه الفترة: فهي مقاتلة وإنسانة فاعلة لكنها أيضا ضحية العنف. وأخيراً، إن تعريف دورها الاجتماعي يصبح ساحة قتال رمزية بين الثقافتين الفرنسية والمصرية. فالخلطه العلنية تجعلها ممثلة للعادات الفرنسية التي تدعو للهـو والخلاعة، وفي نفس الوقت دورها التقليدي يجعلها رمزاً للتخلف الحضاري الإسلامي.

يقدم يحيى دور عائلة محمد على مؤسس الدولة الحديثة وعملية تحديث المجتمع المصرى بطريقة مماثلة من حيث ازدواجيتها. “فالإصلاحات التي نفذها أدت إلى تخلخل النظام القديم وبدء عملية تغير اجتماعي وتعبئة اجتماعية، شملت قطاعات عريضة من المجتمع وأدت إلى مزيد من الاتصال بالعالم الحديث ومعرفة النخبة المتعلمة في مصر بما يجري في العالم المتقدم(۳).

في نفس الوقت، أدت سياسة التجنيد الواسع النطاق إلى تفكيك العائلة المصرية. نتيجة غياب الرجال ووفاة الكثيرين في هذه المغامرات العسكرية. في هذا السياق، يقول يحيى إن كثيراً من زوجات الجنود أقمن علائق جديدة [مع رجال آخرين]”(4).

في نفس الوقت، استعمل محمد على العنف ضد نساء الطبقة التجارية واللاتي تظاهرن احتجاجاً على مصادرة الأراضي الزراعية التي كانت ضمن التزامتهن. وقد أدت سياسة السخرة والديون إلى عدم استقرار الأحوال الاقتصادية والسياسية في عهد إسماعيل وانتهت بالاحتلال الإنجليزي لمصر. مرة أخرى، شاركت (المرأة) الرجل هذا الوقت العصيب ووقفت من خلفه تدفعه وتسانده للدفاع عن كرامة الوطن بل وتبعث فيه الحماسة والتضحية. وليس أول ذلك أن أثناء ضرب الإسكندرية في 11 يوليو ۱۸۸۲، سقطت بعض الضحايا بمدافع الإنجليز وكانت منهم جثث النساء، في الوقت الذي كانت المرأة المصرية مسجونه في بيتها، تقوم بينها وبين الطريق أسوار عالية من التقاليد المتوارثة والمفاهيم المتخلفة“(5).

يقول يحيى إنه حين تجدد النضال في أعقاب الاحتلال شاركت المرأة في الكفاح السياسي“. “حضرت مجموعة من السيدات باليشامك والحبر إلى دار اللواء وجلسن في ركن قصى وقام مصطفى كامل بتوجيه الخطاب إلى السيدات والسادة. وكان هذا موضع اعتزازه وفخره. ناهيك عن دور الـ الجريدةوحزب الأمة في تشجيع المرأة في العمل السياسي، وتمثل خطب ملك حفنى ناصف معلماً بارزاً في هذا الشأن (6).

فيما تقدم، يناقش يحيى الحداثة على أنها جزء من عملية التقدم على الرغم من نتائجها المأساوية لرجال ونساء الأغلبية من الفلاحين، والذين عانوا من التجنيد وسياسة السخرة والديون. وعلى الرغم من أن المرأة كانت شريكة كاملة للرجل في المعاناة، فإن مشاركتها في الكفاح القومي تقدم بطريقة جزئية ورمزية. فيحيى يختم هذه المناقشة بالقول بأن المرأة في هذه الفترة كانت غالباً مسجونة في بيتها خلف أسوار عالية من التقاليد المتوارثة والمفاهيم المتخلفة“. دورها في النضال يأتي في أوقات حرجة أو في مناسبات ذات أهمية رمزية يقوم بمسرحتها رجال الحداثة، مثل حضور النساء اجتماعات اللواء حتى يستطيع مصطفى كامل أن يقول أيها السيدات والسادة، أو مشاركة ملك حفنى ناصف في النشاط السياسي نتيجة لدعوة لطفى السيد وحتى يصبح حزب الأمة ممثل لبرنامج الحداثة الاجتماعي. باختصار إن اشتراك المرأة في هذه الأنشطة يمثل رد فعل لقرارات وأفعال الرجال.

في كتاب لطيفة سالم المرأة المصرية والتغيير الاجتماعيالذي صدر عام ١٩٨٤، تقدم المؤرخة ملك حفنى ناصف بوصـفـهـا مـثـلاً لظهور بوادر تحرير المرأة على يد المثقفاتأو اللائي يمثلن الحلقة الأخيرة لعملية التغيير. لطيفة سالم تشارك يحيى في رؤية النهضة الجديدة بوصفها نتيجة للاحتكاك بالغرب (أي الحملة الفرنسية) ثم يتولى محمد على بناء الدولة الحديثة. والكاتبة تعطى أهمية كبرى لدور المبعوثين المصريين إلى أوروبا من أمثال رفاعة الطهطاوي وخـاصـة قاسم أمين الذين قاما بالدعوة لتحرير المرأة(۷).

في نهاية هذه المناقشة تذكر سالم أن ناصف أول من نالت الشهادة الابتدائية ودبلوم المعلمات. هذه الشهادات أعطتها لقب المرأة المثقفة والمتعلمة والتي عن طريقها بدأ التأكيد على دور هذه الفئة من نساء الطبقة المتوسطى في النهضة بصفة عامة والنهضة النسائية بصفة خاصة. وجزء من هذا الخطاب يعتمد على توزيع جديد لعلاقات القوة بين الرجال والنساء، ونساء الطبقات العليا والمتوسطة ونساء الطبقة العاملة. فبما أن الرجال يقودون عملية النهضة فهناك قبول لوضعهم المتميز في المجالات كافة. أما عن النساء في المجتمع الحديث، فهناك تمييز بين نساء الطبقات العليا والمتوسطة والذين اشتركوا في النهضة في فترة متأخرة، ونساء الطبقة العاملة الذين حرموا من هذه المشاركة. فالمجموعة الأولى استطاعت عن طريق التعليم الهروب من التخلف إلى التنوير. أما عن نساء الفلاحين وفقراء المدن، فحرمانهم من التعليم يجعلهم رمزاً للتخلف، والذي يعطي شرعية جديدة لتهميشهم واستغلالهم. صحيح أن هذه العملية تقود لتهميش فقراء الفلاحين من الرجال ولكن نساء الفلاحين يقفن في آخر درجة من السلم الاجتماعي.

أخيرا في كتاب آمال السبكي الحركة النسائية ما بين الثورتين ١٩١٩ و١٩٢٥، تعطى المؤرخة قاسم أمين مركز الصدارة في الفترة الأولى من تاريخ تحرير المرأة، وتذكر أن نتيجة [دعوته إلى تحرير المرأة] أن تشجعت قيادات نسائية مثل باحثة البادية فألقت العديد من الخطب بالجامعة المصرية وألقت العديد من البحوث حول أهم قـضـايا الزواج والمرأة“(٨). هنا لا تذكر المؤرخة ملك حفنى ناصف بالاسم بل عن طريق الاسم الذي كتبت به، مؤكدة تخلفها وعدم تحررها من قيود مجتمعها. هي أيضاً لا تقدم ناصف ككاتبة ذات رؤية خاصة بل تقدم خطبها وأبحاثها كأحد آثار دعوة قاسم أمين. حتى المواضيع التي تخصصت فيها ناصف تعتبرها السبكي مواضيع خاصة عن الزواج والمرأةوعليه لا تستحق أن تعطى اهتماماً عاماً.

المؤرخات والكاتبات اللائي يستعملن اللغة الإنجليزية بوصفها جزءاً من توثيق المرأة المصرية لا يختلفن مع المؤرخين والمؤرخات المصريات في رؤيتهم لناصف وعلاقتها بالحداثة. نعم هناك بعض الاختلافات النظرية ولكنهم ينتـمون جـمـيـعاً لنفس خطاب النهضة والحداثة. في هذا المجال، دعوني استشهد بكتابات مارجو بدران، ليلى أحمد وبث بارون عن الكاتبة.

سأبدأ ببدران، وكتابها فتح الأبوابوالذي نشر عام 1990. في هذا الكتاب، تبدأ الكاتبة بتوصيف نوعين من الفكر النسوي: فكر نسـوى رجالي وفكر نسـوى نسائی. تدعى الكاتبة أن هذه الكتابات أنتجت خطابين وليس خطاباً واحداً وأن ما يميزهما عن بعضهما هو نقطة البداية. الفكر النسوى الرجالي نتج عن الاحتكاك بالغرب ودور المرأة الظاهر فيه“(٩). في هذا الطرح تتفق بدران مع محمد كمال يحيي ولطيفة سالم في أن بداية الحداثة والفكر النسـوى مـسـتـوردة من الغرب. أما عن الفكر النسـوى النسائي فلقد نتج عن تعليم النساء وتفكيـرهـن في نمط حياتهم خلال هذه الفترة الحافلة بالتغيير. وتقول بوضوح إن الفكر النسوي النسائي يبدأ بمقولة إن الإسلام يؤيد حقوق المرأة والتي حرمن منها نتيجة العادات والتقاليد التي فرضت عليهن باسم الإسلام. وأن الفهم الصحيح للإسلام وممارساته يقود المرأة إلى حقوقها وينفع العائلة والمجتمع“(۱۰).

إذا كانت هذه الرؤية خاصة بالكتابة النسائية الحديثة وتميزها من حيث المنهج من كتابات الرجال، فلماذا نراها في كتابات قاسم أمين؟ في كتابه المرأة الجديدةيقـول: “المطلع على الشريعة الإسلامية يعلم أن تحرير المرأة هو من أنفس الأصول التي يحق لها أن تفخر به على سواها، لأنها منحت المرأة من اثني عشر قرنا مضت الحقوق التي لم تنلها المرأة الغربية إلا في هذا القرن وبعض القرن الذي سبق، حتى إنها لا تزال محرومة من بعض الحقوق، وهي الآن مشتغلة بالمطالبة بها؟فإذا كانت شريعتنا قررت للمرأة كفاءة ذاتية في تدبير ثروتها والتصرف فيها، وحثت على تعليمها وتهذيبها، ولم تحجر عليها الاحتراف بأي صنعة والاشتغال بأي عمل، وبالغت في المساواة بينها وبين الرجل وأن تتولى وظيفة الإفتاء والقضاء، أي وظيفة الحكم بين الناس بالعدل، فهل يجدر بنا في هذا العصر أن نغـفـل مـقـاصـد شـرعنا ونهمل الوسائل التي تؤهل المرأة إلى استعمال هذه الحقوق النفيسة؟“(۱۱)

للأسف لايوجد في كتاب بدران أي إشارة أو تقديم لهذه الرؤية للإسلام بوصفها نقطة بداية وتحديث في النصف الأخير للقرن التاسع عشر، بل إن الفقرة التي تعقب وصفها للرؤية النسائية وتأكيدها على دور الإسلام تنافش قاسم أمين وكتابه عن تحرير المرأة.

إن لم يكن هناك اختلاف بين الفكر النسوي النسائي والرجالي على مستوى الخطاب كما تدعى بدران، فما هي نقاط الاختلاف الأخرى بين الفكر النسوي النسائي والرجالي التي تقدمها الكاتبة؟ تقـول الكاتبة إن ظاهرة النسوية النسائية في هذه الفترة غير ظاهرة ومختفية “invisible feminism” داخل حريم الطبقات العليا والوسطى. حيث تمثلت هذه النسوية في تداول كتب ومقالات النساء التي بدأت في الظهور، وخاصة في المجلات النسائية مثل الفتاة” (۱۸۹۲)، وأنيس الجليس” (۱۸۹۳)، وفتاة الشرق” (1906). في هذا السياق، تذكر الكاتبة أن باحثة البادية نشرت مقالاتها في مجلات الرجال أي مجلة الجريدة (۱۲).

هنا يوجد تناقض في توصيف بدران لهذه الأنشطة النسوية بأنها غير ظاهرة أو مختفية، وهناك دلائل على هذه الظاهرة مثل الكتب والمقالات التي نشرتهـا نسـاء الحريم وكانت ظاهرة للعيان. هنا يتضح أن نظام الحريم في حد ذاته لم يكن مسئولاً عن اختفاء المرأة الفكري. فمن الواضح أن هذا النظام كان قادراً على التغيير في القرن التاسع عشر، ومن خلاله بدأت المرأة تعليمها والمشاركة في مناقشة قضايا المجتمع والتي قدمتها في هذه الكتب والمجلات. ولكن للأسف الشديد، لا توجد أي مناقشة لهذه الكتابات في هذا الكتاب. هناك أيضاً التمسك بالرؤية الحديثة لنظام الحريم ومسئوليته عن اختفاء المرأة فعلياً ونظرياً. وفي هذا السياق، يقود عدم مناقشة المؤرخة للكتابات النسوية في هذه الفترة إلى تمييز مباشر لتاريخ النسوية يترك الكتابة الرجالية في مركز الصدارة، بل إن الاهتمام الذي تعطيه بدران لباحثة البادية في هذا المجال يبدو وكأنه نابع من أن مقالاتها ظهرت في مجلة الجريدة والتي كان يصدرها رجال حزب الأمة.

وأخيراً هناك تناقض آخر في تحليل بدران لوجهة نظر ناصف بالنسبة للإسلام. ففي تقديمها لمقال بعنوان مساوئ الرجال: الظلمتدعى بدران أن المثال يقـدم نـقـداً لتعدد الزوجات، في حين أن المقال ينتقد تصرفات بعض الرجال الذين يتخذون زوجة ثانية لأسباب غير مفهومة وفيها إجحاف للزوجين. المقال لا يناقش التعدد بوصفه مؤسسة لها مبرراتها الدينية والاجتماعية. رغم ذلك تدعى بدران أن الكاتبة تؤكد أن الإسلام لا يبيح التعدد إلا إذا أتيح للرجال معاملة كل زوجة معاملة متساوية، وهو شئ يعتبره الإسلام مستحيلاً“(١٤). في الواقع أن ناصف لا تذكر أي شئ من هذا القبيل في المقال وما تقدمه هو تحلیل غیر دینی، اجتماعي، حديث للتعدد. إننا لا نعرف رأيها في المبررات الدينية للتعدد، فهي لا تتطرق إلى هذا الموضوع رغم أهميته. الواضح من المقال أنها تفصل بين مساوئ الرجالوالدين الإسلامي.

رؤية ليلى أحمد لهذه الحقبة التاريخية وأعلامها في كتابها المرأة والتعريف الاجتماعي للجنس في الإسلامرؤية مخالفة لكل المؤرخين الذين سبق ذكرهم. فهي مثلاً ترى في قاسم أمين ابن (رمزی) لكرومر وفكر الاحتلال الإنجليزي. فأمين اعتنق نفس آراء كـرومـر والتي ركزت على الآثار الضارة للحـجـاب والحـريم على المجتمع الشرقي. فأمين يدعى مثلاً أن مجرد لبس الحجاب قد يقود البنات لنسيان كل ما تعلمنه أو يعوق نموهن الاجتماعي الذي يعتمد على إختلاطهن بالرجال” (١٥).

في مقارنة بين رؤية قاسم أمين وكتاب اللواء (مجلة الحزب الوطني ومصطفى كامل)، تقترح أن فكر المجموعة الأخيرة ليس معادياً للمرأة بل هو فكر يقبل بتعليم المرأة ويتعامل مع الحجاب بوصفه جزءاً من التركيبة الاجتماعية، وترى أن من حق الأجيال أن تقرر عدم استعماله. هناك أيضاً من قالوا بأن الدعوة للسفـور دعوة غير متأنية لدراسة آثار هذا التغيير، وتهدف بالدرجة الأولى إلى محاكاة الغرب في كل شئ. هذا الرأي الأخير، استعملته ملك حفنى ناصف لتقديم تحليل نسوى للحجاب(١٦).

على الرغم من قول ليلى أحمـد بأن ناصف صاحبة أول خطاب نسوي يقدم رؤية متشابكة وواضحة لقضايا المرأة في هذه الفترة(١٧)، فهي ترى منهجها جزءاً من عملية توتر بدأت تظهر في الطرح النسوي. في رأي أحمد أن هناك رؤيتين نسويتين في تاريخ هذه الفترة. هناك طرح نسوى سائد وآخر بديل له لم يكن يحظى بكثير من التأييد إلى العقدين الأخيرين لهذا القرن. تعنى أحمد بالطرح السائد للفكر النسوي، تعريف النسوية بوصفها اتجاهاً غربياً وعلمانياً انتجته الطبقات العليا والوسطى بهدف بناء مجتمع غربي. أما عن الطرح البديل للنسوية، فتقول ليلى أحمد إنه متشكك وحذر من ناحية الاستغراب، ويبحث عن طرق تسمح بظهور الذاتية الإسلامية من داخل خطاب نابع من الواقع المعيش والإسلامي. هنا تقول لنا أحمد أن هدى شعراوى تمثل الطرح السائد للنسوية وأن ملك حفنى ناصف تمثل البديل الذي استعمله الإسلاميون في العقدين الأخيرين من هذا القرن(۱۸).

بهذه الطريقة أصبحت ناصف كاتبة إسلامية ضد الحداثة. وهذا يفسر اتجاه أحـمد في هذا السياق إلى مناقشة سيرة ودور هـدى شـعـراوي في التاريخ المصرى الحديث على الرغم من أن كتابات ناصف سبقتها. هنا يمكننا القول بأن أحمد قلبت التاريخ في هذا الطرح، بحيث أن شعراوي تصبح مؤسسة الفكر النسوي الحديث في مصر بعد إسقاط ناصف من المناقشة على الرغم من أنها كانت جزءاً مهماً من النقاش الحديث لقضايا المرأة في العقد الأول من هذا القرن. وقد كان نقاشها لقاسم أمين ولطفي السيد حول قضايا المرأة من داخل منظور الحداثة. ولا يعقل أن يدعوها لطفي السيد أن تنشر مـقـالاتها في الجريدة لو كانت كاتبة إسلامية تعارض الحداثة. هنا يتضح أن ليلى أحمد وقعت في ثنائية الحداثة والإسلام بوصفهما منهجين متعارضين للحديث عن المرأة. من هذا المنظور، فإن نقد الحداثة أو الدفاع عن الإسلام يخلق فوضى فكرية يجب القضاء عليها بالفصل بين الاثنين والرجوع إلى بساطة ثنائيات الحداثة.

الأهم من ذلك، هناك سكوت من ناحية أحمد عن نقطة مهمة وهي أن الخطاب الذي استعملته شعراوي مشابه لدرجة كبيرة لخطاب قاسم أمين، والذي أدان المجتمع المصرى/ الإسلامي ساعتها ودعا إلى بناء مجتمع غربي حديث، وهو السبب الذي دعاها لوصفه بأنه ابن رمزی لكرومر. بالرغم من ذلك فهي لا تصف نسوية شعراوي بالاستعمارية. في معظم الكتابات الحديثة، هدى شعراوي تعتبر زوجـة قاسم أمين فكرياً، بمعنى أنها تابعة للمعطيات التي أسس لها في حديثه لتحرير المرأة.

السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا أخذت أحمد معارضة ناصف لنبذ الحجاب بوصفه أساساً للخطاب الإسلامي عن المرأة؟ وكأن الحجاب هو الإسلام، وكان ناصف لم تكن تتحدث من منظور حديث. هذه الرؤية رؤية غريبة لكاتبة أدانت هذا التوصيف الغربي المبسط لعلاقة الإسلام بالحجاب في مقالات سابقة. هنا نرى مرة أخرى تأثير سيادة خطاب الحداثة على كاتبـة نقـدت هذا التعريف الغربي المبسط سابقاً.

أخيراً، بث بارون في كتابها يقظة النساء في مصرتحـاول الخروج من مـأزق خطاب الحداثة في توصيفها لناصف عن طريق رؤية أكثر تعقيداً، فبعد حديثها عن كتابات الكاتبات المسيحيات، تقدم بارون ناصف بوصفها كاتبة مسلمة فتقول: “الكاتبات المسلمات كن يفضلن الإصلاح البطئ [ الذي أيدته] ملك حفنى ناصف عن علمانية قاسم أمين. إن ملك كانت واحدة من أشهر الكاتبات المؤيدات للحداثة، تكلمت عن تعدد الزوجات (فقد كانت زوجة ثانية لزوجها). ونادت بإصلاح قانون الأسرة وتعليم البنات في مدارس حكومية. وطالبت أيضاً بزيادة العنصر الإسلامي في المدارس وامتنعت عن تحدى الحجاب والتفريق بين الرجال والنساء” (١٩). هنا توجد محاولة من بارون لتقديم خريطة داخلية لخطاب الحداثة أكثر تعقيداً وتشابكاً: هناك كتاب مسيحيون ومسلمون يؤيدون الحداثة بوصفها مشروعاً اجتماعياً. ناصف واحدة منهن وقاسم أمين كاتب آخر. هنا نجد الكتاب المسيحيون فئة مميزه لتأييدهم للعلمانية بوصفها وسيلة للاندماج في المجتمعات الإسلامية بدون تمييز دینی(۲۰).

عن طريق هذا التحليل والذي يأخذ بعين الاعتبار الدين بوصفه عاملاً فكرياً مؤثراً، وفي نفس الوقت لا يفترض أن الدين والحداثة عاملين متضادين، استطاعت بارون تقديم ناصف بوصفها كاتبة مسلمة ذات موقف نقدي يؤيد الممارسات الإسلامية بدون الوقوع في فخ ثنائيات الحداثة. هنا لننظر معاً في مطالب ناصف والتي قدمتها للمؤتمر الإسلامي وكيف تمثل موقفها النقدي تجاه الممارسات الإسلامية وبناء مجتمع إسلامي حديث.

أولاً: لقد طالبت ناصف بأن يسمح للنساء بدخول المساجد للصلاة وسماع الخطب الدينية. للأسف قوبل هذا المطلب بكثير من الجدل، وفي النهاية رفض من قبل الحضور. ثانياً: طالبت الكاتبة بتحريم التعدد وتقييد الطلاق. مرة أخرى أثار الطلب ضجة ورفض أيضاً. أخيراً طالبت ناصف بأن تقوم المدرسات المسلمات بتدريس الدين بوصفه مادة أساسية مع التأكيد على المعاملات الإسلامية. هذا المطلب حول إلى لجنة لدراسـتـه(٢۱)، ويتضح من هذه المطالب أن ناصف تبنت موقفاً نقدياً من الممارسات الإسلامية والتي لم تسمح للمرأة بحضور مهم في الساحة الدينية. زيادة على ذلك، قدمت ناصف مطالب نسائية خاصة بتحريم التعدد وتقييد الطلاق. في هذا المجال، يتضح أن منهج ناصف يهدف إلى فتح ساحات جديدة للمرأة، وخاصة الساحة الدينية التي أرادت ناصف أن تجعلها ساحة دينية. هذا الموقف الحديث والذي لا يرفض الدين بل يحاول تأنيثه، موقف يحتاج إلى دراسة متأنية.

