بطلات وضحايا

تاريخ النشر:

2003

وضع نسوي: وخزة إنسانية

بطلات وضحايا

المرأة والسياسات الاجتماعية والدولة في مصر*

عرض: ريهام شبل**

تقدم إيمان بيبرس شهادة توضح من خلالها الغرض من رسالتها وأسلوب البحث المتبع، إن بيبرس ترى أن النساء عموما مهضومات الحقوق، ولكنها تختار مجموعة أكثر تهميشا، مجموعة النساء المعيلات لأسر في مصر. إن الغرض من هذه الدراسة هو البحث في برامج المساعدة الاجتماعية التي تقدمها الدولة المصرية، وفي تأثير هذه البرامج على النساء المعيلات لأسر، حيث أن الدراسة تفترض أن الدولة من خلال سياساتها وبرامجها هذه تميز ضد النساء من خلال انحيازها للرجل وتصورها الجامد لهيكل الأسرة المصرية، ونظرتها الأبوية لسلوك المرأة المفترض فيه الانحلال إلى أن يثبت العكس.

تتضمن هذه الدراسة ثمانية فصول تتطرق الباحثة فيها إلى قضايا عديدة. فهي في البداية تقدم مسحا تاريخيا لبرامج الرفاهة الاجتماعية في مصر، وتعريفا لماهية دولة الرفاهة، وما إذا كانت تعتمد بالأساس على حجم الإنفاق أم كيفية توظيف هذا الإنفاق. تقدم الباحثة أيضا مراجعة تاريخية لسياسات الدولة في مصر الراعية لحقوق النساء وتلك الهاضمة لها. ومن خلال ذلك فإن الباحثة ترى أن وعي الدولة بقضايا النوع واحتياجات النساء لم يأت مواكبا لإصدار قوانين لتمكين النساء. فسياسة الدولة تجاه النساء تتسم بالمنح أحيانا قليلة والمنع أحايين أخرى كثيرة. هذا والاهتمام بقضايا المرأة في مصر عبر التاريخ لم يكن اهتماما وفيا خالصا بل كان واحدا من آليات الدولة في ضبط موازين القوى بين أطراف متنازعة من إسلاميين ومحافظين من ناحية وعلمانيين وليبراليين من ناحية أخرى. لذا فإن السياسات الخاصة بالمرأة أتت متذبذبة، ازدواجية ومتراجعة في إجمالها. تعرض أيضا الباحثة في دراستها للرؤى النسوية المختلفة لدور دولة الرفاهة، فهناك النسويات الراديكاليات اللاتي ينظرن إلى الدولة نظرة عداء لأنهن يؤمن أن الدولة تكرس الوضع الدوني للنساء. إن الدولة بمؤسساتها تصبح بديلا لممارسات الرجل الذكورية على المرأة التي تنتقل بذلك من ملكية الرجل الخاصة إلى ملكية الدولة العامة. وهناك على العكس نسويات أخريات يرين في الدولة الأمل الوحيد في تغيير المجتمع نحو احترام المرأة، حيث أنها الوحيدة القادرة على إصدار القوانين المعضدة لذلك ولأنها تمتلك مؤسسات، منها جهازها الإعلامي الذي تستطيع من خلاله بث صورة جديدة لمجتمع تراعى فيه النساء.

بعد هذا العرض الشامل لنظريات وممارسات وسياسات تنتقل الباحثة إلى خصوصية دراستها فتتحدث عن برامج الرفاهة الاجتماعية التي تبحث فيها، وهما نظامان أساسيان تمنحهما الدولة: نظام التأمينات الاجتماعية الذي يستهدف بالأساس العاملين وقتا كاملا، ونظام الإعانة الاجتماعية الذي يستهدف المهمشين والمقهورين. هذا وتبحث الدراسة أيضا فيما تسميه بنظام الظلالمتمثل في أنظمة الرفاهة الاجتماعية غير الحكومية التي تمنحها هيئات أهلية، وهي أنظمة دينية بالأساس، والدراسة تعرض لنظام مساعدة إسلامي وآخر قبطي متمثلا في الإعانات التي تقدمها الكنائس في مصر، وتبحث الدراسة أساسا في المساعدات التي تمنحها كل تلك البرامج للنساء المعيلات لأسر ومدى تأثيرها على هؤلاء النساء. خلال هذا البحث تقدم الدراسة تفصيلا حميميا لقصص ثمان نساء من مختلف المناطق التي تم فيها البحث، وهي سبع مناطق حضرية منخفضة الدخل في أكبر محافظتين في مصر: القاهرة والإسكندرية. هذه المناطق هي: مساكن الإيواء في جنوب القاهرة، وهي منطقة تم توطين السكان الذين قضت الكوارث الطبيعية على منازلهم، ورغم إنها يجب أن تكون مناطق سكنية مؤقتة إلا أنها – وبسبب تجاهل الحكومة لها أصبحت مأهولة بعدد كبير من السكان الذين يسكنون خياماً ويتخذون منها بيوتا مستديم لعدم إيمانهم بقدر أفضل. هذا وأهم ملاحظات الباحثة على هذه المنطقة هي ما يخص ملابس النساء التي تقسم داخل المنطقة بالكثير من التحرر، حيث تتحرك النساء في ملابس نومهن المفتوحة والشفافة بكثير من الحرية أمام أعين جميع رجال المنطقة الذين يعتبروهن إخوتهن والمسئولون عن حمايتهن، أما حين تخرج إحدى نساء المنطقة للخارج فإنها تراعى الالتزام في زيها إلى درجة ارتداء الخمار أو غطاء الرأس، وتصر بذلك على أنها ترتدي الحجاب الذي يكتسب تعريفا فضفاضا هناك لأنه يرتدى فقط أمام الرجال الغرباء، أي الذين لا يسكنون هذه المنطقة. وثاني هذه المناطق هي منطقة المدافن على مشارف القاهرة ويقطنها الأحياء أكثر من الموتى؛ يقطنونها بشكل بدائي حيث أن ثمانين بالمائة من المساكن هناك لم تصلها الكهرباء والمياه والتليفونات. و يغلب على هذه المنطقة الطابع الإسلامي حيث انتشار الجوامع والجماعات الإسلامية التي تقدم خدماتها لسكان المنطقة. لذا تنتشر هناك نسبة مرتديات الحجاب والرجال الملتحين. والمنطقة الثالثة في الإسكندرية وهي منطقة عشوائية قديمة تتسم بالسلوك المحافظ وبالتالي، الحد من حرية النساء والبنات الصغيرات. ومنطقة إعادة التوطين التي تبعد ثلاثين كيلومترا عن القاهرة هي المنطقة الرابعة للبحث. ولقد كانت منطقة مخصصة لتصبح منطقة سكنية للشباب المتزوجين حديثا ولكن بعد زلزال ١٩٩٢ أعادت الدولة توطين الكثير من ضحايا الزلزال في هذه المنطقة التي أصبح سكانها معزولين بسبب انتزاعهم من مواطنهم الأصلية. وغالبية سكان هذه المنطقة عاملون في القطاع غير الرسمي. لذا فالكثيرون منهم يعملون بشكل منتظم، وعادة ما تكون أجورهم منخفضة، والمنطقة الخامسة هي منطقة العزبة والتي كانت أصلا قرية على مشارف القاهرة وفي الستينيات أولتها الدولة اهتماما خاصا فراحت تبني بها الكثير من المصانع حتى أصبحت مكتظة بالسكان. وتتسم النساء في هذه المنطقة بالمحافظة لأنهن مازلن ينتمين إلى قيمهن وأصولهن الريفية. وهناك مجموعتان أيديولوجيتان تتجاذبان أطراف السيطرة والتأثير في المنطقة: إحداهما جماعة إسلامية، والأخرى مجموعة تمثل حركة عمالية ما بين شيوعية وناصرية. وسادس هذه المناطق هي منطقة البدو التي لم تكن تابعة إلى أي محافظة وكان يسكنها البدو وقت الشتاء، وبعد الثورة ومع اتجاه الدولة للتصنيع تم بناء المصانع التي عمل بها الكثير من هؤلاء البدو، ولكنهم مازالوا متمسكين بتقاليدهم البدوية. هذا ويمثل هؤلاء السكان قبيلتين من البدو يتم التزاوج بينهما، كما هاجرت مجموعة من الفلاحين إلى هذه المنطقة ولكنهم منبوذون ولا يندمجون في مجتمع البدو، ومن المتعارف عليه أن نساء هؤلاء الفلاحين هن اللاتي يطلقن، أما نساء البدو فهن مستمرات في زواجهن الذي يربط القبيلتين برباط مقدس، أما آخر هذه المناطق، فهي منطقة العشوائيات بالقاهرة وبها جامع مسئول عن تقديم كافة المساعدات الاجتماعية، وغالبية نساء المنطقة من المحجبات.

تتحدث الباحثة بعد عرضها التفصيلي لمناطق البحث عن مفهوم البحث النسوي وتمسكها به. فالبحث النسوي يهدف إلى تقليل الانحياز الذكوري من العلوم الاجتماعية، وهو بحث يهدف إلى تمكين النساء المبحوثات وزيادة وعيهن، فالبحث النسوي يجب أن يكون دراسة مقدمة للنساء وليس عنهن“. هذا ومن قيم البحث النسوي ألا يقوم على استغلال من أي نوع من قبل الباحثة للمبحوثات، وأن يكون ذا تأثير متبادل بين الباحثة والمبحوثات.

ومن الإيجابيات التي تحسب لإيمان بيبرس التزامها الصادق في القيام ببحثها النسوي بشكل دقيق في وفاته لتقاليد البحث. فمن خلال قراءتي للدراسة استشعرت الفهم النسوي الذي حملته إيمان عبر صفحات الدراسة، والذي بالطبع كان معها أثناء قيامها بفعاليات البحث، ذلك الفهم الذي قربها من مبحوثاتها، قرب قارئاتها منهن، مما لم يجعلهن للحظة موضوع الدراسة بل كن عناصرها الفعالة التي ساعدت على خروجها بهذا النسق.

إن إيمان بيبرس كانت مهمومة بالتواصل مع مبحوثاتها بشكل يومي حميمي، حيث إنها كانت دائمة التواجد بينهن في مناسباتهن واجتماعاتهن حتى إنها اكتسبت ثقتهن وأصبحت أختا وصديقة لهن جميعا. وتقول إيمان بيبرس إنها لم تضع شكلا هيكليا جامدا للدراسة بصورة مسبقة ولم تقرر التمسك بأي من افتراضاتها، بل إنها تركت جزءا كبيرا من مجريات البحث تتشكل حسب استعداد المبحوثات اللاتي شكلن جسد هذا البحث ومتنه وروحه. ينتاب الباحثة حزن ضمني لأن تمكين النساء الذي يبتغيه البحث النسوي يكاد يكون حلما رومانسيا يستعصي على التحقيق، ففي الواقع لا تستطيع الباحثة النسوية تغيير المجتمع بسياساته ولكنها تستطيع توعية النساء لإدراك مشاكلهن وحيثيات وضعهن في مجتمع أبوي، أو على أقل تقدير فإنها تحاول ذلك ولكن تأثيرها قد يبقى محدودا ومتواضعا في مقابل تأثير الموروثات العتيدة والواقع المعاش الذي يفرض على المرأة نظرة دونية لنفسها. وهذا ما تراه بيبرس حادثا بالفعل، حيث أنها تؤكد على أن تأثير مبحوثاتها عليها كان أعمق بكثير من تأثيرها عليهن فهن اللاتي أثرن في إدراكها وجعلنها تؤمن أكثر أن وضعها كامرأة تتمتع في مجتمع ذكوري بامتيازات يجب ألا تراه أمراً مسلماً به، بل تشكر وجوده وتحارب باستماتة للدفاع عنه، لأنها ترى من الناحية الأخرى هناك الذي يحلو لنا أن نظنه هناك، لأنه يرعبنا ويشعرنا بعدم الأمان أن يكون هنا، ترى نساء مختنات الحقوق، مبتورات الكيان، ومهضومات الهوية. هذا ولقد جعلتها مبحوثاتها تعيد النظر في قيم طبقتها الوسطى لتدرك أن هناك لا بل هنا، يملي المجتمع على النساء أن يضربن بالقيم والدين والموروثات عرض الحائط ليستطعن فقط محاولة الحياة وتضرب لنا الباحثة مثال شادية التي تخلت عن طهر الجسد، الذي ينتهكه المجتمع، في قمة محافظته على ما يعتقده طهرا عن طريق الختان وممارسة الدخلة البلدي. لقد قررت شادية الوجود بل واحتراف الوجود حتى وإن كان سبيله الوحيد الوجود من خلال رجال متعددين، وعلى هذا النسق وجدتها الباحثة شيئا فشيئا تخلع غطاء رأسها وتنتقل من علاقة إلى أخرى. أما أم صابر فهي شخصية أخرى كانت فعالة في حياة الباحثة حيث كانت إحدى مصادرها والتي ساعدتها على مقابلة نساء أخريات وتجميع المعلومات. ورغم ثقة أم صابر بالباحثة وقربها منها، إلا أنها لم تتأثر بالباحثة بقدر ما تأثرت الباحثة بها. فلقد أقحمت أم صابر نفسها على حياة الباحثة فأصبحت تعرف الكثير عن حياتها الشخصية، بل وأعطت لنفسها الحق كصديقة واعية أن تسدي للباحثة النصائح القيمة لتحيا حياة هادئة مع زوجها، ولكنها، ورغم حديث الباحثة معها عن أضرار الدخلة البلدي والختان، قد ظلت مؤمنة بموروثاتها، وظلت تشكل عنصرا هاما في الكثير من الأفراح لتشارك في الدخلة البلدى بنفسها. ولعل هذا الاكتشاف من قبل الباحثة يؤكد على ما قاله مثلا الأستاذ زكي نجيب محمود بأن تأثير التنويريين محدود في الجماهير تماما كبقعة الزيت التي تطفو فوق سطح الماء ولا تندمج فيه.

تكتشف الباحثة من خلال البحث في برامج الرفاهة المقدمة للنساء المعيلات لأسر أنها برامج منحازة ضد المرأة. إن هذه البرامج لا تعترف أصلا بالمرأة كمعيلة لأسرتها إلا في أضيق الحدود، فالمرأة تكون كذلك إذا كانت أرملة أو مطلقة قذف بها زوجها للشارع ولم تطلب هي الطلاق، لأنها إذا طلبت الطلاق فإنها تحل بمقاييس الزوجة الحمولة التي يضعها لها المجتمع، فهي تحتج على العشرة مع زوجها وتقرر الانفصال بدلا من أن تبقى، رغم مرارة الحياة معه لترعى أبناءها. والمرأة التي يغيب عنها زوجها دون أن تستطيع اقتفاء أثره يعترف بها كمعيلة للأسرة ولكن بعد مرور عدد معين من السنين على غياب الزوج. أما المرأة التي يتزوج زوجها عليها والتي يهجرها زوجها ولا ينفق عليها رغم وجوده في نفس المكان على الرغم من أنها مازالت زوجته شرعا، والمرأة المتزوجة من عاطل أو مسجون أو أرزقي، لا يعمل عملا ثابتا يدر عليه دخلا ثابتا فلا يعترف بها كمعيلة للأسرة حتى وإن كانت هي فعليا التي تتحمل مسئولية عائلتها. هذا لأنه في هيكلة الدولة والمجتمع للأسرة تظل زوجة تقوم بعملها التقليدي الإنجابي والذي يخص المساحة الخاصة، أما الرجل فهو الفعال في المساحة العامة حيث أنه يعمل ليجلب المال ليصرف على أسرته. إن الدولة لا تعترف بالأبوية الجديدة التي يتخلى فيها الرجل عن واجباته التقليدية وتقوم بها النساء بدلا عنه. وبسبب هذه النظرة فإن الكثيرات من النساء لا يتمكن من الحصول على هذه الخدمات الاجتماعية رغم حاجتهن لها. فمثلا تجد أن المرأة الشابة التي مات والدها تاركا لها معاشا من الحكومة نجدها تحرم منه إذا تزوجت، حتى وإن كان زواجها مجرد كتب الكتاب حيث لم يدخل الزوج بها، وهذا لأن الدولة تصر على أن الزوج في هذه الحالة هو الذي يتكفل بالزوجة ولا تعترف بأن هذه الشابة مازالت تعيل نفسها. ومن ناحية أخرى، إذا ماتت امرأة كانت تعمل بالحكومة ولها معاش فإن زوجها لا يستطيع صرف معاشها حتى وإن كانت أثناء حياتها تعيل الأسرة معه هذا لأن الدولة مرة أخرى لا تعترف بالمرأة كمعيلة لأسرة.

ومن الأشياء الأخرى التي اكتشفتها الباحثة أن الدولة في برامجها الاجتماعية، وأيضا في البرامج الاجتماعية الدينية الأهلية، تقوم بفرض القيود والحدود على سلوك النساء، ولاسيما الجنسي، حيث أن الدولة ترى في النساء متاعا عاما وملكية عامة يجب الحفاظ عليها من أجل الحفاظ على شرف الدولة ذاتها والتي في ذلك تحل محل عائل المرأة أو قريبها الذكر. تتحدث الباحثة مثلا عن معاش العانس الذي تحصل عليه المرأة غير المتزوجة والتي تكون مثار شفقة المجتمع، ناهيك عن مفردة العانس غير الحساسة للنوع، هذه المفردة القبيحة. فإن هذا المعاش يفرض على المرأة العذرية والسلوك الجنسي المحافظ كي تضمن الحصول عليه، فهناك مندوبون من وزارة الشئون الاجتماعية مهمتهم التأكد من عذريتها. إذن فالمرأة في ظل هذه السياسة يظل وضعها هشا لأنه مرتبط بقيم مطاطية من صنع البشر مثل العفاف والشرف، هذه القيم الذكورية التي تتم حراستها من أجل الحفاظ على شرف الرجال وليس لأن المجتمع يعتز بالنساء.

ترى الباحثة أيضا أن كافة البرامج الاجتماعية، الحكومية منها والأهلية، تكرس لوضع المرأة الدوني وتصر على استمراريته. هذا لأن تلك البرامج لا توفر بديلا مؤسسيا للمرأة عن العائل الذكر. فالقيمة المادية للمعونات الاجتماعية لا تسمن ولا تغني من جوع، فهي لا تسد حاجة المرأة وعائلتها، إن هذه السياسة تجبر المرأة على مداومة البحث عن رجل يعولها ويحميها. فهذه البرامج إذن تحول دون استقلالية المرأة وتحررها.

تنتقل الباحثة بعد ذلك للعوامل التي تحول دون حصول النساء المحتاجات على الإعانات الاجتماعية، وهذه العوامل تسمى بآليات الاستبعاد، ومنها ما يفرض على النساء المعيلات لأسر من الخارج ومنها ما تسميه الباحثة بآليات الاستبعاد الذاتي، أي ما تفرضه النساء من استبعاد لهذه الخدمات على أنفسهن. إن أولى هذه الآليات تتعلق بنظرة المجتمع إلى هؤلاء النساء، وهذه النظرة تتمثل في معاملة الموظفين المسئولين عن تسهيل حصول النساء على الخدمات. ترى الباحثة أن هؤلاء الموظفين هم أنفسهم أهم من القانون لأنهم يفسرونه بطريقتهم الخاصة، يقررون من من النساء تصلح للحصول على الخدمات ومن لا تصلح لهذا ويتعامل موظفو هذه البرامج مع جماهير النساء المتقدمات للحصول على الإعانات بشكل متعال، وكأنهم يكرهون أقدارهم التي جعلتهم يتعاملون مع أناس من شرائح المجتمع الدنيا، وخير حماية لهم التعالي والازدراء الموجه لهؤلاء النساء. ومن المحزن أن نكتشف من خلال الدراسة أن الموظفات في هذه البرامج يتشاركن مع الموظفين الرجال في نظرتهم الدونية لجمهورهم من النساء المعيلات لأسر. فقد يكون تصورنا المسبق أن النساء هن أقدر من يستطعن التعاطف مع هموم النساء الأخريات خاطئا، ولو أن الكثير من المدارس النسوية تعتقد بوحدوية الألم النسائي والمشاكل التي تواجه النساء في مختلف الأمكنة والأزمنة أيضا. ولكن يبدو أن نظرية الثقافة النسبية التي تعرض لها الباحثة في آخر فصول رسالتها، فاعلة هنا، وهي نظرية تستند إليها الكثيرات من نسويات ما بعد الحداثة، فهي تؤكد على خصوصية كل ثقافة وما تفرزه من وعي وهموم، بل وإحساس بهموم آخرين منتمين إلى ثقافات مختلفة. إن هذه النظرية تساعد على تخصيص التعامل مع النساء كل حسب ثقافتها ومجتمعها. وأعتقد أن هذا يعطي بعدا إنسانيا أمسى غائبا حين عوملت النساء على إنهن فئة تشترك أفرادها في الصفات ولسن أفرادا لكل منهن احتياجاتها وهمومها. ورغم رومانسية التصور الأول عن إحساس النساء عبر التاريخ والأمكنة ببعضهن البعض، إلا أن الواقع يملي علينا تفعيل نظرية الثقافة النسبية لتساعدنا على إدراك حيثيات هذا الواقع. ومن ثم تكون الموظفات في هذه البرامج منتميات إلى واقع وثقافة مختلفة، ولو بدرجة بسيطة، عن واقع وثقافة النساء المعيلات لأسر فتأتي معاملة الموظفات لهن متعالية ومهينة أيضا. هذا ويتشكل لدى موظفي البرامج حكما أخلاقيا تقليديا على سلوك النساء وحياتهن الجنسية. فنجد مثلا أن بعض الموظفين يرفضون إعطاء الإعانات للنساء اللاتي يشكون في سلوكهن، أو اللاتي عليهن البحث عن عائل ذكر بديل للأسرة، ذلك إنهن إذا تركن بلا رجل فإن مصيرهن سيأخذهن إلى الانحراف، وتوضح الباحثة أن الموظفين لديهم رأي في كل فئة من فئات النساء المعيلات لأسر. فهم ينظرون للأرملة والمرأة غير المتزوجة نظرة عطف واحسان حيث أن هذه المرأة لا ذنب لها في وفاة زوجها أو في عدم زواجها أصلا. ويتعاطف الموظفون أكثر مع الأرملة الأم لأنها ترعى أطفالا يتامى حضت على حسن معاملتهم جميع الأديان السماوية. أما المرأة المطلقة، فيتعامل معها هؤلاء الموظفون بحذر شديد حيث يرون أنه من الأسهل عليها الانحراف أو على الأقل الحصول على زوج آخر. هذا وإذا تأكد أحد الموظفين أن المرأة هي التي طلبت الطلاق فإنها تحتقر وتعنف لأنها لم تصبر على عشرتها مع زوجها وأخلت بأخلاق الزوجة الحمولة وآثرت أن تعيش بلا رجل يحميها ويقومها على أن تكون مصانة في بيته حتى وإن كان يضربها ويسئ معاملتها، ولا يصدق الموظفين أن هناك رجلاً يخل بتقاليد الرجولة ولا يصرف على بيته. أما الزوجة التي تزوج زوجها من امرأة ثانية فإنها تعامل بإحسان طالما أنها لم تشتك ولم تتفوه بكلمة في حق زوجها. أما إذا نعتته بالظلم وعدم تقدير العشرة فإنها تتحول مباشرة إلى امرأة ناكرة للجميل ويجوز عليها الاحتقار. أما المرأة المهجورة، فإنها تعامل على أنها خطر على المجتمع حيث أن بها جوع وشبق أنثوي قادر على التهام أي رجل، بل المجتمع الذكوري بأسره. وأضيف أنه قد ينظر لهذه المرأة على أن بها غيرة تؤرق سعادة أي امرأة أخرى لم يهجرها زوجها بعد والمرأة المتزوجة من عاطل أو أرزقيتعامل على أنها ست كسيبةتعرف من أين تؤكل الكتف. فهي بسبب قلة دخل زوجها أو انعدامه تستطيع العمل وبهذا تكون غير صالحة لتلقى أية مساعدة. وأخيراً زوجة المسجون، ينظر إليها على أنها مجرمة تماماً مثل زوجها وبهذا فإن أخلاقيات الموظفين تمنعهم من تسهيل إعانة مثل هذه المجرمة. يتم هذا التقسيم الأخلاقي بشكل ضمني بين الموظفين ويصبح قانونا غير رسميولكنه أقوى من الرسمي المكتوب لأنه فعليا يتحكم في مصير هؤلاء النساء. أما موظفو برامج الظل، أي برامج المساعدة الدينية الأهلية، فإن نظرتهم للنساء تشكل أيضا أحد العوامل الاستبعادية، ولكن بطريقة مختلفة، إذ أن هؤلاء الموظفين يشتركون مع موظفي الدولة في نظرتهم التقليدية للنساء من حيث أن عليهن الالتزام الأخلاقي والبحث عن العائل الذكر وقبول الزواج لأنه حماية، ولكنهم يختلفون معهم في كونهم أكثر إحسانا للنساء باعتبارهم ممثلين لبرامج دينية. فهم لا يتعالون على النساء ولا يحتقرونهن ولكنهم أيضا يلزمون النساء بالحجاب وحضور المجالس الدينية في البرامج الإسلامية، وبالاحتشام وحضور دروس الكنيسة في البرامج المسيحية. ويتم بالفعل استبعاد اللاتي لا يلتزمن بهذه القواعد. أما عنصر الاستبعاد الثاني، فيتعلق بالإجراءات المطلوبة من النساء لتسهيل حصولهن على الخدمات. إن هذه الإجراءات تمثل عرقلة حقيقية في طريق النساء، إذ يطلب من النساء تقديم بطاقتهن الشخصية للحصول على الخدمات. وفي كثير من الأحيان، بل أغلبها، تكون البطاقات الشخصية غير موجودة، إذ أن هناك أعداد هائلة من النساء لسن موجودات في نظر الدولة لأنهن لا يملكن بطاقات شخصية وممارسة مواطنتهن تكون من خلال العائل الذكر. هذا ويكون طلب استخراج بطاقة شخصية منهن طلبا مرهقا ويستحيل تحقيقه لأنه عادة ما تكون هؤلاء النساء أميات لا يستطعن القيام بالإجراءات. كما أن الكثير منهن قد هاجرن من مواطنين الأصلية ولا يملكن شهادات ميلاد ولا يستطعن الرجوع لمناطق انقطعت صلاتهن بها لاستخراج شهادات ميلاد. هذا ومن الإجراءات الأخرى المطلوبة من المرأة هو أن عليها أن تثبت أنها ليس لديها مورد رزق ثابت وأنها لا تحصل على إعانة ضمن برامج أخرى. وقد يطول إثبات هذا وأيضا فإن عامل تضارب الأقوال والمعلومات بعد عاملا استبعاديا أساسيا. فالكثير من أساليب الفرز والبحث الاجتماعي التحقيق حول احتياج امرأة بعينها إلى مساعدة يتم شفاهة عن طريق ذهاب أحد الموظفين إلى منطقة سكنها والسؤال عنها وقد تتضارب بعض أقاويل الناس حول عملها وحالتها الاجتماعية ولا سيما أنه في بعض الحالات تخفي المرأة المطلقة أو المهجورة أنها كذلك لتتحاشي نظرة الجيران السيئة لها وتدعي أن زوجها مسافر، لذا فإنه عندما يتم التحري عنها تتم ما تعتبره المرأة فضيحة لها عند الجيران أو يتم إعطاء معلومات خاطئة لموظف البرنامج وترد الباحثة أنه في أحد الحالات كان هناك التباس في اسم إحدى النساء مما أدى إلى استبعادها من برنامج الإعانة لأن الأوراق أفادت ملكيتها لعقار والحقيقة لم تكن كذلك.

ومن آليات الاستبعاد الأخرى تقلص وصول برامج الخدمات إلى المستهدفات من هذه البرامج بسبب قلة المعلومات عنها. فالكثير من النساء علمن بهذه البرامج عن طريق نساء أخريات أو معارف لهن من الموظفين العاملين في البرامج. فلا يوجد شكل رسمي لإعلام الجمهور المستهدف بهذه البرامج. وبالنسبة للبرامج الدينية فإن أغلبها يستهدف مناطق بعينها ولذا لا تصل إلى جميع النساء المعيلات لأسر.

أما بالنسبة للاستبعاد الذاتي فإن هناك نساء كثيرات يقررن عدم التقدم للحصول على هذه الخدمات كرد فعل لكل ما سبق فإن النساء يردن تحاشي النظرة الدونية المصوبة لهن من قبل الموظفين وهن لا يطقن المعاملة السيئة. بل ويرين أن النساء المقدمات للحصول على هذه المساعدات بلا كرامة لأنهن يقبلن الإهانة، وهناك نساء أخريات ينسن من الحصول على مساعدات بسبب صعوبة الإجراءات. أما الأخريات فينظرن إلى عملية الفرز والبعد الاجتماعي على أنه فضيحة لهن في أماكن سكنهن وإنهن يوصمن اجتماعيا إذا ما عرف إنهن يحصلن على هذه المساعدات. وأخيراً فإن الكثير من النساء لا يثقن في نزاهة الموظفين ويجزمن أنهم يعطون الخدمات لأقاربهم ومعارفهم من النساء أو أنهم يتقاضون الرشاوي من أجل تسهيل الخدمات، هناك عملية عدم ثقة متبادلة بيز الموظفين والنساء المستهدفات من البرامج الحكومية وهناك نساء يرفضن توغل المد الأصولي في بيوتهن وحياتهن. ومع وجود آليات الاستبعاد هذه، فإن النساء يبتدعن آليات للتحايل والبقاء لأنهن يعرفن أنه بدون هذه الآليات سیمتن جوعاً. إن هذه الآليات الثلاثة التي توردها الباحثة هي عملية تشييد للعلاقات التي تنسجها بعض النساء. فهن يوطدن من علاقاتهن بالموظفين في هذه البرامج ليضمن الحصول على هذه الخدمات. ثانياً: فإن بعضاً من النساء يقدمن خدمات لهؤلاء الموظفين مثل تنظيف بيوتهم بأجرة أقل من المتعارف عليه أو بدون مقابل أصلاً أو شراء الخضراوات وتنظيفها للموظفات أو حياكة بعض الملابس الخ. إن هذه الخدمات تضمن للنساء الحصول على الخدمات من قبل الموظفين. أما الآلية الثالثة للبقاء فهي آلية مركبة إذ أنها تتعلق بصورة النساء عن أنفسهن. فإن الكثيرات من النساء يتماهين مع الصورة السلبية التي يكونها لهن المجتمع الذكوري فإنهن حين يقدمن أنفسهن للمجتمع ولهؤلاء الموظفين خاصة، يتقمصن شخصية المرأة الضعيفة المغلوبة على أمرها التي لا تستطيع التصرف والتي تحتاج إلى حسنة وإشفاق الآخرين، إنهن يتمثلن هذه الصورة خاصة مع الموظفين الرجال فين يخاطبن في هؤلاء الرجال رجولتهم وكأنهن يتخذن منهم العائل الذكر المفقود، بل ويتخذن من الدولة شكل العائل الذكر المفقود. فهن يعرفن أن رجولة وذكورة الرجل تتعاظم حينما تناشدها امرأة ضعيفة مستكينة، وتهب دائما لمساعدتها. هؤلاء النساء يؤكدن أيضا على جهلهن أمام هؤلاء الموظفين ويقبلن أي إهانة للحصول على الخدمات. وأخيرا. فإن النساء المقدمات المحصول على الإعانات الإسلامية يلتزمن بارتداء الحجاب بل قد يرتدينه خصيصاً للحصول على الإعانة ثم يخلعنه بعد ذلك ولا يرين في هذا أي نفاق اجتماعي أو ديني. بل هو تعايش مع وضع مفروض عليهن البقاء.

ترى الباحثة أن هذه الآليات يصح أن يطلق عليها آليات معارضة وليست آليات مقاومة. فهي تفرق بين المعارضة والمقاومة، فالمعارضة تمثل تعايشأ مع وضع قائم والتحايل عليه دون تغييره مما يساعد على استمراريته ويعلن قبول النساء به حتى وإن كن متضررات منه، أما المقاومة فهي تحمل في طياتها تغيير وضع ما بعد الثورة عليه. وتعرض الباحثة مثال لحالة إحدى النساء اللاتي عارضن دون مقاومة. لقد قبلت هذه المرأة بالعمل عند أحد موظفي برامج المساعدة كي يسهل لها الحصول على الخدمة وكان الموظف يسن معاملتها ولكنها لم تحتج واستمرت في عملها وجاءت معارضتها أو لنقل مقاومتها السلبية في صورة نميمتها عليه مع الموظفين الآخرين وإفشاء أسرار حياته الأسرية وخلافاته مع زوجته. وهناك عفاف المتزوجة من رجل سكير كان يضربها ويلزمها بالعمل ولم تثر هي الأخرى بل امتثلت وكان فعل معارضتها يتمثل في أن تبتاع له خمراً مغشوشاً وأن تتعمد حرق ملابسه، خاصة قمصانه المحببة له أثناء كيها، وبذلك تنفس من غضبها وتنتقم منه، أما هويدا، فلم تستطع مقاومة قرار عائلتها من الزواج برجل لا تحيه وكانت على علاقة برجل آخر مارست الجنس معه خارج مؤسسة الزواج وهو ما يعتبره المجتمع جرماً يعضده التحريم الديني في مسيحية هويدا وإسلامية انتصار التي مرت بالتجربة ذاتها ولكنها استطاعت الزواج من رجلها، ولكن هويدا التي قاومت في ممارستها الجنس مع رجل تحبه مؤسسة الزواج الذكورية، وقيمة العذرية، إلا أنها حين ضغط عليها الأهل تخلت عن هذه المقاومة التي تحولت إلى معارضة عندما ذهبت مع صديقتها إلى دكتور يقوم بعملية ترقيعأو إعادة العذرية وبهذا فإنها عارضت التقاليد بطريقتها. متحايلة عليها ولكن محافظة عليها في الوقت ذاته، أما انتصار فإنها ورغم زواجها من الرجل الذي مارست معه الجنس قبل الزواج إلا أنها قامت بنفس فعل المعارضة بالاشتراك مع أختها وأمها حيث أنه كان عليها المرور بتجربة الدخلة البلدي حيث يتم فض غشاء البكارة على مرأى ومسمع من أم العريس وأم العروس، ثم التدليل على شرف العروس وشرف عائلتها عن طريق نشر دم العذرية المراق على منديل ابيض أمام رجال العائلتين والجيران والأقارب. وقد صارحت انتصار أمها وأختها بالحقيقة وساعدناها على الحفاظ على شرف العائلة والممارسة الذكورية للدخلة البلدي بأن لطختا المنديل الأبيض بدم حمامة. وهناك شادية التي قررت أن تمثل الصورة التي وضعها لها المجتمع على أنها امرأة لعوب ساقطة، وذلك بأن قررت ممارسة وجودها من خلال علاقاتها المتعددة مع الرجال الذين ساعدوها على المعيشة وعلى البقاء في مجتمع يفترض في المرأة الانحلال الأخلاقي إلى أن يثبت العكس. ولقد تاهت انتصار مع هذه الصورة أيضا حين مارست الجنس قبل الزواج وفرضت بعد ذلك على الجميع مساعدتها ومعاملتها على أنها ضعيفة يسهل التغرير بها في أي وقت، كل هذه إذن آليات معارضة أو مقاومة سلبية خفية تساعد المؤسسات الذكورية على البقاء والتنامي، بل وتعايش المرأة معها ومن خلالها.

تعرض الباحثة قصصاً تفصيلية لثمان نساء تعطيهن فرصة التحدث عن أنفسهن وعرض آرائهن عن المجتمع بعد أن عرضت لرأي المجتمع عنهن. ومن خلال هذه القصص يتم التاريخ لمعاناة النساء في الطفولة حيث تعرضن للتفريق في المعاملة بينهن وبين إخوانهن من الأولاد، ثم خضوعهن لممارسة الختان التي قد تروح ضحيتها الكثيرات من البنات الصغيرات، ثم حرمانهن من التعليم وتزويجهن في سن مبكرة جداً من رجال يكبروهن بأعوام كثيرة ولا يحبونهم، ثم معاملة أزواجهن السيئة لهن وضربهن وممارسة الجنس معهن بالقوة وهو الأمر الذي لا يعتبر اغتصاباً لأنه داخل مضمار الزواج، ثم إجبارهن على العمل مع أخذ أموالهن وإلزامهن بالأعمال المنزلية بصورة مجهدة. وتقسم الباحثة هؤلاء النساء إلى أربع مجموعات وهن النساء البطلات أمثال أم صابر، وهدية، وأم نجاح، وامرأة مثل قسمة التي تضعها الباحثة في مجموعة وحدها حيث اضطرت إلى لعب أدوار متعددة من زوجة ترعى المنزل وشئونه وطلبات زوجها الجنسية إلى امرأة عاملة معيلة لأسرة. وتصف قسمة هذه الحال وتقول : “الرجالة دول عاوزينا نكون رجالة بالنهار وستات بالليل” ( الفصل السابع، ص 6). ثم مجموعة النساء المتزوجات من رجال لا فائدة لهم مثل هدية وانتصار وحنان. ثم مجموعة الفتيات قليلات الحيلة مثل ألفت وشادية اللتين وصفتا الأب قائلتين: ” أبويا ده راجل قاسي وما عندوش قلب الأب” (الفصل السابع، ص۳). إن كل هؤلاء النساء رغم اختلاف ظروفهن إلا أنهن مرون بتاريخ المعاناة ذاته ووصلن في النهاية لأن يكن نساء معيلات لأسرهن وإن كان عن طريق الدعارة التي تمارسها شادية التي لقنها ابوها من الدعارة في نسق اعتبرته أكثر شرفاً حيث كان يعرضها للزواج لأكثر من رجل في آن واحد وينتقل من خطبتها لرجل إلى خطبتها لرجل آخر ليقبض ثمناً أكبر. ويأتي هذا الفصل من الدراسة جوهريا لأنه يعطي للنساء الفرصة كاملة للتعبير عن آلامهن ووصف حياتهن وتوصيل أصواتهن، هذا ونسمع حكم أم نجاح على المجتمع الذي أجبرها على ان تكون مجرمة وتمتهن مهنة زوجها المسجون لأنها فشلت في الحصول على الإعانة بسبب تعالي الموظفة عليها وسخريتها منها. كما أن النساء في هذا الفصل يعرضن لمشاكلهن الجنسية بكل جرأة ويعلن أنهن فقدن الثقة في أزواجهن الذين سقطوا من نظرهن وأنهن يتقززن من ممارسة الجنس معهم، ويأتي هذا الفصل في الدراسة ليضم شهادة النساء على الواقع الذي فصلته الباحثة في الفصول السابقة. وتسمع أيضا ولأول مرة فخر هدية بنفسها لأنها استطاعت إعالة أسرتها وتعليم ابنها وبنتها جميع حيث تقول: ” أنا بجد هدية لعيلتي” (الفصل السابع، ص ١٨) وتقول أيضا: ” من غيري جوزي وأولادي يضيعوا أنا لازم أكون موجودة علشان يعرفوا يعيشوا” ( ص١٦). فهناك إعلان صارخ باستبدال الرجل بالأبوية الجديدة. ومع ذلك فإن الباحثة ترى أن عمل هؤلاء النساء ليس عملاً تحررياً لهن لأنهن لم يخترنه وإنما فرض عليهن، ويتضح هذا في التعبير الذي استخدمته تقريباً. النساء حيث أطلقن على أنفسهن راجل البيت، وكأنهن يتحاشين استخدام ست البيتلعدم كفاية هذا التعبير للتدليل على دورهن المكثف والمزدوج في رعاية الأسرة. وكانهن أيضاً يعلن من خلال استخدام هذا التعبير إنهن يتقدمن في المساحة العامة الغير المخولة لهن وأنهن يقمن بهذا الإحلال للرجل بحذر شديد وأن حياتهن ما زالت تسير في نسق ذكورى، وبهذا تكون أفعالهن مرة أخرى أفعال معارضة ومقاومة.

وفي النهاية وبعد تقديم الباحثة لتحليلها السوسيولوجي للظروف الصعبة التي تعاني منها النساء المعيلات لأسر تؤكد الباحثة في فصل دراستها الثامن والأخير على أنها لم تقصد ابدأ التصدي لمجتمعها أو إعلان كراهيتها للدولة وممارساتها، أو إلقاء اللوم على الدين أو التنصل من المجتمع بكل مكوناته وعناصره لخدمة أي غرض أجنبي وإنما كان هذا البحث وفيا لقيم البحث النسوي، خالصاً لهؤلاء النساء اللاتي يعانن ظروفاً اجتماعية ومعيشية يستحيل معها أي مستوى إنساني من الحياة. ولقد كان البحث تنويرياً لهذا استطاعت معه إدراك الكثير الغائب عنها بسبب طبقتها وثقافتها وأعتقد بأن مثل هذا المجهود النسوى له أهدافه الإنسانية التي يجب أن تحترم فالإيمان بأن كل فرد له الحق في الحياة والتعبير عن آلامه واحتياجاته يجعل من هذا البحث قيمة لأنه يسمعنا أصوات المهمشات والمستبعدات الغائبات عن وعي طبقة وسطى مثقفة تدور في فلك بعيد ولا تتواصل مع واقع مجهل مغيب عن وجوده الملح. وهذه إنسانية علها تكون موجهه. أشكر إيمان بيبرس ومثيلاتها عليها ولكن هل يا ترى هي فعل معارضة آخر؟ فرع طبول عنيف يدوي ولا يحدث تأثيرا ؟ نكأ جرح قديم ليقطر دماً ساخناً في طريقنا دون أن ننتبه؟

 

* بطلات وضحايا: المرأة والسياسات الاجتماعية والدولة في مصر، تأليف إيمان بيبرس، ترجمة عايدة سيف الدولة. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٢.

** طالبة ماجيستير فى قسم الدراسات العربية بالجامعة الأمريكية وباحثة مصرية.

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي