أنا جسدي
كتابة:
سأحاول أن أرى، هنا، غير الحروف، عبر ما لن يتأكد لي صحته، هل لي أن أنظر داخلي – كذبا – أو خارجي – تصويبًا – واتاكد من فراغٍ فرويدي صائب، مُتكتسّب ؟ هل لي أن أستعيد الإحساس السليم للسؤال عن ماهية جسدي – أنا، وليس حول ماهية الجسد؟ ها هنا أنا امرأة, أنظر إلى الضائع مني. أعرِافُه ليعرفني, سأجاوره لانقضَّ عليه، نعم وبقوة، لأن التاريخ، بمعنى التواجد في سيرورة التاريخ، وليس التاريخ الزائف، هو ما يجعلني متأكدة.
من هنا، عالجتُ جسدي، بطريقة فذَّة. طريقة تخصُّني تخصُّ جسدي، تعالوا، أريكم، ما الذي يمكن أن أدوّنه.
هل نتلامس ؟
أريدُ التساؤل، مع شخص، لن يُقدم معلومة. أبحثُ عن تواصلٍ حميمي. عن رحلة، صُحبة جسدي. معها وبها. عن الهرب، من التاريخ (بالحرف الكبير )، نحو جسدي. عن البركة معها.
عن التوهج..
في طريق ما، بطريقة ما, كان أن التقيتُ جسدي….. على هذا النحو من الجاز.. كان الدقُّ. والدقُّ المتزايد، قد امتحن جسدي. وجدتني أرقص. وجدتني أنظر إليّ أنا. من أنا؟ هنا، يبدأ التأكيد العبثي. كيف لي أن أضمن ملامسةً نقيةً لجسدي ؟ لن. يا للحظ. لكن هنالك ممرات أُخر. دروب متلوّنة, تبقى هي الضامن الأوحد لهذه البركة. وأعني هنا، إصدار همهمات, عُواءات قصيرة. من مواقع مختلفة في تاريخ جسدي. ما يشبه تاريخ قطاعات مُستعرضة عديدة. حينها فقط يُمكنني أن أكتب اسم جسدي بالحرف الكبير الجسد ؛ لأن الأنا هنا، هي أنا المرأة، بعد أن كتبت تاريخها الإثباتي كذات تعبيريّة، كتجميع.
منذ تلكُم السنوات – هل تتذكرني جسدي؟ – تعلمُ أنها كانت معركة. كانت المعارك التي خضتها، من أجلك. هنا سأتوقف لتأنيث الجسد. الجسد الذكوري اللغوي، ملغيٌ هنا. منذ هذه اللحظة الجسدية. صارت الجسد أنثى. وقد كانت منذها مخاوفي مصدرها جسدي. كثيرة هي المعارك التي خصتها من أجلها. ولكن.ها هي معركة أخافها. صديقتي الجميلة الشابة، والتي عانت فجأة من شلل رباعي، أصاب العائلة والأصدقاء بالحزن. لكن ما أصابني لدى رؤيتها لم يكن مجرد الحزن فقط، جزعتُ، تخيلت أنها أنا. ولو أُتيحت لي, وأنا مشلولة تمامًا، مقيدةٌ بذلك السرير البارد، القاسي، لو أُتيحت لي فرصة أن أقول كلمة واحدة، لقلت “اقتلوني” مفزعٌ أن تُجبر على مشاهدة موتك كل لحظة. لا تقدر على الصراخ طلبًا للرحمة، أو أن ترفع يدك لتُشير إلى ما تريد. لم يبارحتن هذا الخوف يومًا. أنا عاشقةُ السرعة, اللامبالية. المُحبَّة للمغامرة، قيَّدتُ كل ذلك على حافة خوفي من فقدان جسدي. لم يخفني الموت يومًا, ولكن أن أحياه! أرجوكم !!
لن نخسر سوى أغلالنا…….
في ثنائية “رجل / مرأة,” المُتخيلة والأزلية، أخذت المرأة المرتبة الأدنى دومًا. ومثل الجسد، كانت الأضعف. ما واجهته النساء في مسيرتهن الطويلة نحو التحرر، والانعتاق, من الأدوار الاجتماعية، التي تضعهن في موضع التابع، والناقص، هي بحق وحقيقة، تاريخ الجنس البشري. فقد واجهت أجسادهن العنف المادي والرمزي, ومصادرة الحريات, الوصاية، وأساليب العقاب, الأعراف والتقاليد, الدين والمشدات, الأجساد ضُغِطت وضُبٍطت وسُترت, حينًا بدعوى الجمال, وحينًا آخر بدعوى الأخلاق. لُفَّ الخصرُ ليصبح أكثر دقة، وألبسن أحذية خشبية لأقدامٍ أصغر، ولُفَّت الأعناق لتصبح أطول. وأعيدت هندسة (مناطق العفة). ثم تطور العلم، فاستعضنا عن تعب سنوات طويلة في نحت الأجساد ببضعة ساعات في عيادات التجميل, وبعض وخزات حقن البوتوكس. وجاؤوا باسم الدين، وطالبونا بالاحتشام. والضرورته وجلالته تم نص القوانين, وأُقيمت ونُصبت المحاكم، وجاؤوا بالسياط والجلادين.
احتلَّ موضوع جسد المرأة حيزًا كبيرًا في المجتمعات الدينية والمحافظة. ولكن بالبؤس الحيز! إذ تم النظر إليها كأنها عورة وعيب، يجب سترها وتغطيتها، بل المراقبة الصارمة لكل حركاتها، من طريقة الجلوس والتحرك والوقوف والاستلقاء، إلى الكلام ونظرة العين وحركات الأصابع. من هنا، قام كل مجتمع بوضع مجموع ضوابطه للجسد، بل المبالغة في حملهن (الأجساد ) على المحافظة عليها (الضوابط)؛ فألغت هذه المجتمعات الكثير من الحريات الطبيعية، وضيفت على أخرى. حتى وصلت مرحلة أن قنَّنت العنف تجاه المرأة، بمحاكمها التي تفرض على النساء الانضباط عبر تقنيني: (الأمر ) لبس الطرحة، أو الملابس الفضفاضة, و / أو (المنع) ارتداء البنطلون. أما المخالفات فتعاقبهن بالجلد, أي بالوسم على الجسد. الجلد هو العقوبة الأكثر امتهانًا للإنسانية أبدًا. وفي النهاية تقوم بتحويلها إلى مجرد جسد، مُغطى، مُراقب، مُخبأ، بدعوى الدين والأخلاق. جسد خائف، غیر حرّ، خانع، مفعولٌ به اجتماعيًا كامل الشفقة.
أن نعيش الرعب من العقاب، سواء العقاب القانوني أم الأسري, من الختان وتشريع زواج القاصرات, من التحرش ولوم الضحية، من نظرات وسياط المجتمع – الغول – في كل حركة جسد نأتيها، كل ذلك يندرج تحت مسمى يجعلنا نكره تلك الجسد، أو، على أقل تقدير, نفقد حميميةً، وحبًا، مطلوبين بين الذات. والجسد.
أنتجت كل تلك القيود جسدًا مكبَّلة، غير حرَّة. في تعاطيها مع المجتمع، بالضرورة، وحتى في تعاطيها مع الذات، في النظر إليها كشيء غامض، بعيدة, لاتستدعي سوى الخجل فتصبح علاقتنا بالمناطق الجنسية في أجسادنا علاقة تقوم على الرعب. مجرد التفكير فيها يجعلنا نحس باللاطهرانية، بثقل كل النواهي والمحاذير التربوية، بوعيد العقاب الدنيوي والأخروي.
حُبس العقل داخل الجسد، وحبست الجسد داخل الخوف والخنوع. لذا علينا ابتداع مفاهيمنا الخاصة، طرق هربنا الأكثر فردية وفرادة، ألانترك الصراع دون أن نقاوم. أن نناضل، أن نتحصن، وأن نملك القدرة والاقتدار على مواجهة جميع أشكال القمع، وذلك لن يتم سوى بإدراكنا العميق لأجسادنا، والالتقاء بها، وبالتالي النظر إليها بعين المحبة، وإعلائها..
أجسادنا أرضٌ داخل الأرض، قبيلة القبائل, تجميعة تمتلك خطاباتها السياسية والاجتماعية. مُنتج ثوري ومقاوم. ولو شئنا الدقة سنقول مع سبينوزا أنها خريطة تُفهم فقط بعبارات خطوط الطول وخطوط العرض..
“إن الجسد السليم، يتكلم بكل إخلاصٍ وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم، وليس بيانه إلا إفصاحًا، عن معنى الأرض. ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل. إن ما يجب أن أؤمن به يجب أن يكون راقصًا.” (نيتشة)
الرقص, فعل مقاومة
في دراسة للأمم المتحدة, وجد أن واحدة من كل ثلاث نساء, ستتعرض للضرب والاغتصاب أثناء حياتها. وفي حملتها لوقف العنف ضد المرأة، قامت منظمة V-Day بالدعوة لحملة (One Billion Rising)1. وهي أكبر عمل جماعي لإنهاء العنف ضد المرأة في التاريخ البشري. بدأت الحملة، التي أطلقت في عيد الحب ٢٠١٢م. على أنها دعوة للعمل على أساس إحصاءات, تبعث على الذهول، بأن ١ من كل ۳ نساء على هذا الكوكب سوف تتعرض للضرب أو الاغتصاب خلال حياتها. ومع عدد سكان العالم البالغ ٧ مليارات، فإن المحصلة تصل إلى أكثر من مليار من النساء والفتيات في ١٤ فبراير ۲۰۱۳م، جاء الناس من جميع أنحاء العالم للتعبير معًا عن الغضب، والإضراب، والرقص، والاحتجاج لتحدي الظلم الذي تعانيه النساء، والمطالبة بإنهاء العنف ضد المرأة في ١٤ فبراير عام ٢٠١٤م. ركزت الحملة على قضية العدالة لجميع الناجين من العنف الجنسي، وسلطت الضوء على الإفلات من العقاب، الذي يحيا عند تقاطع الفقر والعنصرية والحرب. ونهب البيئة, والرأسمالية، والإمبريالية، والنظام الأبوي. في السنة الثالثة من هذه الحملة، اختار منسقو الحملة موضوعة “الثورة” كتصعيد للطلب على العدالة. وللبناء على الجهود الهائلة للمجتمعات في جميع أنحاء العالم، والتي ركزت على جذور وأسباب العنف، كجزء من دعوتهم للعدالة في ١٤ فبراير ٢٠١٥م. تقريبًا، تجمع ملايين النشطاء في أكثر من ٢٠٠ دولة في مدٍ ثوري. لتغيير النموذج، والمطالبة بالمساءلة والعدالة والتغيير المنهجي. نحن نثور من أجل إظهار أننا مصممون على خلق نوع جديد من الوعي، حيث سيُقاوم العنف, حتى يصير غير وارد, في صفحة العالم. في عام ٢٠١٦م، لا يزال موضوع الثورة حيًا؛ مع الدعوة للتركيز على النساء المُهمشات, وتسليط الضوء على قضاياهن. محليًا وعالميًا؛ لإدخال طاقة فنية جديدة؛ لتضخيم الثورة، على أنها دعوة لتغيير النظام، وإنهاء العنف ضد النساء والفتيات. لندعو الناس إلى الثورة من أجل الآخرين، وليس فقط لأنفسنا.
في ١٤ فبراير ٢٠١٣م, أقيمت الفعالية في أكثر من ۱۹۰ دولة، من ضمنها السودان. السودان الذي ينص قانونه الجنائي للعام 1991م على الرجم في حالة الزنا، والإعدام في حالة اللواط، لكنه يعتبر الاغتصاب زنا دون رضا المجني عليها وفي حال تقدمت المجني عليها بفتح بلاغ, يعتبرها القانون أقرت على نفسها, وتُدان وقتها بالزنا، أما المُغتصب، فدائمًا ما ييرأ لعدم وجود نصاب الشهادة.
السودان الذي يعتبر ارتداء البنطلون فعلاً فاضحًا ومخلاً بالآداب العامة، كما يُسبب مضايقة للشعور العام. السودان الذي ارتفعت نسبة ختان الإناث فيه لنسبة ٨٦% في العام 2015م. السودان الذي تسمح قوانينه بزواج القاصرات بدءًا من سن العاشرة.
استُضيقت الفعالية من قبل مركز سالمة لدراسات المرأة وجهات أخرى، وأقيمت في جامعة الأحفاد للبنات، وفيها عبرت الفتيات عن مقاومتهن هذه بإسلوب فريد: الرقص.
داست الأقدام الراقصة على تاريخ طويل من البؤس، دُسنْ على الخوف، قلة الحيلة، لمسات المُتحرشين, التمييز, على “لأنك بنت” التي تتبع كل أمر منع واقتصاص من الحياة. دُسن على الهزائم, وانتصرت الأجساد، بكل قوةٍ، بكلّ مرحٍ، بكل سخرية. وبيقين كامل. أؤمن أن القوة التي امتلكتها في تلك الدقائق لها قدرة الدوام أبدًا, فقد أهديّنها لحيواتهن، للقادمات. لي، للكون.
يُمكننا محاولة تحرير الجسد عن طريق الوعي، عن طريق التمرُّد الفكري؛ أن نجلس لأيام وسنوات نفكر عن ماهية أجسادنا، وابتداع طرق للمقاومة. مُقصين الجسد نفسها. لكن ما يجب فعله حقًا، ما يأخذ اسم العمل وسمته، هو جعل الجسد وسيلة مقاومتنا الأولى. ادفعوا بالجسد إلى أقصى حدودها وطاقاتها, أشركوا الجميع، الأقدام، الأيدى، الأعين، الآذان، الصدور والأفخاذ ارقصوا، دوروا، أقفزوا. دعوها تتخطى كل تلك الحواجز الوهمية. دعوها تريل كل لا وعيبٍ التصق بها. فإن كانت كل تجربة عميقة تُصاغ بعبارات فيزيولوجية مثلما قال “سيوران“. أليست كل عبارة فيزيولوجية هي تجربة عميقة ؟
الرقصُ، خفة الجسد، حريتها، مرحها ومفجر طاقاتها. عرفت كل الثقافات الرقص، قدسته وحملته بالمعاني, بالصلوات, بالأساطير, بالحكم والفلسفات.
رقصوا للمطر, للصيد, للحصاد, لجميع طقوس التكريس والعبور، مثل البلوغ والزواج والميلاد وحتى الموت. جسد يا أنت قوتك، أنا – ك الفريدة، ولترقص يا جسدي, فالرقص هو التخفف من كل الأحمال؛ لحظاتٌ من الانخطاف الروحي تحررك، تُعيد تعريف القوة, المقاومة، المرح، الخفة، تُعيد تعريف الحياة. كان يمكن أن افتتح بتسمية هذا المكتوب: أنا جسدي .. أنا امرأة؛ لكن أليست جسدي وامرأة لهن نفس التوقيع: ” أنا جسدي.”
1- One Billion Rising Campaign- http://www.onebillionrising.org/