ب – ملك حفنى ناصف ونقد الحداثة:

دعوتى الآن إلى خطاب جديد عن ناصف ومشروع الحداثة يفتح لنا آفاقاً لم تكن موجودة من قبل، ويطرح لنا قضايا المرأة في هذه الفترة بطريقة جديدة. لقد اعتمدت في تحليلي للخطاب الجديد على ثلاث مقالات لهـدى الصـده من ضمنهم مـقـال في هاجر بعنوان ملك حفني ناصف حلقة مفقودة من تاريخ النهضة” (١٩٩٤)، ومداخلتها في حلقة نقاش عن الذات والآخر في عملية تنمية مستقلة” (١٩٩٥)، وأخيـراً ورقـة بحث قدمت هذا العام بعنوان افكار عن الحداثة: تمثيل الكاتبات المصريات للمرأة الغربية في أوائل القرن العشرين“.

نقطة البداية للصده هي مجموعة أسئلة محيرة تطرحها سيرة ناصف علينا : “[إن ناصف] تحتل مكانة متميزة بين رواد فكر النهضة المصرية وتعتبر من أوائل من تصدوا لقضية المرأة في بدايات هذا القرن… [وفي نفس الوقت نجد] تجاهلاً واضحاً لاسمها وإنجازاتها في محافل الفكر والثقافةماذا وراء هذا الاستبعاد المتعمد لرائدة من رواد النهضة؟ ماذا أصاب ذاكرة وطنها؟ لماذا لا يرد اسمها في قائمة رواد هذا العصر؟” (۲۲).

في أول محاول للإجابة تقترح الصده أن ملك تختلف القليل – وأحياناً الكثير – عن بعض الاتجاهات التي سادت الفكر المصري الحديثفهي عارضت دعوى قاسم أمين لسفور المرأة مما عده الكثير حرباً من حروب المحافظة والرجعية.. وفي الوقت ذاته تعرضت ملك في كثير من مقالاتها للآثار السيئة عن عادة تعدد الزوجات مما قلب عليها المعسكر المحافظ واتهمت في دينها وإسلامها. وبهذا استعصى على الكثيرين تصنيفها في التصنيفات الجاهزة فشكك البعض في تمسكها بتراثها وشكك البعض في مصداقية تفتحها“(۲۳).

ثانياً: تقترح الصده أن أحد أسباب إسقاطها من قائمة رواد الإصلاحهو أنها عنيت بتقديم خطاب مضاد أو خطاب مغاير لخطاب النهضة السائد” (٢٤).

ما هي سمات هذا الخطاب المغاير؟ أولاً، تؤكد ملك أهمية أن تعبر المرأة عن وجهة نظرها في شتى أمور الدنيا من خلال الواقع الذي تعيشه، والذي يصعب على الرجل تلمسه ومعرفة خباياه“(٢٥).

وفي محاولة إعادة تقديم ملك إلينا، تعتمد الصده على كلمات الكاتبة التي تبدي رأيها بقوة وبدون اعتذار في قضايا معاصرة. تقترح الصده أن ما يميز منهج ناصف هو الوعي بالبعد التاريخي في تقييمها لأنماط السلوك السائدة والمقترحة، ورفضها القول بطبيعة الأدوار الاجتماعية للرجل والمرأة، واستنادها إلى تجربتها وواقع حياتها في تفنيدها لآراء الرجال. النتيجة أن ناصف ترى نفسها نداً لرجال النهـضـة الحديثة المتعالين على النساء والراغبين في فرض آرائهم عليها باسم التحرير(٢٦).

ودعونا نتأمل ما يلي من آرائها في مختلف القضايا، كأمثلة لهذا المنهج:

اقتصار تعليم الفتيات على المرحلة الابتدائية كما دعا قاسم أمين بحجة أنها لن تحتاج إلى قدر أكبر من التعليم في إدارة منزلهاتقول:

العلم نور للعقل على أية حال سواء عمل به أو لم يعمل ولو لم يكن للعلم لذة لما اشتد بتحصيله الملوك وهم واثقون من أنهم لن يكونوا مهندسين ولا بحارة ولا سائقي قطارات” (۲۷).

عن مناقشة تقسيم الأدوار بين الرجال والنساء تقول:

يقـول لنا الـرجـال ويـجـزمـون: إنكن خلقتن للبيت ونحن خلقنا لجلب المعاش فليت شعری أی فرمان صدر بذلك من عند الله، ومن أين لهم معرفة ذلك والجـزم به ولم يصدر به أی کتاب؟ “(۲۸).

وتقول رداً على الزعم بأن المرأة أضعف من الرجل ولا تستطيع تحمل مسؤلياته الآتي: “ما شغفنا الآن عن مزاولة الأعمال الشاقة إلا نتيجة قلة الممارسة لتلك الأعمال، وإلا فإن المرأة الأولى كانت تضارع الرجل شدة وبأساً. أليست المرأة القروية كأختها المدنية؟ فلماذا تفـوق الأولى الثانية في الصحة والقـوة؟ وهل ترتبن في أن امرأة من المنوفية تصرع أعظم رجل من رجال الغورية لو صارعته؟” (۲۹).

وأخيراً ترفض ناصف تعالى الرجال على النساء المصريات في التالي.

فليدعنا الرجـال آراءه ونختار أرشـدها، ولايستبد في تحريرنا كما استبد في استعبادنا. إننا سئمنا استبداده. إننا لا نخاف من الهواء ولا الشمس وإنما نخاف عينيه ولسانه، فإن وعدنا أن يغض بصره كما يأمر دينه، وأن يكن لسانه كما يوصيه الأدب، نظرنا في أمره وأمرنا“(30).

في نهاية المقال تعود هدى للسؤال الذي بدأت به المقال: “لماذا سقطت ملك سهواً” (أو عمداً) من ذاكرة التاريخ الحديث؟في الإجابة تذكر “…الذاكرة الانتقائية للمؤرخين والمثقفين من الرجال (مسئولة) خاصة إذا اختلفت هذه الرائدة عن معاصريها من الرجال، أو إذا قدمت فكراً مغايراً أو وجهة نظر أخرى لا تحاكي وجة النظر السائدة أو المعبرة عن مصلحة مجتمع الرجال. وكما حدث من قبل ويحدث دائماً، يتم استبعاد هذا الصوت (الآخر) أو المختلف ويفقد التاريخ أثاراً مهمة على طريق التقدم. فهل هناك أمل في تدارك هذا الخطأ المروع” (۳۱).

في مداخلتها في حلقة المناقشة عن الذات والآخـر، تعـود الصده إلى مناقشة الخطاب المغاير للنهضة الذي قدمته ناصف والذي يفسر إسقاطها من الحديث عن هذا المشروع المجتمعي. “نتيجة التجربة الاستعمارية، فإن (معظم منظري الحداثة) رأوا أنفسهم في مرآة الغرب بوصفهم مجتمعات تقليديةأي لقد قبلوا فصل ومعارضة الإسلام للغرب بوصفهما نظامين اجتماعيين متعارضين.(بالمقارنة)، فـإن ناصف صاحبة خطاب ومشروع ثالث عن النهضة سعى إلى هضم (بعض عناصـر الحـداثة) وإعادة التفكير في معنى التقدم بدلاً من إعادة إنتاج مؤسسات مصطنعة من موديل غربي جاهز الصنع. لو وضع هذا المشروع الحديث في إطار ثقافي مجتمعي لاستطاع تعزيز مواطن القوة الثقافية وعلاج مواطن الضعف. (هذا المشروع المغاير يمثل) التحدي الذي طرحته ناصف على جيلها والأجيال اللاحقة” (٣٢).

في الورقة الأخيرة التي كتبتها الصده عن رؤية النساء المصريات للنساء الغربيات في هذه الفترة، تقترح الصده إجابة أخرى لإسقاط ناصف من ذاكرتنا التاريخية. إن فرض النسيان عن ناصف في هذه الفترة التأسيسية لتاريخ المرأة المصرية يسدل الستار على مشروع نقد الحداثة والذي بدأته ملك في بداية هذا القرن. فكما هو واضح من ورقة محمد عفيفي أن مجموعة السفور، وثورة 1919 من بعدها، أدت إلى هيمنة الحداثة بوصفها مشروعاً قومياً غير قابل للنقاش ولا النقد. وعليه استمر تحميل المرأة مسئولية تخلف المجتمع، وتوقف نقد النساء للرجال واستمر تنصل الرجال من مسؤليتهم في التخلف. وبما أنهم أبرياء من هذه المسئولية المجتمعية، فلقد استمروا في محاضرة النساء عن علاج هذه المشاكل(٣٣). إن تذكرنا لملك حفنى ناصف ينبهنا إلى بداية هذه الظواهر ومحاولة ناصف طرح خطاب ومشروع مغاير للحداثة.

الختام

إن الدروس السياسية والعملية التي يطرحها خطاب النهضة والخطاب الجديد عن ملك حفنى ناصف تهدف إلى تشكيل وعى المرأة عن طريق معرفتها بتاريخها والإمكانيات التي يطرحها هذا التاريخ عليها. لقد كانت ناصف جزءاً من علاقات القوة في المجتمع المصري في بدايات هذا القرن بوصفها امرأة متعلمة استفادت من تعليمها في مقاومة العلاقات الحديثة والتي سعت لفرض وصاية الرجل على المرأة وزيها وعقلها.

في تقديمي للرؤى المصرية وغير المصرية والتي طرحها الرجال والنساء لحياة ملك، أردت أن أوضح أن المعركة الحقيقية والأساسية ليست هوية من يتكلم (رجل أو امرأة، مصرية أو غير مصرية) بل أي خطاب يستعمل لتحليل القضايا المطروحة. هنا يجب التوضيح أننا كرجال ونساء، مصريون وغير مصريين لا نتكلم بصوت واحد، والتجارب الاجتماعية والسياسية التي نحضرها لمائدة النقاش مختلفة، ومن المهم محاولة فهم تأثير كل هذا على رؤيتنا للأمور. ولكن هذه الاختلافات لا يجب أن تعمى أبصارنا عن الخطاب الذي يجمعنا ويفرقنا عن الآخرين (بغض النظر عن رجل، امرأة، مصرية غير مصرية) عن طريق فرضيات ومصطلحات ومناهج اللائي يشكلن في رأيي مستوى آخر من الأهمية في تشكيل الوعي/ الذاكرة: 1- إما عن طريق تكريس علاقات القوة الحالية والتي تربط الرجال والنساء من مختلف الطبقات والديانات والأقاليم وبين مجتمعنا ككل والمجتمعات الأخرى. ٢أو عن طريق طرح إشكالية هذه العلاقات في خطاب تقدي بديل كالذي قدمته هدى الصده عن ملك حفنى ناصف، وتقدمه بقية نساء المرأة والذاكرة مثل أميمة أبو بكر عن المحدثات الإسلاميات، وسمية رمضان عن ألف ليلة وليلة وأمينة زوجة السيد أحمد عبد الجواد، وهالة كمال عن نبوية موسى، ورانيا عبد الرحمن عن الكتابات النسائية في دراسات الشرق الأوسط.

الهوامش

(۱) محمد كمال يحيى، الجذور التاريخية لتحرير المرأة في العصر الحديث (القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب ۱۹۸۳)، ص ۹۳.

(۲) یحیی، ص ۱۰۰.

(۳) یحیی، ص ۱۰۱.

(4) يحيى، ص ۱۰4.

(5) يحيى، ص ۱۱۷.

(6) یحیی، ص ۱۱۸.

(۷) لطيفة محمد سالم، المرأة المصرية والتغيير الاجتماعي ١٩١٩١٩٤٥ (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٤)، ص 15.

(۸) أمال کامل بيومي السبكي، الحركة النسائية في مصر ما بين الثورتين ١٩١٩١٩٥٢ (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٨٦).

(9) Margot Badran and Miriam Cooke, editors, Opening the Gates, A Century of Arab Feminist Writing (Indianapolis: Indiana Univerity Press, 1990), pxvi.

(۱۰) بدران، المصدر والصفحة نفسهما.

(۱۱) قاسم أمين المرأة الجديدة” (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ۱۹۹3)، ص۸، ۹.

(۱۲) بدران، ص xviii

(۱۳) بدران، ص ١٣٤

(١٤) بدران، ص ١٣٤.

(15) Leila Ahmed, Women and Gender in Islam, Theoretical Roots of a Modern Debate (New Haven: Yale University Press, 1992) p. 160.

(16) أحمد، من ١٦٣.

(۱۷) أحمد، ص ١٧٤.

(۱۸) أحمد ص ١٧٥.

(19) Beth Baron, The Women’s Awakening in Egypt (New Haven: Yale Universty Press, 1994), p 113.

(۲۰) بارون، ص ۱۰۹۱۱۰

(۲۱) بارون، ص ١٨٤.

(۲2) هدى الصده، ملك حفني ناصف: حلقة مفقودة من تاريخ النهضة، هاجر، كتاب المرأة (۲)، ۱۹۹4، ص ۱۰۹۱۱۰.

(۲۳) الصده، ص ۱۱۱.

(٢٤) الصده، الصفحة نفسها.

(٢٥) الصدة، الصفحة نفسها.

(٢٦) الصده، ۱۱۲۱۱۳.

(۲۷) الصده، ص ۱۱۲.

(۲۸) الصده، ص ۱۱۲.

(۲۹) الصده، ص ۱۱۲.

(۳۰) الصده، ص ۱۱۳.

(۳۱) الصده، ص ۱۱۹.

(32) Hoda Elsadda, “Women in Egypt: Education & Modernity”, in The Self and The Other, Sustainability & Self Empowerment, eds. Ismail Serageldin & Afaf Mahfouz (Washington D.C: The World Bank, 1996), pp 18-19

(33) Hoda Elsadda, “Notions of Modernity Representations of the “Western Woman” by (rr) Female Authors in Early Twentieth Century Egypt” in The Arabs and Britain: Changes And Exchanges, Proceedings of a Conference, The British Council, Cairo, 1998.

كتابة النساء على كتابة النساء

“مي زيادة وباحثة البادية”

ألفت کمال الروبي

منذ أن روجت الصحافة النسائية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لمبدأ أن تكتب المرأة بنفسها عن نفسها(۱)، بهدف تأسيس وعي نسائي مستقل، ارتبطت الكتابة لدى المرأة العربية بخطاب تحررها من وضعها المتدني الذي كان يفرض عليها التبعية المطلقة للرجل والحرمان من التعليم والعزلة التامة عن دوائر الثقافة والمعرفة، وبالتالي عجزها عن مناقشة قضاياها بنفسها.

وفي الوقت الذي كان يمثل فـيـه دخـول المرأة عـالم الكتابة مظهراً من مظاهر تحديث المجتمع العربي، فإنه كان يعد أيضاً نقضاً للثقافة العربية القديمة المعادية للمرأة بوجه عام والمحرضة على منعها من الكتابة(٢)، بوجه خاص، وليس من نافلة القول الإلحاح على أن وعى المرأة العربية بوضعيتها المتدنية وحقوقها المسلوبة قد بدأ قبل دعوة قاسم أمين إلى تحريرها في كتابيه: تحرير المرأة 1899، المرأة الجديدة 1900؛ ذلك أن عائشة تيـمـور ١٨٤٠ – ۱۹۰۲ بدأت تمارس الكتابة نثراً وشعراً في وقت مبكر جـداً (۱۸۸۷)(۳)، وكان وراء نزوعها إلى الكتابة طموح مستتر لامتلاك شيء من خطاب القـوة، يدعـمه سـعـيـهـا الواضح إلى هـجـر الأدوار التقليدية التي فرضها المجتمع الذكوري على المرأة. لقد رفضت عائشة تيمور التربية التقليدية للبنت، التي كانت تقتضي غرسها في أعمال المنزل وإعدادها لزوج المستقبل، وخاضت معركة مع أمها من أجل تحقيق حلمها في أن تتعلم وتكتب في وقت عز فيه ذلك بالنسبة لقريناتها. ومن ثم كانت دعوة عائشة في مقالاتها المبكرة إلى ضرورة تعليم المرأة ومساواتها بالرجل(4).

وحين كانت عائشة تيمور تحقق إنجازها، شغلت زينب فواز (١٨٦٠ ١٩١٤) بإعداد كتابها الدر المنثور في طبقات ربات الخدورالذي أسست فيه لذاكرة نسائية؛ إذ استعادت فيه تراجم نسائية منذ العصور السحيقة حتى عصر عائشة تيمور، وكأنها كانت تسعى لدعم الخطاب النسائي الذي بدأ يشق طريقه ويحتل حيزاً خاصاً به في عالم الكتابة.

ثم جاءت ملك حفنى ناصف (باحثة البادية ١٨٨٦ – ۱۹۱۸) رائدة من الرائدات اللاتي مارسن الكتابة المقال أساساً من أجل النهوض بالمرأة ودفعها لأن تكون مشاركة للرجل في بناء مجتمع عصري جديد. فليس من قبيل المصادفة أن تكرس ملك حفني ناصف مقالاتها ذات الطابع الاجتماعي لمناقشة أوضاع المرأة وعلاقتها الشائكة بالرجل في ذلك العصر؛ تلك المقالات التي كانت تنشر في الجريدة، ثم نشرت في حياة ملك (١٩١٠) في كتاب النسائيات، وقدم لها أحمد لطفي السيد، الذي كان يرأس تحرير الجريدة. وليس مصادفة أيضاً أن يحمل كتاب ملك عنوان النسائيات؛ فهذا العنوان ينطوي على أكثر من دلالة، لعل أهمها أنه يعكس ذلك المناخ العام الذي كان مستجيباً لمشاركة المرأة في تناول قضاياها الخاصة التي تتعلق بالزواج والأسرة والتعليم والعمل.

كرست ملك كتابتها للنظر في أحوال المرأة المصرية وانتقاد وضعها والمناداة بحقوقها في التعليم والعمل؛ وإن لم يقتـصـر مـا تركته من آثار على هذه المقالات؛ حيث كانت محاضراتها وخطبها فضلاً عن رسائلها إلى مي زيادةتعرض لقضية المرأة.

وكانت دعوة المرأة للكتابة في ذلك الوقت دعـوة مـفـتـوحـة استجابت لها النساء الكاتبات، وكان إنجازهن يصب في ثلاثة روافد أساسية؛ أولها المحاضرات والمقالات والرسائل التي كانت تعرض بشكل مباشر لقضايا تتعلق بوضع المرأة وتحررها. وثانيها الكتابة الإبداعية لا سيما القصصية والروائية. ولم تكن هذه الكتابة الإبداعية النسائية تستهدف التـسـلـيـة أو الإثارة، وإنما كانت أيضـاً تـخـدم الخطاب النسائي الـتـحـررى بالأساس(٥). أما الرافد الثالث، الذي يعد أكثر دعماً لخطاب التحرر في تصوري – فهو ما يمكن أن أسميه بكتابة المرأة على كتابة المرأة أو كتابة النساء على كتابة النساء، ومن أهم رائداته مي زيادة (١٨٨٦ ١٩٤١) المعاصرة لملك حفني ناصف.

وكتابة مي زيادة على كتابة النساء شملت الرائدات قبل ملك حفني ناصف وبعدها؛ مثل عائشة تيمور (١٨٤٠ – ١٩٠٢)، ووردة اليازجي (۱۸۳۸ ١٩٢٤). وظل تقليد كتابة المرأة على كتابة المرأة تقليداً مستمراً على الرغم من الانعطاف الزمني الطويل، حيث كتبت وداد سكاكيني دراسة مستقلة عن مي زيادة، كما كتبت دراسة تتناول عدداً من النساء العربيات المبرزات في المجال الإبداعي والفكري والاجتماعي والسياسي(6). ومن اللافت أن باحثة معاصرة هي عائشة عبد الرحمن قد التفتت إلى أهمية أن تخصص دراسة للمرأة الشاعرة، فأنجزت كتابها الشاعرة العربية المعاصرة، وطرحت أسئلة مهمة يبدو أنها كانت مثارة في بداية ستينيات هذا القرن العشرين حول الإبداع النسائي وخصوصيته. وإن بدا لي أن وداد سكاكيني قد سبقت عائشة عبد الرحمن في طرقها لهذه التساؤلات في نهاية الأربعينيات كما يظهر في كتابها إنصاف المرأة“(7). وعلى أية حال فإن مجال كتابة النساء على كتابة النساءلمَّا يزل في حاجة إلى متابعة وتنقيب.

وعناية النساء منذ ذلك الوقت المبكر بكتابة النساء وبإنجازهن بصفة عامة أمر له أهميته ودلالته، لأنه لا يشير فقط إلى وعى هؤلاء الرائدات بالحساسية الخاصة بالمرأة في قراءتها لإنتاج المرأة، وإنما لأن هناك همـاً مـشـتـركـاً يجمع هؤلاء النسوة، وهو النهوض بالمرأة وإبراز إنجازها أولا بأول، حفزاً لتحقيق هذه النهضة النسائية وتأكيد حضورها.

ومن المثير أيضاً أن بعض رجال هذه الفترة كان لهم دورهم في دفع النساء للقيام بهذا الدور، بدءاً من أحـمـد لطفى السيـد الذي نشـر مـقـالات ملك، ثم قدّم لها حين صدرت في كتاب، ونهاية بكتابة مي زيادة النقدية عن باحثة البادية، التي كانت بدعوة من يعقوب صروف، حيث نشرت في فصول متتابعة في مجلة المقتطف، ثم طبعت بعد ذلك في كتاب أصدرته مطبعة المقتطف في ١٩٢٠. وقد قدم لهـا يعـقـوب صـروف بمقدمة طويلة وقيّمة.

في هذا الإطار جاءت دراسة مي زيادة لكتابة ملك حفني ناصف مـؤسـسـة لرؤية نسائية لكتابة النساء.

