إطلالة على ثورة 25 يناير
صباح حقيقي
ودرس جديد في الرفض
من جمعة الغضب إلى جمعة الرحيل ..
شعب أراد الحياة
“صباح حقيقى ودرس جديد قوى فى الرفض أتارى للشمس صوت وأتارى للأرض نبض تاني معاكم .. رجعنا نحب كلمة مصر تاني معاكم .. رجعنا نحب ضحكة بعض ..” كلمات عبد الرحمن الأبنودى صاحب قصيدة “الميدان” والتي أهداها إلى شباب الميدان الأشهر في العالم الآن “ميدان التحرير“، الذي شهد ملامح إصرار شعب على الحياة كرنفال التظاهر من قلب مصر، الخروج الأهم منذ مئات السنين, تسجيل المصريين لرفضهم… “ثورة شعب” سرقت منه صورة محبوبته الوحيدة فخرج لاستعادتها، نرصد وقائع تلك الثورة والتي تحتاج لرصدها عشرات الصفحات، نطل “إطلالة” بسيطة على أحداث مهمة هزت العالم.
أنا ” واحدة – واحد “ومن الناس اللى نزلت التحرير واتظاهرت وحنزل ثانى وتالت لغاية ما أجيب حقي… ” أصبحت هذه هى الجمل السائدة في الشارع المصرى منذ يوم ٢٥ يناير وحتى جمعة النصر – كما أطلق عليها المصريون. هؤلاء من اعتادوا على إبهار العالم جاءت ثورتهم أيضًا مُبهرة، فهم حددوا ميعاد الثورة وساعتها وجهزوا لها لمدة أسبوع كامل في شكل دعوات “فيسبوكية” من خلال “event” على صفحة “كلنا خالد سعيد“، دعوات جعلت البعض يسخر مردداً “هو في حد بيقرر يعمل ثورة يوم معين وتنجح ؟ ، ولكن القدر أراد الحياة، خرج عشرات المئات بل تحولت إلى الآلاف من المتظاهرين في شوارع القاهرة والمحافظات المصرية للمطالبة بإسقاط النظام في مظاهرة سلمية صدق عليها علم مصر الذى رفعه المصريون في أول خروج شعبى كبير لم يتوقعه حتى المشاركون فيه، علت أصوات الهتافات من الشوارع المصرية, والأماكن الشعبية التي خرج منها العشرات في تجمعات طالبت بالعدل والحرية والكرامة الوطنية.
الثلاثاء شرارة الثورة
انطلقت الشرارة في صباح يوم الثلاثاء ٢٥ يناير, خلت الشوارع في البداية من المارة، خاصة أنه يوم عطلة رسمية لتزامنه مع احتفالات الشرطة بعيدها، ولكن مالبث أن جاءت الثانية عشرة ظهراً لتخرج جماعات من البشر في كل مكان في مظاهرات يحيطها الأمن المركزي، والذي اتضح فيما بعد ارتباكه لعدم توقعه خروج هذه الأعداد، خاصة أن مصر شهدت موجة من الاحتجاجات لم يكن يتجاوز تعدادها المئات. ولكن “اليوم ليس أشبه بالبارحة“، جاء يوم الثلاثاء ليكن شرارة ثورة عظيمة يسجلها التاريخ للمصريين.. ولأننا كنا داخل المشهد منذ بدايته رأيناه بوضوح. أخبار تتلاحق عن مظاهرات المحافظات, ومصادمات الأمن بدأت مبكرًا في مع محافظة “السويس” التي قدمت أول شهداء الثورة، ثم في “الإسكندرية“, وفى أسوان، وينفتح الجرح والوجع في سيناء ومع توارد الأخبار عن وقوع شهداء وجرحى في المحافظات تشتعل القاهرة بالغضب، فجاءت منطقة “وسط البلد” الركيزة الأولى للمظاهرات حيث تجمع المئات أمام دار القضاء العالى وتنطلق المسيرات إلى ميدان التحرير, ثم عبد المنعم رياض، ثم بولاق أبو العلا ، مروراً بشارع رمسيس وصولاً إلى شارع شبرا للالتقاء هناك بمظاهرة كبرى, حيث قبلها بأيام كانت مظاهرة في شبرا تندد بجريمة كنيسة القديسين بالإسكندرية وتعامل معها الأمن بشراسة واعتقل عدداً كبيراً من المشاركين فيها. ويصل العدد إلى عشرات الآلاف في محيطات متقاربة يتم الإخبار عنها عبر الهاتف بين المشاركين من داخل ميدان التحرير حتى المهندسين، وأمام جامعة القاهرة وفي شارع قصر العينى وشبرا الخيمة ويتم الاتفاق بينها على الاتجاه إلى میدان التحرير “الميدان الذي فتن الخلق وسحرهم” ، وكانت اللافتات المرفوعة تحمل الحلم الذي انتظره الشعب المصرى طويلاً “تغيير, حرية, عدالة اجتماعية” ، ولأن الحق لن يسلم به النظام القائم فقد رفع المتظاهرون شعار “الشعب يريد إسقاط النظام“، وكان الهتاف واللافتات سلاح المتظاهرين، ولكن هناك أسلحة أخرى
دخلت المشهد عُنوة أو غصبًا هي أسلحة تخص وزارة الداخلية، تمثلت في القمع بكل الطرق والوسائل خاصة بعد مرور ساعات على المظاهرات، وهى تزيد ولا تهدأ ، بدأ الأمن فى استخدام العنف من خلال القنابل المسيلة للدموع والضرب بالهراوات والعصى المكهربة مما أسفر عن عشرات المصابين، ثم صعَّدت الداخلية الموقف بالضرب بالرصاص المطاطى والرصاص الحي.
ولأن له من اسمه نصيبًا كبيرًا منذ أن حدثه أمل دنقل وأطلق عليه “الكعكة الحجرية” في قصيدته العبقرية التي كتبها فى عام ۱۹۷۲ لثوار وشباب تلك المرحلة, الذين انتفضوا مطالبين بتحرير الأرض، كان لميدان التحرير الدور الأهم فى تصاعد الثورة, لأن المظاهرات التي اندلعت في شوارع القاهرة يوم ٢٥ يناير صبت جميعها داخله فجاء المساء ليشعل الميدان بعشرات الآلاف من المتظاهرين. فما كان من الأمن إلا إخلاؤه بالقوة المفرطة فجر الأربعاء من خلال ٣ آلاف فرد من قوات مكافحة الشغب و ۱۰ آلاف جندی ضربوا المتظاهرين وأصابوا العشرات وقتلوا عددًا ، آخر، وحتى الآن لم يعلن عن الرقم الحقيقى للشهداء والمصابين. فكانت حصيلة الثلاثاء سقوط أول شهداء ثورة ٢٥ يناير وسقوط أعداد كبيرة من المصابين وكانت حرب الشوارع داخل الميدان وفي داخل شوارع عابدين في منطقة الإسعاف، وفى شوارع وسط البلد ليأتي التحدى ويقرر الجميع العودة بالقوة إلى ميدان التحرير يوم الجمعة التالي الذي أسموه “جمعة الغضب“، وبدأت أيضًا دعوات الفيسبوك للخروج عقب صلاة الجمعة والتجمع في أكبر ميادين مصر.
ميدان التحرير
جمعة الغضب
جاءت “جمعة الغضب” ليكتمل مخاض ثورة حقيقية، حيث احتشد داخل المساجد وخارجها أعداد غفيرة من المصريين, ومع كثافة أمنية في الشوارع وتحذير الداخلية صباح يوم الجمعة بأنها لن تسمح بمظاهرات, وقطعت خدمات التليفون المحمول والنت من السادسة صباحًا. ويصر الثوار علي مواصلة الثورة. وينطلقون بعد الصلاة بهتافات وشعارات كانت هي السلاح الوحيد لهم, استخدموها لفك قيود الصمت التي حاصرتهم لعشرات السنين ليقابلها عنف وضرب منذ الدقائق الأولى ومحاولات تفريقهم بكل الطرق، خرجوا بكل حماس هاتفين مش هانخاف مش هانطاطى إحنا كرهنا الصوت الواطي” لتصوب نحوهم القنابل المسيلة للدموع – منتهية الصلاحية – ذات الصناعة الأمريكية ولأن الثورة صناعة مصرية خالصة حملت معها صفات أصحابها من الإصرار والعزيمة بهتافاتهم “سلمية… سلمية” التي أدهشت العالم كله حتى أن الرئيس أوباما نطقها بالعربية في كلمته عن الثورة المصرية. ولا تتوقف الشرطة رغم شعار “سلمية.. سلمية” مما يدفع المتظاهرين للدفاع عن حقهم لتسجل عدسات المصورين هذه المشاهد, فنرى أحد الشباب المشارك يقف بكل شجاعة أمام صفوف الأمن المركزى لا يخشى شيئا، وآخر يقف أمام سيارة الأمن وهى ترش المياه، وأخريات من البنات يرفعن لافتات بمطالب الشعب في وجوه الضباط، ومع عظمة المشهد ظل يوم الجمعة يحمل معه “إشارات القدر” بثورة عظيمة، فبعض الشباب صعد سلالم العمارات ليدق أجراس المنازل مطالبًا المواطنين بالنزول إلى الشارع ومشاركتهم في طلب إسقاط النظام، مرددين “اهتف اهتف على الصوت .. اللى هايهتف مش هايموت“. “ثورة ثورة حتى النصر.. ثورة في كل شوارع مصر” أخذت ملامح اليوم تكتمل بمشاركة فئات المجتمع كافة من سيدات ورجال وشباب وبنات وأولاد وحتى أطفال, ملحمه تحت راية لها ثلاثة ألوان أبيض وأسود وأحمر يتوسطها نسر ظل مراقباً للأحداث، والتي انتهت يومها بانسحاب الشرطة المصرية الساعة الخامسة والنصف عصراً بعد معارك شوارع استمرت لمدة ٤ ساعات ونصف تميزت جميعها “بالكر والفر” وقتل المتظاهرين وإصابات بالعشرات منهم يبعد مسيرات ومظاهرات حاشدة شملت معظم أنحاء الجمهورية, التي شهدت ما عرفناه بانسحاب الأمن ليعلن بعدها الرئيس السابق فرض حظر التجوال في أنحاء البلاد كافة من السادسة مساء وحتى السابعة صباحًا وإصدر أمراً للقوات المسلحة للمشاركة في حفظ الأمن مع الشرطة، رغم ذلك انسحبت الشرطة لتفرض سيناريو الفوضى على الشارع المصرى وتخرج المساجين من السجون والأقسام وتطلقهم على المواطنين.. ليذهب الجميع إلى ميدان التحرير ويظل اعتصامهم حتى تنحى مبارك في 11 فبراير، أي بعد ١٥ يومًا من اعتصامهم حمل فى كل لحظة أملاً في تنحيه مع كل خطاب يوجهه إلى الشعب. وخلال هذه الأيام جاءت مؤامرة “البلطجية” مؤيدي مبارك والتى جاءت بتنظيم من فلول الحزب الوطنى لمحاولة إخلاء ميدان التحرير في أكثر من يوم، خاصة يوم ٢ فبراير والذى أطلق عليه “موقعة الجمل“. وهى القضية التى يحاكم فيها الآن رموز من الحزب الوطنى بصفتهم محرضين على ارتكاب الجريمة، حيث دخل البلطجية بالجمال والخيول أسلحة بيضاء لضرب المعتصمين داخل الميدان فأصابوا الكثيرين حتى أن بعض أطباء المستشفى الميداني داخله أكدوا أن الإصابات جاءت قطعية بأنحاء الجسم تصل إلى عشرين غرزة من استخدام البلطجية للسيوف أثناء الهجوم، ثم الهجوم بالحجارة والذي أدى للعديد من إصابات العين، ومع اتهام المعتصمين داخل الميدان “بالعمالة” وبأن لهم أجندات سياسية ما كان منهم إلا الإصرار على مطالبهم برحيل مبارك وإسقاط النظام. في السادسة تقريبًا يوم الجمعة 11 فبراير بظهور اللواء عمر سليمان وإعلانه تخلى مبارك عن السلطة ونقلها للجيش فكان الانتصار الأول لثورة شعبية وصفها رؤساء العالم “بالأعظم” وطلبوا تدريسها في مناهج أبنائهم.