في إطار مشروع إعادة قراءة التاريخ العربي من وجهة نظر المرأة يعقد ملتقى المرأة والذاكرة في أوائل شهر مارس/ آذار ۱۹۹۸ حلقة عمل بعنوان إعادة قراءة وكتابة الحكايات من وجهة نظر المرأة: تجارب أولية، وتتمثل النقاط الرئيسية لحلقة العمل فيما يلي: التعريف بمناهج بحث القصص الشعبي العربي ورصد دور المرأة فيه، والتعريف بمفهوم إعادة قراءة الحكايات من وجهة نظر المرأة، وتحليل نماذج من الحكايات المصرية والعربية وتجربة إعادة كتابتها من وجهة نظر المرأة. وتسعى الحلقة إلى الخروج بصيغ جديدة لبعض النصوص المتاحة، ودراسة إمكانية التوسع فيها ونشرها.
وفيما يلي محاولة لقراءة وإعادة كتابة “القصة الإطار” من ألف ليلة وليلة:
حكاية ملك شهريار وأخيه
في رواية أخرى لم تنشر من قبل
قد حكى والله أعلم بغيبه وأعز وأكرم وألطف وأرحم أن ملكًا من ملوك بني ساسان بجزائر الهند والصين في قديم الزمان وسالف العصر والأوان كان له ولدان الأكبر واسمه شهريار والثاني وكان اسمه شاه زمان وكان كلاهما فارسًا بطلاً وكان كل منهما يحكم مملكة عظيمة من الممالك التي اغتصبها واستعمرها أبوهما ولكنهما والعهدة على الراوي الأصيل كانت لهما روحتان خبيثتان خائنتان وكانت بالطبع صدمة عنيفة لهما عندما تأكدا بشكل قاطع من خيانة زوجتيهما ولكنهما سريعًا ما وجدا العزاء فى ازدواج الخيانة وراحا يواسيان بعضهما بما أن الأمر أصابهما هما الاثنين ولكن بعد حين فقد ذلك الاشتراك في الغم قدرته على تغذية الشفقة على أحوالهما ولم يعد يكفيهما أن يتبادلا كلمات الحسرة على هناء العيش الذى لا يكتمل. كما هداهما حديثهما المتصل عن الخيانة إلى نتيجة مؤداها أن خيانة زوجتيهما لا تعنى أن النساء جميعًا خائنات ولكنهما وعلى نفس غرار الطريقة الموضوعية العلمية في التفكير تشككا في قدرة أية امرأة على الوفاء أيما كانت الظروف. فهما مثال على الرجال اللذين اجتمعت لهم الدنيا وكل عطاياها، السلطان والمال والقوة والأصل النبيل وإن لم تكن تلك هى الأمور التي تقدرها النساء كل تقدير فما بال من لم يكن نصيبه منها سوى النذر والقليل ؟ فكان أن قررا الرحيل لتدارس أحوال النساء في باقي الأمصار والبلدان وأسعفهما القدر سريعًا بتجربة ما كانا يحلمان بها وما لبثا بعدها أن تأكدا تمامًا أن العيب كما توقعا سلفًا إنما هو في جنس النساء الذى لا يؤمن شره وإن قيد وسلسل وحبس في قاع البحر.
كانا قد أدركهما التعب بعد ترحال يوم واحد فجلسا بجانب شاطئ البحر في ظل شجرة سامقة فإذا بالبحر يخرج منه عامود دخان رهيب يستوى بعده في هيئة جنى عظيم الجثة قدماه في البحر ورأسه في السماء فخافا وارتعدا وأسرعا بالصعود إلى أعلى الشجرة وراحا يراقبان الجنى الذى خرج من البحر وتمدد أسفل الشجرة وبعد قليل أخرج من جيبه صندوقًا فتحه فإذا بداخله عليه فتحها فخرجت منها فتاة يبدو على ملامحها التمرد والغضب وكانت مسلسلة اليدين والقدمين. أخذ الجنى يفك أغلالها ثم طلب منها أن تجلس ليريح رأسه في حجرها وأطاعت الفتاة وبعد قليل راح الجني يغط في نوم عميق فأزاحت الفتاة رأسه ولمحت فى حركتها الملكين شهريار وأخاه شاه زمان وأخذت تترجاهما أن يخلصاها من الجنى الذى كان قد اختطفها يوم عرسها ولكنهما راحا ينظران الواحد إلى الآخر فلما رأت ترددهما أخرجت لهما سلسلة رأيا فيها خمسمائة وسبعين خاتمًا وسألاها عن معنى إشارتها فقالت:
– هذا هو عدد الرجال الذين طالبوا بجسدي في سبيل مساعدتي.
– وأنلتيهم مرادهم؟ سألها شهريار في تهكم.
قالت الفتاة:
– لو صدقت ما ترويه على الحكايات
– وماذا تروى عنك الحكايات يا جميلة؟ قال شاه زمان
فردت الفتاة في حسرة:
تقول الحكاية إنى كنت أغافل الجنى وأراود كل من يمر بي عن نفسه وأهددهم أنهم لو لم يفعلوا معى الفاحشة أيقظت الجنى فكانوا يفعلون بعدها أطالبهم بخاتم أحتفظ به للذكرى.
– يبدو أن الحكاية لم تكذب، قال شهريار وعيناه تتفحصان جسدها النحيل.
فراحت الفتاة تتحسس فتحة ثوبها عند الرقبة لتتأكد أنه لا يبين شيئًا ثم أجابت في نبرة وقورة وان كان علق بها الأسى
– أنا لست في وضع يسمح بالدفاع عن نفسى ضد الحكاية فهي قديمة قدم الأزل وقد انتشرت على نحو يصعب معه تكذيبها بعد كل هذه السنين. ثم أضافت في كبرياء:
– ماذا قلتما؟ تنقذانى أرجع لأهلى وعشيرتى لو أنني حاولت الهرب وحدى كما حاولت من قبل سوف يلحق بي الجني في غمضة عين فليس لى فرس مثل فرسيكما هذين.
وأشارت إلى الحصانين الأصيلين الذين راحا يتمشيان على مهل بحذى الشاطئ ولما لم تجئها إجابة كاد ينقلب منها الأمل فقالت دون تفكير:
– ليس معي ذاد ولا أملك درهمًا ينفعني.
ولكنها فوجئت بالأخوين اللذين كانا يرتعدان من لحظة وقد أخذا يتغامزان ثم خلع كل واحد منهما خاتمه ورماه في اتجاهها وشرعا فى النزول من الشجرة وهما ما زالا يتلامزان ويتغامزان عليها وفهمت المسكينة مرادهما فراحت تؤتى بأصوات وحركات توقظ بها الجنى فجرى الملكان ووثبا على حصانيهما وأسرعا بالفرار.
بعد رحلة قصيرة وصلا مدينة تحيط بها الحقول من كل جانب وسألا فدلهما أهلها على الخان. ربطا الفرسين وحملا أمتعتهما وصعدا إلى غرفتيهما يزيلان عن جسديهما المتعبين عناء السفر. ولما استوفيا حقهما من الراحة نزلا الحانة وكان المساء قد حل وكان الرجال يتبارون في سرد الحكايا. كانت الخمر تلعب برأس شاه زمان وتأهل خياله للحكى فدخل عباب المباراة وبادر القوم بقوله:
أنا أحكى لكم حكاية لم تسمعوا مثلها قط ثم أنها ليست مثل الحكاية التي يختلقها أصحابها، بل هي حكاية صحيحة حدث كل ما سأرويه لكم بالحرف ويشهد على أخي هذا.
وأشار إلى شهريار الذى بدا عليه أنه لا يرى عضاضة في أن يحكى أخوه حكاية على جمع كهذا بما أن أحدًا من الموجودين لم يكن ليعرف صفتهما الحقيقية وإن كان وجل بعض الشيء من أن يحكى شاه زمان قصة خيانة زوجته له مع العبد، لكن خوفه سرعان ما تبدد عندما بدأ شاه زمان فی قص حكاية الفتاة والجني.
قال شاه زمان:
– وإذا بجني طويل القامة عريض المهامة واسع الصدر وعلى رأسه صندوق أخرج منه علبه ثم فتحها فخرجت منها صبية بقامة هيفاء كأنها شمس مضية كما قال الشاعر عطية :
أشرقت في الدجى فلاح النهار وأنارت من فوقها الأشجار
قال ذلك ونظر إلى أخيه متوجسًا من مقاطعته فقد كان شاه زمان يعلم أنه مبالغ بعض الشيء فالفتاة كما سبق كانت لها ملامح قوية كان هو ذاته قد علق عليها وهما يتغامران بأنها أشبه إلى غلام على وشك أن يفقد أنثوية ملامحه. ولما لم يعلق شهريار اطمأن شاه زمان وراح يكمل الحكاية قال:
– كانت فى منتهى الصراحة والوضوح، تقدمت منا وحكت لنا حكايتها مع العفريت الذى قالت إنه اختطفها فى ليلة عرسها وأنها تنتقم منه كل يوم عندما يغفو فتدعو أيا كان أن يضاجعها على قرب منه ثم تطلب من صاحب يومها خاتمًا تضمه إلى سلسلة أصبح لها منها ألف وخمسمائة خاتمًا حتى الآن.
ما أن فرغ شاه زمان من وصفه الدقيق لكل عضو من أعضاء المرأة ما خفي وما وضح وكيف أسكرها بعنفوات فحولته وكيف كانت تطلب المزيد وكيف رمى لها خاتمه بعد أن انتهى منها وكم حزنت وهي تضم الخاتم إلى سلسلتها حتى راح شهريار وقد بدأت الخمر تلعب برأسه هو الآخر يستشعر إحساسًا مكثفًا بأنه وقع أو كاد على جوهر فلسفة وأسس مبدأ يهديه في حياته ويبدل إحساسه يعبث هذه الحياة ويضفى عليها المعنى والجدوى فراح ينشد أبياتًا وضع في إلقائها كل حسه الجديد بالحكمة قال:
لا تأمنن على النساء ولا تثق بعهودهن
فرضاهن وسخطهن معلق بفروجهن
يروينودا كاذبًا والغدر حشو ثيابهن
بحديث يوسف فاعتبر ستجده بعض خدوعهن
أو ما ترى لأبيك آدم خروجه من أجلهن
وهنا علت أصوات القوم ” حق.. حق ” و“صحيح” و“أي والله“، فطاب له ذلك وامتلأت نفسه زهوًا ودفئًا. وكان بين الجمع رجل وقور تبدو عليه المهابة والحنكة يهز رأسه مصدقًا بين الحين والآخر فالتفت إليه أحدهم وسأله:
– ما رأيك؟
قال الرجل وكان تاجرًا تبدو عليه إمارات الثراء:
– رأيي مثلما جاء في حكاية الكلب والديك مع صاحبهما وزوجته.
فرد نفر في صوت واحد:
– وما حكاية الكلب والديك؟
اعتدل التاجر في جلسته ونظر حوله يتأكد أن الكل يسمع له فشعر شاه زمان أن الجمع على وشك سماع حكاية أفضل من حكايته لكنه اضطر والظرف كما هو عليه أن يصغر هو الآخر لقوة حضور التاجر ونظر إلى أخيه فوجده شارد الذهن فراح يصغى بلا اهتمام كبير.
بدأ الرجل كلامه فى نبرة ممتلئة واثقة وراح يروى قصة قال أنه حضرها في كل تفاصيلها ولم يتبادر إلى ذهن أحد من الحضور أنها قد تكون قصته هو ذاته إلا لشهريار الذى كان لا يرى إلا ما هو شخصی ذاتى فكان لا يستطيع تصور حكاية تدور إلا عن الراوى نفسه، لكنه أصغى على أي حال لعله يجد في كلام الرجل ما يؤكد له مرة أخرى قناعته بفساد جنس النساء في أي ظرف كان. إلا أن بداية الحكاية فاتته لأنه لاحظ أن الساقية التي كانت تقوم على خدمتهم دقيقة القد وبها استدارات بديعة كما أن وجهها كان لطيفًا ينبئ بسهولة القياد. لما أفاق من أحلام يقظته كان الشيخ قد أنهى حكايته وبدأ الجمع يفترق، وكان أخوه بجانبه يثرثر. كان ذهن شهریار ما زال شاردًا فلم يسمع من كلام أخيه سوى جملة واحدة:
“أرأيت يا أخى لسنا وحدنا في هذه المصيبة، لا تدرى امرأة ما العفة حتى عندما تنتفى السبل للرذيلة” فلما بدا لشهريار أن أخاه انتهى من الكلام هب واقفًا وقد عقد عزمه:
“سوف أقتلهن جميعًا وابتر الدنس الذى يشعنه فى العالم، سوف أخلص الدنيا من دنسها“.
كانت الساقية تروح وتجيىء بين الطاولات تزيل القوارير الفارغة والكؤوس التي تركها بعضهم على الأرض تشف ما انسكب على المناضد وتعيد الكراسي الى أماكنها عندما اعترضها شهریار في طريقة إلى خارج الحانة وبادرها:
– هه ما قولك ؟ ثم أتى بإشارة من يديه تنبئ بمقصده.
ابتسمت الساقية ابتسامة متعبة وقالت:
ليس لدى وقت لمثل هذا.
فمضى شهريار يتبعه شاه زمان وهما يتلمسان الطريق إلى غرفتيهما