يقمن بإخفاء العار في قلوبهنّ

يقمن بإخفاء العار في قلوبهنّ

راندا أبو الدهب

يقع إقليم دارفور في الجنوب الغربي السوداني، والذي يعتبر من أكثر مناطق السودان جفافًا، وفي تلك المناطق يعيش معظم القبائل ذات الأصول الإفريقية، مما جعلها هدفًا للتجاهل والتهميش واشتباكات القبلية، بل والتطهير العرقي والعبودية القسرية والتشريد من قبل نظام الحكم في السودان، فسعى أبناء الإقليم إلى محاولة الحصول على دور في السلطة والموارد، إلا أن الحكومة السودانية اعتبرتهم عصابة لصوص وقطاع طرق، أو على الأقل متمردين، وليسوا حركةً سياسية، كما حاولت الحكومة التعتيم على مذابح دارفور، والإدعاء بأنها مشكلة أمنية محليةلذلك قامت الحكومة السودانية في خلال شهر مارس ۲۰۰۳ باعتقال المعارضين أو القيادات الأهلية في دارفور، دون إجراءات قانونية، كما غضت النظر عن تعرض الأهالي لهجمات من قبل بعض الجماعات المسلحة الجنجويد، وهو ما لم يكن جديدًا، حيث قامت الحكومة من قبل، وفق بيان أمم المتحدة بنصب محاكم خاصة بذريعة التعامل مع حوادث القتل الجنائي المعتاد والسرقة، وعلى أساسها تمت محاكمة من عرف عنه معارضته للنظام، إلا أنّ هذه المحاكم أصدرت أحكامًا غاية في القسوة، وتم إعدام الكثيرين..

حرق واغتصاب

مهما نركض سيلحقون بنا. لن نكون أسرع من خيولهم.

أكدت تقارير الأمم المتحدة وبعض المنظمات غير الحكومية التي حاولت الوصول إلى مواقع القتال، أنه تمّ فرار وإجلاء مليون ومائتي ألف فرد من منازلهم، معظمهم من النساء والأطفال، هذا غير 50 ألف قتيل، ضحايا الهجمات التي تشنها ميليشيات موالية للحكومة على المناطق المدنية، خاصةً القرى التي نهبت وأحرقت ودمرت بنيتها التحتية، حتى إن الأمم المتحدة اضطرت أحيانًا، إلى تعليق المساعدات الإنسانية بسبب عدم قدرتها على الوصول إلى الضحايا، وقد ارتفع معدل وفيات السكان في بعض مخيمات اللاجئين من سكان لمنطقة إلى ٢٥ ضعف المعدل العالمي، أما أهم مخيمات اللاجئين الذي أنشاته مفوضية العليا لشئون اللاجئين، فكان معسكر السابع في تشاد لإيواء اللاجئين الذين فروا من القتال الدائر، ويقع المخيم الجديد بالقرب من مخيم فرشانا في منطقة بريدينج، وقد استقبل المعسكر الجديد نحو ۱۸۷ لاجئاً، حسب المتحدث باسم المفوضية، كريس جانوسكي، ويضمُّ معسكر فرشانا نحو 13.360 شخصًا، بينما يضم معكسر تولوم ۱۷.۷۸، شخصًا، ومعسكر إرديمي 14.819 شخصًا، ومعسكر كونونغو 8.271 شخصًا، ومعسكر ميل 2.073 شخص، بينما يضم معكسر فوز عامر 18.143 شخصًا، أي نحو 74.640 لاجئاً في جميع المعسكرات حتى مايو ٢٠٠٤، فيما هناك نحو 27.000 جئ في شمال تشاد موزعين على معسكرين هما باهي وكارياري، كما تم فتح معبر ثالث أمن يمكن اللاجئين السودانيين من الدخول بأمان إلى داخل الأراضي التشادية بعيدًا عن الحدود التي لا يزال يسودها العنف.

فرار مليون ومائتي مواطن معظمهم من النساء والأطفال.

وبلغ عدد اللاجئين الذين تم ترحيلهم من قريتين تقعان على الحدود إلى مخيم يبعد حوالي ٧٠ كيلومتراً داخل الأراضي التشادية، حوالي 43.000 لاجئ منذ بداية القتال في منتصف كانون الثاني، يناير وحتى مايو الماضي، بينما هناك حوالي مليون شخص يعيشون مشردين داخل دارفور نفسها، لم يكف أن تكون المرأة في دارفور ضحية السلم، تحمل كل أعباء الأسرة في غياب الزوج أو وجوده، والعمل خارج المنزل في العمل الزراعي وأعمال البناء، بل كانت الضحية أيضًا أثناء الحرب، وعادت إلى التشرد، والجوع، والعنف الذي لم تسلم منه حتى في مخيمات اللجوء فاستخدم الاغتصاب كأحد أسلحة الحرب في دارفور، بهدف إذلال الضحايا وأسرهم، وتقرر منظمة العفو الدولية التي حصل مندوبوها على أكثر من ٢٥٠ اسم امرأة تعرضت للاغتصاب حتى شهر مايو الماضي فقط، كما أن جميع حالات اغتصاب تقریباً جرت إما بتورط مباشر أو على مرأى من القوا الحكومية، ومع ذلك لم توجه اتهامات لأحد باغتصاب أو الخطف.

أما رد فعل أسر الضحايا فبلغ مداه حين تبرأ الأزواج من زوجاتهم بعد تعرضهن للاغتصاب بمن فيهن الحوامل، مما يدفع الكثيرات منهن إلى عدم إبلاغ الأسرة بما حدث خشية الانتقام منهن، ويلجأن إلى إخفاء هذا العار في قلوبهنّ حسب شهادة إحدى اللاجئات. بل دفع اغتصاب بعضهن إلى خوفهن من البحث عن ملاذ في المخيمات خوفًا من نبذ العائلة والأقارب أو حتى انتقام.

فيما يتعلق بالفتيات غير المتزوجات فإنهن قد لايجدن من يتزوجهن أبدًا بسبب العار الذي لحق بهن عن طريق اغتصاب. إذ ينظر إليهن على أنهن قد فسدنوهو ما عبّرت عنه إحدى اللاجئات: “نعتقد أنه يمكن لا أن تحبل امرأة بعد اغتصابها، لأنها لم ترغب في ذلك، ولا يمكن أن تحبل بطفل ما لم ترغب في ذلك. الموجودات في المخيمات في دارفور، اللاتي يغتصبن نهارًا وليلاً، وقد يحبلنن. والله وحده قادر على أن يجعل الطفل يشبه الأم، لايمكن القبول بأن يولد طفل عربي“.

تقول امرأة في الأربعين من جاروك إذا حملن يتعين عليهن الهرب، لايمكنهن أن يبقين في الأسرة أو في مجتمعهن، لماذا لأنه من غير الطبيعي أن تحمل بعد اغتصابها، ولذا يتعين عليها أن تذهب“. لانعدام الأمن، أو بداية موسم الأمطار والسيول حيث يلخص الوضع طبقًا لأحد تقارير المنظمة الدولية من نيروبي: “أحرقت القرى في حين استمرت أعمال النهب والاغتصاب ودمرت البنية التحتية المدنية مثل المدارس والعيادات، كما أحرقت مجمعات المنظمات الدولية غير الحكومية في نيلواك أثناء الهجمات“. وفي تقرير لمنظمة هيومان رايتس وتشأنه تم إشعال الحريق بالقرى بشكل منهجي وليس عشوائيًا، مرتين وليس مرة واحدة للقرية حيث قامت الحكومة السودانية بتجنيد وتسليح ما يربو على 30 ألفًاً من أعضاء الميليشيات الذين ينحدرون من أصل عربي، وتشترك هذه الميليشيات الجنجويدمع الحكومة في شن هجمات على المدنيين من أبناء طوائف الفور والمساليت وزغاوة العرقية.

ويشكل سكان القرى صيداً سهلاً للميليشيات، فمن بين القرى قرية تيرتيالتي وردت منها تقارير عن التعرض لهجمات وحشية نفذها الجيش السوداني، ومن حالفهم الحظ وبقوا على قيد الحياة من تلك الهجمات يتعرضون لمطاردة الميليشيات التي تدعمها الحكومة، ويحكي شهود العيان الذي تمكنوا من الفرار عن عمليات اغتصاب وتطهير عرقي وصلت إلى حدّ قصف القرى بالطائرات. جوزيف مامات، ١٢ عاماً، الذي يحكي عن هجوم تعرضت له قريته: حيث أفاق على أصوات النيران، ويقول: “فجأة بدأ إطلاق النار وترددت صرخات استغاثة“. وأضاف: “أصابت الرصاصات أخي في كلّه أنحاء جسمه، وقد لفظ أنفاسه الأخيرة بجواريثم يتحدث باكياً : “كنت أشعر بآلام في رأسي وساقي، وهرعت أجري في الظلام وأعلم ما إذا كان أمي وأبي على قيد الحياة“. وجاء في حديث لمنسق الأمم المتحدة الخاص بالسودان موكيش كابيلا أن 75 شخصاً قتلوا في هجوم شنته ميليشا عربية على قرية طويلةلدى شروق الشمس قبل أسبوعين، وأضاف قائلاً : “إن جميع المنازل والسوق والمركز الطبي تعرضوا للنهب، وتمّ إحراق السوق، واغتصاب 100 سيدة واختطاف 150 سيدة وطفلاً، وأشار إلى تعرض العديد من القرى لمثل هذه الهجمات قائلاً: قرية وراء قرية يتم تسويتها بالأرض“. فيما أعلنت منظمة هيومان رايتس وتش أن القوات الموالية للحكومة السودانية أعدمت في عملية منسقة في شهر إبريل 136 رجلاً، كما أن رجالاً نقلوا بسيارات شاحنة بمساعدة قوات الحكومة السودانية من قبيلة فور إلى مكان أعدموا فيه، كما أن مئات الأطفال بدأوا يسقطون ضحايا للمجاعة الجماعية التي تجتاح المنطقة، حتى إن إحدى الفارات قالت، وهي تحمل طفلها الذي يبلغ من العمر تسعة أشهر وعلى وشك الموت جوعًا، إنها قطعت الطريق إلى المخيم في عشرة أيام دون طعام هي وطفلها، وأكدت لقد أحرقت الميليشيات قريتنا، حتى الأطفال أحرقوا“.

الحكومة السودانية سلحت ألفاً من أعضاء الميليشيا

حيث تشهد المنطقة نقصًا كبيرًا في المياه والطعام. لذلك يتمُّ اقتسام الحصص الغذائية التي وفرتها منظمات الإغاثة، والتي استهدفت بها الإبقاء على حياة الرضع الأكثر ضعفاً. حتى إنه يوجد أطفال يعانون آلام الجوع، وهناك حالة وفاة يومياً على الأقل، وقال جيمس موريس، من برنامج الغذاء العالمي التابع للمنظمة الدولية، إن الوضع في الإقليم يعتبر من أسوأ الأزمات الإنسانية التي شهدها العالم، خاصةً بعد بداية موسم الأمطار الذي منع المنظمات الإنسانية من الوصول إلى بعض المناطق في دارفور، فيما تتلقى المناطق الأخرى المساعدات من خلال الإسقاط المباشر من الطائرات. مدير البرنامج العالمي للغذاء في السودان رامير ولوبيزدا سيلفا يعبر عن المأساة بشكل أوضح: ” إن إسقاط الغذاء جوًا خيار مكلف للغاية، غير أنه ليس لدينا في هذا الوقت من العام خيار آخر في أجزاء من دارفوار، لذلك تلجأ الأسر الأخرى في مخيمات اللجوء إلى الزواج المبكر بهدف حماية بناتهم ويحاولون تزويجهن بسرعة للحفاظ على شرف الأسرة، ونتيجةً لذلك انخفضت المهور التي تقدمها أسرة الزوج للفتاة. هذا ما عبرت عنه لاجئة بمخيم جوز أمير، بتشاد الزواج رخيص جدًا جدًا في أيامنا“. أما من لم يجدن الزوج فأصبحن عرضةً لضغوط اجتماعية واقتصادية وصحية، من نبذ أسرهن والمجتمع، فيما يؤدي نقص الرعاية الطبية في المخيمات إلى مشكلات صحية ونفسية وحمل غير مرغوب فيه، ناهيك عن غياب الدعم الاقتصادي الذي يوفره بشكل تقليدي الرجل، ما يجعل البعض منهن يلجأن للدعارة ليجدن قوت يومهن. والمريع أن معظم من تم اغتصابهن كن يقمن بجمع الحطب بدلاً من أزواجهن خشية أن يقتلوا إذا خرجوا من المعسكرات، فكان الاغتصاب من نصيب النساء، وفي حالات أخرى كان التعذيب لإجبار النساء على الإدلاء بمعلومات عن أماكن وجود أزواجهن، وقد تضمنت أشكال التعذيب، وفقًا للتقارير وضع وجوه النساء بين عصى خشبية وخلع أظافرهن. وأفادت بعض النساء بأن الجنجويد قاموا بكسر أرجل نساء تم اغتصابهن لمنعهن من الهرب، مع العلم أن الجنجويد ما زالت تسيطر على 16 معسكرًا للاجئين في غرب دارفور.

فاديما نجت من المذبحة فتناوبوا اعتداء عليها.

ووسط هذا الكابوس المتواصل تشهد الخيمة ميلاد حياة جديدة، إذ تضع فاتنا مولودًا ذكرًا تسميه أحمد، أحمد يتجاوز عمره أيامًا، ومع ذلك ولد لاجئًا.

فإذا كنت من أبناء دارفور، ولا تملك ثمن الهروب إلى أوروبا، أو حتى استطعت الوصول إلى أحد المخيمات فلن يكون لك حق التمتع.

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي