نحو  هرمنوطيقا نسوية لتفسير الكتاب المقدس

تاريخ النشر:

2012

نحو  هرمنوطيقا نسوية لتفسير الكتاب المقدس:

تفسير الكتاب المقدس ولاهوت التحرير*

إن الحديث عن العلاقة بين لاهوت التحرير وتفسير الكتاب المقدس بصفة عامة، والبحث في الدور الذي يلعبه الكتاب المقدس في كفاح النساء من أجل التحرر بصفة خاصة، لهي أمور تشبه الدخول في حقل ألغام فكري وعاطفي. يجب علينا أن نعيّن ونكتشف التناقضات الواقعة بين التأويل التاريخي وعلم اللاهوت المنهجي، بين البحث العلمي المجرد من الاعتبارات القيمية والدراسات النابعة من موقع الدعم والمساندة، بين التصورات الموضوعاتية الكونية المسبقة في اللاهوت الأكاديمي والانحياز النقدي في لاهوت التحرير. ويتطلب تحقيق ذلك في مقالة قصيرة بالضرورة عملية تبسيط وتصنيف سطحي لمجموعة مركبة من القضايا اللاهوتية.

إن إثارة قضية معنى الكتاب المقدس وحُجِّيَّته المعاصرين من منظور لاهوتی نسوی، والقيام بذلك من موقع المرأة المهمش داخل المؤسسة الأكاديمية،(1) لهو أمر يفتح الباب لمخاطرة ثلاثية الأبعاد. فلسوف يرفض اللاهوتيون والمفسرون المنتمون إلى المؤسسة الأكاديمية ذلك المسعى بدعوى أنه غير علمى ومنحاز ومحكوم بشكل واضح بقضايا معاصرة، مما يجعله غير تاريخي، أو سيرفضون قبوله بوصفه قضية تفسيرية أو لاهوتية جادة بسبب أن امرأة هي التي أثارت تلك القضية. ولسوف يري اللاهوتيون التحريريون والسياسيونفي أحسن الأحوالأن ذلك المسعى النسوي اللاهوتي يشكل قضية واحدة ضمن قضايا أخرى، أو يَعُدُّونه في أسوأ الأحوال قضية الطبقة الوسطى، أي قضية بعيدة عن مجال كفاح المقهورين. إذ كيف لنساء بيضاوات ينتمين إلى الطبقة الوسطى أن يقلقن بشأن التعديلات الداعية إلى المساواة في الحقوق أو بشأن تحديد جنس الله، بينما يموت الناس جرَّاء المجاعات، أو يتعرضون للتعذيب في السجون، أو يهلكون تحت مستوى الفقر في التجمعات الخانقة لأقليات من السود والهسبانيين في المدن الأمريكية؟ ولكن مثل هذا الاعتراض على اللاهوت النسوي وعلى الحركة النسوية يغفل حقيقة أن النساء والأطفال الذين تعولهم النساء يشكلون أكثر من نصف تعداد الفقراء والجوعي في العالم.(2) فالنساء والأطفال لا يشكلون أغلبية المقهورينفحسب، ولكن النساء الفقيرات ونساء العالم الثالث يعانين من القهر الثلاثي المتمثل في التمييز الجنسي والتمييز العرقي والتمييز الطبقي. وإذا كان اللاهوتيون التحريريون يتخذون خيار الانحياز للمقهوريننواة لمساعيهم، فعليهم إذن أن يعوا حقيقة أن هؤلاء المقهورينهم النساء.

إذن، لا يطالب اللاهوت النسوي اللاهوت الأكاديمي بأخذ فرضياته الفكرية المسبقة مأخذ الجد فحسب، بل يدعو أيضًا أشكال لاهوت التحرير الأخرى إلى أن تترجم خيار الانحياز للمقهورين إلى صور ملموسة. وأخيرًا، لا تكتفى الباحثة اللاهوتية النسوية بالاعتراض على الموقف المحايد والموضوعي الذي يفترضه الباحث اللاهوتي الأكاديمي، ولكن عليها أيضًا أن تطور من مفهوم موقع الدعم والمساندة في لاهوت التحرير الذي يأتي في صورة خيار الانحياز للمقهورين“. ولا يعد انخراطها في لاهوت التحرير صورة من صور الغيريةأو الاهتمام بالآخرين، ولكنه نابع من مواجهتها وتحليلها القهر الواقع عليها هي نفسها بوصفها امرأة داخل مؤسسات ثقافية ولاهوتية تمارس التمييز الجنسي ضدها. وهكذا، لن يسعها بعد مواجهة أبعاد القهر الواقع عليها أن تواصل دعمها للموقف الأكاديمي المتصف بالتباعد والتجرد من الانحيازات القيمية. بمعنى آخر، تختلف خبرات القهر لدي اللاهوتيات النسويات على سبيل المثالعن خبرات اللاهوتيين في أمريكا اللاتينية الذين لا ينتمون في الغالب إلى الفقراء ولكنهم جعلوا من المقهورين قضيتهم.(3) إن تأكيد الفوارق بين اتجاهات مختلفة في اللاهوت لهو أمر مهم. فلقد أشار روبرت ماکافی براون Robert McAfee Brown)) إلى أن ما نراه يتوقف على الموقع الذي نقف فيه“.(4)

وقد نبهت فاين ديلوریا (Vine Deloria)،(5) عالمة اللاهوت التي تنتمى عرقيًا إلى سكان أمريكا الأصليين، إلى أن أحد سبل الانقضاض على لاهوت التحرير والاستحواذ عليه هو تصنيف الأقليات جميعها تحت بند الأقليات التي تعاني من القهر وتحتاج إلى التحرر. وغالبًا ما يضيف اللاهوتيون المسيحيون إلى ذلك فكرة أننا جميعنا واقعون في الخطيئة، وعليه نكون جميعنا مقهورين بالقدر نفسه، الرجال والنساء، السود والبيض والحمر على حد سواء. وبالتالي فإن المؤسسة الليبرالية، من جراء استحواذها على تعبير القهر، وبالتالي تعميمه بشكل واسع يفقده معناه، تنجح في تحييد بعض الجهود الساعية إلى تحليل القهر. وهي بذلك تحظر على الجماعات المقهورة صياغة أهداف تحررها واستراتيجيات ذلك التحرر. وهكذا، يبدو من غير اللائق منهجيًا الحديث بشكل تعميمى عن القهر أو عن لاهوت التحرير بصيغة مفردة.

 

يؤدي ذلك الفهم إلى تبعات مهمة في صياغة المقاربة المنهجية المستخدمة في هذه المقالة. فبدلاً من التساؤل عن أسس لاهوت التحرير في الكتاب المقدس بصفة عامة، أو طرح تقييم نقدي لتلك المناهج من وجهة نظر منهجية ونقديةتاريخية أرفع مقامًا، فقد قررت التركيز على قضية واحدة تمثل خلافًا بين ما يطلق عليه اللاهوت الأكاديمي وكافة أشكال لاهوت التحرير. إن الفهم الأساسي للاهوتات التحرير ونقاط انطلاقها المنهجية يتمثل في فكرة أن اللاهوت يتخذ دائمًا، بوعي أو دون وعي، موقفًا ملتزمًا مع أو ضد المقهورين، إذ تصبح الحيادية الفكرية أمرًا مستحيلاً في عالم تاريخي يعج بالاستغلال والقهر. وإذا كان الوضع كذلك فلا يمكن لللاهوت أن يتحدث عن الوجود الإنساني بصفة عامة أو عن لاهوت الكتاب المقدس بصفة خاصة دون أن يحدد هؤلاء الذين يتناول وجودهم الإنساني وهؤلاء الذين تتحدث النصوص والرموز الإلهية في الكتاب المقدس عن وجودهم الإنساني.

ويشكل موقف الدعم والمساندة المعلن الذي تتبناه الدراسات اللاهوتية التحريرية نقطة خلافية كبرى بين اللاهوت الأكاديمي التاريخي النقدي أو الليبرالي – المنهجي من ناحية، ولاهوت التحرير من ناحية أخرى. فعلى سبيل المثال، لا تَعُدُّ الكثيرُ من الدوائر التأويلية واللاهوتية التفسير النسوي للكتاب المقدس أو إعادة صياغة مفاهيم المسيحية المبكرة موضوعات لاهوتية وتاريخية ذات ثقل يليق بالدراسات اللاهوتية الأكاديمية الجادة. ولأن مثل ذلك المنهج التفسيري النسوي يأتي مدفوعًا بالحركة النسائية ويعترف علنًا بولائه لها، فإن اللاهوتيين الأكاديميين يَعُدُّونه بدعة وقتيةرائجة، ويرون أنه لا يشكل قضية تاريخية لاهوتية مهمة في الدراسات التاريخية – النقدية.(6) ولأن ذلك المنهج التفسيري يأتي نتيجة أحكام مسبقة ناجمة عن موقع الدعم والمساندة الذي تتبناه الباحثة أو الباحث، فإن أي بحث علمي مجرد من الاعتبارات القيمية يصبح ضربًا من المستحيل. وهكذا، يصبح من الصعب على الكثيرين اعتبار أية باحثة تتبنى علنًا قضية نسويةفي مجالات اللاهوت والمجتمع باحثة جادة، أو كما علقت إحدى زميلاتي بشأن أستاذة قامت بكتابة مقالة تتصف بقدر كبير من الاعتدال عن النساء في العهد القديم: “يا للخسارة! لعلها تسببت في تدمير مستقبلها المهني كله بكتابتها تلك المقالة.”

إن المفهوم الذي تتبناه الدراسات التاريخية النقدية، الذي يرى أن كل الدراسات التفسيرية يجب أن تكون وصفًا تاريخيًا للماضي موضوعيًا ومجردًا من اعتبارات القيمة، يغفل في الواقع حقيقة أن دراسات الكتاب المقدس بوصفها دراسات دينية مرجعية هي في ذاتها دراسات ملتزمة، ذلك أن الكتاب المقدس لا يعد فقط وثيقة تاريخية لزمن منصرم، بل يمثل كذلك نصوصًا مقدسة في المجتمعات المسيحية المعاصرة.(7) ويتميز المفسر أو اللاهوتي الذي يدرس الكتاب المقدس عن مؤرخ العصور القديمة بأنه لا يقصر بحثه أبدًا على المعنى التاريخي لنص ما، ولكنه أيضًا يثير قضية دور الكتاب المقدس وسلطته في العصر الحالي. وعليه، فإن الطرح القائل بأن الهرمنوطيقا التي تعطي امتيازًا للمقهورين،(۸) أو الاهتمام النسوى بدور المرأة في العهد الجديد يمثلان التزامًا أو انحيازًا مبالغا فيه، ينسحب كذلك على كافة دراسات الكتاب المقدس بوصفها دراسات للكتاب المقدس، ولا يقتصر فقط على دراسة اللاهوتين التحريريين للكتاب المقدس واستخداماتهم له. وترتبط دراسات الكتاب المقدس بوصفها دراسات دينية مرجعية بموقعها في السياق الحياتي (Sitz im Leben) داخل الكنيسة المسيحية في الماضي والحاضر على حد سواء. ولا يعدو التحليل النسوي للكتاب المقدس كونه أحد الأمثلة على دراسة الأمور الدينية داخل سياقها، وعلى الالتزام اللاهوتي في دراسات الكتاب المقدس بصفة عامة.

ويدرك شوبرت أوجدن (Schubert Ogden) تلك الحقيقة، ولكنه يرفض في الوقت ذاته موقف الدعم والمساندة في لاهوت التحرير، إذ يرى أن كافة لاهوتات التحرير معرضة لخطر أن تتحول إلى أيديولوجيات بالمفهوم الماركسي، وذلك لأنها، وهي في ذلك مثل كافة المشروعات اللاهوتية الأخرى، عبارة عن عقلنة لمواقف ثم اتخاذها مسبقًا“.(9) وبدلاً من أن تقوم اللاهوتات بإعمال التفكير النقدي في مواقفها نفسها فإن ما تفعله هو أنها تعنى بتحليل عواقف المقهورين وليس مواقف من يمارسون ذلك القهر. ولهذا، فإن محاولة تلك اللاهوتات تحليل مبادئ الدين المسيحيي القبْلية، وخيار تلك اللاهوتات الانحياز للمقهورين، يجعلانها تقوم بدور الشاهد لا الباحث اللاهوتي. يرى اللاهوتيون التحريريون في أمريكا اللاتينية أن اللاهوت بوصفه فعلاً تاليًا” ((second act لا يوجد من أجل ذاته، ولكن لكي يكون شاهدًا على الكنيسة، أيْ على الممارسات التي سوف تؤدي إلى تحررها.

وهنا، ينبغي أن نتساءل عما لو كان ذلك القول يقدم وصفًا ملائمًا لموقع الدعم والمساندةعند اللاهوتيين التحريريين. يرى شوبرت أوجدن أن الطريق الوحيد أمام تحرير اللاهوت، سواء كان لاهوتًا أكاديميًا أو تحريريًا، هو أن يَعُدَّ مهمته الأساسية إخضاع موقفه ذاته للتفكير النقدي. ومن هنا، يعكف شوبرت أوجدن على صياغة لاهوت تحريري أكثر ملاءمة مما توصل إليه أي منهم“.(10) ولكننا نجد أن شوبرت أوجدن لا يُخضع الموقف السياسي والمعاني المتضمنة في فكره اللاهوتي التركيبي ذاته للتفكير النقدى، بل نجده يتحدث عن لاهوت النساءويبحث في كينونة الله في ذاتهكما لو أنه لم يدرس اللاهوت النسوي من قبل.

وبينما يتهم شوبرت أوجدن اللاهوتيين التحرريين بالمغالاة في ضيق الأفق في فهم العبوديةنجد جيمز كون (James Cone) على العكس يؤكد أن خيار الانحياز للمقهورين يجب أن يصبح نقطة انطلاق كافة أشكال اللاهوت: “إذا كان اللاهوت المسيحي عبارة عن شرح مطول لما تعنيه بشارة الإنجيل لعصرنا الحالي، ألا ينبعي إذن أن يتخذ اللاهوت من التحرر نقطة انطلاق له، وإلا تعرض لخطر أن يتحول في أحسن الأحوال إلى مجرد كلام فارغ، أو تجديف واستخفاف بالمقدسات في أسوأ الأحوال؟“(١١) وينبغي ألا نصنف تلك الصيغة الاستفزازية على أنها مجرد تعبيرات بلاغية،(12) بل يجب اعتبارها مؤشرًا على اختلافات لاهوتية خطيرة في فهم مهمة اللاهوت ووظيفته.

ولهذا الاختلاف حول وظيفة اللاهوت وهدفه انعكاسات خطيرة على طريقة فهم اللاهوتيون لمهمة تفسير الكتاب المقدس. وبصفتى لاهوتية نسوية فقد تبنيت موقع الدعم والمساندة، ولكنني في الوقت نفسه لا أرى أن ذلك الموقف يمنعني من أن أضع موقفي النسوى قيد التأمل النقدي“. ولا يجب الاكتفاء بإعمال ذلك التأمل النقدي في موقع الدعم والمساندةالذي يتخذه اللاهوتيون التحريريون، بل يجب أيضًا أن يمتد إلى الطرق التي استخدمها الشرّاح واللاهوتيون في فهم العلاقة بين ماضي الكتاب المقدس ومعانيه، والطريقة التي شرحوا بها الفكرة المأخوذ بها في اللاهوت المسيحي التي تقول بأن للكتاب المقدس سلطة ودورًا في حياة المسيحيين المعاصرين.

ويشير التأمل النقدي أولاً إلى أن التفسير اللاهوتي وتفسير الكتاب المقدس قد اتخذا دائمًا موقع الدعم والمساندة دون إخضاع ذلك الموقع للتأمل النقدي. إذن، لا يعد موقع الدعم والمساندة هذا حكرًا على اللاهوتات التحريرية. ثانيًا، لقد اخترت أن أناقش مثالين محددين من أمثلة هرمنوطيقا لاهوت التحرير، حتى أستطيع إعمال التفكير النقدي في الوظيفة التي يقوم بها موقع الدعم والمساندة الذي يلتزم به بوضوح اللاهوتيون التحريريون في سياق تفسيرهم اللاهوتي للكتاب المقدس. ويعد ذلك أمرًا ضروريًا، إذ إن اختصار كافة أشكال مواقع الدعم والمساندة وكل تحليل لبني القهر الفعلية تقوم به اللاهوتات التحريرية إلى مستوى واحد مشترك يعد من الأخطاء المنهجية. وسوف أقدم طرحًا مفاده أن اللاهوتات التحريرية، بفضل اختيارها لجماعات مقهورة بعينها مثل النساء أو سكان أمريكا الأصليين، عليها أن تعمل في إطار منهج شامل لللاهوت التحريري النقدي، حتى تستطيع أن تنتج نماذج تفسيرية كشفية تتلاءم مع أشكال قهر معينة. باختصار، يجب أن يصبح تفسير الكتاب المقدس الذي يقدمه اللاهوتيون التحريريون أكثر تحديدًا وأضيق أفقًا، وذلك قبل أن نحاول صياغة بناء شامللنماذج تفسيرية متعددة والوصول إلى صيغة أكثر شمولاً لمهمة لاهوت التحرير النقدي.

تقدم لنا تصنيفات تي إس كون T. S. Kuhn))(13) للمنظومة العلمية (scientific (paradigm، والنماذج الكشفية التي تكونت في سياق المناقشات المنهجية للعلوم الطبيعة، إطارًا نظريًا مفاهيميًا يفسح مكانًا لموقع الدعم والمساندة الذي تتخذه اللاهوتات التحريرية ولمقارباتها التفسيرية. ويرى تي إس كون أن تلك المنظومة تمثل منهجا بحثيًا مترابطًا، كما أنه تخلق جماعة بحثية مترابطة. ولأن المنظومات تحدد رؤية العلماء للعالم وفهمهم للمشكلات النظرية، فإن تغيير المنظومة يعني أيضًا حدوث تحول في خيال العلماء، مما يستدعي بدوره تحولاً فكريًايتيح لجماعة العلماء رؤية البياناتالقديمة من منظور جديد تمامًا. وقد تظل المنظومات المختلفة لفترة من الوقت في حالة تنافس من أجل الحصول على ولاء جماعة العلماء، حتى تحل أحدى المنظومات محل الأخرى أو تفسح المكان لمنظومة ثالثة.

وتتضح لنا أهمية هذه النظرية في دراسات الكتاب المقدس والدراسات اللاهوتية بصفة عامة وفي الموضوع الذي نناقشه هنا بصفة خاصة، إذ إنها توضح الطبيعة الشرطية لكل أشكال البحث العلمي، وترى استحالة وجود لغة بحث محايدة أو موقف متجرد من اعتبارات القيمة. تتطلب كل الاستقصاءات العلمية الالتزام بمنهج بحثى معين، في حين يقوم بها مجموعة من الباحثين يكرسون أنفسهم لذلك المنظور النظري. وعلاوة على ذلك، تساعدنا هذه النظرية على إدراك أن المناهج اللاهوتية، مثلها في ذلك مثل كل النظريات العلمية الأخرى، لا يثبت زورها، بل تحل محلها نظريات أخرى، ليس لأننا نعثر على معطياتجديدة، ولكن لأننا نكتشف طرقًا جديدة لدراسة المعطيات والمشكلات القديمة. وعلى هذا، لا تنفى المنظومات البحثية بالضرورة بعضها البعض، بل يمكنها التواجد جنبًا إلى جنب حتى تحل محلها في النهاية منظومة جديدة.

يعكس الجدل الدائر حول موقع الدعم والمساندة في لاهوت التحرير وموقف اللاهوت الأكاديمي المتحرر من الاعتبارات القيمية تحولاً في المنظومات اللاهوتية. ولأن الكتاب المقدس بوصفه نصوصًا مقدسًا يعد كتابًا تاريخيًا، ولكنه يمارس في الوقت ذاته سلطة ودورًا في حياة المسيحيين اليوم، فقد أنتجت الدراسات اللاهوتية منظومات مختلفة لإزالة التوتر القائم بين طبيعة الكتاب المقدس التاريخية وطبيعته اللاهوتية.(14)

تقدم المنظومة الأولى، والتي سأطلق عليها اسم المنظومة العقائدية” (doctrinal paradigm)، فهمًا للكتاب المقدس في إطار الوحي الإلهي والسلطة المرجعية. وتُعني تلك المنظومة بالبحث في زعم المصداقية والسلطة والمعني التي يمثلها الكتاب المقدس للعقيدة المسيحية اليوم. وهي تنظر إلى سلطة الكتاب المقدس من منظور لا تاريخي ودوجماطيقي، وتؤكد في أكثر صورها اتساقًا الوحي اللفظي والعصمة الأدبية في الكتاب المقدس. وعليه، فإن الكتاب المقدس في إطار ذلك الفهم لا يبلِّغ كلام الله فحسب، بل إنه هو كلام الله. أي أنه ليس مجرد تسجيل للوحي ولكنه الوحي ذاته. وعليه، فإن الكتاب المقدس يؤدي دور النص الدال، أو المبدأ الأول،أو المعيار الذي يُشَكِّل ولا يتشكل (norma normans non normata). وعليه، فبالإمكان إزالة التضارب بين معنى الكتاب المقدس المعاصر ومعناه التاريخي باللجوء إلى المجاز، أو بدراسة الرموز، أو بالتمييز بين معاني النصوص المقدسة الحرفية ومعانيها الروحانية.

ويعد التدليل من النص (proof-texting) أوسع تلك الوسائل استخدامًا، ويستخدم في تقديم الحجج أو الدفوع اللاهوتية المطلقة لدعم موقف تم اتخاذه مسبقًا. والصيغة المعروفة لذلك هي: “النصوص المقدسة تقول، إذن….” أو وتعزز النصوص المقدمة ذلك الطرح.” ويفترض التدليل من النص مسبقًا أن الكتاب المقدس يقدم حقائق ومبادئ سرمدية يمكن فصلها عن السياق التاريخي الذي تعبر عنه. وبهذا، تنحصر أهمية ما يرد في الكتاب المقدس لللاهوت في كونها مصدرًا للتدليل من النصأو مبادئيمكن أن ينظر إليها بمعزل عن سياقها التاريخي. وتقوم نصوص الكتاب المقدس بدور التبرير التاريخي للاهتمامات الأخلاقية والعقائدية والمؤسسية في المجتمع المسيحي. وقد يصبح لاهوت التحرير عرضة للوقوع تحت سيطرة التدليل من النصأو المنهج الرمزي لو أنه حصر اهتمامه وبصورة مثالية في نصوص بعينها من الكتاب المقدس، مثل نصوص سفر الخروج(15) أو نصوص نبوية تندد بالأغنياء في إنجيل لوقا 4: 16-30 أو الدينونة الأخيرةفي إنجيل متى ٢٥: 31-45.

أما المنظومة الثانية فهي منظومة التأويل التاريخيالنقدي، والتي ظهرت لمواجهة الاستخدام الدوجماطيقي للنصوص المقدسة والسلطة العقائدية للكنيسة. وقد ربطت تلك المنظومة هجومها على المنظومة العقائدية بفهم للتأويل والتاريخ يتميز بالموضوعية والتحرر من اعتبارات القيمة، كما يتميز بالعقلانية والمنهج العلمي. ولأن التأويل التاريخيالنقدي مبني على نموذج العلوم الطبيعية، فإنه يسعى إلى الوصول إلى قراءة موضوعية خالصة للنصوص، وإلى تقديم علمي للحقائق التاريخية. وبصفته تأويلاً علميًا موضوعيًا، فإنه يطابق بين الصدق اللاهوتي والحقيّة التاريخية. ويرى جیمز بار (James Barr) أن في تلك المنظومة

يتم تناول وتقييم إحدى روايات الكتاب المقدس حول حدث ما بحسب تطابقها مع الواقع الخارجي في المقام الأول، وليس بحسب دلالتها. فالصدق بمعنى التطابق مع الواقع المعيش له أولوية على الصدق بمعنى الدلالة. (16)

وبالرغم من أن المنحى الأكاديمي التاريخيالنقدي قد أضحى ينظر بعين الشك إلى الفهم الموضوعاتي – الواقعي لنصوص الكتاب المقدس، فهو لا يزال يتمسك بمبدأ المنهج المحايد المتجرد من اعتبارات القيمة. وفي حين تتحرى الدراسات الأكاديمية التاريخيةالنقدية أقصى قدر من الدقة في فهم المعنى التاريخي للكتاب المقدس، فإنها، وبدافع اعتبارات منهجية، تأبى أن تناقش دلالات نصوص الكتاب المقدس لجماعة المؤمنين في العصر الحالي. ولهذا، يقتصر التفسير الأكاديمي للكتاب المقدس على البحث التاريخي والأدبي، ولكنه لو أردنا تحرى الدقة المتناهية ليس بحثًا لاهوتيًا.

وينبغي على اللاهوتيين التحريريين بالطبع أن يبتعدوا عن الفهم لتفسير الكتاب المقدس، إذ إنهم معنيون بأهمية الكتاب المقدس في الصراع من أجل التحرر. ولكن من المهم ملاحظة أن خوسيه ميراندا (Jose Miranda)(17) وهو من لاهوتيِّ أمريكا اللاتينية وصاحب مؤلفات غزيرة في مجال تفسير الكتاب المقدس وأحد معتنقى ذلك النموذج المولد، يؤكد أن المنهج التاريخيالنقدي يمثل في ذاته منهجًا موضوعيًا وعلميًا ويمكن التحكم فيه. وعندما يخطئ المفسرون الغربيون كثيرًا في الوصول إلى معنى النص فذلك لا يُعزى إلى المنهج التفسيري ولكن إلى الفكر الإغريقي الذي يتبناه التأويل الغربي والذي يجب على الأخير نبذه وتبنى قراءة ماركسية للكتاب المقدس مكانه. ولكن يبقى التساؤل حول ما إذا كان الفصل الذي يعتمده خوسيه ميراندا بين الفكر الأغريقي وفكر الكتاب المقدس أمر يمكن القول به حتى الآن، وحول ما إذا كان بمقدور لاهوت التحرير تبني الموقف المتجرد من اعتبارات القيمة الذي يتبناه النقد التاريخي. وتأخذ منظومة تفسير الكتاب المقدس الثالثة الأفكار المنهجية التي تقدمها الدراسات التاريخيةالنقدية مأخذ الجد، في حين تناقش بجرأة الطريقة التي تنظر بها تلك الدراسات إلى مهمتها التفسيرية. ويمكن تبرير وجود تلك المنظومة بالنظر إلى تطورين مهمين مرت بهما دراسات الكتاب المقدس: فقد أوضحت مناهج الشكل والصياغة (form and redaction) في النقد أن نصوص الكتاب المقدس هي – إلى حد كبير – ردود على مواقف ومشكلات عملية ظهرت في الشئون الرعوية اليومية، بينما عنيت الدراسات الهرمنوطيقية بالمعنى المعاصر الذي يمكن أن تقدمه نصوص الكتاب المقدس.

أولاً: تؤكد دراسات الشكل والصياغة النقدية أن تراث الكتاب المقدس لا يَعُدُّ نفسه تراثًا عقائديًا أو تأويليًا أو تاريخيًا، ولكن تراثًا حيًا.(۱۸) وحتى نفهم نصوص الكتاب المقدس يجب ألا نكتفي بترجمة نص ما وتفسيره داخل سياقه المباشر، ولكن أيضًا أن نعرف ونحدد الموقف والجمهور الذين يخاطبهم النص.

لقد أعاد مؤلفو (authors) [ لمراجعة تعليقي على استخدام كلمات “auther”, “editor”, “writer” في الإشارة إلى الكتاب المقدس، انظر/ي مقدمة المترجمة. (المترجمة)] العهد الجديد كتابة تراثهم في صورة رسائل أو أناجيل أو إعلانات إلهية لأنهم شعروا أن من واجبهم الديني توضيح أو نقد معتقدات وممارسات مجتمعاتهم. وهكذا، كتبت نصوص الكتاب المقدس بقصد الوفاء باحتياجات جماعة المؤمنين، لا بقصد الكشف عن مبادئ سرمدية، أو تقديم سجل بوقائع دقيقة تاريخيًا. ولذا، فهم لا يعيِّنون وحي الكلمة في الماضي فقط، ولكن أيضًا في واقعهم هم، مقدمين بذلك فهمًا جدليًا يضم الماضي والحاضر معًا. فمن ناحية، نرى دلالة الماضي لأن الوحي قد أعلى بشكل محدد ليسوع الناصري، ومن الناحية الأخرى يمكن لكتّاب (writers) العهد الجديد أن يمارسوا حريتهم فيما يتعلق بتراث يسوع، وذلك لأنهم يؤمنون بأن يسوع الذي تكلم في الماضي يخاطب الآن أتباعه من خلال الروح القدس.

ولكن يمكن توجيه النقد لدراسات الشكل والصياغة بسبب تقديمها تصورًا جاهزًا للوضع في مجتمعات المسيحية المبكرة، في صورة نزاع عقائدي بين لاهوتات وجماعات مختلفة داخل الكنيسة. وغالبًا ما يأتي ذلك التصور مشابهًا لتاريخ حركة الإصلاح في أوروبا في القرن السادس عشر، أو بما هو وصف لمدينة صغيرة في أمريكا أقيمت فيها وعلى بعد أمتار من بعضها البعض خمس أو ست کنائس تعتنق اتجاهات مسيحية مختلفة.

وتؤكد الدراسات التي تتناول الواقع الاجتماعي لبني إسرائيل(۱9) والمسيحية المبكرة(٢٠) على أنه لا يكفي أخذ السياق الكنسي وحده في الحسبان، إذ غالبًا ما يتشابك الإيمان والوحي في المسيحية مع السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية. ولا يمكن الاكتفاء بفهم نصوص الكتاب المقدس بوصفها مجرد تعبير عن أفكار دينية لاهوتية أو عن نزاعات كنسية؛ المهم هو تحليل سياقات تلك النصوص ووظائفها المجتمعيةالسياسية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن الاكتفاء بتحديد الشكل المجازي للقوانين التي كانت تحكم الأسرة، ولا الأهمية اللاهوتية لتلك القوانين في التقاليد المجتمعية في حقبة ما بعد بولس إذا لم نتساءل كذلك عن سبب تبني تلك المجتمعات لذلك الشكل بعينه وإدماجه في بيئتهم المجتمعيةالسياسية.(21) وبينما تفهم المنظومة العقائدية المعجزات على أنها دلائل على ألوهية يسوع، تبحث المنظومة التاريخيةالسياقية فيما إذا كانت تلك المعجزات قد حدثت فعليًا بالطريقة التي وردت بها. وبينما تناقش منظومة الشكل والصياغة ما إذا كانت تلك المعجزات تعبيرًا دينيًا مرتبطًا بسياقها الزمني أم أنها تعبير أصيل عن الإيمان في المسيحية، في حين يشير النموذج السياقي إلى انتشار الإيمان المبني على المعجزات في الطبقات الدنيا التي لم يكن أفرادها يملكون المال الكافي للعلاج الطبي. ومن أحسن طرق فهم الإيمان بالمسيح المبنى على المعجزات أن ننظر إليه بوصفه احتجاجًا على المعاناة الجسدية والسياسية، يهب الإنسان الشجاعة لمقاومة القوى التي تسعى إلى تدمير الحياة في المجتمع الذي يعيش فيه.(22)

ثانيًا: تُعنى الدراسات الهرمنوطيقية بمعنى نصوص الكتاب المقدس. وبينما يسعى أحد اتجاهات الهرمنوطيقا إلى اكتشاف المعنى التزامنى (synchronic) للنصوص المكتوبة، ذلك المعنى الأنطولوجي والمثالي واللازمني والعقلي، وذلك بفصله عن السياق التتابعي (diachronic) واللحظي والتواصلي والشخصي والإشاري، فهداك اتجاه آخر لا يُعني كثيرًا بلغوية النص بقدر ما يعني باندماج المفسر في النص. فالمفسر دائمًا ما يقارب النص مسلحًا بأساليب معينة لإثارة التساؤلات، أيْ بفهم معين للموضوع الذي يدور حوله النص.(۲۳)

وتفهم الدائرة الهرمنوطيقية العلاقة بين المفسر المعاصر والنص التاريخي في صورة حوار متصل يصحح الافتراضات المسبقة التي يحملها المفسر بهدف الوصول إلى معنى النص الحقيقي. وعند هذه النقطة، يصبح من الواضح أن التفسير الحواري (dialogic interpretation) هو المنظومة التي تحكم ذلك النموذج المولِّد الثالث. وبينما يوضح نقد الشكل والصياغة أن المجتمعات والمؤلفينفي المسيحية المبكرة كانوا في حوار متصل مع التراث ومع الإله الحي الذي يرخص بذلك التراث، فإن الدائرة الهرمنوطيقية تكمل ذلك الحوار في صورة فعل التفسير. وهكذا، يمكن الجمع بين هذا الفهم الهرمنوطيقي والمسعى اللاهوتي الأرثوذوكسي الجديد، أو كما أوضح إدوارد شيلبيكس Edward Schillebeeckx)): “إن نقطة الانطلاق الواضحة هي الافتراض بأن ما يحمله لنا التراث، وبخاصة التراث المسيحي، له معنى وأهمية، وأنه يتعين استخدام مسعى هرمنوطيقي لفك شفرة المعنى الذي يحمله وجعله واقعًا“.(24)

وختامًا: تتبنى منظومات تفسير الكتاب المقدس الثلاث موقفًا محددًا، وتدين بالولاء إلى منظور بحثى ما، وإلى جماعة ما. يتضح ولاء المنظومة العقائدية للكنيسة وتعاليمها، فهي تقيّم النصوص ومدى صدقها بمعيار قانون الإيمان (regula fidei). أما منظومة التأويل التاريخيالنقدي العلمية فتتبنى رؤية العالم الموضوعاتيةالعلمية، معتنقة عقلانية البحث الأكاديمي النقدية والمتجردة من اعتبارات القيمة. أما المنظومة الهرمنوطيقية – السياقية فتعنى بفكرة استمراريةالتراث، وعليه فهي تدعو إلى موقف متناسق مع اللاهوت الأرثوذوكسي الجديد، أي أنها تشكل هرمنوطيقا القبول” hermeneutics of consent. (25) ويجدر بنا البحث في المصالح السياسية التي تخدمها كل من هذه المنظومات الثلاثة، ولكن ذلك موضوع أكبر من حدود مهمة هذه المقاربة وهدفها. على أية حال، يهدد موقع الدعم والمساندة الواضح الذي تتبناه اللاهوتات التحريرية بالكشف عن المصالح السياسية الخفية لمنظومات تفسير الكتاب المقدس القائمة. وقد يكون ذلك أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل اللاهوت الرسمي يرفض إعمال التأمل النقدي في مصالحه المجتمعيةالكنسية وفي وظائفه السياسية.

سوف يحاول الجزء الثاني من هذا البحث تقديم تحليل نقدي لموقع لاهوت التحرير وسط منظومات تفسير الكتاب المقدس القائمة. وسوف أقوم بذلك عن طريق مناقشة منهجين هرمنوطيقيين مختلفين من مناهج لاهوت التحرير. وقد اخترت كدراسة حالة النموذج الهرمنوطيقي لخوان لویس سیجندو Juan Luis Segundo)) بوصفه أحد أكثر مناهج اللاهوت المعاصر تركيبًا، بينما وضعت في المقابل له منهج إليزابث كادي ستانتون ((Elizabeth Stanton Cady الذي استخدمته في طرح فكرة إنجيل المرأة (Woman’s Bible ). ويوضح كلا المثالين أن اللاهوتات التحريرية قد توصلت إلى منهج ذي معالم محددة لتفسير الكتاب المقدس يهدف إلى إعادة صياغة معايير الخطاب اللاهوتي العام. وبدلاً من أن نتساءل عما إذا كان أحد المناهج يليق بالنصوص المقدسة ويلائم وضع البشرية،(26) فإننا نحتاج إلى اختبار ما إذا كان نموذج تفسير الكتاب المقدس اللاهوتي ملائمًا للمناهج التاريخيةالنقدية التي ينتهجها التفسير المعاصر، واذا ما كان لائقًا بكفاح المقهورين من أجل التحرر.

بينما ينادي المنهج الهرمنوطيقيالسياقي بإزالة كل الافتراضات المسبقة وكل أشكال الفهم المسبق من أجل الوصول إلى تأويل وصفىموضوعي، ترى الهرمنوطيقا الوجودية الفهم المسبق هو الأرضية الوجودية المشتركة بين المفسر ومؤلف النص. وقد طعن اللاهوتيون السياسيون في ذلك الخيار الفلسفي الوجودي، بينما تبنى اللاهوتيون التحريريون هرمنوطيقا الالتزام بدلاً من هرمنوطيقا الحياد. ولأنه من المستحيل تحقيق الحياد أو التجرد من اعتبارات القيمة بشكل تام، فيتعين على المفسر والمفسرة أن تحدد موقعها بوضوح، وأن تتبنى موقع الدعم والمساندة انحيازًا للمقهورين. إن فهم الكتاب المقدس حق الفهم يعني أن نقرأه من خلال أعين المقهورين، ذلك أن الإله الذي يتحدث في الكتاب المقدس هو إله المقهورين. وللوصول إلى تفسير صحيح الكتاب المقدس، من الضروري الاعتراف بما يسمى الامتياز الهرمنوطيقي للمقهورين، ومن ثم صياغة هرمنوطيقا من القاع“.

ولأن اللاهوت يتشابك ضمنيًا أو عمليًا مع الوضع الاجتماعي القائم، فإن خوان لويس سيجندو يرى أن دائرة البحث الهرمنوطيقي يجب أن تبدأ بمعايشة أو تحليل الواقع الاجتماعي الذي يقودنا بدوره إلى الشك في وضعنا الراهن. وكخطوة ثانية، نقوم بإخضاع اللاهوت وكافة أشكال البني الأيديولوجية الفوقية الأخرى لذلك الشك الأيديولوجي. وفي المرحلة الثالثة، نعايش الواقع اللاهوتي بطريقة مختلفة، مما يقودنا إلى شك مؤداه أن التفسير السائد للكتاب المقدس لم يأخذ في حسبانه عددًا من المعطيات المهمة“.(28) وفي المرحلة الأخيرة، نستدعى كل تلك الأفكار لنستخدمها في تفسير النصوص المقدسة. وعلى أية حال، لن نستطع رؤية مجتمعنا وعالمنا بصورة مختلفة ولا أن نطور منظورًا جديدًا لرؤية العالم إلا بالترامنا الفعال بالمقهورين وانخراطنا الفعال في كفاحهم من أجل التحرر. ولو فسرنا العهد الجديد تفسيرًا صحيحًا سنجده ينادي بتلك الرؤية.

ويعترف خوان لويس سيجندو أن جيمز كون قد صاغ هذا التفسير اللاهوتي التحريري لجماعات السود، كما يعترف بتأثره برودلف بولتمان (Rudolf Bultmann)، ولكنه يعيد صياغة الدائرة الهرمنوطيقية ليجعلها تشتمل على الفعل:

وتتبع الطبيعة الدائرية لهذا التفسير من أن كل واقع جديد يفرض علينا أن نفسر كلام الله من جديد، وأن نغير الواقع تبعًا لذلك، ثم نعود ونفسر كلام الله، مجددًا، وهكذا.(29)

(الخط الداكن في الجملة الأخيرة أضيف بواسطة كاتبة المقالة)

ويتضح هنا أنه لا يسعنا اتهام خوان لويس سيجندو بعقلنة موقف اتخذه مسبقًا، فهو لا يعمل في إطار المذهب التفسيري للمنظومة العقائدية، كما نجده يميز بوضوح بين تفسيره اللاهوتي وتفسير الدراسات الأكاديمية النقديةالتاريخية برفضه النموذج التطبيقي القائم على فكرة التطبيق المعاصر للوحي الكتابي في فهم الكتاب المقدس. ويرى خوان لويس سيجندو أن تفسير الكتاب المقدس يجب أن ينتج المستوى الثاني لعملية التعلم التي تقودنا إلى الإيمان بالكتاب المقدس. فالإيمان يتطابق مع عملية التعلم في الأيديولوجيا ومن خلالها، أما ردود الأفعال الإيمانية لمواقف تاريخية بعينها فهي أيديولوجيات. وهكذا، لا ينبغي أن نعرف الإيمان بأنه محتوى أو محزن، بل بأنه عملية تعليمية ممتدة على مر التاريخ المسيحي وتاريخ الكتاب المقدس. ففي حين يعبر الإيمان عن استمرارية الوحي الإلهي وديمومته، توثق أيديولوجيات الطبيعة التاريخية للإيمان والوحي. “فالإيمان إذن عملية تحررية. فهو يتحول إلى حرية للتاريخ مما يعني حرية الأيديولوجيات“.(30) ويتضح هنا أن خوان لويس سيجندو لا يفهم الأيديولوجيا على أنها وعى زائف، ولكن على أنها تعبیر تاریخیمجتمعي.

ویری خوان لويس سيجندو أنه لا يجب تعريف الإيمان في المسيحية بأنه محتوى أو قواعد أو مبادئ، بل بأنه عملية تعليمية نثق فيها ونأتمنها. “وفي حالة الكتاب المقدس، نتعلم أن نثق في العملية التاريخية ونأتمنها على حياتنا وعلى معنى حياتنا، وهي عملية تنعكس في الأشكال التي يجسدها ذلك التراث ذاته“.(31) وهنا، يتضح أن خوان لويس سيجندو لا يعمل في إطار المنهج العام للمنظومة العقائدية ولا للمنظومة التاريخية المتجردة من اعتبارات القيمة، ولكنه يقدم نموذجًا للتفسير في إطار المنظومة الهرمنوطيقيةالسياقية. وهو يشترك مع الأرثوذوكسية الجديدة في الافتراض الهرمنوطيقي الذي يرى أن تراثات النصوص المقدسة تراثات مهمة، وأنها لذلك تستحق طاعتنا وتطالبنا بما نسميه هرمنوطيقا القبول“. ويختلف منهج خوان لويس سيجندو عن لاهوت الأرثوذوكسية الجديدة في أنه لا يرى أن محتوى النصوص المقدسة هو ما ينعكس في الكتاب المقدس في صورة ما هو مهم وتحرري، ولكنه يرى أن المعنى والتحرر يكمنان في عملية أن نتعلم كيف نتعلم.

ولا يأخذ ذلك الافتراض في الحسبان أنه من الممكن أن يصيب التشويه كلاً من محتوى النصوص المقدسة وعملية التعلم على المستوى الثاني. وهنا يجب على خوان لويس سيجندو إما أن يوضح أن الأمر ليس كذلك أو أن يضع تصورًا لعملية التعلم تلك بطريقة يصبح معها الدعم و المساندةمبدًا مجردًا لا يمكن تطبيقه على محتويات الكتاب المقدس. وبمعنى آخر، فإن نموذج خوان لويس سيجندو لا يسمح بتقييم نقدي لاهوتي لأيديولوجيات الكتاب المقدس بوصفها وعيًا زائفًا“. وهنا، علينا أن نتساءل عما إذا كان بإمكاننا الفصل بين المحتوى التاريخي والتعلم الهرمنوطيقي. كما لا يمكِّننا ذلك الفهم من الحكم بما إذا كان نص ما أو فهم ما مناسبًا ومفيدًا في صراع المقهورين من أجل التحرر. إن إخفاقنا في استخدام التقييم النقدي في التعامل مع نصوص الكتاب المقدس وفي التعامل مع عملية تفسير النصوص المقدسة والتراث يعد أحد الأسباب التي تجعل استخدام اللاهوتيين التحريريين للكتاب المقدس يقترب في كثير من الأحيان من منهج النص الدال“. ولكي نتجنب مثل ذلك الانطباع، يتعين على الهرمنوطيقا التحريرية أن تعيد التفكير في حقيقة أن عملية تفسير النصوص المقدسة ليست بالضرورة عملية تحريرية.

بينما يؤكد اللاهوتيون التحريريون أن الكتاب المقدس سلاح في الصراع من أجل التحرر، ويقولون بأن الإله في الكتاب المقدس هو إله المقهورين، تعتنق الكاتبات النسويات منذ بداية الحركة النسائية في القرن الماضي الفكرة المناقضة التي ترى أن الكتاب المقدس واللاهوت المسيحي كليهما في جوهره منحازان ضد المرأة. وعليه، فإن لهما تأثيرًا مدمر في وعي النساء. وهكذا، فإن التفسير التنقيحي للنصوص المقدسة واللاهوت إما سيتسبب في تخريب كفاح النساء من أجل التحرر من كل أشكال القهر المبني على التمييز الجنسي، أو سيضطر إلى إعادة تفسير التراث واللاهوت المسيحيين بطريقة تجردهما من كل ما هو مسيحي” .

ولذا، يتعين على اللاهوت النسوي بوصفه لاهوتًا نقديًا أن يدافع عن نفسه على جبهتين: فبينما نرى اللاهوتيين التحريريين غير راغبين في الإقرار بالاستغلال والقهر الواقعين على النساء، ترى المفكرات النسويات التقدميات أن الوعي النسوي والعقيدة المسيحية يشكلان تناقضًا واضحًا. فعندما ولدت ابنتنا كرستينا أعلنا عن تعميدها بالمقولة الآتية:

ولدَت في عالم يسوده القهر

ولدَت في مجتمع يسوده التمييز

ولدَت من جديد في كنيسة يسودها التمييز

وتنم ردود أفعال أصدقائنا إزاء هذا الإعلان عن تلك الاعتراضات الموجهة إلى اللاهوت النسوى المسيحي. فقد هزَّ بعض الزملاء وطلاب اللاهوت رؤوسهم سائلين عما إذا كنا نرتب لطقوس عماد ماركسية، بينما أشار بعضهم بسخط إلى المكانة الامتيازية لطفلة مولودة لأبوين مهنيين من الطبقة الوسطى. ولكن إحدى الطالبات النابهات (وكانت تشعر بالاختناق في البيئة الأبوية في كلية نوتر دام ثم أدخلت المصحة فيما بعد لتعالج من انهيار عصبي) واجهتني في الطريق قائلة: كيف تفعلين ذلك بها؟ يستحيل أن تصبح فيما بعد مسيحية ذات التزام ووعي. إن العقيدة المسيحية والكنيسة يدمران شخصية النساء اللاتي يحاربن التحيز ضد المرأة ويعملن من أجل التحرر.

وهكذا، فإن القضية التي يجب أن تواجهها اللاهوتيات النسويات بجرأة هي قضية لاهوتية تأسيسه: هل يشكل كونك امرأة وكونك مسيحية تناقضًا أوليًا يتعين توفيقه لصالح أحدهما على حسب إقصاء الآخر؟ أم هل بالإمكان الإبقاء على الاثنين في حالة توتر خلاق يجعل كوني مسيحية يساند نضالي من أجل تحرر المرأة، بينما يعزز كوني نسوية التزامي بأن أعيش بوصفي مسيحية ويعمقه.(32) يتعين على اللاهوت النسوى أن يصوغ تلك الإشكالية في ضوء الكتاب المقدس ووحيه من داخل النصوص المقدسة ما دام لاهوتًا مسيحيًا مقيدًا بوثائقه المؤسِّسة (charter documents). ولأن الكتاب المقدس قد استخدم من قبل ولا زال يستخدم لمجابهة مطالب النساء بالمساواة والتحرر من التمييز الجنسي المجتمعي والثقافي والكنسي – فيجب على اللاهوت النسوي أن يصوغ تلك المهمة أولاً في صورة نقدية قبل أن يبدأ في محاولة صياغة هرمنوطيقا تحريرية. وبينما يشكل موضوع إثبات حُجِّيَّة النص خطورة على لاهوت التحرير، فإن المأزق الذي يجب أن يتجنبه اللاهوت النسوي هو موقف الدفاع عن العقيدة، لأن موقف الدفاع عن العقيدة لا يأخذ المعاني السياسية المتضمنة في تفسير النصوص المقدسة مأخذ الجد.

وقد يقدم لنا الجدل القائم حول إنجيل المرأة(33) الذي ظهر في عامي ۱۸۹5 و ۱۸۹۸ دراسة حالة تمكننا من التعرف على الظروف والتبعات السياسية للتفسير النسوي للكتاب المقدس، وأيضًا على تأثير اللاهوت النسوي النقدي والراديكالي على عملية التفسير. وتعرض إليزابث کادی ستانتون مؤسِّسة المشروع في المقدمة التي كتبتها ل إنجيل المرأة فكرتين نقديتين لهرمنوطيقا لاهوتية نسوية. إن الكتاب المقدس ليس كتابًا محايدًا، ولكنه سلاح سياسي ضد كفاح النساء من أجل التحرر. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الكتاب المقدس يحمل بصمات رجال لم يروا الله قط ولم يتحدثوا معه.

أولاً: تفهم إليزابث كادي ستانتون عملية تفسير الكتاب المقدس على أنها فعل سياسي. وتوضح القصة الآتية اقتناعها الشخصي بالتأثير السلبي للمسيحية في وضع النساء. فقد رفضت حضور اجتماع صلاة عقدته المناديات بحق النساء في التصويت، وكان قد بدأ بترنيمة فلترشدنا طريقنا يا يهوه العظيملإيزابيلا بيتشر هوكر (Isabella Beecher Hooker). أما السبب الذي أوردته لرفضها فكان أن يهوه لم يشارك قط في حركة النضال من أجل حق النساء في التصويت“.(34) ولأن خبراتها السابقة تخبرها بأن يهوه لم يقف في صف المقهورين فقد أدركت ما للكتاب المقدس من نفوذ سياسي قوى. وعليه، أقدمت على مراجعة الكتاب المقدس مراجعة تسعى إلى جمع وتفسير (بمساعدة ’النقد الأعلى‘: higher criticism) كل المقولات التي تشير إلى النساء في الكتاب المقدس. ولكنها في الوقت ذاته اعترفت بأنها لم تنجح تمامًا في حشد العون من الباحثات لأنهن كن

خائفات من أن يعرضن سمعتهن الرفيعة وإنجازاتهن الأكاديمية للخطر إذا ما شاركن في مشروع قد لا يحظى بالقبول لوقت طويل. ولهذا فقد لا تحصل على العون من تلك الطبقة.(35)

وقد حدث بالفعل أن لم يحظ مشروع إنجيل المرأة بالقبول بسبب المعاني السياسية المتضمنة فيه. فلم يكن فقط أن رأت بعض المناديات بحق المرأة في التصويت أن مثل ذلك المشروع إما غير ضروري أو أحمق من الناحية السياسية، ولكن الجمعية الوطنية الأمريكية لحق المرأة في التصويت رفضته رسميًا بوصفه خطأً سياسيًا. وتلخص إليزابث كادي ستانتون الآراء المعارضة للمشروع في المجلد الثاني الذي ظهر في عام ١٨٩٨ قائلة: “يرفض العدو والصديق معًا عنوان الكتاب، ثم ترد بسخرية لاذعة على اتهام أحد رجال الدين الذي قال إن إنجيل المرأة هو من عمل النساء والشيطان“:

إن ذلك خطأ كبير. إن جلالته الشيطانية رفض الانضمام إلى لجنة المراجعة التي اقتصرت على النساء. ثم إنه كان منشغلاً في الأعوام الأخيرة بحضور اجتماعات المجمع الكنسي والجمعيات العمومية والمؤتمرات بغرض التعتيم على وجود وفود النساء بحيث لم يتوفر لديه الوقت لدراسة اللغات والنقد الأعلى“.(36)

وبالرغم من أن مناهج النقد الأعلىوافتراضاته اللاهوتية في ذلك الوقت لم تعد مستخدمة اليوم، فلا تزال أهداف التفسير النسوى وطروحه السياسية للكتاب المقدس سارية حتى الآن. وقد قدمت إليزابث كادي ستانتون عرضًا لها في مقدمة المجلد الأول، حيث قدمت ثلاثة أسباب تبين ضرورة تلك المراجعة والتفسيرات العلمية النسوية الموضوعية للكتاب المقدس:

1- لقد استُخدم الكتاب المقدس على مر التاريخ وبخاصة الآنبهدف إبقاء النساء رهن الخضوع وإعاقة تحررهن.

۲إن الرجال ليسوا فقط هم من يؤمنون بالكتاب المقدس بوصفه كلام الله، ولكن النساء أيضًا من أخلص المؤمنين بذلك، وإن للكتاب المقدس سلطة روحية ليس على الرجال فقط بل على النساء أيضًا.

3- لا يمكن تحقيق الإصلاح في جانب من جوانب المجتمع إذا لم يشمل الإصلاح كافة الجوانب الأخرى. فليس بإمكاننا إصلاح القانون والمؤسسات الثقافية الأخرى دون إصلاح المعتقدات الدينية القائمة على الكتاب المقدس التي ترى في الكتاب المقدس نصوصًا مقدسة. ولأن كل أشكال الإصلاح تعتمد على بعضها البعض، يُعَدُّ التفسير النسوي النقدى مشروعًا سياسيًا ضروريًا، حتى وإن لم يكن هذا هو الوقت المناسب له. وإذا كانت النسويات يعتقدن أن بإمكانهن إهمال مراجعة الكتاب المقدس لأن هناك قضايا سياسية أكثر إلحاحًا، فإنهن إذن لا يدركن مدى التأثير السياسي القوى للنصوص المقدسة في الكنائس وفي المجتمع وفي حياة النساء كذلك.

ثانيًا: تدعو إليزابث كادي ستانتون إلى عملية المراجعة النقدية للكتاب المقدس في إطار النقد الأعلى“. ولهذا، تتطابق أفكارها مع نتائج الدراسات التاريخية للكتاب المقدس في الفترة التي كانت تكتب فيها. فهي إذن تعارض الفهم الحرفي للكتاب المقدس على أنه كلام الله، وتؤكد أن الكتاب المقدس كتب بواسطة رجال وإنه يعكس المصالح الذكورية الأبوية, “إن النقطة الوحيدة التي أختلف فيها مع التعاليم الكنسية هي أنني لا أصدق أن أي رجل كان قد رأى الله أو تكلم معه“. (37) وبينما تقول الكنائس إن تلك الأفكار المهينة والمتعلقة بالأحكام الأبوية ضد النساء آتية من عند الله، ترى إليزابث کادی ستانتون أن كافة تلك النصوص والأفكار المهينة إنما هي آتية من رؤوس الرجال. وهي ترى أيضًا أن اللجنة التي شكلتها قد عبرت عن تبجيل واحترام أكبر لله مما يعبر عنه رجال الدين أو الكنيسة، بأن تعاملت مع الكتاب المقدس بوصفه عملاً إنسانيًا لا بوصفه أداة سحرية، بأن رفضت فكرة أن المقولات السلبية عن المرأة في الكتاب المقدس هي وحي إلهي. وهي تسلم بأن بعض تعاليم الكتاب المقدس لا تزال ملزمة حتى اليوم، مثل وصية المحبة أو الوصية الذهبية. ولأن تعاليم الكتاب المقدس ودروسه تختلف عن بعضها البعض، فإنه لا يمكن قبول الكتاب المقدس أو رفضه ككل. وعليه، لا بد من إعمال الدقة في تحليل كل فقرة تتناول النساء وتقييم تأثيرها في كفاح النساء من أجل التحرر.

وفي النهاية: بالرغم من أن الاعتبارات المنهجية تحتم علينا اليوم رفض فكرة إنجيل المرأة الذي يحتوي فقط على النصوص التي تتناول النساء في الكتاب المقدس،(۳۸) فإن دراسات الكتاب المقدس بصفة عامة قد أثبتت صحة افتراض إليزابث كادی ستانتون الجدلي القائل بوجوب دراسة الكتاب المقدس بوصفه عملاً إنسانيًا، وبأن تفسير الكتاب المقدس يتأثر بمصالح المفسر وبقناعاته اللاهوتية. ونرى أن مفسرات الكتاب المقدس المعاصرات، وهن في ذلك مثل بعض صديقات إليزابث کادی ستانتون من الداعيات إلى حق المرأة في الانتخاب، إما يرفضن تفسیر الكتاب المقدس الذي يرينه يشكل مشروعًا نسويًا ميئوسًا منه، وذلك لأن الكتاب المقدس منحاز تمامًا ضد المرأة، أو يحاولن الدفاع عنه في مواجهة ناقداته من النسويات الثوريات. وهن في ذلك يتبعن فرانسيس ويلارد (Frances Willard) التي قدمت طرحًا مضادًا للقراءة النقدية الثورية المتمثلة في إنجيل المرأة مفاده أن التفسير الأبوى المعاصر للكتاب المقدس هو الذي يدعو إلى إخضاع النساء وليست رسالة الكتاب المقدس ذاتها:

أعتقد أن الرجال قد خلعوا على الكتاب نظرياتهم الأنانية الخاصة، وأن اللاهوتيين السابقين لم يدركوا بدرجة كافية الطبيعة التقدمية لرسالته، ولا استطاعوا التمييز بصورة مناسبة بين نصوصه بوصفها تاريخًا وبين مبادئه الأخلاقية والدينية.(39)

ويعد ذلك الفهم الذي يرى أن تفسيرات الكتاب المقدس لا بد أن تتخلص من طبيعتها الأبويةفهمًا مهمًا. ولكن يجب ألا ننظر إلى ذلك الفهم النقدي على أنه دفاع اعتذاري يؤكد طبيعة تعاليم الكتاب المقدس اللاأبوية فيما يتعلق بالأخلاق والدين. إن طرح إلیزابث كادي ستانتون النقدى يرى على وجه التحديد أن الكتاب المقدس لم يتعرض لسوء الفهم فحسب، بل إن محتوياته ورؤاه اسْتُخْدِمتْ في الصراع السياسي ضد النساء. ويجب استخدام ما يقوله جستافو جوتييريز (Gustavo Gutierrez) عن كتابة التاريخ الإنساني بصفة عامة في تناولنا لكتابة الكتاب المقدس:

لقد كُتِبَ التاريخ الإنساني بيد رجل، يد بيضاء تنتمي إلى الطبقة الاجتماعية المهيمنة. أما منظور المهزومين في التاريخ فهو شيء آخر. فلطالما تعرض هؤلاء لمحاولات محو ذكرى أشكال كفاحهم من أذهانهم. وذلك لتحقيق حرمانهم من أحد منابع الطاقة ومن الإرادة التاريخية التي تؤدي إلى التمرد.(40)

وإذا ما قارننا موقف إليزابث کادی ستانتون الهرمنوطيقي بموقف خوان لويس سيجندو سنجد أنها لم تقبل فهمه لفكرة الطبيعة التحريرية لعملية المستوى الثاني للتعلم في التاريخ المسيحي، وذلك على وجه التحديد لأنها تتفق معه في موقع الدعم والمساندة من أجل المقهورين“. لا يمكن لإليزابث كادي ستانتون أن تبدأ بالتصديق على أن الكتاب المقدس ورب الكتاب المقدس يقفان في صف المقهورين، وذلك لأن خبرتها باستخدام الكتاب المقدس بوصفه سلاحًا سياسيًا ضد نضال النساء من أجل الحصول على حقوقهن الانتخابية تُخْبرُها بغير ذلك.

وتنبه ردود الأفعال اللاحقة على إنجيل المرأة اللاهوتيين التحريريين إلى أن أي تفسير للكتاب المقدس يلجأ باستسهال إلى الدفاع عنه قد يؤدي إلى سوء فهم لموقع الدعم والمساندة من أجل المقهورين الذي يتباه الكتاب المقدس نفسه. إن السعي إلى إثبات أنه بالإمكان الدفاع عن الكتاب المقدس أو الكنيسة في وجه الهجوم النسوى أو الاشتراكي ليست مهمة اللاهوتيين التحريرين. ولهذا، لن يكون باستطاعتنا الحيلولة دون استخدام الكتاب المقدس في التسبب في المزيد من القهر للنساء والفقراء إذا لم يكن لدينا فهم نقدي لطبيعة دوره في إنتاج القهر. وإذا لم يتحقق ذلك سيغدو لاهوت التحرير معرضًا للوقوع تحت طائلة منهج حجية النص. وإذا لم يتحرَّ موقع الدعم والمساندة لدى اللاهوتيين التحريريين المظاهر الجائرة في تراث الكتاب المقدس، وإذا لم يُقْدِمْ لاهوتُ التحرير على استكشاف جوانب القهر في تراث الكتاب المقدس فلن يمكننا فهم موقع الدعم والمساندة الذي يتبناه ذلك اللاهوت إلا برؤيته بوصفه عملية عقلنة لمواقف دينية ودوجماطيقية متخذة سلفًا. ويفرض موقع الدعم والمساندة لصالح المقهورين على اللاهوتيات النسويات الإصرار على ألا يكتفى التحليل اللاهوتيالنقدي لتراث الكتاب المقدس بالبدء من عصر قسطنطين Constantine))، بل يتناول وثائق الكتاب المقدس المؤسِّسة ذاتها.

ويرى اللاهوت النسوى النقدى، بفضل ولائه للمهزومين في التاريخ، أن هرمنوطيقا القبولالتي ترى في نفسها تحقيقًا لاستمرارية تاريخ التفسير في المسيحيةلا تعد كافية، ذلك أن مثل تلك الهرمنوطيقا تغفل حقيقة أن التراث والنصوص المسيحية المقدسة يشكلان مصدرًا للزيف والقمع والتسلط وليس مصدرًا للحقيقة وحدها. ولأن المنظومة الهرمنوطيقية السياقية تسعى فقط إلى فهم نصوص الكتاب المقدس، فإنها تعجز عن الأخذ في الحسبان أن ماضي المسيحية وتفسيراتها قد تسببا في قهر النساء. وعلى هذا فعلى لاهوت التحرير النقدى(41) صياغة منظومة جديدة للتفسير تأخذ مأخذ الجد رؤية لاهوت التحرير القائلة بأن الله يقف إلى جانب المقهورين. وعلى تلك المنظومة كذلك أن تقبل ما تقول به اللاهوتيات النسويات من أن الله لم يشارك قط في حركة النضال من أجل حق النساء في التصويت،وأن ذلك يتيح استخدام الكتاب المقدس سلاحًا ذكوريًا في الصراع السياسي ضد تحرر المرأة.

لا يملك أي شكل من أشكال اللاهوت النقدي أن يتجنب إثارة قضية صدق محتوى الكتاب المقدس بالنسبة إلى المسيحيين اليوم. فعلى سبيل المثال لو وضعت اللاهوتيات النسويات في حسبانهن اللغة المتمركزة حول الرجل، والمحتوى المعادي للنساء، والمصالح الأبوية في الكتاب المقدس، فلن يمكننا تجنب مسألة المرجعأو المعايير التي تتيح لنا أن نرفض تراث القهر وأن نستشعر التراث التحريري في تاريخ الكتاب المقدس ونصوصه.

أولاً: إن الكنيسة كانت دائمًا تعي تلك الحاجة إلى تقييم نقدي لمختلف نصوص الكتاب المقدس وتراثاته. وبينما يؤكد المنظومة العقائدية على ضرورة تقييم النصوص المقدسة بمعيار قانون الإيمان، وأن التفسير الذي يليق بها لا يتم إلا من خلال دور الكنيسة في التعليم، تهتم المنظومة التاريخيةالنقدية تعنى بتقييم الصدق اللاهوتي لنصوص الكتاب المقدس بحسب تاریخانیتها (historicity). أما المنظومة الهرمنوطيقية – السياقية فلم تكتف بجعل القوانين المرجعية النموذج الأولى متعدد الأشكال للمجتمع المسيحي، بل أنها قد أكدت كذلك أن الكتاب المقدس غالبًا ما يقدم كثيرًا من ردود الأفعال المتناقضة مع الوضع التاريخي لمجتمع بني إسرائيل أو المجتمع المسيحي.

ولأنه لا يمكن لكل ردود الأفعال تلك أن تعبر بصورة متكافئة عن وحي الكلمة في المسيحية فقد حاولت دراسات الكتاب المقدس أن تصوغ معايير لاهوتية لتقييم تراثات الكتاب المقدس المختلفة. يمكن صياغة تلك القوانين المرجعية الموجودة داخل قوانين مرجعية أخرىعلى أساس دوجماطيقي فلسفی أو تاريخيواقعي. ويميز بعض اللاهوتيين بين جوهر الوحي والتعبير التاريخي، بين الحقيقة السرمدية واللغة المبنية على ثقافة ما، أو بين التراث المسيحي الثابت والتقاليد المتغيرة. وعندما تصاغ تلك القوانين المرجعية على أساس منهج المنظومة الهرمنوطيقية – السياقية، سيضع الباحثون يسوع مقابل بولس، أو لاهوت بولس مقابل الكاثوليكية المبكرة، أو يسوع التاريخي مقابل المسيح الكيرجماتي (المسيح كما يظهر في تعاليم بولس)، أو الفكر العبراني مقابل الفكر الإغريقي. وعلى سبيل المثال، بينما يتقبل شوبرت أوجدن أن يمثل التراث اليسوعي عند ماركسن (Marxsen) تلك القوانين المرجعية،(43) يؤكد جون سوبرینو (John Sobrino) يسوع التاريخي بوصفة معيارًا للاهوت التحريري. وعلى الجانب الآخر، يتضح اتساق خوان لويس سيجندو المنهجي في تأكيده استحالة القول بأن مقولة بعينها في الكتاب المقدس تمثل ذلك المعيار، إذ إن كل مظاهر التعبير عن الإيمان التاريخية تُعَدُّ نوعًا من الأيديولوجيا. ويتفق خوان لويس سيجندو مع المنظومة الهرمنوطيقية السياقية في أن عملية التفسير في إطار التاريخ المسيحي وتاريخ الكتاب المقدس هي التي يجب أن تشكل معيار لاهوت التحرير لا محتوى ذلك التفسير. ولكن تلك الرؤية المقترحة لا ترى أن هذه العملية التي يُعَبَّرُ بها عن الإيمان في موقف تاريخي ما يمكن لها هي الأخرى أن تقع قيد التزييف وأن تخدم مصالح قمعية.

وهكذا، لا يرى لاهوت التحرير النقدي أن الكتاب المقدس أو الإيمان القائم عليه هما عملية تعلم شاملة في الأيديولوجيا ومن خلالها، ولا أنهما المعيار الذي يشكل ولا يتشكل،(44) ولكنه يصر على اعتبارهما مصادر موجودة إلى جانب مصادر أخرى. وقد أكد جيمز كون، تلك الفكرة حين أشار إلى أن الكتاب المقدس، بالإضافة إلى موقعنا وتجربتنا التاريخيين، من مصادر اللاهوت. ولكننا نجد الأساس المعياري لللاهوت عند السود متمثلاً في يسوع المسيح الأسود الذي يمثل الروح اللازمة لتحرير السود.” “… إنه جوهر البشارة المسيحية“.(45)

وأجدني أتردد في القول بأن يسوع المسيح النسوي هو المعيار المرجعي، إذ إننا لن نستطيع القيام بتحديد ملموس لماهية ذلك المسيح النسوى إذا كنا لا نرغب في تحويل المسيح إلى شفرة شكلية أو في اللجوء إلى الصوفية. ذلك هو الطرح الذي يقدمه جون سوبرينو الذي يری بدوره أن يسوع التاريخي هو معيار الحقيقة، لأن الوصول إلى مسيح الإيمان يأتي من خلال اقتفائنا يسوعًا التاريخي“.(46) ولكن مثل هذا التصور عن معيار العقيدة المسيحية المرجعي يفترض أنه بإمكاننا أن نَعرف يسوع التاريخي وأن نحاكيه، ما دام ليس بإمكاننا اتباع يسوع بشكل فعلي. وعلى اللاهوتية النسوية كذلك أن تثير التساؤلات فيما إذا كان بالإمكان اتخاذ يسوع الناصري، الرجل التاريخي، مثلاً أعلى للنساء المعاصرات، إذ إن التحرر النسوي العلمنفسي يؤكد ضرورة أن تتحرر النساء أنفسهن من كل المعايير والنماذج الذكورية المختزلة.

ثانيًا: أرى أنه لا يمكن استخلاص القوانين المرجعية والمعايير المستخدمة في تقييم تراث الكتاب المقدس وتفسيراته اللاحقة من الكتاب المقدس نفسه، أو من عملية التعلم داخل الأيديولوجيا ومن خلالها، وأننا لن نتمكن من خلق تصور لها إلا من داخل ومن خلال نضال النساء وكافة المقهورين من أجل التحرر. ولا يمكن أن تكون تلك العملية أبدية ومطلقة، بل ينبغي أن تكون محددة ومستقاة من تجربة خاصة في القهر والتحرر. وينبغي إبقاء موقع الدعم والمساندةفي لاهوت التحرير عند مرحلة التقييم النقدي لتراث الكتاب المقدس ونصوصه، كما ينبغي أن نجعل من تجربة القهر والتحرير المطروحة بشكل شخصي وسياسي معيارًا للحكم على مدى ملاءمةتفسير الكتاب المقدس لكل العصور.

إن الفهم الهرمنوطيقي الذي لا يكون موجهًا نحو تحقيق استمرارية تاريخ الكتاب المقدس فقط، بل يسعى كذلك نحو تقييم نقدي له هو الذي سيكشف ويرفض تراثات الكتاب المقدس ولاهوتاته التي تشجع على العنف والعزل القسري والقهر. وفي الوقت ذاته يجب أيضًا على هذه الهرمنوطيقا النقدية أن تعين جوانب تراث الكتاب المقدس التي تبرز تجارب المؤمنين ورؤاهم التحررية. إن مثل تلك الهرمنوطيقا توضح الرؤية الأخروية للحرية والخلاص، وتؤكد أهمية تحقيق تلك الرؤية تاريخيًا عند جماعة المؤمنين.

وعليه، فإن التفسير النسوي اللاهوتي للكتاب المقدس، الذي يتخذ من تحرر النساء من البنى والمؤسسات القهرية المنحازة ضد المرأة ومن القيم المختزنة مرجعًا له، إنما يؤمن بأن سلطة الوحي الكتابي اللاهوتية يجب أن تُمنح فقط لجوانب تراث الكتاب المقدس غير المنحازة جنسيًا وغير المتمركزة حول الذكورة، وللتراث غير القمعي في تفسير الكتاب المقدس، ذلك إذا كنا لا نرغب في أن يستمر استخدام الكتاب المقدس أداةً لقهر النساء. ويتطلب موقع الدعم والمساندةألا نخلع أية مصداقية أو سلطة معاصرة على الجوانب القمعية والمدمرة في أشكال تراثات الكتاب المقدس،(47) وهي أشكال لم تكن لها أية شرعية في أي وقت من الأوقات. ويجب تبنّى تلك الهرمنوطيقا النقدية بوصفها منهجًا لدراسة كافة نصوص الكتاب المقدس وسياقاتها التاريخية، كما ينبغي أن تكون منهجًا لدراسة تاريخ تفسير تلك النصوص، حتى نتمكن من تحديد مدى مساهمة تلك التراثات والتفسيرات في إنتاج القهر الأبوى للنساء. وعلى المنوال ذاته، يتعين على تلك الهرمنوطيقا النسوية النقدية أن تعيد اكتشاف جوانب تراث الكتاب المقدس وتفاسيره التي استطاعت تخطى سياقاتها الثقافية القمعية بالرغم من وجودها متضمنة داخل ثقافة أبوية. وينبغي ألا نفهم النصوص وجوانب التراث تلك بوصفها معايير أو أفكارًا لاهوتية مجردة، ولكن بوصفها ردود فعل عقائدية على ظروف قمعية تاريخية واقعية. على سبيل المثال، جعل الفكر النسوي المسيحيى على مر القرون من الرسالة إلى أهل غلاطية 3: ۲۸ وثيقته المؤسِّسة، بينما استخدمت الكنيسة الأبوية الرسالة الأولى إلى أهل كورينثوس ١٤ أو الرسالة الأولى إلى تيموثاوس ٢ لقهر النساء ثقافيًا ودينيًا.(48)

ثالثًا: إن فكرة أن الكتاب المقدس لا يعد فقط مصدر الحقيقة والعقيدة ولكنه أيضًا مصدر العنف والتسلط هي فكرة أساسية في لاهوت التحرير. وتتطلب تلك الفكرة نموذجًا توليديًا جديدًا لتفسير الكتاب المقدس لا يرى في الكتاب المقدس نموذجًا مثاليًا (archetype) ولكن نموذجًا أوليًا (prototype).

يكشف التعريف القاموسي للكلمتين عن فرق مهم بينهما. فبينما تشيركلمتا ’نموذج مثالي‘ و’نمودج أولى‘، إلى نماذج أصلية” (original models)، فإن النموذج المثالي يفهم على أنه في الغالب شكل مثالي يؤسس لنسق ثابت…” ولكن، النموذج الأولى نسق غير ملزم وغير سرمدی، فهو نسق مفتوح نقديًا على احتمالية بل وضرورة تطوره. ويؤدي التفكير من خلال النماذج الأولية إلى ترخنة الأساطير (historicising myth).(49)

وبما أن المنظومة الهرمنوطيقيةالسياقية تجعل هدفها تبنِّى واستخدام تاريخ الكتاب المقدس وصدقه والاستعانة بهما، وليس نقده أيديولوجيا، فعلى اللاهوتيين التحريريين صياغة نموذج تولیدی نقدي جديد لتفسير الكتاب المقدس. وقد أشار تي إس كون إلى أن تلك المنظومة العلمية الجديدة سوف تخلق بالضرورة روحًا أخلاقية جماعية علمية جديدة ومجتمعًا جديدًا.

وتسمح المنظومة الهرمنوطيقية – السياقية التاريخية بصياغة موقع الدعم والمساندةمن داخل الدائرة الهرمنوطيقية وجمله افتراضًا يُمَكِّننا من طرح الأسئلة، ولكنها تعترض عليه بوصفه مبدأ أو وجهة نظر قاطعة. وعلى المنظومة النقدية الجديدة أن ترفض تلك النظرية لأنها ذات صبغة أيديولوجية. وفي المقابل، عليها أن تؤكد على ضرورة أن يتحمل جميع اللاهوتيين ومفسري الكتاب المقدس مسئولية آرائهم على الملأ. ينبغي أن يصبح لزامًا على كافة الباحثين من الناحية المنهجية أن يناقشوا بوضوح افتراضاتهم المسبقة وولاءاتهم وأدوارهم داخل السياق اللاهوتيالسياسي، وبصفة خاصة هؤلاء الباحثين الذين يدّعون تجردهم من اعتبارات القيمة فيما يقدمونه من نقد للاهوت التحرير. لم يعد بمقدور الباحثين الادعاء بأن ما يقومون به هو أمر منفصلكل الانفصال عن المصالح السياسية. وبما أننا دائمًا ما نفسر الكتاب المقدس والإيمان في المسيحية من موقع داخل التاريخ، فينبغي كشف النقاب عن أن الحيادية والبحث المنزه عن الميول ما هما إلا خيالأو وعي زائفيخدم مصالح سياسية محددة. كذلك، يتعين على التفسير اللاهوتي أن يتناول الافتراضات السياسية المسبقة والمعاني المتضمنة في الكلاسيكياتاللاهوتية والأنساق الدوجماطيقية أو الأخلاقية تناولاً نقديًا تأمليًا. بمعنى آخر، يجب التعمق في البحث في التراث المسيحي ككل، وليس فقط في محتوى الكتاب المقدس وعملية تأسيس التراث بداخله، ومن ثم الحكم على ما إذا كان له دور في قهر البشر أو تحريرهم.

وأخيرًا يجب ألا نفهم موقع الدعم والمساندة، بوصفة محددًا أو معيارًا لتقييم نصوص الكتاب المقدس ووظائفها السياسية، على أنه مبدأ مجرد وشكلاني. يتعين على أشكال لاهوت التحرير النقدي المختلفة أن تصوغ نماذجًا كاشفة محدَّدة لها القدرة على التحليل الكافي لبني القهر المعاصر وآلياته ولحركات التحرر. فمن ناحية، يخدم الفهم المغرق في التعميم للقهر والتحرر أهداف الأنساق القمعية التي لا تقدر على قبول تحليل نقدي لآلياتها وبناها القمعية المتعسفة، بينما يحول ذلك الفهم في الوقت ذاته دون صياغة أهداف واستراتيجيات محددة للنضال من أجل التحرر. وعلى الناحية الأخرى، يحول الفهم المغرق في الخصوصية للقهر والتحرر دون تحقيق التضامن داخل الجماعات الواقعة تحت القهر التي قد تنجح الأنساق القائمة في ضربها بعضها ببعض. وهكذا، يجب أن يصوغ موقع الدعم والمساندة، بوصفه المحدد أو المعيار لتفسير الكتاب المقدس، لاهوتًا تحريريًا نقديًا يدعو إلى التضامن بين كافة الواقعين تحت القهر، في الوقت الذي يتيح فيه صياغة نماذج لاهوتية كاشفة للقهر والتحرر. (50)

وختامًا: من الضروري أن يتخلى اللاهوتيون التحريريون عن المنظومة الهرمنوطيقية – السياقية في تفسير الكتاب المقدس، وأن يصوغوا، من داخل سياق لاهوت نقدی تحریری، منظومة جديدة للتفسير تكون غايتها الممارسة التحررية. وتتخذ تلك المنظومة العلاقة النقدية بين النظرية والتطبيق، وبين نصوص الكتاب المقدس وحركات التحرر المعاصرة منهجًا له. ويجب أن ينتج تلك المنظومة الجديدة للممارسة التحررية نماذجًا تفسيرية كاشفة جديدة قادرة على تفسير وتقييم تراثات الكتاب المقدس ووظيفتها السياسية في التاريخ في إطار قوانينها المرجعية التحريرية ذاتها.

ألیزابث شوسلر فيورنتسا (Elizabeth Schussler Fiorenza): باحثة في الدراسات الدينية النسوية، وتعتنق العقيدة الكاثوليكية ولكن أبحاثها تتسع للدراسات المسيحية بشكل عام، وتعمل حاليًا أستاذة في كلية الدراسات الإلهية بجامعة هارفارد. ومن أهم أعمالها بحثها في دور النساء في الكنيسة المسيحية في بدايات نشأتها، وتتسم كتاباتها بالاهتمام بالبعد التاريخي في الدراسات الدينية النسوية، كما تتضمن مؤلفاتها دراسات في قراءة الكتاب المقدس من منظور نسوي

*Elisabeth Schuessler Fiorenza, “Towards a Feminist Biblical Hermeneutics: Biblical Interpretation and Liberation Theology,” In The Challenge of Liberation Theology: A First World Response, eds. Brian Mahan and L. Dale Richesin (New York: Orbis Books, 1981), 91-112.

(1) انظر/ى:Adrienne Rich, “Towards a Woman-Centered University,” In Women and the Power to Change, ed. Florence Howe (New York: McGrow-Hill), pp. 15-46.

وتحليلي الوارد في: “Towards a Liberating and Liberated Theology: Women Theologians and Feminist Theology in U.S.A.,” Concilium 115 (1979):22-32.

)۲) انظر/ي على سبيل المثال: Lisa Leghorn and M. Roodkowsky, Who Really Starves? Women and World Hunger (New York: Friendship Press, 1977).

وكذلك:Diane E. Nichole Russel and N. Van de Ven, eds., Crimes against Women: Proceedings of the International Tribunal (Millbrae, Calif.: Les Femmes, 1976);

Susan Hill Lindley, “Feminist Theology in a Global Perspective,” The Christian Century, 96 (April 25, 1979): 465-469.

(3) انظر/ى على سبيل المثال: Gustavo Guitierrez, A Theology of Liberation (Maryknoll, N.Y.: Orbis Books,1973),204-205، حيث يقول: “سوف تتمركز روحانية التحرر حول التحول نحو الجار، الشخص المقهور، الطبقة الاجتماعية المستغَلة، العرق المزدري، الدولة الواقعة تحت السيطرة. إن تحولنا نحو الرب يعنى ضمنيًا تحولنا نحو الجار.” ومقارنة ذلك بوصف التحول النسوي الذي تقدمه جودث بلاسكوف: Judith plaskow, Sex, Sin, and Grace: Women’s Experience and the Theologies of Reinhold Niebuhr and Paul Tillich (Washington, D.C.: University Press of America,1980), 171-162 ، إذ تقول: “إن المرأة التي رأت اللا وجود الذي تنطوي عليه البنى الاجتماعية وتشعر الآن بنفسها بوصفها إنسانًا کاملاً، مطلوب منها أن تصبح ذلك الإنسان في هذه الحركة. … إن خبرة النعمة ليست الخبرة الدالة على فعل الله الأوحد، ولكنها خبرة ظهور ’الأنا‘ بوصفه مشاركًا في الخلق. … إن التواصل مع الله يعبر عنه بالرحلة اللانهائية نحو خلق الذات داخل الجماعة، ومن خلال خلق جماعات لا تفتأ تنمو وتنمو، بما فيها البشر الآخرين والعالم.”

(4)Robert McAfee Brown, Theology in a New Key: Responding to Liberation Themes (Philadelphia: Westminster, 1978), 82.

(5) Vine Deloria, “A Native American Perspective on liberation,” in Mission Trends No. 4: Liberation Theologies, ed. Gerald H. Anderson and Thomas F. Stransky (new York: Paulist Press, 1979), 261- 270.

(6) انظر/ي مقالتی: “Women in Early Christianity: Methodological Considerations,” in Critical History and Biblical Faith in New Testament Perspectives, ed. T.J. Ryan (Villanova, Pa.: Catholic Theology Society Annual Publications, 1979), 30-58.

(7) لمناقشة مطولة حول الدراسات في هذا المجال، انظر/ي مقالتي: “For the sake of Our Salvation … Biblical Interpretation as Theological Task,” in Sin, Salvation, and the Spirit, ed., Daniel Durken (Collegeville, Minn.: Liturgical Press, 1979), 21-39.

(8) انظر/ى Lee Cromie, “The Hermeneutical Privilege of the Oppressed: Liberation Theologies, Biblical Faith, and Marxist Sociology of Knowledge,” Proceedings of the Catholic Theological Society of America 32 (1977);

وكذلك: D. Lockhead, “Hermeneutics and Ideology,” The Ecumenist 15 (1977): 81-84

(9) Schubert M. Ogden, Faith and Freedom: torwards a Theology of Liberation (Nashville: Abingdon, 1979, 116.

(10) المرجع السابق، ص ۳۲.

(11) James H. Cone, God of the Oppressed (New York: Seabury, 1975), 51-52

(12) Charles H. Strain, “Ideology and Alienation: Theses on the Interpretation and Evaluation of Theologies of Liberation,” Journal of the American Academy of Religion (hereafter JAAR) 45 (1977): 474.

(13) انظر/ى: Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions (Chicago: University of Chicago press, 1962);

Ian G. Barbour, Myth, Models, and Paradigms (New York: Harper and Row, 1974).

(14) للتعرف على تطور هذه النماذج المولدة، انظر/ي مقالتی: “For the Sake of Our Salvation…”. وللتعرف على التحول المنظومي العام في دراسات الكتاب المقدس، انظر/ي أيضًا: Walter Wink, The Bible in Human Transformation: Toward a New Paradigm for Biblical Studies (Philadelphia: Fortress, 1973).

(15) انظر/ي على سبيل المثال:G. Sauter, “’Exodus’ und ‘Befreiung’ asl theologische Metaphern: ein Beispiel zur Kritik von Allegorese und missverstandened Analogien in der Ethic,” EvTh 38 (1978): 538-559 ، بالرغم من أن الشك يساورنا في أن نقده هذا سوف ينتج تفسيرًا متجاهلاً تمامًا للاعتبارات السياسية.

(16) James Barr, Fundamentalism (Philadelphia: Westminster, 1978) 49.

(17) Jose Miranda, Marx and the Bible (Maryknoll, N.Y.: Orbis Books, 1974) . انظر/ي طرح جاى آى كيرك لهذا الموضوع: J.A. Kirk, “The Bible in Latin American Libration Theology,” in The Bible and Liberation, ed., Norman K. Gottwald and Antoinette C. Wire (Berkeley: Radical Religion, 1976), P.161.

(18) انظر/ي:Normann Perrin, What is Redaction Criticism? (Philadelphia: Fortress, 1969) ، وكذلك: Werner G. Kuemmel, Das Neue Testament im 20 Jahrhundert (Stuttgart: KBW, 1970).

(19) انظر/ي على وجه الخصوص: Norman K. Gottwald, The Tribes of Yahweh: A Sociology of the Religion of Liberated Israel, 1250-1050 B.C.E (Maryknoll, N.Y.: Orbis Books, 1979).

(20) انظر/ي على سبيل المثال: Leander E. Keck, “On the Ethos of Early Christians,” JAAR 42 (1974): 435-452 ؛ وكذلك:John C. Gager, Kingdom and Community (Englewood Cliffs, N. J.: Prentice-Hall, 1975);

Gerd Theissen, Sociology of Early Palestinian Christianity (Philadelphia: Fortress, 1978); Wayne A. Meeks, “The Social World of Early Christianity,” CRS Bulletin 6 (1975): 1, 4 f.; Willy Schottroff und Wolfgang Stegemann, Der Gott der kleinen Leute: Sozialgeschichtliche Auslegungen: BD. 2 NT (Munich: Kaiser, 1979).

(21) انظر/ي مقالتي: “Word, Spirit, and Power: Women in Early Christian Communities,” in Women of Spirit, ed., Rosemary Radford Ruether and Eleanor McLaughlin (New York: Simon and Schuster, 1979), 29-70 ، وكذلك: David Blach, “Let Wives Be Submissive…” (Ann Arbor: University of Microfilms International, 1978).

(22) انظر/ي:Gerd Theissen, “Synoptische Wundergeschichten im Lichte unseres Sprachverhaeltniss,” Wissenschaft und Praxis in Kirche und Gesellschaft 65 (1976): 289-308.

ولعرض العلاقة المتبادلة بين الفقر والعنف والاستغلال، المقارنة مع كتاب لويزا شوتروف و وفولفجانج شتيجیمان: Luise Schottroff und Wolfgang Stegemann, Jesus von Nazareth: Hoffnung der Armen (Stuttgart: Kohlhammer, 1978).

(23) انظر/يT. Peters, “The Nature and Role of Presupposition: An Inquiry into Contemporary Hermeneutics,” International Philosophical Quarterly 14 (1974): 209-222 وكذلك: Fredrick Herzug, “Liberation Hermeneutics as Ideology Critique,” Interpretation 27 (1974): 387-403.

(24) Edward Schillebeeckx, The Understanding of Faith (New York: Seabury, 1974), 130.

(25) انظر/ي على وجه الخصوص:Peter Stuhlmacher, Historical Criticism and Theological Interpretation of Scripture: Towards a Hermeneutics of Consent (Philadelphia: Fortress, 1977), 83ff.

(26) للتعرف على هذه المحددات، انظر/ى: (Schubert M. Ogden, Faith and Freedom, P. 26) ، وكذلك بصفة خاصة: David Tracy, Blessed Rage for Order: The New Pluralism in Theology (New York: Seabury, 1975), 72-79.

(27) هذا الجزء بأكمله مبني على تحليل خوان لويس سيجندو :

Juan Luis Segundo, The Liberation of Theology (Maryknoll, N.Y.: Orbis Books, 1976).

(28) المرجع السابق، ص9؛ انظر/ى كذلك: José Miguez Bonino, Doing Theology in a Revolutionary Situation, (philaldelphia: Fortress, 1975), 86-105 ، وهو هنا يقبل التعديل الذي أدخله البروفيسور كاسالس ((Casalis على عبارة الدائرة الهرمنيوطيقية، لتصبح الدوران الهرمنيوطیقی” (ص۱۰۲).

(29) Segundo, The Liberation of Theology, P.8.

(۳۰) المرجع السابق، ص۱۱۰.

(31) المرجع السابق، ص۱۷۹.

(32) انظر/ى مقالتي: “Feminist Spirituality, Christian Identity and the Catholic Vision,” in Womanspirit Rising: A Feminist Reader in Religion, ed., Carol P. Christ and Judith Plaskow (New York: Harper&Row, 1979), 136-148).

(33) Elizabeth Cady Stanton, The Woman’s Bible, American Women Series: Image and Realities, 2 vol. In 1; reprint of 1895 ed: (New York: Arno).

(34) Barbara Welter, “Something Remains to Dare: Introduction to the Woman’s Bible,” in The Original Feminist Attack on the Bible (The Woman’s Bible), by E. Cady Stanton, facsimle ed. (New York: Arno, 1974), p.xxii.

(35) Stanton, The Woman’s Bible, 1-9.

(36) المرجع السابق، 7-11 وما يليها.

(37) المرجع السابق، 1-12.

(38) لكن انظر/ي: Maria Fortune and Joann Haugerud, Study Guide to the Woman’s Bible (Seattle Coalition Task Force on Women and Religion, 1975) ، للتعرف على تطبيق معاصر. وكذلك: Leonard Swindler, Biblical Affirmations to Woman (Philadelphia: Westminster, 1979) ، وهو هنا في الأساس يتبع المبدأ نفسه.

(39) Stanton, The Woman’s Bible, 11-20.

(40) “Where Hunger Is, God Is Not,” The Witness 59 (April 1976): 6.

(41) لتصور مفهوم عن اللاهوت النسوي برصفه لاهوتًا نقديًا تحريريًا، انظر/ى مقالتی: “Feminist Theology as a Critical Theology of Liberation” in Women: New Dimensions, ed., Walter Burkhardt (New York:

Paulist Press, 1977), 19-50.

(42) انظر/ي المقالة الرائدة: Elisabeth Schuessler Fiorenza, “Critical Social Theology and Christology: Toward an Understanding of Atonement and Redemption as Emancipatory Solidarity,” Proceedings of the Catholic Theological Society of America 30 (1975): 63-110.

(43) Schubert M. Ogden, Faith and Freedom, 44ff، ومقالته: “The Authority of Scripture for Theology,” Interpretation 30 (1976): 242-261.

(44) لمطالعة المزيد حول معنى هذا التعبير، انظر/ ي: “Theological Classics in Contemporary Theology,” Theology Digest 25 (1977): 347-355.

(45) James H. Cone, Liberation: A Black Theology of Liberation (Philadelphia: Lippincott, 1970), 80.

(46) John Sobrino, “The Historical Jesus and the Christ of Faith,” Cross Currents 27 (1977/78): 437- 463, 460.

(47) ينبغي ألا نفهم مثل ذلك المقترح في إطار منهج إنجيل المرأة الذي اختار لمناقشاته النصوص التي تتناول المرأة في الكتاب المقدس. ولكن يجب تطبيق المعايير على كافة نصوص الكتاب المقدس على أساس أنها نصوص ذات سلطة حتى الآن. ويجب كذلك التمييز بين ذلك التقييم اللاهوتي وإعادة صياغة تاريخ المسيحية المبكرة من منظور نسوي. فبينما تبحث الجهود النسوية لإعادة صياغة تاريخ السيحية المبكرة عن تاريخ النساء وتراثهن، تقدم هرمنيوطيقا الكتاب المقدس النسوية علاقة نصوص الكتاب المقدس بالحاضر. وعليه فإن كلا المنهجين يعتمدان على بعضهما البعض، بالرغم من اختلافهما الكامل.

(48) انظر/ي التحليل الذي قدمته في: “Word, Spirit, and Power,” in Women of Spirit

(49) Rachel Blau DuPlessis, “The Critique of Consciousness and Myth in Levertov, Rich, and Rukeyser,” Fiminist Studies 3 (1975): 199-221, 219.

(50) تنادي الباحثة بتنظيم تداخليبين نماذج الإقصاء القسري/ التحرري المتعددة في كتابها: Rosemary Radford Ruether, New Woman/New Earth: Sexist ideologies and Human Liberation (New York: Seabury, 1975), 115-132.

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي