ربما تكون قد هدأت قليلاً ردود الأفعال الغاضبة والمستنكرة في جانب منها، الخائفة في جانب آخر، والمتحسبة من مخاطر السير في الشوارع. ردود الأفعال هذه وتلك التي أصابت المجتمع المصرى عقب حادث التحرش الجنسي بالنساء في شوارع وسط المدينة في أيام عيد الفطر.

وأيا يكن حجم الحقيقة فيما حدث فهو مجرد عرض العديد مما أصاب الإنسان المصري من تغيرات، وما أصاب المجتمع بالتالي من انعكاسات. وعلينا أن نتأمل بعض تفاصيل ودلالات ما تم نقله من تلك الأحداث التي لم تتوقف عند التحرش بالألفاظ: بل شابها درجة من درجات العنف الذي أصبح سلوكًا عامًا تجاه بعضنا البعض عمومًا، وتجاه النساء بشكل خاص، فالعنف ظاهرة يومية، وزيارة بسيطة إلى مدارس البنات خاصة في الأحياء الشعبية والمدارس الحكومية سنجد تفشي التحرش المقرون بالعنف اللفظي والسلوكي، وبمراجعة لصفحات الحوادث في جرائدنا سيصدمنا عنف غير مبرر أحيانًا. فقبل وقائع وسط المدينة بساعات شهدت محافظة المنيا مذبحة بين أبناء عمومة، أي بين أفراد عائلة واحدة اختلفوا على حدود قيراط أرض. وكانت منطقة طرة في الوقت نفسه تشهد مجزرة أخرى بين عائلتين من تجار الأسمنت، أنهيا تنافسهما على احتكار تجارة الأسمنت بالرصاص وبثلاثه قتلى وخمسة مصابين وإحراق ثلاث سيارات.

وربما نتذكر حوادث اعتداءت وقتل بين جيران من الطبقة الوسطى، يكون المعتديون فيها والضحايا من المحامين والأطباء وأساتذة جامعات، وبكل تأكيد كلنا يواجه يوميًا بعنف ينفجر في وجهه أينما ذهب، في الأتوبيسات وفي السيارات وفي إشارات المرور، وبين الباعة والمتشردين والآباء والأبناء، مع انتشار حوادث السرقة بالإكراه بشكل غير مسبوق. هي حالة عنف تؤكد عمق وعظم الضغط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الواقع على المواطن المصري، وتؤكد حالة اليأس التي وصل إليها المواطنون عمومًا والشباب على وجه الخصوص بعد أن فقدوا الأمل في أي دور أو فعل أو مستقبل للحياة، وهذا بالإضافة إلى بؤس حالهم مما يتابعونه يوميًا من انتشار الفساد وما يطعنهم يوميًا في صميم قيمهم ما يرونه أيضًا من الثراء الفاحش الذي أصاب رموزًا تجلس على مقاعد صنع القرار والحكم.

ولن نغفل أو نترفع عن ذكر أن الشباب يعاني من كبتًا وحرمانًا عاطفيًا في ظل حالة من حالات الهوس الديني التي أصابت المجتمع وحرمت عليه حتى رؤية شعر النساء، وفي ظل أزمة اقتصادية طاحنة، ولابد بالضرورة أن تجد هذه الضغوط متنفسًا، وبالضرورة أيضًا أن النصيب الأكبر في تلقي هذه الانفجارات للنساء.

فمنذ عشرات السنين لم يتوقف خطباء ودعاة الفضائيات والقنوات المحلية والصحف الرسمية ودعاة شرائط الكاسيت، لم يتوقفوا يومًا عن إدانة النساء وتحميلهن تبعات كل الموبقات في الدنيا والآخرة، واعتبارهن عورات وقرينات للشياطين، أو لحمًا سائبًا ملقى على الطريق لا لوم على القطط أن تنهشه كما قال مفتي المسلمين في أستراليا لكن الحقيقة قد ردت عليهم بأبشع صورة عن طريق الشباب الذي تحرش بالنساء المحجبات في العيد، فالقضية ليست فيما ترتديه المرأة أو النساء بل في وجودهن، فقد ترسخ في ثقافة ووجدان هؤلاء الشباب أن المرأة كائن مباح وجسد معروض للاعتداء حتى لو كانت محجبة أو منتقبة، لذا لم تسلم الأولى ولا الأخيرة من تحرشات العيد.

والمفارقة التي تستحق الانتباه أنه في الوقت الذي تنتشرُ في المجتمع أشكال المبالغة في التدين وبروز ذلك بشكل مظهری واستعراضي: كإطلاق اللحى وارتداء الحجاب، وفي الوقت الذي وصل فيه عدد الدعاة وأصحاب الفتاوى لأرقام نقول عنها على سبيل السخرية بأنه أصبح في بلادنا داعية أو مفتي لكل مواطن، ومع البسملة والحوقلة والسبح في الأيادى والاستناد بعلم أو بجهل في كل فعل إلى القرآن والسنة، ومع كل هذا تأتى المفارقة الموازية وهي انتشار الانفلات الأخلاقي والانهيار القيمي عمومًا، وهي مفارقة تؤكدُ حجم الازدواجية المرضية التي أصابت المجتمع والتي تستدعي انتباه علماء الاجتماع لوضعها بإلحاح وسرعة تحت بند الدراسة العلمية حتى نصل إلى علاج قبل فوات الأوان.

لماذا لا تحتمي النساء بالقانون؟

وقد نشرت بعض الصحف أو كما جاء على لسان مسئولين بالشرطة وهذه ملاحظة أخرى على أحداث التحرش أن الأقسام التي وقعت في دوائرها الأحداث لم تتلق بلاغًا واحدًا من المعتدى عليهن ولا من أصحاب المحلات التي قيل إنه تم تدميرها، وهذا يؤكد أولاً فقدان الثقة بين المواطنين والشرطة، كما يؤكد حرص المصريين على البعد عن سكة أقسام البوليس، وذلك لما يمكن أن تجره عليهم من مشاكل، لأنه ترسخ في يقين المصريين أن الشرطة لا تهتم إلا بأولاد الناسومن لهم ظهر أما أبناء الناس الذين يعيشون على باب الله وبلا سند فليس أمامهم إلا أخذ حقوقهم بأيديهم أو التنازل عنها وإيثار السلامة وسد الأبواب التي يأتي منها الريح وخاصة أبواب الشرطة والأقسام، وهذا ملمح من ملامح السلبية التي أصابت الشخصية المصرية، وضربت بجذورها حتى جعلت العلاقة بين الشعب وأجهزته الأمنية أشبه ما تكون بعلاقة عدائية.

أين كانت الشرطة في يوم التحرش؟

وإذا كانت النساء لم تلجأ للشرطة خشية الفضيحة وتحميلهن مسئولية التحرش بهن أو حتى اغتصابهن، فأين كانت الشرطة التي تستنزف من ميزانية الدولة، أي من أموالنا سنويًا 1.9 مليار جنيه، أليست هذه الشرطة هي نفسها التي شاهدت بلطجية الحزب الوطني وهم ينتهكون أعراض النساء في أكثر من مظاهرة وفي الموقع نفسه ولم تتدخل؟ وإذا كانت النساء اللواتي تعرضن للتحرش لم يلجأن للشرطة، فإنهن لن يلجأن للقضاء بالتالي، وهذه النقطة تستدعي اهتمام منظمات المجتمع المدني الحقوقية والنسوية لتقوم بدور التوعية النساء بداية بكونهن لسن متهمات بنسويتهن أو بالنوع الذي ينتمين إليه، ثم بحقوقهن القانونية. فالنساء لا يعرفن أن ثمة قانونًا يقدم لهن الحماية ويعاقب المعتدي، فالقانون المصرى به ۱۳ مادة تجرم هتك العرضوقد عرف القانون هتك العرض في قانون العقوبات بأنه: “فعل مخل بالحياء ويقع على جسم مجني عليه معين ويكون على درجة من الفحش إلى حد مساسه بعورات المجني عليه التي لابد من صونها وحجبها عن الناس. أو إلى حد اتخاذ المجني عليه أداة للعبث به في المساس بعورات الغير. ” ونص القانون على: “أن كل من هتك عرض صبى أو صبية لم يبلغ سن كل فيهما 18 سنة كاملة بغير قوة أو التهديد يعاقب بالحبس ثلاث سنوات“.

لا يوجد في القانون عقوبة ضد التحرش الجنسي

وهذا يعني أنه إذا من أحد جسد فتاة في الشارع أو في المواصلات العامة فإنه يعاقب بالحبس ثلاث سنوات، ومن حقها أن تتقدم ببلاغ ضده، وقد تصل العقوبة إلى عشر سنوات في حالة وجود شهود، ولا توجد في القانون المصري جريمة اسمها التحرش. وتسمى هذه الجرائم بهتك العرض وخدش الحياء، وهي الفعل الذي لا يصل لمستوى الاغتصاب، وهو الفعل الذي إن حدث في وضح النهار وفي الطريق العام وهذا ما حدث في العيد فهو في هذه الحالة يعتبر ظرفًا مشددًا قد تصل عقوبته في بعض الحالات إلى 15 سنة سجن مع الأشغال الشاقة

كما نص القانون على الآتي: “يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة وبغرامة لا تقل عن مائتي جنيه ولا تزيد على 1000 جنيه أو إحدى هاتين العقوبتين كل من تعرض لأنثى على وجه بخدش حياءها بالقول أو بالفعل في طريق عام أو مكان مطروق

في القانون ١٣ مادة تجرم هتك العرض

كما ينص القانون على أن كل من هتك عرض بالقوة أو التهديد أو أي شروع في ذلك يعاقب بالأشغال الشاقة من ثلاثة إلى سبع سنواتونذكر أيضًا أن الاعتداء باللفظ كالمعاكسات يعاقب عليها القانون بالسجن لمدة 6 شهور، بينما المعاكسات التليفونية التي تسبب خدش الحياء فإنه يعاقب عليها قانون العقوبات هتك العرض في الطريق العام لأن المشرع أشار إلى أن خدش الحياء يكون بالفعل أو بالإقدام عليه.

ولن ندفن أحياء في بيوتنا، ولا تحت خيمة سوداء

إذن، القانون الذي يحمينا موجود وليس علينا إلا الاحتماء به، والاحتماء بأنفسنا ضد كل الدعاوى الرجعية التي تحاول أن ترسخ في المجتمع أن الستاتمن سبب الكوارث كلها، علينا أن نؤكد أننا قادرات على الفعل والحركة، وأننا لن نترك الشارع ولن نقبل أن نوصف بأننا لحم سائب، وأيضًا لن نقبل وصف الرجال بأنهم قطط، ومعًا سنرفض اختصارنا في قطعة لحم عارية وإهانتهم بوصفهم قططًا جائعة يسيل لعابها على قطعة لحم تراها. ولن نسمح بوضعنا في سجن الحريم ولا وضع الرجال في سجن غرائزهم، فنحن أرقى مما يتصور دعاة التطرف وسارقو حقنا في الحياة.

لن نقبل سجن الرجال في غرائزهم

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات