المجتمع – الحماة – الأم – الزوج… يقررون وهي مجرد وعاء!
د. ريما الخفش
خلال عملي كطبيبة في مجال التوليد، والذي امتد منذ عام 1977 حتى اليوم، مرت كثيرات من النساء في مخيلتي، ولكن واحدة منهن حضرت تجربتها في ذاكرتي، حين جاءت إلى المستشفى الذي أعمل فيه والدم يسيل منها ويصل إلى كعبيها، وبالحديث معها عرفت أنها حامل في أول شهرها الثامن وأن المشيمة (الخلاص) يأتي في المقدمة قبل الطفل بخلاف الطبيعي، ومن سماع تاريخها المرضى وقراءة سريعة لأوراقها أيقنت إنني أمام حالة خطيرة، فقد ولدت مرتين قبل ذلك بعملية قيصرية وأن المشيمة هذه المرة موجودة بالضبط في مكان الجرح السابق، ودخلت غرفة العمليات بمشاركة فريق من الأطباء المتخصصين نساء وتخدير وأطفال، وتسلحنا بخبراتنا وبأكياس من الدم – لنقله إليها عند اللزوم – وبدأنا عملية الولادة القيصرية وفتحنا الرحم لنواجه بنافورة من الدم وأخرجنا الطفل إلى الحياة – صبي حي مبتسر – أخذه طبيب الأطفال سريعًا إلى الحضانة وأصبحنا وجهًا لوجه أمام رعب رحم ينزف بلا توقف، حيث المشيمة متخللة لجدار الرحم ولا شيء يوقف النزيف لا شيء إلا استئصال الرحم، ونقلنا لها كل الدم الذي تسلحنا به، وأغلقنا أبواب الجحيم بإستئصال الرحم وأغلقنا الجرح، وكان ميكروفون المستشفى يصيح خلال كل ذلك: ” كل من فصيلة دمه موجبة يسارع بالتبرع بالدم لحالة حرجة بين الحياة والموت في غرفة العمليات وخلال هذه الفترة كانت السيدة قد نزفت الكثير من الدماء، وأصبحت حياتها في خطر شديد، إلى أن تدفقت دماء المتبرعين لتجري في عروقها وتشدها من أيادي الموت، ونجحنا وغمرنا الإحساس بالانتصار للحياة، وخرجت من غرفة العمليات منهكة متعبة القلب متحسرة على الأم التي فقدت رحمها والكثير من دمها ولا تزال بين الحياة والموت، ليقابلني زوج المريضة على باب غرفة العمليات، وسألني ببراءة: هل تمت خياطة الجرح في بطن الوالدة بطريقة التجميل أم لا؟! وسألتني حماتها هل سيعيش الطفل أم لا؟
تلد 9بنات.. وتنتظر الولد!ولقد جعلني ذلك أتساءل: هل أخذت هذه السيدة وهي أم لطفلتين قرار الإنجاب وهي تعي أنها قد تفقد رحمها أثناء الولادة؟، وهل أدركت أنها بهذا الحمل قد تعرض حياتها لخطر الموت؟” ولاستئصال رحمها؟، وهل كان محتمًا عليها أن تنجب مرة أخرى – بعد ولادتين قيصريتين – لتلد ذكرًا وليًا للعهد حتى يرث كل تخلفنا؟ حتى الآن تحمل النساء وتلد حينما يريد الزوج ذلك، فهو لا يزال محدد العدد الأولاد، والويل كل الويل للسيدة التي تلد بنت وراء بنتًا دون أن ترى بذلك أنها تخالف رغبةً الزوج وأهله في إنجاب حشد من الذكور. ولقد تذكرت الآن مريضة أخرى ولدت دون توقف 9 بنات ولم تلد أي ذكر، وقالت إنها لن تكف عن المحاولة رغم ما سببته وتسببه لها المشاكل الصحية والاجتماعية، وتساءلت هل كان ذلك بسبب رغبتها في ولادة الذكور؟ أم بسبب رعبها من عدم استقرار زواجها إلا إذا ما أنجبت البنين، يا إلهي، ولد واحد وتستقر حياتها، ولد واحد يبعد شبح زواج زوجها بأخرى، ولد واحد وتكف حماتها عن معايرتها بأن كل خلفتها بنات، ولد واحد وتستطيع أن تشعر أنها امرأة كاملة، ولد واحد وتظل أملاك الأسرة لأولادها، فولد واحد يحجب كل الورثة من مزاحمتها وبناتها في الميراث، إذًا فالمخاطر تستحق كل هذا العناء! ولو أحببنا أن نرى حياة قاحلة قاسية قلقة مرة سقيمة فلننظر الى امرأة مر عليها بضعة أشهر أو بضع سنوات بعد الزواج ولم تنجب. وأفكر الآن جديًا: هل قرار الإنجاب الذي يعرض المرأة لكل مخاطر الحمل والولادة بما فيه الموت يجب أن يفرضه أحد عليها أو يشاركها بها؟ مهما كان فالمرأة وحدها هي التي تتحمل هذه المخاطر فوحدها التي تحمل، وحدها التي سينتاها قئ وغثيان صباحي. وحدها التي ستتغير مشيتها وستصبح بطة متحركة، وحدها التي ستمر بتجربة المخاض، وخاصة إذا ما علمنا أن نسبة وفيات النساء المسجلة في بلادنا نتيجة الحمل والولادة لا تزال ١٧٢ حالة وفاة لكل 100000 ولادة، ووحدها المرأة التي يمكن أن تنزف عند الموت حتى الولادة، أليس من العدل أن تقرر متى تمر بهذه المخاطر، وتقرر عدد المرات التي تواجه شبح الموت فيها، ووحدها التي تقرر متى تستطيع أن تخصص من وقتها ساعات كي ترضع وتغير الملابس المبتلة وتغسل وتعتني وتطعم وتفطم إلخ إلخ.
ولتكن البداية أن نطالب بأن تكون النساء شريكات في قرار الإنجاب مع شريك حياتهن، مكافأة وللحياة المشتركة وتحمل المخاطر.
انفجر الدم في وجوهنا فكيف نوقفه؟
تتحمل المرأة وحدها المخاطرة بحياتها حتى يأتي الولد : !