في هذا الكتاب (باحثة البادية، بحث انتقادی) خصصت المؤلفة فصلاً من فصوله جعلت عنوانه المرأة لتحديد بعض سـمـات الأنوثة كـمـا راتهـا في ملك، ويعد هذا الفصل ثاني فصول دراستها بعد الفصل الأول التمهيدي الذي أوضحت فيه كيف عرفت ملك، وتلا هذا الفصل ستة فصول استوعبت زوايا شخصية ملك وتوجهاتها ونشاطاتها المتعددة: المسلمة، المصرية، الكاتبة، الناقدة المصلحة. ثم ختمت ميدراستها بفصل أكدت فيه تمايز الذات النسائية من خلال مقارنة أقامتها بين ملك بوصفها امرأة، وقاسم أمين بوصفه رجلاً. وقد أُلحقت بالدراسة مجموعة من الرسائل المتبادلة بينها وبين ملك، كانت موضع عناية المؤلفة في هذا الكتاب؛ فضلاً عن بعض كلمات ميالتي ألقتها في تأبين صاحبتها.

ما طرحته ميفي كتابها عن مَلَك يقوم على وعى بالاختلاف في وجهة النظر بين المرأة والرجل. يبدو هذا في إلحاحها على أهمية أن تتناول المرأة مشاكلها بنفسها لخصوصية وعيها بذلك دون الرجال. وقد كشفت ميعن هذا التصور في رسالة من رسائلها إلى ملك قبل أن تتعرف بها. كتبت مي“:

علاتنا مستعصية لا يشفيها إلا طبيب يعرفها، والمرأة بعلة جنسها أدرى، فهي تستطيع معالجته“(۸).

ومن ناحية أخرى، نزعت ملكإلى تحقيق مطلب أساسي هو الاستقلال بإرادة نسائية، تختار وتقرر ما يرضي قناعتها؛ عبرت ملك عن ذلك في ردها على إحدى رسائل مي“: “إذا أمرنا الرجل أن نحتجب احتجبنا، وإذا صـاح الآن يطلب سـفـورنا أسفرنا، وإذا أراد تعليمنا تعلمنا، فهل هو حسن النية في كل ما يطلب منا ليدعنا الرجل نمحص آراءه، ونختار أرشدها، ولا يستبد في تحريرنا كما استبد في استعبادنا، إننا سئمنا استبداداً” (۹).

من هنا كان نزوع ملك ودعوتها إلى استقلال المرأة يدعم وعي ميالتي عبرت عن فضل ملك الكاتبةعليها مرتين؛ قارئة وكاتبة. أما فضل ملك الكاتبة على ميقارئة، فلخصته ميفي أن صاحبتها قد أطلعتها على مشاكل النساء وقضاياهن التي كانت تجهلها حين قرأت كتابها النسائياتلأول مرة في عام 1914. كما وضحت ميفضل ملك الكاتبةعليها كاتبةفي أنها حفزتها بعد وفاتها على تأليف أول كتاب لها باللغة العربية، وأول كتاب تكتبه امرأة عن امرأة خصوصاً أن الرجال لم يشغلوا بالكتابة عن النساء(۱۰).

وعلى هذا تناولت ميخطاب ملك بوصفه خطاباً نسائياً يناقش مشاكل النساء وقضاياهن، وهو في الوقت نفسه مستقل عن الخطاب السائد (الذكوري)، لأنه مؤسس على وعي بالذات الأنثوية المطموسة وغير المعبرة عن نفسها. من هنا كان سعى ميإلى تحديد خصائص هذا الخطاب عبر مدخل كان يفرض نفسه، وهو مدخل أنثوى/ نسائي؛ حيث طرحت الأنوثة/ النسائية في مقابل الذكورة/ الرجالي.

وبعبارة أخرى، استهدفت ميفي دراستها تأكيد استقلال الذات النسائية بوصفها وجهًا آخر للذات الإنسانية التي لا تقتصر على الرجل وحده، من هنا كان تأكيدها خصوصية وعى المرأة في تبنيها لمشاكلها وقضاياها، واهتمامها الخاص بتقصي سمات الاختلاف؛ اختلاف كتابة ملك/ المرأة عن كتابة الرجل، وتبدو عنايتها بهذا الاختلاف من مقدمة كتابها، حين تشير إلى أن المزاج النسائيأو الجنس النسائيكان عنصرًا من عناصر تكوّن طبيعةباحثة البادية السريعة الانفعال ونوع إدراكها ، لقد شغلت ميبمحاولة الإمساك بما يحدد الهوية الأنثوية والسمات الأسلوبية التي تتحقق في كتابة ملك. كما لفتت ميالانتباه إلى أن معاناة المرأة لها دورها في تشكيل وعيها، وأن عين المرأة ذات حساسية خاصة في التقاط ما يهم بنات جنسها ويمس كيانها الإنساني(۱۱). من هنا نبهت إلى قلم المرأةذي الحساسية المتميزة.

والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا هو كيف رأت ميالاختلاف بين كتابة المرأة وكتابة الرجل؟ وهذا السؤال يثير أسئلة أخرى من مثل: كيف استطاعت أن تحدد سمات للأنوثة في الكتابة؟ وهل تمكنت من الوقوف على بلاغة خاصة بكتابة النساء؟

حين رأت ميأن الكتابة من أكثر الفنون دقة وعسراً، فإنها كانت تهدف إلى تقييم كتابة ملك حفني ناصف بوصفها إنجازاً إبداعياً في حد ذاته، على الرغم من أنها كتابة اجتماعية (إصلاحية). أسهبت ميفي كتابتها عن سحر الكلمة وتأثير الألفاظ وقدرتها على الوصف والتصوير وبعث حياة متنوعة متقدة بثورة الشعوروهيجان الغضبوأنين الشكوىورنين النجاح والظفر، وكذلك قدرة الألفاظ على الانتقال من الفرح إلى الحزن والحنان، عندما أشارت إلى هذه الإمكانات التي تحققها الكتابة الأدبية فإنها كانت تقصد مزايا الكتابة عند كاتبـة بعينها هي ملك حفني ناصف وتقدير ميلكتابة صاحبة النسائياتأنها تستنفد كل الطاقات الممكنة للكتابة من أجل إحداث التأثير الذي تراه سبيلاً للإقناع بضرورة مـا تـدعـو إليـه مـن إصـلاح اجتماعي لحال المرأة وقتها. ومن هنا فبلاغة الكتابة لدى ميفيما تثيره من أحاسيس وانفعالات وما تحدثه من تأثير.

والأساس في إكبارها لكتابة ملك أنها مشحونة بالانفعالات، لأنها تصدر عن القلب (أو الوجدان أو الشعور)، وهي لا تجد غضاضة في أن تكون كتابة ملك الإصلاحية كتابة أدبية مؤثرة مصدرها العواطف المسحوقةعلى حد تعبيرها: “ماذا عسى ينفع الحديث، إن لم يكن مصدره القلب؟ وما قيمة الإصلاح، إن لم يكن ناشئاً عن إدراك تكوَّن ليس في العقل وحده، بل في العواطف المسحوقة“(١٢).

من هذه الزاوية رأت مي كتابة ملك كتابة أنثوية/ نسائية، وقد جعلت الإحساس بالمعاناة جسراً للوعي النسائي لديها، كما أكدت ميهذه السمة الأنثوية في كتابة ملك بحكم عام تصـدره في قـولهـا : “ترتسم المرأة في كل كلمة تخطها الكاتبة، وما هي إلا امرأة في البدء وامرأة بالتالي وامرأة دائماً (۱۳).

ولكن كيف بدت كتابة ملك كتابة امرأة في نظر مي؟ مما لا شك فيه أن نظرة مي لكتابة ملك كان يحكمها ويوجهها وعيـهـا بالمواصفات التي تراضي عليها المجتمع (الذكوري) وتقضى بإقصاء المرأة وتهميشها وحرمانها من حق تقرير مصيرها بنفسها. وبالتالي من حق التعبير عن ذاتها، كما كان يدفعها أيضاً حماس امرأة لديها رغبة واضحة في البحث عن إمكانات تميز الكتابة النسائية، وهو أمر شغلت به بعد ذلك في تناولها لشعر عائشة تيمور. من هنا سيكون السؤال عن معنى الأنوثة في كتابها عن باحثة الباديةهل كانت تقصد المعنى الثقافي المؤسس على وضعية المرأة الاجتماعية الدونية وهامشيتها التي جعلتها فاقدة القدرات والكفاءاتإلخ، أو أن هذه الأنوثة ترتد فقط إلى التمايز البيولوجي بين المرأة والرجل، والذي يستتبعه مجموعة من الصفات الطبيعية الملازمة لها واللصيقة بها بوصفها أنثى؟ باختصار، هل كانت تعنى بالأنوثة بما هي منظومة من السمات المحددة ثقافياً(١٤)، والتي يمكن أن تتـغـيـر من عصر إلى عصر أو أنها مجرد مسألة بيولوجية؟

تقوم أنثوية/ نسوية في كتابة ملك في رأي مي على العاطفة والانفعال وهو ما مهدت له سابقاً لأنها تصدر عن معايشتها التجربة وإحساسها العميق بمشاكل المرأة ومآسيها دون أن تستند على رؤية تنظيرية ما؛ وبعبارة أخرى، تذهب ميإلى أن كتابة ملكتتسم بالخطابية والانفعالية لأنها تعتمد على معاينة الواقع والانفعال به فقط، لأنها في رأيها كاتبة لم تدون أفكارها إلا تحت التأثير وفي ساعة الانفعال. ومن هنا تلح ميدائماً على السمة الانفعالية والعاطفية، بمعنى أن كتابة ملك ليست وليدة فكرة او ناتجة عن الملاحظة والتنقيب على حد قولها.

ومن أهم مقالات ملك التي عرضت لها ميفي كتابها، مقالة عن تعدد الزوجات“. ولا تخفى أهمية إثارة ملك لهذا الموضـوع واهتمامها به بالنسبة للكتابة وللحركة النسائية في ذلك الوقت، الذي كانت تشق فيه طريقها نحو إعادة النظر في أمور تخص الزواج والأسرة من وجهة نظر نسائية، فلم تكن المرأة حتى وقت ملك قـد مـارست الكتابة بشكل متسع لا في هذا الموضوع ولا في غيره، ومن اللافت أن ميعبرت عن حزنها وعجزها لعدم استيعاباها تماماً لمعنى وجود الضرةأو تعود الزوجات، لأنها مسيحية، وأنه على الرغم من تفهمها وتعاطفها. بقلبها النسائي(١٥) . مع هذه المشكلة، فإنها تظل بالنسبة لها أمراً خيالياً، ومع هذا فقد تحمست مي بشكل ملحوظ في دفاعها عن الطريقة التي كتبت بها ملك رأيها، حين اعترض على صياغتها أحد قارئيها من الرجال مستهجنا المبالغة البيانية التي اعتمدت عليها ملك؛ وسأورد النص الذي كتبته ملك وعلقت عليه مي، ثم اعقبه بنص مي نفسها. كتبت ملكفي مقالها عن تعدد الزوجات:

إنه لاسم فظيع (تعدد الزوجات أو الضرائر). تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته فهو عدو النساء الألد وشيطانهن الفرد. كم قد كسر قلباً وشوش لباً وهدم أسراً وجلى شراً. وكم من برئ ذهب ضحيته، وسجين كان أصل بليته، وأخوة لولاء لما تنافروا ولا تناثروا ففرقهمإنه لاسم فظيع ممتلئ وحشية وأنانية. كم أحرج رجلاً وعلمه الكذب فأفسد عليه خلقه، وكم بذر مالاً كان يعده البعض رزقه، وكم أحفظ قلب والد على ولد، وكم علَّم الوشاية والحسد، فإذا ما لهوت أيها الرجل بعرسك الجديد، فتذكر وراءك بائسة تصعد الزفرات، يتساقط من مآقيها أمثال لؤلؤ عرسك، ولكنه صهرته نار الحزن، فظهر سائلاً، وأخش الله في صغار يبكون لبكائها، علمتهم الحزن فاستعادوا يواقيت عرسك أعيناً، أنت تقرع سمعك الطبول والمزامير، وهم لا يسمعون إلا دق الحزن في طبول آذائهم، وكانوا من قبل ذلك جذلين (١٦).

كتبت ميمعقبة على هذا النص:

قد ينظم الشاعر هذه الزفرات أبياتاً عامرة، وقد يطلعك العالم الاجتماعي على سلسلة علله ومعلولاته، مثبتاً لك شر تعدد الزوجاتولكن قلما تجد في قصيده ذاك وأبحـاث هذا تأثيراً يهز نفسك، كما تفعل هذه السطور القلائل، ليس ما قرأته هنا بمنحدر من الفكر أو بناتج عن الملاحظة والتنقيب، بل هو اضطراب قلب جـالـت فـيـه المرارة مكونة أنات مـا لبث القلم أن وقعهن على وفق ضربات القلب الخافق. إن هذه الفقرة لا يكتبها إلا قلم امرأة (١٧).

لم تحدد مي” – في هذا التعقيب سمات أسلوبية معينة للكتابة عند ملك، ومع هذا فهي تثير فكرة مهمة مفادها، أن مستوى الوعي (ونوعه) هو الذي يحدد بلاغة الكتابة؛ وعليه فكتابة المعاناة التي لا تعتمد على رؤية نظرية أو تصور محدد متماسك تدور في إطار الصياغة الإنشائية الهادفة إلى إحداث تأثير (هذه النفس) في نفس المتلقي، لكن ميقصرت هذا التصور على كتابة المرأة فقط، فقرنت العاطفة والانفعال بالمزاج النسائيوالجنس النسائي والطبيعة النسائية، وتعاملت مع الكتابة النسائية بوصفها صدی مباشر لانفعال أو إحساس أنثوي مرير، وكانت مي قد قدّمت لنص ملك السابق بقولها: “وإذا طرقت موضوعاً – تهتز له طبيعتها النسائية من أقصاها إلى أقصاها سمعت منها هذه اللهجة الخلابة، ثم ختمت تعقيبها على النص نفسه بقولها: “إن هذه الفقرة لا يكتبها إلا قلم امرأة“.

وطرح ميلتعبير الطبيعة النسائيةيشير إلى معنى للأنوثة سيكون هو المهيمن لديها؛ حيث يحيل استخدامها لهذا التعبير إلى الفارق البيولوجي الذي يميز المرأة عن الرجل، وما يترتب عليه من سمات وصفات طبيعية (غريزية) ثابتة ملازمة للمرأة، مثل قوة الانفعال أو قوة الشعور. ومن هنا يصبح قلم المرأة الذي تشير إليه مرهوناً بهذه الطبيعة النسائية وموجهاً بها.

غير أن السؤال عن اتخاذ ملك حفنى ناصف هذه الطريقة البيانية المؤثرة في الكتابة يظل مطروحاً، هل طبيعة المرأة وراء هذه الطريقة الإنشائية الخلابة كما تقول مي؟ أو هو الوعي الناتج عن المعاناة فقط دون الفكر أو التصور النظري المحدد الذي يدعمه، كما أشارت في سياق حديثها عن معاناة ملك واستيعابها لوضعية المرأة وتهميش الرجل لها؟ والحقيقة أن وعي ميذاتها كان يتردد بين تصورين للأنوثة؛ الأول يكاد ينحصر في المعنى البيولوجي الطبيعي، والآخـر يرتد إلى التـمـايز الاجتماعي والثقافي والنفسي، الذي تفرضه التنشئة الاجتماعية والثقافية للمرأة، وإن كان هذا التردد يتم في معظم الأحيان لصالح المعنى الأول، كما سيتضح فيما بعد.

ويبدو لي أن انتحاء ملك حفني ناصف هذه الطريقة في الكتابة يمثل نوعاً من التحايل، وهو تحايل الكاتبة التي تستشعر ضعفها وعجزها إزاء الخطاب السائد والأقوى، ويتجلى هذا في اعتمادها على بلاغة الصياغة، في استخدامها صيغ التوكيد والتكثير في مفتتح مقالها، فضلاً عن التصوير البياني القائم على تمثيل دموع الزوجة الأولى وعيـون أولادها بلؤلؤ العروس (الزوجة الثانية) ويواقيتها، وتحتمي ملك في هذه الصياغة البيانية، لتقنع قارئها، وهو الرجل في الأساس مستعطفة مسترحمة. وقد دفعها إلى ذلك، في تصوري، افتقارها إلى طرح بديل لحل مشكلة تعدد الزوجات؛ لقد بذلت محاولتها في الإقناع على أرضية عدم الرفض القاطع (الجذري) لتعدد الزوجات، حيث تسلم لك بحق الرجل في تعدد الزوجات إذا كانت هناك أسباب مقنعة، ذلك على الرغم من وعيها بأضرار هذا التعدد وقناعتها بضرورة محاريته. من هنا لجأت ملك إلى الصياغة البليغة التي استشعرت فيها (مي) “الأنينأو الأناتالتي تتحول إلى زئير على حد قولها.

وقد أبرزت ميحفاوة ملك في كتابتها بالتصوير البلاغی؛ خاصة التمثيل الممتد وضرب المثل في بعض مـقـالاتها(١٨)، كما في رسائلها أيضاً، ويبدو اعتماد ملك على التمثيل البلاغي الممتد والمنطوي على تـفـاصـيـل كـثـيـرة ومـتـعـددة مرتبطاً بالمهمة الإصلاحية الوعظية، التي تتطلب الإقناع، والتي كرست ملك مـقـالاتها من أجلها، وصفتها ميبأنها مشيدة على أرضية الشجن الشعريمن ناحية و الحزن الأنثوى من ناحية أخرى، رأت مي أن كثيراً من مـقـالات ملك مكتوب بكيـفـيـة خطابية، وأن خطبها وقعت بين الحديث المألوف والخطابة الصرفة” (١٩)، وعبرت عن هذا في سياق تقديمها لنص ترثى فيه ملك حالها بوصفها امرأة مصلحة محبطة، كتبت مي“:

لا أعرف في كل ما كتبت نبذة أبدع من هذه التي تبدو فيها مقدرة مزدوجة كتابية وخطابية يختلط بها شئ من الشجن الشعرى وكآبة المرأة الغزيرة العواطف الدامية الشعور: “يصبونه (الماء) فينصب، ويريقونه فيختفي في الأرض ويضعونه في كل آنية معوجة وملونة فيأخذ كل شئ، ويصطبغ بكل ما يراد به من الألوان. تبخره الطبيعة زارية هازئة، فتارة ترفعه إلى السحاب، وطوراً تقذف به إلى الأرض، وأونة تعاكسه بصقيعها، فيتحول برداً، وأونة تحمى عليه براكينها، فيخرج ملتهباً ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال يضعون فيه سكراً فيحلو، ويذيبون به الحنظل فيمر، ومع ذلك، لا يقيمون له وزناً، ولا يعترفون له بجميل، إنه مثلى يا مي يذهب ضياعاً (۲۰).

ربما تبدو ميابنة مخلصة للتصور الرومانسي للشعر من حيث هو تعبير عن الآلام، حيث تؤمن بأن الألم مصدر أساسي للإبداع، لأنه مغذى الذكاء، ومهذب الشعور ومنبه الإدراك إلى معان جمة وأساليب فكرية (٢١)، لكنها في الوقت نفسه ترى أن المعاناة تكسب صاحبها وعياً وتمنحه المقدرة على قوة الكتابة وبلاغتها(۲۲). غير أننا نلفت النظر إلى نوع خاص من الحـزن هـو الحـزن الأنثـوى (كـآبة المرأة، الغـريزة، العواطف…) بوصفه مصدراً أصيلاً لوعى ملك/ المرأة: “لقد فعل الحزن هنا ما يفعله في كل نفس صالحة، فكان اليد المنبهة الخصب الجانية الخيرات… (۲۳). كـان حـزن ملك في رأي مي حـافـزاً قوياً إلى مناداتها بضرورة إصلاح حال المرأة في مجتمع تسوده مواضعات استغلالها واستلابها وتهميشها وإحباطها. وبدت خصوصية حزن المرأة هنا وليدة الظرف الاجتماعي الذي تتعرض له المرأة دون الرجل، وعلى هذا لا تخرج هذه الكآبة الأنثوية عن كونها صفة مكتسبة طالت امرأة ذات تركيب خاص مثل ملك.

كما تلفت مي الأنظار إلى وسيلة بلاغية أخرى اعتمدت عليها ملك في كتابتها الإصلاحية، وهي التهكم الذي لا مرارة فيه واللجوء إلى النكتة. وقد نسبت مي طريقة ملك التهكمية إلى الظُرف المصرى” (٢٤)، وغالباً ما يكون الرجل هو مدار تهكم ملك. من ذلك على سبيل المثال ما ذكرته في مقالها عن تعدد الزوجات: “فما أقدر زوج الضرتين على التفنن! ولو أنصفوا لعينوا زوج كل اثنتين سياسيًا أو ناظراً للمستعمرات! (ولكن الذي يؤسف له أنا ليس لنا مستعمرات)(٢٥). والطريقة التهكمية التي انتقدت بها ملك الرجل تبدو وطيدة الصلة بالحديث اليومي المعتاد (المألوف)؛ ولهذا نسبتها مي إلى مـا أسـمـتـه بالظرف المصرى، ويبدو اسـتـخـدام ملك لهذه الطريقة اسـتـمـراراً لاستخدام التحايل: بمعنى أنها وسيلة أخرى للتأثير والضغط والإقناع، حيث تتوارى خلف النكتة، لا سيما أنها تعرض بالرجل (المسيطر) سواء كان زوجاً أو أباً.

والملاحظ أن طريقـة ملك في الكتابة تتـحـول إلى المبـاشـرة والـتـحـدد. وتتجنب الصياغة البيانية والتعبيرات الإنشائية في مواضع أخرى من كتابتها، ويظهر هذا بوضوح عندما يكون لها وجهة نظر محددة المعالم والشروط، كما يبدو في كلمتها التي ألقتها في نادي حزب الأمة، وأنهتها ببنود الإصلاح التي تلخص مشروعها الإصلاحي، وفي هجومها على مدارس الراهبات ومراقصة النساء للرجالإلخ.

وبدا أن ملك في تناولها لهذه الموضـوعـات قـد اسـتـمـدت قوة خطابها ووضـوحـه ومباشرته من استنادها إلى الشرع والعرف العام والتقاليد المحافظة المبررة دينياً أو أخلاقياً؛ فلم تكن الصياغة لديها في حاجة إلى المبالغات البيانية أو الصور التمثيلية التي استخدمتها في سياقات أخرى كان ينقصها فيها الحجة القوية.

لكن ميلم تلتفت وربما لم يشغلها ذلك إلى هذه السمة في كتابة ملك، وإن كانت قد تصدت لمناقشة ملك في هذه الموضوعات على نحو خاص، لتدلي بوجهة نظرها المتعارضة مع ما تراه صاحبتها. أما الذي شغلت به ميفي حوارها مع ملك عبر الرسائل المتبادلة بينهما فهو الطريقة التي اتخذتها ملك في مواضع متعددة، من خطابها الموجه إلى الرجل، حيث الإعلان عن التمرد والإفصاح عن الشكوى، والتعبير الملح عن الضـجـر والاستياء من الرجل، من هنا كانت دعـوة ميإلى نوع آخـر من التحايل في الخطاب الموجه إلى الرجل؛ وهو أن تستبدل ملك باستيائها وصرخاتها ما يفيد إذعانها وتسليمها، بوصف هذا الإذعان شكلاً أكثر نجاحاً في التصدي للرجل المسيطر ومقاومته. كتبت ميموجهة خطابها إلى ملك:

جئت أسر إليك أمراً وقفت عليه عندما شهدت صدى مقالتك لدى جمهور القراء. اسمعي يا سيدتي الباحثة، وصوني سرى! رأيتهم جميعهم يتقبل أقوالك بنظرة الفخر وابتسامة الإعجاب، ولكني رأيت كذلك أسيادنا الرجالأقول أسيادنا مراعاةبل تحفظاً من أن ينقل حديثنا إليهم فيظنوا أن النساء يتـآمـرون عليهم، فكلمة أسيادنا تخمد نار غضبهم، رأيتهم يطربون لتصريحنا بأنهم ظلمة مستبدون. نعم آنست ذلك في ملامح كل من قرأ مقالك أمامي من أسيادنا الرجالكذلك الرجل، يسر، ويرجو، ويريد أن تشعر المرأة باستبداده ظناً منه أن الاستبداد هو السيادة، وأن هذه مقياس ذاتيته التي يريدها كبيرة. رضيت المرأة من تلك السيادة أم تمردت عليها في نظره سيان، بل أظنه – سامحني الله إن كنت مخطئة . مؤثراً تمردها على إذعانها، لأنها كلما تمردت زاد شعوره بالسيطرة (٢٦).

إن دعوة مي لملك هنا تكشف عن ذهنية امرأة مختلفة؛ حين تجعل مقاومة التحيز الذكوري بالإذعان أقوى وسائل المقاومة، وتثير في الوقت نفسه تساؤلاً عما إذا كانت ترى أن الكتابة التي تعلن التمرد تنتهي إلى الفشل السريع، خصوصاً إذا كانت لا تحمل تصـوراً بديلاً مـحـدداً ومـجـاوزاً لما يراه الرجل ولا تحمل بالتالي تصـوراً لوعي مستقبلي! لقد كانت مي مشغولة بالكيفية التي يمكن بها لكتابة المرأة اختراق خطاب الرجل المسيطر، ومن هنا كان اهتمامها الخاص بكتابة النساء. وبصياغة خطاب نقدى يشرح، ويفسر، ويبشر، ويخطط أيضاً لإمكان وجود كتابة نسائية متمايزة، تمثل صوتاً مغايراً للصوت الرجولي الأوحدوالمهيمن منذ الأزل. وقد حاولت ميأن تحقق ذلك فيما بعد في دراستها عن عائشة تيمور(۲۷).

غير أن ميفي قراءتها لكتابة ملك حفنى ناصف وقعت في مزلق التعميم بالنسبة للمرأة، فأصبحت كتابة ملك وكأنها تمثل مطلق كتابة المرأة، وذلك حين تحدد مي سمات للأنوثة في مقابل سمات للذكورة، مزكية ذلك التقابل التراتبي الذي حاولت أن تزلزله فيما بعد في دراستها عن عائشة تيمور فرأت ميالرجل صاحب فكر وعقل وطموح، في حين أن المرأة مهما تمثلت الفكر، فهي لا تستطيع التحرر من إرث توارثته عبر العصور، وهو اتسامها بقوة الشعور وقوة الحب إلى السمو والجلال اللذين يجعلان منها إلهة سامية(٢٨). وضعت ميهذه السمات في سياق الإيجاب بالنسبة للمرأة، لأنها ترى أن قوة المرأة مستمدة من هذا السمو بحكم الإرث، ومن هنا تراها سمات ثابتة خاصة بالمرأة مطلقاً، وعلى هذا النحو تبرز الاختلاف بين المرأة والرجل، في قولها عن الرجل الموجه إلى ملك:

إنه إذا أجـال قلمـه في الخـصـوصـيـات فهو لا يستطيع البلوغ إلى نور الوجدان النسائي، لأنه يكتب بفكره، بأنانيـتـه، بقساوته، والمرأة تحـيـا بقلبـهـا، بعواطفها بحبها (۲۹).

وعلى الرغم من أن ميتكتب عن اختلاف المرأة في سياق الدفاع عنها وإظهـار تمايزها الخلاق عن الرجل، فإنها تروج لتصور سائد يزكيه خطاب الرجل دائماً ولا يزال عن المرأة، وهو اقترانها بالعاطفة والوجدان دون العقل والفكر. وحين تقابل ميبين قاسم أمين وملك حفني ناصف، فإنها تقيم هذا التقابل على أساس التمايز المرتد إلى الهوية الجنسية: رجل/ امرأة، فتقول عن ملك:

فطرتها نسائية تنتقد، وتنكت، وتتألم، وتشفق، وترتقي منبراً خيالياً، تخطب بالإصلاح، ثم تضحك، تبكي، وتأتي بجميع الأقوال والحركات التي تجعل المرأة محبوبة كالطفل، بليغة كالشاعر، خلابة كالسحار

أما قاسم أمين فهو قلب تثقله العواطف الطروبة وفكر شغف بالعدل والإنصاف والحقيقة (٣٠).

أضافت مي في قولها السابق عن ملك تعبير فطرة نسائيةإلى تعبيراتها السابقة: “طبيعة نسائية” “مزاج نسائی” “جنس نسائیمما يزكي لديها ثبات الصفات التي تخلفها على المرأة، وكلها تؤكد الانفعال، والتقلب من حال إلى حالإلخ، في مقابل التوازن الرجولي. وكأن ميبتعميمها الذي أطلقته على المرأة كانت تكرس للتقابل التراتبي الحاد بين الرجل والمرأة (أو الذكورة والأنوثة)، وهو ما ستؤكده ميفي المقارنة التي عقدتها بين قاسم أمين الرجل المصلح، الأستاذ، وملك المرأة، المصلحة، التلميذة.

ومع هذا فكتابة مي على كتابة ملك فتحت مجالاً جديداً يطرق لأول مرة في تاريخ الكتابة العربية الحديثة، وهو تناول أنثوية الكتابة، وخصوصية هذه الأنثوية، وذلك حين طرحت تصورها عن ملك الكاتبـة التي جمعت بين المزاج النسائي والذاتيـة الأدبية؛ بمعنى تفردها بوصفها شخصية نسائية أدبية. لكنها لم تتحيز لملك رغم إشادتها ببراعة صياغتها وقدرتها على التأثيرإلخ، بل حرصت على توضيح نقاط الخلاف بينهما؛ حين عرضت لتقييم وعي ملك بوصفها امرأة تتصدى لإصلاح حال المرأة المصرية، فكشفت عن القصور الذي اتسم به مـشـروع ملك الإصلاحي، بحيث بدت السمات التي نسبتها فيما سبق إلى كتابتها (الخطابية، الانفعالية، الأنين…) هي الشكل المجسد لرؤيتها الإصلاحية بما هي امرأة لكن كيف فكرت ملك بوصفها أمرأة في إصلاح شئون المرأة من وجهة نظر مي؟

ليس هناك أدني خلاف بين مي وملك حول ضرورة النهوض بحال المرأة لتجاوز وضعيتها المتدنية؛ فالهم واحد إلى حد كبير؛ غير أن ميجعلت من خطابها النقدي (الانتقادي على حد تعبيرها) حول كتابة ملك خطاباً تحررياً، يبصر المرأة القارئة، كما يبصـر المجتمع الذي تعيش فيه بما يمكن أن يعوق تحرر المرأة وتقـدمـهـا حـاضـراً ومستقبلاً، ذلك أنَّ ميفتحت باب التفكير والمناقشة من خلال المقارنة التي أقامتها بين إصلاح ملك وإصلاح قاسم أمين، لقد وضعت قارئاتها وقراءها أمام طريقين في الإصلاح، ينهج أحدهما قاسم أمين بوصفه رجلاً، أما الآخر فهو الذي اختارته ملك بما هي امرأة من ذلك الزمان والحقيقة أن هذه المقارنة تضعنا أمام الإشكال نفسه الذي أشرت إليه سابقاً والذي يتعلق برؤية مي للأنوثة والذكورة ودعمها للتقابل التراتبي بين الرجل والمرأة.

وقد تكون ميمحقة فيما يتعلق بملك، بوصفها أنموذجاً لوعى امـرأة اختارت الطريق الأشد محافظة والأكثر أماناً، وإن كان اختيار ملك لا يعني أنه يخص المرأة على الإطلاق؛ أي في كل زمان ومكان، ومع ذلك يظل لهـذه المقارنة بين قاسم أمين وملك جانبها الإيجابي، قالت مي:

باحثة البادية تصلح كامرأة، وقيل إن المرأة أكثر تشبثاً بالماضي، وقاسم أمين يصلح كرجل، أي يرسل نظره أبداً إلى الأمام، هي تسير بتحفظ بين تشعب الأفكار الجديدة والآراء المستحدثة، وكلما خطت خطوة التفتت إلى الوراء لتتثبت من أنها تابعة السبيل الذي يربط الأمس بالغد (۳۱).

تضعنا ميأمام الأنوثة والذكورة مرة أخرى لتمايز بين:

وعي ملك المرأة ووعى قاسم أمين/ الرجل، فوعي ملك محـدود منغلق على ذاته، متواضع وخائف ووجل، في حين أن وعى قاسم أمين/ الرجل مستقبلي، ومنفتح على الماضي والحاضر وعلى جـمـيـع البـيـئـات والأمم والتـواريـخ ومؤسس على اختطاف النظريات ثم تحويلها إلى واقع. وكانت مي قد انتقدت فيما سبق كتابة ملك بأنها محدودة لا تطلق العنان للخيال ولا تجاوز جدران الغرفة التي تسكنها؛ ذلك أن رؤيتها كانت محصورة في البيئة الضيقة بسبب افتقادها للوعي النظري الذي يعينها على وضع تصور لمستقبل أفضل للمرأة.

وليس هناك شك في أن ميالتي أصدرت هذا الحكم، كانت تعي الدور العملي الذي قامت به ملك من أجل حفز كثير من الأسر المصرية على تعليم بناتها، حيث كانت تقوم ملك نفسها بزيارة تلك الأسر وإقناعها بذلك. كما وعت ميايضاً ما طالبت به ملك من ضرورة مواصلة الفتيات تعليمهن حتى المرحلة الثانويةإلخ؛ لكن مشروع ملك الإصلاحي الخاص بالمرأة والارتقاء بها يبدو شديد المحافظة، الأمر الذي أدى ببعض كتاب عصرها إلى وصفها بأنها لا ينقصها سوى العمة لتصبح شيخاً (۳۲). وعلى الرغم من أن ميكانت أميل إلى القول بأن الفرق بين إصـلاح قاسم أمين وإصلاح ملك حفنى ناصف يبدو طفيفاً، فإنها أوضحت بجلاء فروقاً دقيقة بينهما تكشف عن مجاوزة الأستاذ للتلميذة.

غير أن المأزق الذي وقعت فيه مي أنها قرنت اختيار ملك بنوعها النسائي، ولم تطرح سؤالاً عن السبب في انتحاء ملك للمحافظة الشديدة، وما إذا كانت المسألة تتعلق بطبيعة المرأة أم بالتكوين الثقافي والمعرفي لملك، فضلاً عن تنشئتها الاجتماعية والصعوبات التي كانت تواجهها، كما كانت تواجه أي امرأة مسلمة تتصدي للإصلاح في ذلك الوقت المبكر، فتفرض عليها الوجل والخوف والتردد إزاء اختراق الخطاب السائد والمهيمن، صحيح أن ملك عبرت عن استيائها وضجرها من استبعاد الرجال للنساء، لكن إذا عدنا إلى عبارتها التي تعلن فيها هذا الاستياء، وجدناها لا تطلق العنان لنفسها باتخاذ مبادرة نسائية مستقلة عما يطرحه الرجل: لقـد قيدت صرخاتها وحددتها بمطالبتها الرجل أن يمنحها حرية الاختيار مما يطرحه هو من تصورات مختلفة: “ليدعنا الرجل نمحص آراءه ونختار ارشدها، ولا يستبد في تحريرنا كما استبد في استعبادنا ولم تستطع ملك أن تكرس للاستقلال الذاتي للمرأة، الذي يجعلها تطرح قضيتها بنفسها. وتختار وتقرر بنفسها بعيداً عن آراء الرجل واختياراته، والحقيقة أن ملك عندما قررت الاختيار اتجهت نحو ما يرضي الاتجاه الأكثر محافظة وتشدداً. وهذا هو ما أرادت أن تنبه إليه مي، أي ادركت اضطراب نظرة ملك لتحرير المرأة وإصلاح حالها، خصوصاً أنها تعاملت بالأساس مع المرأة بوصفها قيمة استعمالية ينبغي أن يحسن التعليم من شروطها، بوصفها زوجة مرة، وبوصفها أماً مرة أخرى لترقى، في كل الأحوال في عين الرجلوتلك هي النظرة السائدة أنذاك لدى الرجال المحافظين الذين لم يعـارضـوا تعليم المرأة، وعلقوا أهميته على أنه من أجل الرجل والأبناء.

من هنا ذكرت ميأن ملك لم تتعامل مع المرأة بوصفها ذاتا مستقلة، وإنما بوصفها تابعة للرجل؛ وعلى هذا كرست في نسـائيـاتهـا لدور المرأة الزوجة، تقول مي“: “ظل اهتمامها محصوراً في موقف الزوجة ومركزها في العائلة والأمة، كانت بالزوجية أكثر اهتماماً منها بأي دور نسائی” (۳۳). وتضع ميهذا التصور الخاص بملك في مقابل تصور قاسم أمين، الذي طالب بتـربـيـة المرأة على أن تكون مستقلة: “على أن تكون لنفسها، لا أن تكون متاعاً للرجل، ربما لا يتفق لها أن تقترن به مدة حياتها، وأن تربي على أن تدخل المجتمع وهي ذات كاملة، لا مادة يشكلها الرجل كيفما شاء، وان تربي على أن تجد أسباب سعادتها وشقائها في نفسها لا في غيرها“(34).

أوضحت ميفي انتقادها لمشروع باحثة البادية الإصلاحي أن هذا الإصلاح جزئي وموضعي لا يستهدف المستقبل؛ حيث أشارت إلى أنها كانت تريد إصلاحاً سريعاً لأن الشقاق بين الجنسين يؤلمها (35)، بل إنه كان مؤسساً على الأخلاقيات المعيارية التي حاصرت المرأة جسداً وعقلاً، فطروحات ملك لإصلاح وضعية المرأة كما تتجلى في بنود الإصلاح وفي الاقـتـراحـات التي قدمتها إلى المؤتمر المصري الأول المنعقد في1911(36) – بدت مقيدة بإرث يفرض على المرأة مزيداً من العزلة والاستلاب، كما كانت تكرس للتعامل مع المرأة بوصفها كائناً قاصراً من ناحية، وتستهدف تثبيت الأدوار التقليدية المنوطة بها من ناحية أخرى.

كان وعى ميمجاوزاً لوعي ملك حفنى ناصف، وكانت ثقافة في المنفتحة وراء هذا الوعي الذي مكنها من التقاط نقائص توجه ملك ومن رؤية الجانب التقدمي في أفكار قاسم أمين الإصلاحية. إن كتابة مي زيادةكتابة نسائية رائدة وتنويرية على مستوى النقد الأدبي والفكري والاجتماعي؛ ذلك أنها تكشف عن نوعين من الكتابة والرؤية؛ فهي تبين كيف كانت كتابة ملك ترضى المجتمع الذكوري المبالغ في محافظته، والذي فتح نافذة ضيقة على الاستنارة، فكان يريد للمرأة أن تتحرر بشروطه التي لا تسمح للمرأة الخروج من قبضته والانفلات من تحت وصايته، وهي شروط مسيجة بالمبررات الدينية والأخلاقية التي ترغم المرأة على الإذعان والاستسلام. ومن اللافت أن إعجاب أحمد لطفى السيد بنسائيات ملك، الذي عبر عنه في تقديمه لهذا الكتاب، يرجع إلى أن ملك جعلت أسـاس بحثهـا تقـرير المساواة لا على جهة الإطلاق، بل في حـدود الاعتدال والدين (۳۷). لقد ذكَّي أحمد لطفي السيد توجه ملك وقناعتها لأنه يعلن صراحة في هذه المقدمة أنه لا يؤمن بإطلاق المساواة بين الجنسين، لأنها تخالف الدين من ناحية وتخالف الحيطة من ناحية أخرى“(۳۸).

كما أظهرت كتابة ميالنقدية أيضاً كيف كانت صاحبتها مهتدية بالتيار الأكثر استنارة بالنسبة للخطاب الذكوري الممثل في قاسم أمين، والأكثر استشرافاً لمستقبل أفضل للمرأة. من هنا كانت ميأكثر انطلاقاً في التبشير بمستقبل أفضل للمرأة مع نمو ارتقاء وعي المرأة بقضيتها. وربما تعطى ميالانطباع بمجاوزتها لقاسم أمين؛ ففي إحدى رسائلها إلى ملك كتبت معبرة عن أملها في تقدم المرأة وارتقائها :

الرجل ملك مـتـداع عـرشـه؛ لأن ريح الفوضى تهب عليـه من كل جانب، وخطوات الارتقاء النسائي تتوالى متكاثرة متمكنة مع مرور الأيام” (٢٩).

لكن ميالتي عبرت عن تفاؤلها واستبشارها بالمستقبل الأفضل للمرأة، لم تكن تقصد إعادة إنتاج التراتب الذكوري واستبدال عرش بعرش، إنها تريد أن تحظى باعتراف الرجل بها شريكة مساوية له. من هنا تستدرك بعد قولها السابق:

لكنه ملك عزيز، هو الأب والأخ والصديقلذلك نريد له خيراً، ونجتهد في تأييد دولته، بشرط أن ينصب عرشنا بقرب عرشه، وأن نقف إلى جنبه وقفة المثيل بجوار المثيل.

نريد أن نكون متساويين في الحقوق الأدبية والعمرانية، مادمنا متساويين في الواجبات والمسئولية (٤٠).

استدركت مي لتعلن عن قناعتهاوربما كانت قناعة مرحلية بالمساواة مع الرجل،

وطالبت بها في ظل السيطرة الرجوليـة مرجئة تحقيق أمالها وطموحاتها البعيدة بالنسبة للمرأة لفعل تراكم ارتقاء المرأة عبر مرور الزمن.

ولعلنا لا ننسى أنه لم يكن في وسع هذا الجيل من النساء أن يجـاوز عـصـره فيتخطي خطاب الرجل يصنع خطاب نسائي بديل ومغاير لهذا الخطاب المهيمن، أو بعبارة أخرى، خطاب يعبر عن وجهة النظر النسائية المستقلة استقلالاً ذاتياً يبعدها عن الوصاية الذكورية المفروضة من الخارج؛ ذلك أن كتابة النساء كما هي لدى ملك ومي مع كل ما كانت تحمله من طموح إلى الاستقلال أُنجزت تحت مظلة الحماية الأبوية، من هنا كانت هيمنة القيم الذكورية بتنويعاتها المبالغ في محافظتها أو المستنيرة قوية التأثير لدى كلتيهما مع تفاوت كبير بينهما.

كان وعي ملكومىمؤسسين على إدراك الاختلاف: اختلاف المرأة عن الرجل، وعلى الرغبة في استقلال المرأة بحيث تصبح صاحبة إرادة حرة، تواجه مشاكلها بنفسها، لكن ملكلم تكن مؤهلة لا بوعيها ولا باختيارها لاختراق الخطاب الرجولي السائد، فيما يخص المرأة في مجتمع مدنى حديث، وهذا ما حاولت ميان تكشفه في دراستها المتأنية. كما أن وعي ميكان يعمق من الهوة بين الرجل والمرأة، وقد بدت ميفي بعض مواضع دراستها وكأنها تعيد إنتاج الاختلاف بين الرجل والمرأة من وجهة نظر الرجل.

لكن خطاب ميالنقدي على أية حال فتح الباب لتداول وجهات النظر المختلفة والحوار لأول مرة بين المرأة والمرأة من جهة، وبين المرأة والرجل من جهة أخرى حول قضايا تخص المرأة، أهمها قضية تحريرها في مجتمع كان قد بدأ يدرك أن تحديثه أو تطوره معلق على النهوض بحال المرأة. كما أدركت النساء أهمية أن يتبنين الحديث عن مشاكلهن وأوضاعهنإلخ، ومن هنا كانت كـتـابة ميالنقدية تغـذي الوعي النسائي الـتـحـرري، وتطرح إمكانات الاستقلال الذاتي للرؤية النسائيـة والبـلاغـة النسائية.

الهوامش

(1) أخذت أول مجلة نسائية لصاحبتها هند نوفل (في أول عدد لها ۲۰ نوفمبر ۱۹۸۲) على عاتقها مهمة حفز النساء على الكتابة والتعبير عن أفكارهن ومناقشة قضاياهن، كما تولت هذه المهمة مجلة فتاة الشرقلصاحبتها لبيبة هاشم، التي كتبت في أول عدد لها (١٩٠٦) تحرض المرأة على أن تكتب بنفسها عن نفسها، معللة ذلك بقولها: “إن الرجل يكتب عن المرأة كما يعلم ويفكر، أما المرأة فتكتب عن نفسها كما تعتقد وتشعر

(2) كانت ميواعية بموقف الثقافة العربية القديمة المعادي لتعليم المرأة الكتابة، من ذلك على سبيل المثال ما أشارت إليه في إحدى رسائلها إلى جبران خليل جبران في 15 يناير ١٩٢٤: رسائل می تقديم جميل جبر، بیروت، ١٩٥١، ص ٦٦، يمكن مراجعة موقف الثقافة العربية القديمة في هذا العدد: خليل أحمد خليل، المرأة وقضايا التغير الاجتماعي، بیروت، دار الطليعة، ط۲، ۱۹۸۲، ص ۵۸. 68، 80

(3) نشر کتاب عائشة تيمور: نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال في مصر، مطبعة محمد افندی مصطفی، ۱۸۸۷، ۱۳۰۵ه.

(4) نوهت ميباسبقية عائشة تيمور على ملك حفنى ناصف في معالجة الموضوعات الاجتماعية والمطالبة بحق المرأة في التعليم والعمل، وجعلت هذا التنويه استدراكاً للرأى الشائع بأن ملك كانت أول مصرية تعرض لذلك؛ مي زيادة، عائشة تيمور، شاعر الطليعة، بيروت، مؤسسة نوفل.ط2 ۱۹۸۳.

(5) لصاحبة هذا البحث دراسة عن كتابة المرأة العربية الروائية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. قيد النشر .

(6) وداد سكاكيني، مي زيادة في حياتها وآثارها، مصر، دار المعارف، ١٩٦٩.

كتبت وداد سکاکینی دراسة مبكرة من كتابها (مي زيادة) خصصتها لعدد من النساء الشهيرات في مجالات مختلفة من ضمنهن (مي). نساء شهيرات من الشرق والغرب، القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، مؤسسة فرانكلين.

(۷) عائشة عبد الرحمن، الشاعرة العربية المعاصرة، القاهرة، معهد الدراسات العربية، ١٩٦٢/ ١٩٦٣. ناقشت عائشة عبد الرحمن موضوع الأدب النسوي في مقدمة كتابها الشاعرة العربية المعاصرة. وكتابهافي كل الأحوال يثير أكثر من سؤال حول مفهومها للأنوثة. يرجع أيضاً إلى: وداد سکاکیني، إنصاف المرأة، دمشق، مطبعة الثبات، ١٩٥٠، ص ص ٦١ – ٦٧.

(۸) مي زيادة، باحثة البادية، بحث انتقادی، مصر، مطبعة المقتطف، ۱۹۲۰

(9) المرجع السابق، ص ١٥٤ – ١٥٥.

(۱۰) ذكرت ميأنها قرات النسائيات لـ ملك حفنى ناصف في عام ١٩١٤، في سياق المقارنة بين ملك وقاسم أمين، المرجع السابق، ص ١١١. كما عبرت عن فضل ملك عليها قارئة وكاتبة في الكلمة التي ألقتها بمناسبة الذكرى السابعة لوفاة ملك.

باحثة البادية، النسائيات مجموعة مقالات نشرت في الجريدة في موضوع المرأة المصرية،

القاهرة، دار الهدى، د. ته، ج۲/ ٤٠.

(۱۱) مي زيادة، باحثة البادية، من 13.

(۱۲) المرجع السابق، من ۸۲۷.

(۱۳) نفسه، من 66.

(١٤) يفرق النقد النسائي الغربي الحديث بين ما هو تسوى Feminist من حيث هو خطاب سیاسی يتعهد بالنضال ضد كل أشكال السيطرة البطريركية والتحيز الجنسي؛ وبين ما هو مؤنث Female ارتكازاً على الجانب البيولوجي؛ والأنوثة Feminine بوصفها منظومة من السمات المحددة ثقافياً.

حول دلالة هذه المصطلحات ومناقشة هذه الفروق يمكن الرجوع إلى:

Moi, Toril, “Feminist, Female, Feminine”. The Feminist Reader: Essays in Gender and Politics of Literary Criticism, edited by Catherine Belsey and Jane Moore, London, Macmillan, repr. 1993. P. 117-132

(١٥) مي زيادة، باحثة البادية، ٨٦ – ۰۸۷

(١٦) المرجع السابق، ص ۱۳ – ١٤.

(۱۷) نفسه، من 14.

(۱۸) نفسه، ص ٦٠ – ٦٢.

(۱۹) نفسه، ص ٦٧ – ٦٨.

(۲۰) نفسه، من 68 – 69 .

(۲۱) نفسه، ص ۷۰۸

(۲۲) نفسه، ص ۷.

(۲۳) نفسه، من ٦٨.

(٢٤) نفسه،ص٤٥، اشارت سهير القلماوي إلى قدرة ملك على الوصف المنطوى على السخرية المرة، من خلال بعض الصور التي رسمتها ملك منتقدة تسلط الرجل وظلمه من ناحية، ووضع المرأة المزري من ناحية أخرى، ومعظمها ما أشارت إليه مي زيادة من قبل: آثار باحثة البادية، جمع وتبويب مجد الدين حفنى ناصف، تقديم سهير القلماوي، القاهرة المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، ١٩٦٢، ص ص ٢٦ – ۰۳۱

(٢٥) مي زيادة، باحثة البادية، من 45. أمثلة أخرى، ص 45– ٤٧.

(٢٦) المرجع السابق، ص ص ١٥٧ – ١٥٨.

(2۷) لصاحبة هذا البحث دراسة عن مي والنقد النسائي، قراءة في كتابها عائشة تيمور، مجلة ألف القاهرة، الجامعة الأمريكية، عدد ۱۹، ۱۹۹۹

(۲۸) مي زيادة، باحثة البادية، ص ۲۲

(۲۹) المرجع السابق، ص 14۸.

(۳۰) نفسه، ص ۳.

(31) نفسه، ص125.

(۳۲) نفسه، من ٩٦.

(۳۳) نفسه، ص ٢٥، من المثير أن ملك في إحدى محاضراتها عن وظيفة المرأة في المجتمع الإنسانيحاولت أن تفرق بين الأنثى والمرأة، موضحة أن مفهوم المرأة يجاوز الأنثى، غير أنها اضطريت في تحديدها لوظائف المرأة، وعادت لتكرس للأدوار الطبيعية والسمات الغريزية: آثار باحثة البادية، مرجع سابق، ص 130 وما بعدها. يمكن الرجوع أيضاً إلى النسائيات ج1/ ص ص ۱۱۰۱۱۲، ايضًا ص ۱۲۱ حيث قالت ملك مكرسة لانقياد المرأة للرجل وأن الارتقاء بها يتم لصالحه ووفق شروطه والمصلحة العامة فوق الإعجاب، وإننا في كثير من أمورنا نسير وفق ما يراه الرجال، فليرونا ما يحبون وكلنا مستعدات للسير بمقتضاءفماذا يرفينا في أعين الرجال؟ يرقينا حسن التربية والتعليم الصحيح إلخ .

(٣٤) مي زيادة. باحثة البادية، ص ١٣٢، اقتبست من هذا النص لقاسم أمين من كتابه المرأة الجديدة؛ يرجع إلى: المرأة الجديدة، ضمن الأعمال الكاملة لقاسم أمين، دراسة وتقديم مـحـمـد عمـارة القاهرة، دار الشروق، ط۲، ۱۹۸۹، من 468.

(٣٥) مي زيادة، باحثة البادية، ص ۹۲۹۳.

(٣٦) عقد هذا المؤتمر لبحث شتى الإصلاحات التي يجدر بالأمة والحكومة إنتهاجها، وقد عقد في ٢٩ أبريل حتى 4 مايو ۱۹۱۱: آثار باحثة البادية، مرجع سابق، من ٥٣ – ١٥٩. مي زيادة، باحثة البادية، من ٩٢ – 95.

(37) أحمد لطفي السيد ، مقدمة النسائبات، والنسائيات، جـ1،ص8

(۳۸) مقدمة النسائيات، ص ۷.

(۳۹ – ٤٠) مي زيادة، باحثة البادية، من 159 – 160.

أمثلة من البناء الأدبي

لحياة ملك حفنى ناصف

مارلين بوث

في ديسمبر ۱۹۱۸ نشرت مجلة فتاة الشرق نعياً للكاتبة والمصلحة المصرية ملك حفنى ناصف (۱٨٨٦۱۹۱۸). ولم يكن النص مجرد رثاء: بل كان يقدم ترجمة لحياة ناصف. وكانت بلاغة النص تفيض بأسلوب خطابي يساعد على الربط بين ترجمة ناصف والسياسة المعاصرة لقضية المرأة في مصر. اختتمت الترجمة ببيان واضح عن ملاءمة هذه الترجمة لتصبح مثالاً حياً ليس على المستوى التجريدي بل على وجه إيجابي، لمنفعة قارئات المجلة وغيرهن. فقال النص: “فانصرفت (ناصف) إلى جوار ربها تاركة من جميل المآثر والآثار ما يصح أن يكون مثالاً للفتيات وللسيدات ينسجن عليه ونبراساً يهتدى بأنوارها“(1). فأصبح تعبير مجاملة متجه الى صاحبة الترجمة الراحلة مرشداً للنشاط بين الأحياء.

اشتملت المجلات النسائية التي نشرت في مصر ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر على أبواب ثابتة أو مستمرة منها باب تراجم شهيرات النساء. وفي هذا العصر ايضاً ظهرت كتب تراجم أو طبقات ركزت على تراجم شهيرات النساء دون غيرهن. وفي اختيارها لصاحبات التراجم جمعت بين نساء من الشرق والغرب، ومن الجنوب والشمال، ومن الماضي والحاضر. إنى أعتبر هذه التراجم نوعًا مثيرًا من أنواع الكتابة أو التعبير حول قضية المرأة في مصر في ذلك العصر(٢). وفي هذا البحث أقدم بعض النصوص التي تناولت سيرة حياة ملك حفنى ناصف بوصفها أمثالاً بلاغية تبين سمات هذه التراجم الحديثة والمبنية على نموذج قديم في التقديم النصي لحياة الفرد، لكي اميز دور هذا النوع الأدبي في المنازعات عن مكانة المرأة في مصر في أوائل القـرن العشرين.

سوف أتناول تراجم شهيرات النساء بوصفها نوعاً أدبياً في سياق وجود كتاب الـدر المنثور في طبـقـات ريبات الخـدور الذي أصدرته زينب فـواز في القاهرة في سنة ١٨٩٤(3). أحسب هذا الكتاب الضخم نصاً مثالياً شجع محررو المجلات النسائية ومحرراتها على كتابة تراجم لنساء متميزات أو شهيرات ونشرها في مجلاتهم. كيف استغلت فواز التراث الأدبي في خدمة رؤية جديدة عن أدوار المرأة في المجتمع المصري أم العربي أم الإسلامي؟ ثم كيف بني جيل ناصف على إنجـاز فواز في كتابة تراجم شهيرات النساء؟ فأرى هذه النصوص تعليقاً غير مباشر على البرامج الاجتماعية المتنوعة للوطنيين والمصلحين والمحدثين المصريين (أو المتمصريين) في الربع الأول من هذا القرن. أخيراً، كيف بقيت النصوص التي روت سيرة حياة ملك حفني ناصف وسير شهيرات النساء بصفة عامة عنوانا للحركة النامية بين النساء المتعلمات في مصر، حركة طمحت إلى تعريف مجال نشاط أوسع لبنات الطبقة الوسطى الصاعدة في الوطن؟

ظهرت الترجمة لناصف السابقة الذكر بين مئات التراجم المختصرة أو المركزة لشهيرات النساء التي نشرت في الصحافة النسائية بمصر منذ بدايات هذه الصحافة في التسعينيات من القرن التاسع عشر(4). اعتمدت هذه اللمحات الوجيزة على تراث نوع أدبي قديم لم يظهر بشكل واضح قبل مئتي سنة بعد نشأة الاسلام، وهذا النوع الأدبي هو كتب الطبقات المشتملة على تراجم الأفراد البارزين في المجتمع الإسلامي الأول ثم من كل جيل. لقد كان مؤلفو كتب الطبقات قد بذلوا جهوداً في تقييم وتقدير الصحابة كمصادر صحيحة للحديث النبوى: ولذلك احتوت الطبقات على نقمة المثالية(5).

وفي أوائل التسعينيات أيضا تبنت الكاتبة زينب فواز هذا البناء الأدبي لكي تؤلف قاموسها الضخم الدر المنثور في طبقات ربات الخدور. كانت فواز تقصر جهودها على النساء لكنها اتخذت رؤية شاملة أو واسعة النطاق نحو الزمن والمكان، فمن آمنة بنت وهب إلى الليدي روسل بنت توماس. ثم استعارت المحررات في الصحافة النسائية ومحرروها نصوصًا من قاموس فـواز ليؤسسوا في بعض المجلات باب شهيرات النساء، وكما حاكي هؤلاء الأدباء التراجم القديمة والكلاسيكية، صنعت فواز ومحررو المجلات ومـحـرراتها بلاغة شبه جديدة في تأليف السيرة أو الترجمة، بلاغة كانت تتميز بالأصالة وبالحداثة في الوقت ذاته، بلاغة كانت تنص على السلوك المفترض على الفتاة المعاصرة أن تسلكه وفي الوقت ذاته قد تعبر عن آمالها وأحلامها.

تقول الناقدة نانسي ك. ميللر وهي تعلق على كتابة السيرة الذاتية الأنثوية في فرنسا، تقول: “إن تسجيل حياة مخالفة للعرف والتقاليد من خلال الكتابة عنهايعتبر إعادة تسجيل المخالفة الأصلية (أو التعدي الأصلي)، وتضيف ميللر قائلة إن في حالة تسجيل الذات الأنثوي، يعني هذا التعدى إعادة مخالفة ميدان الرجولة (6)، فأقول إنه قد تؤكد السيرة الذاتية مسئولية صارخة لهذا التعدي من خلال تدخل الأنافي النص. لكن الترجمة تستطيع أن تجتاز نفس الحد، بخطوة أخف، لأنها تضع مسافة مفروضة – أو خيالية – بين المؤلف / المؤلفة وصاحبة الترجمة. أرى أن المؤلفين في مصر في الصحافة النسائية أدخلوا تراجم شهيرات النساء في قلب المناقشة – أوالمنازعة – حول قضية المرأة. في هذا البحث أتخذ مدخلاً السؤال الآتي: كيف تعكس التراجم في ذكرى ملك حفنى ناصف والمنشورة في المجلات النسائيـة مـن 1918 إلى 1950 اهتمامات هذه الصحافة، وكيف تعبر عن وظيفة المثالية التي تظهر بوضوح في هذا النوع الأدبي شهيرات النساء – في هذا السياق المنتج. كيف قدمت المجلات كفاح ناصف إلى القارئات والقراء؟

برزت هذه النصوص في فترة شهدت تحولات أساسية وشبه فوضوية في الأبنية الاجتماعية والسياسية. قرئت هذه النصوص لأول مرة في فترة توطيد هيكل استعماری كان يعجل اندماج مصر في النظام الرأسمالي الأوروبي، وكانت هذه الفترة هي فترة انتقال غامر أو مكتسح من الريف إلى المدن وإلى نظام طبقى أكثر وضوحًا وتميزًا. وكانت هذه السنين أيضاً فترة الانطلاق للقضية المسماة بقضية المرأة التي هي أيضًا قضية الرجل، فجمعت هذه القضية ما بين أسئلة الأصالة وهوية الأمة وهوية الفرد، ما بين معضلة ما هو دور الثقافة الغربية ومسألة بناء الاقتصاد الوطني. البحث عن الذات الجمعي الذي تشكل في قالب النهضة وتلون بألوان الوطنية والحركة ضد الاستعمار. ونتجت مناقشة حيوية حول معاني الحداثة والوطنية وتعدد الأديان والجنسيات والارتباطات بينها.

في مصر كما في أمم أخرى عانت من الاستعمار، أنتجت المنازعات حول الحدود المفترضة للوطن صورًا للمرأة المثالية بوصفها عنصراً أساسياً في الرؤى التنافسية للوطن الناشئ. أصبحت مكانة المرأة في المجتمع رمزاً مركزياً وفعالاً في المناقشات الحامية حول قضايا العلمانية والإصلاح الديني والدنيوي. في هذا الصراع كانت المسألة المحورية: كيف تعرف وكيف تخلق حداثة وطنية محلية أصيلة. وبحيث تتعلق قضية الحداثة بتقلبات في نظام الأبوية السائد، فتنتج حالة قابلة للتغير في حدود وتحديد ما هو الخصوصي وما هو العمومي: ما هو الداخل وما هو الخارج: ما هو الأنثوى وما هو الذكوري أو الرجولي، وفي أبحاثي عن تراجم شـهـيـرات النساء أرى الرسالة أو المغزى الممازجة المضمنة في هذه النصوص تعليقاً على بل عنصراً في بروز نظام أبوى جديد، نظام الأبوية العمومية public patriarchy كمـا تسـمـيـه دنیـز کنديوتي وسيلفيا وألبي ومنظرات أخريات. يعني، خضوع المرأة الفعال داخل ميدان النشاط العام والمشترك بدلا من إبعادها عنه. لكني في الوقت ذاته أريد أن أزعم أن المرأة القارئة أو المتلقية قد تجد في هذه التراجم طرقاً أو خططاً لمعارضة هذا النظام الحديث والقديم، لأنها التراجم قد تدل على إعادة تصوير النفس في سياقات اجتماعية شتى، لكنها في آخر المطاف تدل أيضاً على استحالة إفلات المرأة (على الأقل المرأة من الطبقتين العليا والمتوسطة في المدن) من البرنامج الوطني السائد بخصوص تنظيم المجتمع، يعني مركزية العائلة النووية مع المرأة المدبرة للبيت والمعلمة للأولاد، وخصوصا الأبناء الصبيان بوصفها الوحدة الأساسية في بناء الوطن /الدولة.

أرى هذه التراجم والمجلات التي ظهـرت التـراجـم فـيـهـا جـزءاً من ظاهرة صناعة النصوص الإرشادية التي كانت تتسع في أوائل القرن العشرين، مـواز لاتساع قطاع النشر غير الحكومي، ولتمدد نطاق القراء ومستهلكي الكتب والدوريات. من قبل فجر القرن الجديد ظهر فيضان من المنشورات يقصد المرأة والعائلة وسلوك الأفراد في المجتمع الحديث، كانت هذه النصوص تدور حول العلاقات الاجتماعية والجنسية. كل من أدلة أشغال البيت وكتب إيتيكيتورسائل عن المرأة والإسلاموكتب للمدارس خاصة بتدريس البنات، كلها لعبت دورا في تحديد الميادين المناسبة والمفروضة للمرأة والرجل، للفتنـاة والفتي، للأم والأب والبنت والابن، للعـائل والأتباع، فتساءلت هذه المنشورات: ما هي العلاقة بين الإيمان والمسئولية الاجتماعيـة وتقسيم العمل بين الأفراد المرأة والرجل؟ في رأيي، اشتركت تراجم شهيرات النساء المنشورة في المجلات النسائية في تكنولوجية الإرشاد هذه.

لقد استخرجت مئات التراجم من المجلات الكثيرة المتجهة إلى المرأة والفتاة، تلك المجلات المنشورة في القاهرة والإسكندرية، وأيضاً في بيروت ودمشق، (ومن المهم أن أشير هنا إلى كون القارئة المقصودة من جانب المجلات عضواً في الطبقة المتوسطة الناهضة). رسمت هذه السير تجارب صاحبة الترجمة من مولدها إلى الموت أو إلى أحدث نقطة لنجاحها. كتراجم المؤلفات القديمة. افتتحت هذه السير بنسيب ويسلسلة صفات محمودة صاغت صاحبة الترجمة في قالب قدوة مثالية كما وضعتها في سياق عائلي واجتماعي معين. مثلاً في ترجمتين منشورتين في فتاة الشرق و في مجلة المرأة المصرية في 1918 وفي ١٩٢١، توصف ملك حفنى ناصف أولاً – في استهلال النص كبنت أبيها وكزوجة، ويمدح كل من الترجمتان أخلاقها(٧)، وبعـد ثلاثين سنة ألمحت كاتبة في مجلة بنت النيل إلى هذا البناء التقليدي عندما افتتحت ترجمتها لناصف بالقول إن: “قد يكون من تكرار القول، أن نكتب عن مناقب ملك حفنى ناصف ….(۸) وقد أدخل الأدباء والأديبات أنماطاً وأساليب معروفة من بلاغة الصيغة القديمة والمحتـرمـة للتراجمأدخلوها في اللغة الجديدة للصحافة وبذلك ألمحوا إلى معان حديثة بينما احتفظوا بالمعاني الموجودة سابقاً والمستمرة.

ولكن على عكس النماذج القديمة، كانت تراجم المجلات النسائية التي روت سير نساء من العالم العـربـي ومـن تـركـيـا والفرس والهند والصين وأوروبا وأمريكا الشمالية تخرج بتعميمات من الترجمة وصاحبتها تصل إلى تواريخ علاقات النوع gender relations والبرامج العصرية للوطن في احـتـيـاجـاتهـا كـمـا رأتهـا مـحـررات المجلات ومحرروها. مثلا: في ترجمة لناصف نشرت في سنة ١٩٢٥، يقدم النص أحوال ناصف كـأنهـا أحـوال غير عادية، ليس من المفروض أن تستمر غير عادية. فيساند النص مـوقف زوج ناصف الإيجابي على حسب النص بالنسبة لنشاط ناصف الأدبي المستمر بعد زواجها بالتعليق بأن حرية الرأي هذه، التي سمحت بنشرها مقالاتها، كانت نادرة بين رجال مصر. في الفترة ذاتها بعد سنتين تساءلت ترجمة ثانية، في مجلة النهضة النسائية: “يا تُرى كم كانت ناصف تكتب إن لم يكن زوجها ألقي بها في الصحراء بعيدة عن مجالس أصحاب الأدب (9)؟

بالاختصار، كانت هذه النصوص تحقق التوقعات الأدبية المتعلقة بنوع أدبي معين وفي الوقت ذاته كانت تدمر نفس التوقعات. استغلت إمكانية المثالية لتصنيف التراجم القديم وتبنت مصطلحاتها بينما حولت نقطة التركيز من خلال اختيار شخصیات جديدة بجانب الشخصيات المألوفة: وأيضاً من خلال التعليق الإيجابي على حركات التغيروعلى تغير الحركات في حياة صاحبة الترجمة مهما تكون. لذلك كانت تقدم روايات جديدة (إلى حد ما) استطاعت القارئة أن تتخيلها كمستقبل، أو بالأحرى كسيرة ذات مستقبلية. ومن الأهمية الملاحظة هنا بأن الحكومة وبعض المتبرعين وخصوصا المتبرعات كانوا يشترون اشتراكات في هذه المجلات لمدارس البنات، وكان ذلك مصدرا ماديا مهما لأصحاب المجلات.

وكما ذكرت سابقاً كانت فكرة مثالية صاحبة الترجمة واضحة في بلاغة النص. ولم يبرز هذا الوضوح فقط من تبيين مثاليتها في افتتاح الترجمة أو في اختتامها. فكانت النصوص تختتم أحياناً بالتعبير عن الأمل بأن مثيلات صاحبة الترجمة سوف يكثرن. وكسب هذا الكليشيه معنى رناناً إذا كانت صاحبة الترجمة مثلاً امرأة معاصرة مصرية أم سورية أم تركية ذات نشاط في ميدان حقوق النساء أو مثلا في ميدان تعليم البنات أو في ميدان التجارة. عن الكاتبة التركية فاطمة علية قالت زينب فواز: “وبالجملة فإن المترجمة قد تفننت في العلوم الرياضية والفلسفية والطبيعية كل التفنن ومزجت العلوم الشرقية بالعلوم الغربية حتى صارت من مفاخر المخدرات الإسلامية ولم يضاهها أحد من النساء الشرقيات والغربيات وهي الآن مقيمة بالأستانة العليا كثر الله من أمثالها ووسع الله بها العلوم والمعارف على جنسنا النسائي(۱۰). لما نشرت فتاة الشرق ترجمة لحياة فواز (في سنتها الأولى) قالت: “كثر الله من أمثالها بين النساء اللاتي اتخذن لأنفسهن الورق مراية والحبر صبغة…(۱۱).

وكانت الميزة في التراجم هي أنها صورت سير الشخص في الحياة في قالب إيجابي ليس تجريدياً (غير مثلا بعض المقالات الأخرى في نفس المجلات). اتجه هذا السير أو هذا الطريق – “النصيعـمـومـاً من البيت إلى ميدان العمل أو مـيـدان الخـدمـة العامة كما سمتها المجلات. في نفس الوقت كانت الطريق سكة تقدم ذهني، ويمكن لهذا التقدم أن يتم كلياً داخل البيت. وصفت فتاة الشرق (۱۹۱۸) ملك حفنى ناصف بأنها مولعة من الصفر بالدرس والمطالعة وبأنها كانت طالبة تجلب إعجاب الناظرات في المدارس، كما كانت بعد ذلك موضوع احترام الأمة جمعاء“. لكن بالطبع كانت هي التي إلى بيتها جاءت النساء الغربيات المعجبات باتساع علمها وأدبها. هكذا قالت المجلة(۱۲).

قد يعترض المستمع بأن التركيز على الشخصية المشهورة هو تركيز على الاستثنائية وليس على المثالية. ومن الصحيح أن بعض شهيرات النساء يظهرن بوصفهن شخصیات استثنائية، نابغات، الواحدة منهن وحيدة في عصرها“. لكن بلاغة المثالية ووظيفة القدوة كانتا تسيطران على بلاغة الاستثنائية، بل كانتا تسخرانها، هكذا وازی دور تراجم شهيرات النساء دور صورة أمهات المؤمنين عبر القرون بوصفها شخصيات فذة، وفي الوقت ذاته مثالية تقتدي بها المرأة المسلمة في كل عصر.

مثل كتب الطبقات ابتداء من كتاب ابن سعد في تراجم الصحابة، مثل تراجم الصحافة النسائية: يركز النص على الصفات الحميدة في سلسلة متراتبة: الذكاء الحكمة، الشجاعة والإقدام، الحزم والعزم، الفصاحة، الجمال الأدبي وليس فقط جمال الوجه، ثم الحشمة والوفاء. وبقدر ما كانت هذه الصفات مألوفة، كانت تنطبق على ظروف ووظائف جديدة. مدحت تراجم شهيرات النساء العزم في الجهاد على تحقق الطموحات، سواء كانت طموحات ناصف أم لوسي ستون أم هيباتيا أم مريم مكريوس بالتعليم، أو سواء كانت خطط ست الملك أم كاترينا الثانية أم نيتوكريس في حكم البلاد. لكنى أرى توترا والتباسا يحيطان بالنصوص، فلا تستطيع النصوص أن ترحب بالنتائج المنتظرة من هذا التنقل الاجتماعي. لا يسمح نظام الأبوية حتى الحديثة بوجود القاعدة الليبرالية التي تنص على حرية الفرد. وفي هذا الصدد تركز النصـوص مثلا على دور الأب الذي يسند طموحات ابنته إلى حد ما ، وتنتقد النصوص الأب المهمل أو المضطهد انتقاداً شديداً. ومن المفارقة أن الأم لا تظهرا ولا استثناء في تراجم ناصف، حتى في سنة 1950 تقول زينب لبيب في بنت النيل إن ملك نشأت في رعاية أبيها وتغذت من علمه(۱۳). فحتى تغذية الطفلة العقلية التي تؤكدها النصوص بوصفها مهمة الأم، عندما تُصبح صاحبة الترجمة نفسها أماً اختفت تحت هموم الأب ومهمته.

كما تصور هذه التراجم لشهيرات النساء الصفات المثالية في رؤية محرري المجلات وتلمح إلى برنامج جديد للفتاة الناشئة في الطبقة المتوسطة الناشئة، فهي تعلق أيضاً على ظواهر سلوكية بارزة في المجتمع وبذلك تقدم عبرة للقارئين، وبصفة خاصة للقارئات اللواتي تقصدهن بلاغة النص خطابياً، في كتاباتها تقول فتاة الشرق كانت ناصف تنقد وبالشدة – النساء المولعات بالبهرجة والزينة. “وكانت رحمها الله تميل إلى البساطة في الملابس (١٤). كذلك أخذت مجلة المرأة المصرية الفرصة في ترجمتها لناصف لتسجل نقدها لظروف المدارس الحالية. بعد أن تصف ناصف بأنها مدرسة جدية ومتمرنة فوق تصرفات البنات في هذه الأيام، تنـقـد المجلة التعليم الإنجليزيبأنه يسبب التفرنج الذي كانت الجرائد جميعا تهاجمه قائلة: إنه منتشر بين ناشئي الوطن إجمالياً(١٥).

في آخر المطاف تدور تراجم شهيرات النساء حول محور البيت، حول قضية العلاقة بين المرأة والمنزل. في الوقت الذي تشق فيه طريقة الاختيار الشخصي في ميادين الحياة للنفس الأنثوية الناشئة، تراهن النصوص على الطرفين دائماً. قد تضيق النطاق المثالي للمرأة، في الوقت ذاته قد تجيب على اعتراضات المتحفظين بالنسبة إلى تحرك المرأة.

الباحثون في تاريخ قضية المرأة في مصر وفي مجتمعات أخرى يميلون إلى التقليل من إمكانية تعدد المعاني في الكتابة عن الميدان العائلي أو البيتي domestic – sphere إمكانية أن التعبير عن عمل المرأة في البيت قد يخلق مسافة أوسع للقبول بنشاطها في الخارج حيث تصبح الحدود بين الميادين غير واضحة (كما وصفت المجلات حياة الفلاحات بالاستمرار)(١٦). كان الاحتياج إلى تعريف التطابق الجزئي بين المرأة والبيت شديداً في سياق احتياجات الوطن لنشاط المرأة. لم يعد التطابق كلياً، إن كان كلياً في الماضي. على أية حال ساعدت التراجم في عملية تعريف المنزل بوصفه ميداناً حرفياً. بل تعقد هذه النصوص الصورة. نص بعد نص يشكل مثال ربة البيت سيرة الذات، وفي الوقت ذاته يفتح النص احتمالات أخرى، بلمحة من الدقة تجس التراجم الارتباط الدائم بين المرأة والبيت عندما تؤكد الميدان البيتي بوصفه مجالاً متغيراً. وكذلك تؤكد التراجم بأن العمل البيتي لا يمكن أن يمنع النشاط في حرف أخرى مهما تكن. لم تحل واجبات لوسی ستون نحو أسرتها دون استمرارها في البحث والخطابة عن حقوق النساء السياسية. ومع نشاطها في الكتابة كانت زينب فواز ست بيت كاملة. هكذا يقول النص(١٧). وتزعم مجلة المرأة المصرية بأن ناصف اختارت الزواج وتدبير المنزل بوصفهما مهمتيها الأهم. وبالإضافة إلى ذلك تعطى المجلة حق الأفضلية لوظيـفـة المرأة في البيت عندما تؤكد نقصاً في حياة ناصف: فـتـقـول: التجربة الوحيدة التي كانت تنقصها لتجهز نفسها في ميدان الإصلاح النسائي هي الولادة(١٨). وإذا ما كانت ناصف قد نالت من الشهرة ما لم تنله مصرية في عصرها، فإن بلسم عبد الملك، صـاحيـة مجلة المرأة المصرية تقول: لم تؤثر هذه الشهرة في أخلاقها وتواضعها، وكانت مثال الزوجة الصالحة” (١٩).

على الإجمال، كانت تراجم شهيرات النساء في الصحافة النسائية آلة نصية في عملية تأديب الجيل الناشئ وخاصة ابنة الطبقة الوسطى أو كما كانت تسميها المجلات بشكل دائم – أم المستقبل. التناقضات ومصادر التوتر في الإنتاج النصي للأنثوية الحديثة – وللرجولة الحديثةتصعد إلى سطح النص في هذه التراجم.

في نعيها لملك حفنى ناصف، أعلنت مجلة فتاة الشرق بأنه في الأيام الأخيرة من حياتها كانت ناصف تنظم ترجمة شعرية لأم المؤمنين خديجة بنت خويلد(۲۰). يـا تـری

ماذا كانت ستقول؟

المراجع

(1) شهیرات النساء باحثة البادية، فتاة الشرق ۱۳: ۳ (۱۵ دیسمبر ۱۹۱۸)، ص 81-83، ص ۸۳

(۲) انظر

Marilyn Booth. “May Her Likes Be Multiplied Famonts Women’ Biography and Gendered Prescription in Egypt, 1892-1935,” Signs 22: 4 (1997): 827-90; idem “Biography and Feminist Rhetoric in Twentieth-Century Egypt: Mayy Ziyada’s Studies of Three Women’s Lives,” Journal Women’s History 3: (1991): 38-64; idem. “Exemplary Lives, Feminist Aspirations: Zaynab Fawwaz and the Arabic Biographical Tradition.” Journal of Arabic Lit erature 26 (1995): 120-46; idem, “The Egyptian Lives of Jeanne d’Arc,” in Lila Abu Lughod, ed., Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East (Princeton Princeton LUP, 1998), 171-211

(3) زينب بنت علی بن حسين بن عبيد الله بن حسن بن إبراهيم بن محمد بن يوسف فواز العاملي، کتاب الدر المنثور في طبقات ربات الخدور (القاهرة المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر، ۱۳۱۳ هـ).

( 4 ) عن تاريخ الصحافة النسائية في مصر انظر إجلال خليفة، الصحافة النسائية في مصر ۱۹۱۹۱۹۳۹، رسالة ماجستير جامعة القاهرة 1966: إجلال خليفة، الصحافة النسائية في مصر ١٩٤٠١٩٦٥، رسالة دكتورة جامعة القاهرة ١٩٧٠ ؛

Beth Baton, The Women’s Awakening in Egypt:Culture, Society, and the Press (New Haven Yale UP. 1994).

(5)Booth, “Exemplary Lives”

(6)nancy K. Miller. “Writing Fictions: Women’s Autobiography in France,” in Bella Brodzki, And Celeste Schenck, eds, Life/Lines: Theorizing Women’s Autobiography dhaca NY, Cornell UP. 1988, 45-61, qune, 50.

(7) شهيرات النساء: باحثة البادية. فتاة الشرق ۱۳: ۳ (۱۵ دیسمبر ۱۹۱۸)، ص ۸۱۸۳ بلسم عبد الملك شهيرات النساء: تاريخ المرحومة ملك حفنى ناصف،مجلة المرأة المصرية 2: 1 (فبراير1921)،31-36.

(۸) زينب البيب، باحثة البادية المناسبة الذكرى الثانية والثالثين لوفاتها، بنت النيل 5 : 61 (ديسمبر 1950) و ص ۱۰

(۹) شهيرات النساء: باحثة البادية، وفاتها وترجمتها، مجلة المرأة المصرية 6: ٩ (١٥ نوفمبر ١٩٢٥) م 466 -467 : محمد عبد الفتاح إبراهيم، عظيمات النساء في العالمين الشرقي والغربي قديماً وحديثاً 4 .” النهضة النسائية ٥: ٥٢ (أبريل ۱۹۲۷)، ص ١٣٦۱۳۷.

(۱۰) زینب فواز، الدر المنثور، ص ۰۳۷۰

(۱۱) شهيرات النساء: السيدة زينب فواز، فتاة الشرق ۸۰۱ (مایو ۱۹۰۷)، ص ٢٢٥۲۲۸ : ص ۲۲۸ .

(۱۲) “شهيرات النساء: باحثة البادية.” فتاة الشرق ۱۳: ۳ (١٥ ديسمبر ۱۹۱۸)، ص ۸۱۸۳: ص ۸۱، ۰۸۲

(۱۳) زينب لبيب، باحثة البادية: لمناسبة الذكرى الثانية والثالثين لوفاتها،بنت النيل 5: 61 (ديسمبر١٩٥٠)، ص ۱۰.

(١٤) شهيرات النساء: باحثة البادية،فتاة الشرق ۱۳: ۳ (۱۵ ديسمبر ۱۹۱۸)، ص ۸۱۸۳: ص ۰۸۲

(15) شهيرات النساء: باحثة البادية، وفاتها وترجمتها، مجلة المرأة المصرية 9:6 (15 نوفمبر١٩٢٥)، ص 466-467، ص ٤٦٧.

(16) انظر Marilyn Booth, “May Her Likes Be Multiplied: Famous Women’ Biography and Gendered Prescription in Egypt. 1892-1935,” Signs. 22: 4(1997): 827-90.

(۱۷) اشهر النساء: لوسي ستون بلاكويل: زعيمة المطالبات بحقوق النساء في أمريكا (سؤال للقارئات في موضوع قديم).” مجلة السيدات والبنات 1: ۱ (۱ اپریل ۱۹۰۳)، ص 4-6: “شهيرات النساء: السيدة زينب فواز، فتاة الشرق ۱: ۸ (مايو ۱۹۰۷)، ص ۲۲۵۲۲۸

(۱۸) شهيرات النساء: باحثة البادية، وفاتها وترجمتها مجلة المرأة المصرية 6: 9 (15 نوفمبر١٩٢۵)، ص ٤٦٦٤٦٧

(۱۹) بلسم عبد الملك، شهيرات النساء: تاريخ المرحومة ملك حفنى ناصف مجلة المرأة المصرية ٢: 1 (فبراير ۱۹۲۱)، ص ۳۱– 36 .

(۲۰) شهيرات النساء: باحثة البادية،فتاة الشرق ۱۳: ۳ (١٥ ديسمبر ۱۹۱۸)، ص۸۱۸۳: ص ۸۳.

ملك حفني ناصف ومعضلة الهوية

ملك حفنى ناصف ومعضلة الهوية

سيد البحراوي

ولدت ملك حفنى ناصف (۱٨٨٦۱۹۱۸) وعاشت في مـا يمكن اعـتـبـاره أقسى سنوات التاريخ المصرى الحديث. تلك السنوات التي أعقبت هزيمة أول ثورة مصرية حقيقية وما تلاها من احتلال مباشر للأرض والوطن، وشهدت أعلى درجات القلق والتوتر واليأس والقنوط وبعضاً من بصيص أمل لم يكن قد تبلور بعد حين ماتت ملك قبل شهور من انفجار ثورة 1919 .

والمراقب لحياة ملك وسلوكها وكتاباتها وملامح شخصيتها بصفة عامة يستطيع أن يلاحظ بوضوح أن قسوة هذه الفترة قد انعكست بقوة على عناصر هويتها تلك التي أشرنا إليها، ومع ذلك فقد قدمت نموذجاً صلباً صلابة فائقة تدفع الإنسان الذي يعيش في أواخر القرن (أي بعد قرن تقريباً من حياتها القصيرة) إلى حد الانبهار، الذي ربما نتج في أحد أسبابه عن الأسى لعدم استمرار مثل هذا النموذج في حياتنا المعاصرة.

وهذا المزيج من قسوة اللحظة التاريخية ومقاومة الشخصية الفذة، أنتج حالة من الصراع الدرامي الذي لا يليق به إلا عمل فني كبير. وبما أننا لسنا هنا بإزاء مثل هذا العمل الفني، فإننا لا نملك إلا محاولة تقديم بعض المعرفة العلمية بالشخصية ولحظتها، وذلك من خلال مفتاح مرکزی بدا لي مهيمنا على فكر ملك وعلى معاناتها الشخصية وسلوكها العام، الا وهو مفتاح الهوية.

إن مـجـمل سلوك ملك حفني ناصف بشـأن تـعـلـيـمـهـا وزواجـهـا، وكـفـاحـهـا العـام الاجتماعي والوطني يشير إلى معرفة ملك بنفسها، بكونها امرأة مصرية مسلمة مستعمرة من قبل محتل لا تملك إلا أن تعجب مثل كل جيلها بتقدمه في معظم نواحي الحياة، في نفس الوقت الذي ترفض احتلاله بكل قوة، وتدعو إلى الاستقلال عنه استقلالاً عميقاً، ليس فقط على المستوى السياسي، وإنما أساساً على المستوى الحضاري والنفسي.

وتكشف كتابة باحثة البادية منذ البداية، وخاصة في المرحلة الخيرة أن معرفة النفس [على المستوى الفردي والجماعي (المرأة) والوطني] كانت نتيجة لمعاناة حادة وعميقة إلى حد الألم والمرض أحياناً. وأنها لهذا السبب.. كانت معرفة أصيلة وحقيقية تحاول أن تبتعد عن الزيف والرياء أو الاستخدام الشعاري أو السياسي. وأنهـا لهذا السبب أيضاً، قد قدمت حلولاً هامة جداً بشأن قضية الهوية والاستقلال، لم تكن مطروحة لدى جيلها من الرجال، الذين كانوا بالطبع يسيطرون على الساحة الفكرية.

لقد كان إصرار ملك على استكمال تعليمها، وعلى أن تعمل بهذا التعليم، ثم قبولها لزوج يكاد يكون تقليدياً وإقامتها بالفـيـوم مع التردد على القاهرة لمباشرة أنشطتها النسوية والخيرية، متوافقاً مع موقفها المعتدل إزاء قضية الحجاب والسفور، وإن كان كل منهما، الحياة والموقف، مليئاً بالتناقضات والثغرات التي تقودها أحياناً إلى حدود المحافظة والتقليد، وخاصة فيما يتعلق بالمقارنة بين فطرة الرجل وفطرة المرأة. وهذه التناقضات – فيما أرى – كـانت (مع هبوط الحركة الوطنية) وراء تزايد معاناة ملك وتوترها إلى درجة الموت، ومع ذلك فقد نتج عن هذه المعاناة – كما سبق القولكتابة متميزة وفكر أصيل مرتب ومنظم، قادر على أن يقدم مفاهيم وأفكاراً مهمة.

وسوف أتوقف – في هذه المقالة – عند نصين قصيرين أراهما مهمين في إدراك جذور مجمل المشاكل التي عالجتها ملك في حياتها، سواء كانت خاصة بالمرأة أو بعلاقتها بالرجل أو بالقضايا الاجتماعية بشكل عام، والأهم من ذلك هو أن إدراك الجذور هذا يقود إلى اقتراح بحل شـديد الأهمية ويمكن أن تزداد أهمـيـتـه إذا نما ونضج.

تقول ملك في أهم إنجازاتها الفكرية والأسلوبية، أي خطبتها في نادي حزب الأمة:

فواجبهم (شباب مصر) الوطني يقضي عليهم بأن يدخلوا كل ما يرونه صالحاً في بلادهم مع الاستغناء عن الأجنبي على قدر الإمكان، فصانع الحرير الوطني إذا رأي معامل أوروبا وسرعتها وجب أن يشترى لبلاده الآلات اللازمـة لـسـرعـة إنجاز العمل، لا أن يدخل تلك الصناعة بعينها ويقضى على صناعته الجميلة، فيكون قد اقتبس شكلاً وأبطل آخر، فنحن إذا اتبعنا كل شيء غربي قضينا على مـدنيتنا والأمة التي لا مـدنـيـة لهـا ضعيفة هالكة لا محالة” (1).

وتقول أيضاً في خطبتها في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية:

إذا أردنا أن نكون أمة بالمعنى الصحيح تحتم علينا أن لا نقتبس من المدنية الأوروبية إلا الضروري النافع بعـد تمصيره حتى يكون ملائماً لعاداتنا وطبيعة بلادنا. نقتبس منها العلم والنشاط والثبات وحب العمل. نقتبس منها أساليب التعليم والتربية وما يرقينا حتى نبدل من ضعفنا قوة. وإنما لا يجوز في عرف الشرف والاستقلال أن تندمج في الغرب فتقضى على مـا بقى لنا من القوة الضـعـيـفـة أمـام قـوتـه المكتسحة الهائلة“(٢).

ولكي تتضح أهمية النصين وتميزهما، سأنقل نصين آخرين لاثنين من مشاهير المفكرين والمهيمنين على الرأي العام. في نفس لحظة باحثة البادية، بل إن أحدهما وهو الثاني – قد كتب بعد وفاة ملك بفترة، وجاء في ظل الثورة الوطنية (١٩١٩).

في ختام كتابه الشهير حديث عيسى بن هشامالصادر لأول مرة سنة 1903، يقول محمد المويلحي، حلاً لأزمة مصر، وعلى لسان الحكيم الفرنسي:

لهذه المدنية الغربية الكثير من المحاسن، كما أن لها الكثير من المساوئ، فلا تغمطوها حقها، ولا تبخسوها قدرها، وخذوا منها معشر الشرقيين ما ينفعكم، ويلتئم بكم، واتركوا ما يضركم وينافي طباعكم، وأعملوا على الاستفادة من جليل صناعاتها، وعظيم آلاتها، واتخذوا منها قوة تصد عنكم أذى الطامعين، وشره المستعمرين، وانقلوا محاسن الغرب إلى الشرق، وتمسكوا بفضائل اخلاقكم وجميل عاداتكم…”(۳).

أما النص الآخر فهو لمحمد حسين هيكل في كتابه ثورة الأدب. يقول:

ألم يكن المصريون يطلبون من ثورتهم هذه، الاعتراف باستقلالهم وسيادتهم، ويطلبون حياة سياسية وصوراً من الحرية السياسية على مثال ما في الغرب سواء؟ فلتكن مظاهر الفن مصبوبة في قوالب غربية لتكون آية للناس جميعاً على تقدمهم، وعلى أنهم يسابقون الغرب إلى ميادين الحضارة، وقد يسبقونه“(4).

ينتمى الكاتب الأول (المويلحي) إلى الاتجاه الإحيائي الإصلاحي المستنير، وكتابه المعروف هو محاولة فنيةلإدراك أزمة المجتمع وطرح الحل الذي يراه صالحاً لتجاوز هذه الأزمة. ويتمثل هذا الحل في ضرورة إعمال العقل والتمييز بين ما يفيدنا ويضرنا في النموذج الحضاري الأوروبي وهذا لا شك منطلق صحيح لمواجهة اللهاث وراء هذا النموذج والتبعية الكاملة له، كما كان الأمر في تلك الفترةأو في لحظتنا الراهنة أيضاًغير أن التعمق في الحل المطروح يردناللأسف إلى نفس مـوقف الانبهار والتبعية.

فإذا تغاضينا عن كون النص المنقول نصاً للحكيم الفرنسي يوجهه بوصفه نصيحة للفريق الشرقي الذي يزور باريس للتعرف على ملامح حـضـارتها، وإذا تجاوزنا عن تعليق الراوي على هذا النص بقوله:

ولم يبق لنا يد في هذه الحال من السفر والانتقال والعودة إلى ديارنا باعتباره تعليقاً يؤكد حصول الفريق على البنية التي جاء من أجلها، وهي النصيحة الغالية، إذا تجاوزنا كل هذا إلى داخل النص ذاته لمعرفة ما هو الذي يفيدنا وما هو الذي يضرنا، وجدنا ما يفيدنا وما ينبغي أخذه، فهو جليل صناعتها وعظيم آلاتها، أما ما لسنا في حاجة إليه فهو فضائل الأخلاق وجميل العادات، وهذه الثنائية تحمل في طياتها عدداً لا بأس به من الأخطار الناتجة عن الأغلوطة الفلسفية النابعة من الفصل بين الأخلاق والإنتاج المادي (وخاصة التكنولوجيا) على هذا النحو الفادح. فمصدر كلا الإنتاجين هو الجماعة البشرية التي لا تتجزأ سماتها في كل مرحلة من المراحلفتسير في اتجاه على المستوى الأخلاقي وفي اتجاه آخر على مستوى الإنتاج المادي. وإذا حدث هذاكما هو الحال في حالتنا الراهنة نكون إزاء حالة فصام مرضى يقود الفرد أو الجماعة إلى مخاطر لا حصر لها.

غير أن الخطر الأكبر في هذه الثانية هو أن النتيجة التي تتوصل إليها تحقق بالضبط عكس ما انطلقت منه، فهي تعمل على تجميد الجانب الروحي من المجتمع عند قرون مضت، واستيراد الآلات والصناعات لا ندري لتلبية أي احتياجات روحية إذن إلا إذا كانت ستقضى على هذه الاحتياجات المجمدة وتخلق احتياجات أخرى جديدة. وهذا بالضبط هو الهدف الأساسي الذي كان وما يزال يسعى إليـه الاستعمار (الإنجليزي آنذاك والعالمي الآن).

كان الهدف وما يزالهو القضاء على الأسواق المحلية بخصوصيتها لصالح السوق العالمي بعموميته بما يتيح ليس فقط مزيداً من التوزيع للسلع الأوروبية، بل إلغاء الاحتياجات الخاصة وفي العمق منها الاحتياجات الروحية والقيم وإحلال احـتـيـاجـات تتطلب مزيداً من هذه السلع، وتقبل هيمنة الوجـود الأجنبي المادي أو الذهني.

وفي مقابل المويلحي يبدو محمد حسين هيكل الليبرالي ابن ثورة 19 أكثر ثورية حين يعلن شعار الاستقلال والسيادة، وهو شعار الثورة فعلاً. لكن التأمل في محتوى هذا الشعار، يكشف للأسف أيضاًأنه نقيض ألفاظه. فتحقيق الاستقلال يكون حين يكون لدينا ما في الغرب سواء في الحياة السياسية والحرية السياسية والأهم في الفن الذي ينبغي أن تكون مظاهره مـصـبـوبـة في قوالب غربية، واستخدام ألفاظ مصبوبةوقوالبيحمل دلالة فادحة على الاصطناع الذي يسم به الإنتاج الفني وكأنه عمل من أعمال الإنتاج التكنولوجي الذي يقولب فيه المضمون المحلي (كما في نصوص أخرى لهيكل ولغيره)(٥) في شكل غربي. وهذا الفصل بين المضمون والشكل هو قريب جداً من الفصل بين الأخلاق والتكنولوجيا وإعطاء الفرصة للأخيرة لقمع الأولى. أن تقمع الأشكال الأوروبية تجاربنا الإنسانية الخاصة، التي تحتاج بحكم خصوصيتها إلى التجسد في أشكالها هي المناسبة لها، حتى تكون أعمالاً إبداعية حقيقية وليست ممسوخة أو مقلدة. كما حدث في إبداعنا الروائي والفني بصفة عامة لفترة طويلة)(6).

وفي الوقت الذي تبدو فيه ملك حفني ناصف غير بعيدة على المستوى الفكري عن كل من المويلحي وهيكل، حيث نجـد فـي تـوجـهـاتـهـا مـا يجمع بين الإحـيـاء والليبرالية(7)، مع ما في ذلك من تناقضات هي بنت الفترة دون شك، فإن معاناة ملك وحرصها على التأمل في ذاتها وبلورة مفاهيمها الخاصة، قد قادتها إلى تقديم حل أكثر إتساقاًمن داخله وأكثر صحة على المستوى العلمي، وأكثر فعالية في حل أزمة الواقع.

ينطلق حل ملك من وعي واضح بمسألة الهوية والتميز، فهي تقول مثلاً عن التربية الحسنة أنها هي التي تؤهل الشخص لأن يدرك نفسه من سواه. وما أحزم من قال ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه (۸)، وهنا تحديد دقيق لمفهوم الهوية لا بالمعنى الجامد المطلق وإنما بالمعنى النسبي المتطور. أن يعرف الإنسان ما يميزه عن غيره. وأن يعرف قدر نفسه وبالتالي أقدار الآخرين. وفي النص علامتان هامتان يؤكدان البعد الوطني أو العربي في المفهوم وهو استعانتها بحكمة عربية قديمة. والعلاقة الثانية هي وضعها للتربية الحسنة باعتبارها وسيلة تحقيق هذه الهوية المتميزة. والمهم هنا أن نلاحظ استخدامها للتربية وليس للتعليم حيث إن التربية أشمل وأوسع من التعليم كما هو واضح في نصوص أخرى لها ولكتاب آخرين في نفس الفترة.

إن اهتمام ملك بالتربية والتعليم هو اهتمام متأصل في أسرتها أبًا وأمًا(٩)، وهـو اهتمام جذري جعلها تعتبره أساساً جوهرياً لحل كل مشاكل الوطن بما فيها مشكلة الحـجـاب. ولعل مـقـولـتـهـا المهـمـة والتي تقـول فـيـهـا علمـوا البنت ثم اتركوا لهـا الاختيار(۱۰)، أن توضح جذر موقفهاالذي أثار كثيراً من اللغط من حجاب المرأة. والذي لا يبدو لي موقفاً محافظاً، بل أكثر جذرية من موقف دعاة السفور الفوري، لأنها هنا تريد أن يكون السفور أو الحجاب بقرار خاص من امرأة قادرة على الاختيار أي متعلمة وتمت تربيتها تربية حسنة، وليس مفروضاً عليها من أي سلطة خارجية.

إن ملك في هذه النصوص قريبة جداً من المثل الصيني الشهير والهـام لا تعطني سمكة، بل علمني كيف اصطادوهو نفس الموقف الذي حكم نصوص ملك بشأن الهوية القـومـيـة التي نقلناها من قبل (۱۱). ففي النص الأول تميـز بين الصناعات والآلات وتنصح باسـتـقـدام الآلات القادرة على تنمية صناعاتنا الوطنية، وليس اسـتـيـراد الصناعات مباشرة، وهذا في ذاته خطوة متقدمة جداً عن كل من الرأيين السابقين. ومع ذلك فإن ملك تتجاوز هذا الحل إلى الحل الأمثل حين تدعو إلى تحديد ما نأخذه من أوروبا إلى الحد الأدنى أولا، ثم ثانياً نقوم بتمصيره حتى يناسبنا، وهي ثالثاً تحدد المجالات التي يمكن الاستفادة منها، وهي العلم وبعض القيم وأساليب التعليم والتربية، ونلاحظ أنه ليس من بينها لا الصناعات ولا حتى الآلات. وهي بهذا المعنى تكاد تصل إلى نقيض الكاتبين حين تحقق بالضبط المثل الصيني، أن نتعلم كيف نترقي كيف ننتج لا أن تحصل على الإنتاج جاهزاً.

وإذا كان لنا أن نضيف إلى حل ملك الصحيح، فإننا نرى أن تمصير ما نأخذه من قيم (وهي في الحقيقة قيم إنسانية) ومن علم سوف يؤدي إلى أمرين في غاية الأهمية: الأول أننا نساهم بذلك في تطوير هذا العلم وإضافة خصوصيتنا إليه، ليكون بذلك أكثر شمولاً والا تقتصر عيناته على العينات الأوروبية. والأمر الثاني أن هذا سوف يسمح لنا بتطوير إنتاجنا الخاص انطلاقاً من احتياجاتنا الحقيقية ومن طبيعة المواد الخام المتوفرة عندنا، وطبقاً للقيم الروحية والجمالية التي تعيش بنا ونعيش بها دون فرض من الخارج أو تزييف. وهذا يؤدي كما تقول ملك إلى قوة الأمة وإنجاز المدنية. وهما مرتبطتان، فلا مدنية (حضارة) حقيقية دون أمة قوية، عكس الرأي الشائع آنذاك المنادي (مع الاستعمار) بالاندماج في الحضارة الغربية، وضد الرأي في عرف ملك يؤدي لا محالة إلى هلاك الأمة.

لقد انتمت إلى إحدى شرائح الطبقة الوسطى المصرية البازغة وعانت تناقضات هذه الطبقة وتشتت نسقها الفكري. غير أن صلابة الأسرة وصلابة ملك الشخصية وقوتها (رغم الوهن واليأس الطبيعي في النهاية)، كل هذا مكنها من أن تبلور أفضل حلول هذه الطبقة لأزمة المجتمع. ولا شك أن اتصال ملك بالطبقات الأخرى، وربما لكونها امرأة تثقـفت وناضلت، ساعدها على تحقيق هذا الإنجاز الذي لم تأخذ به الطبقة التي حكمت وما زالت. ومن هنا تفاقمت الأزمة، وأصبحنا الآن أمام ذات توقع ملك لنا بالهلاك أو حتى بالانقراض. وأرى أن حل ملك ما زال هو الأساس الذي يصلح للانطلاق منه وتنميته ليتبلور في إطار نظري متكامل صالح لممارسة، هذا إذا كان ما زال لدينا نساء ورجال بإخلاص ملك وصدقها.

الهوامش

(1) ملك حفنى ناصف، النسائيات طبعة دار الهدى للنشر والتوزيع د. ت ج1 ص۱۲۰.

(2) نفسه من ١٤٦.

(3) محمد المويلحي، حدیث عیسی بن هشامط ۷ دار المعارف سنة ١٩٤٧ ص ٣١٥.

(4) محمد حسين هيكل: ثورة الأدب ط 4 دار المعارف بمصر ۱۹۷۸ ص ٠٧٥

(5) راجع تفصيلات إضافية في كتابنا : محتوى الشكل في الرواية العربية.

1- النصوص المصرية الأولى. الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٩٦، الفصل الثاني والثالث.

(6) راجع مبررات هذا الحكم في كتابنا الحداثة التابعة في الثقافة المصرية ، ميريت للنشر والمعلومات1999

(۷) راجع مثلاً النسائيات ص 79 حيث الدعوة واضحة إلى ليبرالية الحوار.

(۸) النسائيات ص ۱۱۲.

(۹) راجع مقدمة هدى الصده للنشرة الأخيرة للتسائيات الصادرة عن ملتقى المرأة والذاكرةالقاهرة۱۹۹۸ ص ۱۱ وما بعدها.

(۱۰) نفسه ص ۲۸

(۱۱) قبل هدين النصين هناك نصوص أخرى تشير إلى أن القضية قد شغلت فكر ملك منذ فترة مبكرة، وأنها ظلت تتأمل وتبحث لتجد الصيغة الدقيقة المناسبة. من هذه النصوص، مثلاً نص في مقالة الحجاب والسفور من ٢٩ من الكتاب تقول فيه إننا لو سلمنا بما يقترحه الكتاب من ضرورة تقليد الغربيين في أمور معاشنا ولباسنا وزى بلادنا مما قد لا يوافق روح الشرق، فإننا نندمج فيهم ونفقد قوميتنا بمرور الزمن وهذا هو ناموس الكون إذ يفنى الضعيف في القوى.. فأدعو الكتاب والباحثين للتفكير فيه وفي إيجاد مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده ولا تعوقنا عن اجتناء ثمار التمدين الحديث“. وواضح من النص بالإضافة إلى التعميمات والثنائيات والمصطلحات الوضعية مثل الغرائز والطبايع.. إلخ، أن هناك قلقاً وغـمـوضـاً في المفاهيم، زالا بعد ذلك في النصوص المشار إليها في المتن.

الاشتباه في فكر باحثة البادية ملك حفنى ناصف

(1886-1918)

1– معنى الاشتباه:

حسن حنفی

الاشتباه هو التردد بين موقفين كلاهما صحيح، والتوتر بين قطبين كلاهما واقعی. ليس فقط في اللغة في صنوف المجاز المحكم والمتشابه بل أيضا في الوجود الإنساني. فالإنسان وجود مشتبه، توتر بين النفس والبدن، العقل والحس، المنطق والوجدان، المثال والواقع، ما ينبغي أن يكون وما هو كائن. وهو ليس ظاهرة مرضية تدل على تشكك في الأخلاق المعيارية كما هو الحال عند سيمون دي بوفوار في من أجل أخلاق للاشتباه وإيثار الغموض على الوضوح، والتناقض على البداهة، واللامعقول على المعقول، إنما هو شرط الإبداع الإنساني وتأكيد مطلبين في نفس الوقت، وإثبات شرعيتين لنفس الموقف.

وهو اشتباه يعبر عن موقف حضاري بأكمله وفترة تاريخية، وليس مجرد ظاهرة فردية عند هذا المفكر أو ذاك. فمنذ فجر النهضة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي الرابع عـشـر الهـجـرى، والاشـتـبـاه قـائم بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين القدماء المحدثين، بين الإسلام والحداثة أو الإسلام والغرب، بين الأنا والآخر، بين الدين والدولة، بين السلفية والعلمانية، بين الإيمان والعلمإلخ.

وانحـاز فـريـق لطرف بينما انحـاز فـريق آخر للطرف الآخر، فحدث الصدام بين الأزهريين والجامعيين، بين المشايخ والأفندية. فبدأ فكريا وثقافيا وحضاريا طالما أن الدولة قوية تضم الجميع وتسمح بالحوار الوطني دون أن تنحاز لفريق دون آخر كما كان الحال في مصر والشام في العصر الليبرالي، وينتهي بصراع دمـوى بين الأخوة الأعداء في حالة ضعف الدولة ورغبة كل فريق في دراستها والاستئثار بالسلطة وحده كما هو الحال في الجزائر الآن.

والاشـتـبـاه خـارج منطق الصواب والخطأ، والحق والباطل والـصـحـيـح والمزيف، والصادق والكاذب، والخير والشر، فكلاهما صحيح، كلاهما واقع ثقافي في مصدر المعرفة، ومصدر الأخلاق، في العلم والعمل. كلاهما رئتان لجسد واحد يتم التنفس من خلالهما. كلاهما عينان لفرد واحد يتم النظر من خلالهما. كلاهما ساقان لرجل واحد يسير عليهما. كلاهما أذنان لإنسان واحد يسمع كل شئ بواسطتهما وإلا كان الإنسان اعورا وأعرجا.

وفي الوقت الذي يتم فيه الحسم والقطع والبـتـر لأحدهما، والتناقض والتـضـاد والتنافر والقطيعة بينهما، يموت الطرفان. فلا قديم بلا جديد، ولاجديد بلا قديم. لاماضي بلاحـاضـر، ولاحـاضـر بـلا مـاضي، لا أصالة بلا معاصرة، ولامـعـاصـرة بلا أصالة. القطع تحـزب وتعصب لأحدهما ضد الآخر، وتكفـيـر وتـخـويـن مـتـبـادلين، واستبعاد وإقصاء كما هو الحال هذه الأيام(1).

لقد تميز فجر النهضة العربية منذ الطهطاوي وخير الدين التونسي بالجمع بين هذين المطلبين، ابن خلدون وروسـو، الـعـمـران وعلم الاجـتـمـاع، المعـتـزلـة والثورة الفرنسية، المصالح العامة والمنافع العمومية، فقامت نهضة في مصر والشام شكلت الوجدان العربي الحديث، ووصلت ذروتها في مصر في ثورة 1919. ثم بدأت التجربة القـومـيـة الـعـربيـة الاشتراكية في النصف الثاني من القرن تحمى هذا الجمع بين المطلبين في الاشتراكية العربية، وفي حركة العالم الثالث وعدم الانحياز، من باندونج حتى بلجراد. وبعد هزيمة يونيو ١٩٦٧ بدأ التفكك بين الشرعيتين بدافع الانتقام ووراثة الدولة المهزومة من أجل النصر، ولم يشفع للدولة انتصار ۱۹۷۳ بل استمرت القطيعة خاصة بعد انقلاب التجرية الاشتراكية على نفسها ومن داخلها، وبداية سلسلة التنازلات والتفريط في الثوابت القومية، وخرجت الشرعية الإسلامية من السجون بعد استبعادها منذ بداية الثورات العربية تثبت جدارتها في فلسطين وجنوب لبنان. واعـتـمـدت الدولة أمام هذا الخطر الجديد على الفـريـق الآخـر في أجهزة الإعلام والثقافة في حرب ثقافية بين الإخوة الأعداء، وامتثال دائم في بلد المليون شهيد.

ليس الغرض من هذا البحث التقريظ والمدح وبيان أنه لم يكن بالإمكان أبدع مما كان بل النقد والتطوير ونقل الاشتباه من أوئل القرن الماضي إلى أوائل هذا القرن، بعد مائة عام. الهدف هو معالجة الاشتباه بمنطق جديد، وبنفس روح مسئولية نهضة الوطن وتقدم الأمة واستنارة الشعب، فقد تغيرت الظروف، وتراكمت الخبرات، وتعقدت الأمور، واحتدم الصراع بين الأخوة الأعداء، وغار جرح الهزائم، وما زال الانتصار حلما يراود الخيال.

ليس المقصود من هذا البحث التاريخ، فهو معروف عند المؤرخين وليس الغرض هو التكرار والعرض والبيان من أجل نقل المعلومات المتوافرة من ذهـن إلى ذهن، و ممن يعلم لمن لا يعلم، فهذا هو العلم المنقول المروى المحفوظ الذي حمله الرواة ونقله المحدثون. وليس المقصود أيضـا هو الدخول في أدبيبات المرأة في الغرب الحديث من أجل العرض والمقارنة بين أوضاع المرأة في حضارات وثقافات عدة. فالآخر ليس معياراً للأنا. وكل حضارة لها مسارها الخاص، ونظرتها للعالم، ومنظومة قيمها. ولا توجد حضارة واحدة مقياسا للحضارات جميعا، حتى ولو كانت تقدم نفسها باسم الحداثة وتحت شعارها. فالحداثة مرحلة تاريخية تمر بها كل المجتمعات على التعاقب وليس بالضرورة على التزامن(٢).

ولا يهدف البحث إلى أخذ موقف طرف ضد طرف آخر بدعوى المزايدة أو إظهار الموقف والإعلان عن الذات، تمسكا بالشرعية الأولى أو دفاعا عن الشرعية الثانية، بل وصف الأمور على ما هي عليه في سياقها الحضاري والتاريخي، مع تحليل التجارب المشتركة بين المبحوث والباحث، الموضوع والذات الذين يشاركان في نفس الهم بعد قرن من الزمان وربما لقرن آخر قادم، فالاشتباه فردی حضاری تاريخي، يعبر عن مرحلة تاريخية بأكملها، التحول من الإصلاح إلى النهضة أو من النهضة الأولى إلى النهضة الثانية.

٢– الأنا والآخر

وهو الاشتباه الطبيعي في اللحظة التاريخية بين مصر أو العرب أو المسلمين والغرب الحـديث. لم يتوقف الاتصال بين الاثنين منذ اللحظة التاريخية الأولى اليونانيـة الرومانية، والثانية أثناء الحروب الصليبية، والثالثة في عصر الاستعمار الحديث. ومنذ تلخيص الابريزوبدأ حـول الأنا والآخر، المرآة المزدوجة، رؤية الأنا في مرآة الآخر، والآخر في مرآة الأنا.

ويبرز هذا الاشتباه في أدب الرحلات والأعمال الروائية والفكرية مثل عيسى بن هشام للمويلحي، علم الدينلعلى مبارك، يومياتمحمد حسين هيكل.

ويبرز هذا التقابل عند باحثة البادية في النسائياتفي استعمال ضمائر المتكلم الجمع مدارسنا، فتياتنا، ذنبنافي مقابل ضمير الغائب الجمع هممما يكشف عن التمايز الحضاري والهوية والاختلاف.

ويبدو الغرب نمطا للتحديث في الاستشهاد بنساء شهيرات مثل إيزابيللا زوجة فردناند اللذان قضيا على الحكم الإسلامي في الأندلس حتى سقوط غرناطة، وجان دارك محررة فرنسا من الاستعمار البريطاني، وسيدة فرنسية سائحة في مصر(۳) بدأت دراستها بالمدرسة الفرنسية ثم السنية. وأول ما كتبت كان مقالا تنادي فيه بإنشاء مقبرة للعظماء مثل الوستمنستر في لندن أو البانتيون في باريس. مدحها الإفرنج. وأثنت عليها الكاتبة البريطانية شرلوت كرون في شتاء امرأة في إفريقيا“. كما شهدت لها الأمريكية إيليزابث كوبر في كتابها المرأة المصرية“. أسست جمعية الستار التهذيبيوكانت تجمع بين المصريات والإفرنجيات تشجيعاً للمصريات وثقة بأنفسهن، وكانت تحب السفر إلى الخارج مما أثار ضدها المحافظون من أهل زوجها. كانت تحب آداب الإفرنج ورواياتهم وتتأثر مما تشاهد وتسمع. جمعت بين الثقافتين الشرقية والغربية، الإسلامية ودارون وسبنسر. تجمع بين النموذجين: الوافد والموروث ولكن الأولوية للوافد، جان دارك، كاترينه ملكة روسيا، إيزابيللا ملكة إسبانيا، إليزابيث ملكة إنجلترا، وكليوباترا ملكة مـصـر فـيـكتـوريا، أولهلمينا ملكة هولندا، وفي نفس الوقت شجرة الدر امـرأة الملك الصالح وأم طوران شـاه، وعـمـر بن الخطاب، وخولة بنت الأزور(4).

وليس هناك أفضل من مدارسنا الحكومية التي تعلم القديم والجديد كما أن القول بأن الغربيات لا يصلحن لإدارة البيوت غير صحيح، فالجمع بين المطلبين لا يحدث فقط عند الأنا بل أيضاً عند الآخر طبقاً لفضيلة الاعتدال.

والمقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية أكثر الفصول طولاً، منذ الولادة والطفولة والمراهقة حتى الخطبة والزواج والأمومة(5).

وتهـدف المقارنة إلى رؤية الأنا فـي مـرأة الآخـر دون أن يكون الآخـر مـرأة للأنا. القصد منها تغيير الأنا دون الانبهار بالآخر. في دور المولودة تقدمت الثقافة الإسلامية برفض دفن البنت حية، وأد البنات، عادة الجاهلية، وفي دور الطفولة ما زالت الثقافة الإسلامية تفضل الذكر على الأنثى، والولد على البنت. وفي دور المراهقـة يسبق الغربيون في تربية الفتاة خاصة الفنون والآداب، وفي الخطبة والزواج تنتظر الفتاة حتى يطلبها الرجل، ولا وسيلة إلا الخطبة. في حين أن الغرب تجاوزها إلى اللقاء الطبيعي والمشاهدة في الأماكن العامة. وفي الأمومة سبقت المرأة الغربية في الجمع بين المنزل والعمل. واضح من المقارنة سبق المرأة الغربية المرأة المصرية. ومن ثم كان لزاماً على المرأة المصرية اللحاق بزميلتها الغربية. ففي جدل الأنا والآخر ما زال الآخر نمطاً للتحديث عن وعي أو عن لا وعى، علناً أو سراً، منطوقاً به أو مسكوتاً عنه.

3 – الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي:

وهو اشتباه عصر، وتقابل يصل إلى حد التضاد نظراً لفهم شائع في عصور التخلف الأخيرة ومزاحمتها بالغرب الحديث أن الشريعة إلهية، منزلة من السماء، وأن القانون المدني المصري قانون وضعي يعبر عن مصالح الناس بناء على العقد الاجتماعي، وهو تقابل وهمي يكشف عن عدم وعي كاف بأصول الشريعة الإسـلامـيـة وبـحـدود القانون الوضعي ومدارسه المختلفة. مع أن الشريعة الإسلامية شريعة وضعية بالتعبير الشامل لأنها تقوم على الواقع وتتأسس في مصالح الناس. لها أسباب نزول، أي مشاكل في الواقع الاجتماعي، وتخضع للناسخ والمنسوخ، أي أنها تتطور بتطور الزمان. هناك أحكام الوضعالتي تربط الحكم بميدان تحـقـقـه، السبب، والشرط، والمانع، والعزيمة، والرخـصـة والصحة، والبطلان.

وعند باحثة البادية لا يتم فهم الأحكام النصية إلا في ضوء الواقع الحالي وللتنظير المباشر له. ولا يتم التعامل مع الفقه القديم إلا في ضوء الواقع الاجتماعي المالي للمرأة فلا ضرر ولا ضرار، والمصلحة أساس التشريع، وما ينبغي أن يكون تطويراً لما هو كائن وليس بديلاً عنه أو نقيضاً منه. ولا فرق بين المعيار والوصف. المعيار هو الواقع في حالة اكتماله، والوصف هو الواقع وهو في طريقه إلى الاكتمال. لا يفهم النص إلا في ضـوء المشاهدات والتجارب الحالية وهي الواقع الذي نشأ فيه النص.

والنص الفقهي القديم والمثل العامي جزء من التراث القديم الذي تحجر في التاريخ وأصبح سلطة ثابتة ودائمة مهما تغير الزمان وتبدلت الأحوال(6). والنص القرآني مؤثر بصياغته وقادر على تفجير شحنة الاعتراض على والنقد للأوضاع الحالية السلبية بالنسبة للمرأة(۷).

ويتم عرض قانون الأحوال الشخصية القديم على الأوضاع الحالية فيما يتعلق بالزواج والمحارم وزواج الأختين، وتعدد الزوجات، وسن الزواج والحجاب والسفـور، والزينة، والتراث والتعليم.

كتبت باحثة البادية ضد تعدد الزوجات، فلم يشرعه القرآن ولا القانون الفرنسي، لم يؤيده لا القديم ولا الجديد(8). لم يكن قصد الشارع من هذه القصة هذه الفوضى في أدق الروابط الاجتماعية ونقضه عهود الأسر، فإن الأديان لم تأت لجلب البؤس والشقاء للإنسان بل لإسعاد البشـر وتقـريبـهم إلى الحد الأقصى من الإنسانية. وإن أسبـاب الشقاق في الزواج جهل أحد الزوجين بالآخر، واختلاف الطباع، والطمع في الغنى. والزواج العشري، وتأويل الدين الحنيف في أحكام الزواج والطلاق على غير ما قصد منها. ولا يجب أن يكون سن الزواج مبكراً للغاية حتى تنضج المرأة ولا تصاب بأمراض نفسية تضطرها للجوء إلى الزار. وتدعو إلى السـفـور دون طلاء الـوجـوه والمغالاة في الزينة، فـإنهـا غش خلق الله وتعميد تغيير الخلقة الطبيعية. وتخطئ النساء إذا سارت فيما هو شائع في علاقتهن بالأزواج وهو ما تسميه باحثة البادية مبادئ النساء، ومنها عدم الثقة بالزوج أو الغيرة العمياء، وبغض أقارب الزوج أو الأسرة، والمباراة والإسراف، وسرعة الغضب والتهديد بالفراق(9).

ومن مساوئ الرجال الطمع، والظلم، والازدراء بالمرأة. ويضيع الرجل تأثيره الحسن في أسرته لأنه ليس قدوة لها، فتتغلب عليه، أو لقسوته وسوء معاملته وعشرته(۱۰). إنما الواجب رفع الكلفة بين الزوجين.

وقد حرم الإسلام عدم الجمع بين الأختين في آن واحد حتى لا تتضارب المشاعر ومع ذلك حرصاً على المصالح العامة يمكن الزواج من أخت المتوفاة(١١).

4 – المحافظة والتقدم:

والخـلاف حـول وضع المرأة إنما هو خلاف بين مـدرستين فكريتين، وتيارين اجتماعيين وقوتين سياسيتين، وحركتين تاريخيتين، الأولى تدفع إلى المحافظة، والثانية نحو التقدم، كل منها تتمسك بأحد طرفي الاشتباه. وتسمى باحثة البادية ذلك الصراع بين المحافظين والأحرار(١٢). ويظهر هذان الدفعان في عدة ميادين مثل التعليم والعمل والخروج خارج المنزل، والجمال والاختلاط والمرأة الحديثة (الأرستقراطية) حيث يبدو الاتجاه التقدمي، والأخلاق الفردية والخدم حيث تتغلب روح المحافظة.

ويمثل الجانب التقدمي محمد عبده وقاسم أمين ونبوية موسى وهدى شعراوي وغيرهم من الرواد الأوائل في إطار الثقافة الليبرالية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي قبل هزيمة 1967، وحددت رد الفعل المحافظ في الحياة العامة الذي عبرت عنه الحركة الإسلامية الخارجة من السجون والمهمشة في المجتمع والمطاردة من أجهزة الأمن. فأصبحت المحافظة السمة العامة للمجتمع السرى المناهض للمجتمع العلني. الحجاب الذهني في مقابل السفور العقلي، والحقيقة أن الخلاف بين المدرستين هو خلاف في المنهج وليس في الغاية. وتمثل باحثة البادية منهجاً معتدلاً بين المدرستين، فقاسم أمين ممثل المدرسة التقدمية صريح إلى أقصى حد، يعتبر الغرب نموذجاً للتحديث خاصة في المرأة الجديدة، وصاحب دعوة فكرية أكثر منه مغيراً اجتماعياً، فالتغير الاجتماعي في الحد الأدني أكثر فاعلية من الدعوة الفكرية إلى الحد الأعلى(١٣).

أما باحثة البادية فإنها تتناول وضع المرأة بطريق غير مباشر، بهدف التطوير والتغيير. وتحيل إلى دارون وسبنسر بوصفهما مصلحين اجتماعيين، وتتضامن مع شبلي شميل في نفس الموقف من المرأة. تحررت وتشق طريقاً ثالثاً بين التيارين من أجل وضع تحرير المرأة تحت قـاعـدة الاعتدال. ورائدها في ذلك الشـرع الإسلامي(١٤)، فتأخذ الجانب المستنير من التراث الإسلامي كما وصل من خلال عمر بن الخطاب، ونظرية التطور، دارون وسبنسر من الغرب، وتصف حال المرأة المصرية في عصرها معتمدة على المشاهدات العيانية، معبرة بذلك عن الموقف الحضاري الذي يوجد فيه كل مفكر، القديم والجديد والواقع، الماضي والمستقبل والحاضر، الأنا والآخر والعصر.

5 – المرأة والمجتمع:

وتصوغ باحثة البادية قضية المرأة صياغة تقليدية، المرأة في مقابل الرجل. أوضاع المرأة الزواج، والسـفـور والحـجـاب، والزوجـة، والأم، والجميلة، والقـريـبـة والمقتصدة. في حين أن أوضاع الرجل تتمثل في مساوئ الرجال، الطمع، والظلم، وازدراء المرأة، ورفع الكلفة بين الزوجين، وتأثير الرجل في الأسرة، وتصيح: يا للنساء من الرجال، ويا للرجال منهن! لقد وقفت المرأة عن التقدم من زمن طويل بحكم قوة الرجال وليس بحكم قوة ضعفها الطبيعي ولا بحكم الشريعة الشماء(١٥).

وتنتقد أولاد الذوات، وسيدات الطبقة الراقية. عملهن أقل واشتراكهن في النوادي الاجتماعية أكثر. وتصف جمال السيدات، سيدات الطبقة الراقية وتعنى رشاقة البدن وجمال المنظر وانخفاض الصوت والحياء، يضيعه التبغ والخمر، بل إن الشعر له جنس، قصيدة نسائية وقصيدة رجالية(١٦).

ما زال العدو الأول للمرأة هو الرجل الظالم المستبد الذي يأمر وينهي في المرأة ويدفنها وهي حية(١٧). الرجل أناني والمرأة عاشقة له، صادقة مخلصة. المرأة مثل دودة القز تفرز حريرها حتى تموت، والرجل كالنحلة ينتقل من زهرة إلى زهرة. في حين أن الواقع الاجتماعي المتخلف هو العدو المشترك لهما معاً.

وفي إحياء ذكرى باحثة البادية تقدمت السيدة هدى (شعراوي) ببيان تحدد فيه مطالب المرأة من أفكار باحثة البادية، منها مساواة المرأة بالرجل في التعليم، وإصلاح قانون الأحوال الشخصية مثل تحـريم تعدد الزوجات والطلاق إلا أمام القاضي ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق المدنية، النيابية والتشريعية(١٨).

وبالرغم من أن باحثة البادية عاشت في أتون الحركة الوطنية، ونشاط الحزب الوطني، وخطب مصطفى كامل ومحمد فريد، والحان سيد درويش، فإنها كانت أقرب إلى أحزاب الأقلية التلميذة النجيبة لأحمد لطفي السيد وحزب الأحرار الدستوريين، لم تلتهب بمقدمات ثورة 1919 ولا بحادثة دنشواى، ولم تكتب في السياسة إلا قليلاً.

وعيها السياسي محدود. قبض على أخيها في حادثة سياسية وماتت وهي في زيارته، نستشهد بسيدة إنجليزية من صاحبات لورد کرومر، بل تستشهد بكرومر نفسه. وتتأسف أن ليس لديها مستعمرات. لم تكتب في السياسة إلا قليلاً. منها قصيدة إثر إعلان قانون المطبوعات. وخطبت أثناء حرب طرابلس في نساء الفيوم. وفي الحرب الكبرى حاكت مائة قميص ورداء للهلال الأحمر.

وربما يبدأ الإصلاح السياسي بالمرأة، فكيف والرجل بهذا الاستبداد يأمل بإصلاح الأمة وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور. وفي خطبة في نادي حزب الأمةوهو الحزب السياسي، حزب الأقلية، عالجت قضية المرأة بمعزل عن الوطن، وهي من أطول الخطب، تتـحـدث فـيـهـا بلسان السيدات وشكواهـن من الرجـال وتدافع عن حقوقهن، حق الرجال من أجل العمل في المجال العام والخروج من دائرة العمل الخاص، المنزل، لتجد موقعاً بين الإفراط والتفريط، بين الحجاب والسفـور، بين حبس المنزل وسـيـاحـة الطريق، وتصـوغ مـواداً عـشـراً لتعليم البنات، الدين الصحيح، والمرحلة الابتدائية، والتدبير المنزلي، والطب، والعلوم الراقية، ومن أجل حسن التربية والصدق والجد والصبر، واتباع الطرق الشرعية في الزواج واتباع عادة الأتراك في الأستانة. الحجاب، والحفاظ على مصلحة الوطن، والرجال في نهاية المطاف(١٩).

6 – الوطن والأمة:

وأخيراً يكشف هذا الاشتباه السادس عن هوية المرأة بين الوطن والأمة والجامعة الشرقية. فقد كانت باحثة البادية معاصرة للأفغاني ودوائره المتداخلة، مصر والعروبة والإسلام والشرق. وفي نفس الوقت تلميذة أحمد لطفي السيد مفكر الأمة المصرية. تعنى بالوطن الأمة المصرية، وتقدم “”النسائياتللأمة المصرية. وتصف اخلاق هذه الأمة. وتنادي: “نحن المصريين” . وتحبذ الزواج من المصريات اللاتي بلغن مستوى عال من التعليم يفوق الشركسية والراقصة الأوروبية.

وفي نفس الوقت تتحدث عن الأستانة، وتركيا. فقد سافرت إلى هناك امتداداً لربوع الوطن، وقد كانت المصاهرة بين المصريين والأتراك شيئاً شائعاً. وكتبت في جريدة تركيا الشابة (الجـون ترك)، تنصح بارتداء الحجاب مثل نساء الأستانة أي اليشمك التركي.

وتتحدث عن اليابان والمرأة الشرقية. فالمرأة اليابانية تسجد لزوجها. كانت تدعو لرقي المرأة الشرقية. وتدعو إلى مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده، ولا تعوق عن اجتناء ثمار التعدين الحديث. وليس وضع المرأة الشرقية أسعد حالاً من عندنا، فالمرأة تكاد تسجد لزوجها بالرغم من أخذها بوسائل التمدن العربي. فهي تشرك زوجها مع الله.

وخلل هذا الاشتباه في الحزب الوطني حتى الآن. وعبرت عنه مـواثيق الثورة المصرية مثل فلسفة الثورة، وكان دعامة دعوة الإخوان المسلمين في بواكيرها الأولى، لمصر والعروبة والإسلام، وعموم الحركة السلفية في المغرب خاصة علال الفاسي(۲۰). وأحياناً يشير ضمير المتكلم إلى السلفيين أي عند أصحاب الدين الحنيف (٢١). وهي الدائرة الأضعف عند باحثة البادية على عكس ما هو الحال الآن بعد ما يقرب من قرن، وبعث الدائرة الإسلامية على حساب الدائرتين القومية والوطنية.

كان إصـلاح وضع المرأة هو الطريق إلى إصلاح حـال الـوطن. ونهـضـة المرأة دون نهضة الوطن نهضة كاذبة(٢٢). ربما كانت المرأة رمزاً للوطن كما هو الحال في عديد من الروايات والأعمال الأدبية المعاصرة.

ومع ذلك فأقرب التجمعات إلى الحياة الكاملة هي حياة الريف والقرى والفلاحين البسطاء وليس حياة المدن والعمران. لذلك أثر جان جاك روسو في العصر الليبرالي عند باحثة البادية ومحمد حسنين هيكل، فالإسلام دين الفطرة والطبيعة(٢٣).

كانت باحثة البادية أول من دخل المدرسة بمصروفات وأول من نال شهادة الابتدائية عام 1900، وأول من نال دبلوماً عالياً عام 1903، وأول من كتب وأول من خطب، لذلك امتلأ الجزء الثاني من النسائياتبالتقريظ لها(٢٤).

النسائيات سيرة ذاتية تكشف عن أزمة وطن، وحياة خاصة تبين وضعاً اجتماعياً، وحياة إنسان تظهر مرحلة تاريخية لالتقاء ثقافتين وعصرين وقوتين اجتماعيتين وموقفين، كلاهما صحيح، وهو معنى الاشتباه، إنما الخطورة الآن في تفكيك الأوطان باسم المرأة في مقابل الرجل، وحقوق الإنسان الفردية في مواجهة الجماعة وليس حقوق المواطن والوطن، باسم المجتمع المدني الأصلي في مـواجـهـة الدولة الوطنية والقومية، والأقليات ضد وحدة الأوطان.

لا خلاص للمرأة إلا بخلاص المجتمع، ولا خلاص للمجتمع إلا بالانتماء للوطن، ولا حماية للوطن إلا بالنظام السياسي القادر على تجسيد لحظته التاريخية وحشد إمكانياته وتحديد رؤيته وتحقيق رسالته.

الهوامش

* ألقي هذا البحث يوم 17/10/1998في ذكرى ملك حفني ناصف باحثة البادية (١٨٨٦ – ۱۹۱۸)۱۷۱۸ اکتوبر ١٩٩٨ بمكتبة القاهرة الكبرى (جزءان).

(1) انظر دراستنا: الاشتباه في فكر ابن رشد، عالم الفكر، الكويت، ۱۹۹۸.

(2) التعاقب Dinchronism، التزامن Synchronism .

(3) باحثة البادية: النسائيات، مجموعة مقالات نشرت في الجريدة في موضوع المرأة المصرية، دارالهدى، القاهرة، جـ1، ص109/4/32.

(4) المرجع السابق، ص ۱۰۹.

(5) في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية وعاداتها واستخلاص زبدة المقارنة لتعمل بها. المرجع السابق، ص ١٢٤ – ١٤٥.

(6) تستعمل باحثة البادية بعض الأحاديث النبوية مثل إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى و الناس بخير ما تباينواوفي نفس الوقت الأمثال العامية مثل السبع لا يأكل أنثاه” “النسائيات” 44/60/84.

(7) وذلك مثل وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به. يمسكه على وهن أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون، المرجع السابق، ص ١٢٥.

(۸) رأى في الزواج وشكوى النساء منه، تعدد الزوجات أو الضرائر، ص ٤١ – ٤٤، سن الزواج، ص 54-84

(9) الحجاب أم السفور. رد على خطبة ألقاها حضرة عبد الحميد أفندي بشأن الحجاب، المرجع السابق، ط1/24 – ۲۹ /3۷ / طلاء الوجوه، ص ٤٩ – ٥٢.

(۱۰) المرجع السابق، مبادئ النساء، ط1، ص ٥٢ – ٦٦.

(۱۱) المرجع السابق، مساوئ الرجال، ص 66 –75/79/-82

(۱۳) المرجع السابق، زواج الأختين، ص ۸۷۰۹۰

(١٤) المرجع السابق، ط1/6/24 .

(١٥) المرجع السابق، ط1/7.

(١٦) المرجع السابق، ط1/4

(17) المرجع السابق، جمال السيدات ص 95- 97 جمال السيدات يضيعه التبع والخمر، س ۹۸۰۹۹جمال السيدات والرياضة البدنية، ص 100- 103

(۱۸) قصيدة نسائية لباحثة البادية، من ١4٧ – ١٥٠.

(۱۹) المرجع السابق، خطاب السيدة هدی، ج 2/29- 34 .

(۲۰) المرجع السابق، جـ/ 13/75/103-124.

(۲۱) المرجع السابق، جـ1/14-15/29-30

(۲۲) المرجع السابق، جـ1/27

(۲۳) المرجع السابق، إلى الأنسة مي، جـ 2/7

(٢٤) المرجع السابق، المدن والقرى، ص ۹۰94.

(٢٥) المرجع السابق، باب التقاريط، من ١٥٠ – ١٧٦ . وهي من الشيخ عبد الكريم سليمان صاحب السعادة، إسماعيل صبري باشاء الشيخ عبد العزيز جاويش، أحمد بك زكي، الشيخ حسين والي الدكتور شبلی شمیل.

اصدارات متعلقة

الانتقام الإباحي.. تهديد رقمي يلاحق النساء ويقتلهن أحيانا
هل يجب علينا الاهتمام بالتغيرات المناخية
نص مليون من العاملين / ات بالخدمات المنزلية منزوعين/ ات الحقوق
التغيرات المناخية تمثل خطر كبير علي صحة الحوامل والأجنية بشكل خاص
“تمكين النساء لمواجهة التغيّرات المناخية”… مبادرة “عالم بالألوان” في مصر
نساء السعودية.. حقوق منقوصة وقمع متواصل
العنف الأسري ضد المرأة
كيف تعزز ألعاب الفيديو الصور النمطية للجندر
عبور الفجوة الجندرية في صناعة الأمن السيبراني
إنترنت الأشياء والتقاطعات بين الجندر والتقنية