كيف أصبحنا
إذا عدنا أدراجنا على متن الذاكرة لنتتبع الخطوات التى أدت بنا جميعًا إلى الاعتقاد بأن قراءة التاريخ بصفة عامة تحمل فى طياتها الأمل فى إجابات لأسئلة راودتنا خلال اشتغالنا بأمور تبدو بعيدة عن قضية التاريخ (مثل تدريس الأدب الإنجليزى أو الترجمة أو كتابة القصة أو دراسة العلوم الاجتماعية) ندرك الآن حتمية اهتماماتنا البحثية الحالية وهمومنا المشتركة. وحتى يصبح الأمر على نفس القدر من الوضوح بالنسبة لقرائنا كما هو بالنسبة لنا رأينا أن نحاول الإجابة على هذا السؤال: كيف انتهت بنا تخصصاتنا هذه التي اخترناها بداية إلى اجتماعنا على قراءة التاريخ؟
كتبت هدى الصدة رسالة الدكتوراه عن الشعراء الإنجليز في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو موضوع اختارته بسبب اهتمامها بالعلاقة بين الذات والآخر. فلقد أتاحت لها دراسة الأدب تملك أدوات تحليل الخطابات الأدبية والثقافية والسياسية والالتفات إلى التصورات التى تنتجها كل ثقافة عن الثقافات الأخرى. وفي هذا السياق، تبلور اهتمامها بالعلاقة الجدلية بين الخطابات السائدة والأخرى المهمشة مما أدى بها في النهاية إلى التركيز على كتابات النساء العربيات من واقع علاقتهن بالخطابات الثقافية السائدة. وفى ۱۹۹۱ بدأت هدى بالاشتراك مع الروائية المصرية سلوى بكر، في إصدار سلسلة من الكتب تختص بقضايا المرأة تحت عنوان هاجر مما أتاح لها فرصة الاتصال بمجموعات أخرى من النساء المهتمات بالقضايا الثقافية. وفی ۱۹۹۳ انضمت إلى مجموعة عمل عكفت على مشروع الإعداد لنموذج جديد من وثيقة الزواج المتداولة. وفي كل مرة كان يتم فيها تحليل الاستفتاءات واللقاءات مع الناس بشأن هذا التغيير المقترح، كانت تتضح أكثر المفاهيم الخاطئة الشائعة جدًا عن أن هذه التعديلات دخيلة على الثقافة والتراث، رغم أن التاريخ قد سجل تطور الوثيقة المطرد في شكل إضافات وتعديلات فى القرون السابقة حتى تم تجميدها على الشكل الحالي مع بداية هذا القرن فقط. وهنا خاضت هدى تجربة عملية أكدت لها أن كثيرًا من المشروعات والقضايا الخاصة بحقوق النساء غالبًا ما تصطدم بمفاهيم وموروثات ثقافية يجرى التعامل معها على أنها غير قابلة للنقاش أو التعديل. وهكذا، إذا أمكن التأصيل التاريخي لهذه المفاهيم والمواقف الرافضة للتغيير ومراجعتها والبحث في تاريخ وبدايات المفاهيم والأنماط الثقافية السائدة وإعادة قراءة وفهم التاريخ العربي، قد نتوصل إلى تكوين صورة مختلفة للوقت الراهن وإلى إيجاد مساحة أكبر تسمح بالتطور. وكانت النتيجة تبلور فكرة في ذهنها: حلقة تضم عددًا من الباحثات في تخصصات مختلفة للعمل سويًا حول موضوع قراءة التاريخ الثقافى من وجهه نظر المرأة بهدف تشكيل خطاب ثقافي بديل بخصوص مكانة ودور المرأة في المجتمع. نشر لهدى العديد من الدراسات المقارنة وهي تعتز خاصة بالأبحاث المتعلقة بالتاريخ والتصورات الثقافية وسير النساء في بداية القرن العشرين والعلاقة بين السياسة والترجمة. هدى أستاذة مساعدة في كلية الآداب بجامعة القاهرة.
تلقت سمية رمضان تعليمها في أيرلنده حيث حصلت على الدكتوراه من كلية “ترينيتي” في دبلن حول الرواية الأيرلندية في القرن التاسع عشر. وقد دعتها تجربة أيرلنده الفريدة بوصفها المجتمع الأوروبي الأوحد الذي عانى من الاستعمار البريطانى ولم يتحرر من نيره جزئيًا إلا عام ۱۹۲۲ (وهو ما ترتب عليه محنة المجتمع الأيرلندي في بحثه عن هوية ثقافية مستقلة عن بريطانيا) إلى الوعى بأوجه المقارنة وأوجه المفارقة بين خطاب الاستقلال الثقافي الأيرلندى ونظيره المصرى. إلا أنها لاحظت أن تشابه واختلاف التوجهات في هذا الخطاب بين المجتمعين المصرى والأيرلندى يحمل أبعادًا تجعل الأيرلندي ينظر إلى التجربة المصرية بقدر من التعالى الإمبريالي على الرغم من معاناته من نفس المستعمر وربما كانت نقطة التقاء وجهتي النظر هي نظرة الاثنين للمرأة الشرقية. ومن هنا بدأت سمية قراءة التاريخ المصرى على أمل التوصل إلى إدراك أعمق لموقفها، ثم بدأت تدرك أن الانقطاع الذى ينعكس في الخطاب الليبرالي بين مصر الحديثة ومصر “الأصيلة” ليس بالبساطة التــــــي تتبدى من خلال التفسير المطروح: مجتمع مظلم جهول فاجأته الحداثة عن طريق الجهود النبيلة للمستعمر التنويري. وعند تتبع الجذور التاريخية لهذه الفكرة وجدت نفسها غارقة في تحليل ونقد الخطاب الثقافي التاريخي حول موقع المرأة الذى يغلب موضوعه على كل مقالاتها، بما أن وضعية النساء اعتبرت دائمًا مقياسًا لتقدم المجتمع وفقًا لرؤية الخطاب التحرري المصري. سمية تعمل بأكاديمية الفنون بالجيزة، وأصبحت تعرف الآن بوصفها كاتبة للقصة القصيرة وهي كاتبة مقال في النقد الثقافي إلى جانب اهتمامها بالكتابة الإبداعية والترجمة. وهي حاليًا تكتب الرواية الأولى لها عن زواج أحد جنرالات نابليون بامرأة مصرية من رشيد. التقت سمية بهدى من خلال العمل في مجلة هاجر، فنشأت بينهما علاقة زمالة فكرية أدت بطبيعة الحال إلى أن أصبحت سمية من مؤسسات ملتقى المرأة والذاكرة.
هاله كمال كانت دائمًا مهتمة بالكتابة الهامشية للنساء وقد ترجمت وقدمت لبعض النصوص الأدبية التي نشرت في هاجر. وفى يوليو ۱۹۹5 حدثتها هدى عن إمكانية الفكرة: قراءة التاريخ من وجهه نظر المرأة، وحتى ذلك الوقت كانت اهتمامات هالة البحثية قريبة من مجال موضوع رسالة الماجستير حول تحليل صورة المرأة الأوروبية في الأدب الأنجلو هندى في فترة ما بعد الاستقلال، إلا أن اهتمامها الأكبر يشمل كل أشكال التعبير عن المرأة: من مسرح وسينما إلى حكايات وأغان إضافة إلى الصور المختلفة للكتابة النسائية، وينصب اهتمامها حاليًا على إعادة كتابة بعض الحكايات الشعبية العربية من وجهة نظر المرأة وذلك في إطار المشروع الشامل لدراسة التاريخ غير الرسمى. وهكذا ترى هاله أن قضايا “الجندر” تضم تحت لوائها موضوعات متنوعة كما تتقاطع مع تخصصات متعددة، لذلك فهى تعتبر المرأة والذاكرة موقعًا تستطيع أن تلتقي فيه بآخرين يعملون من خلال تخصصات وزوايا مختلفة ولكن من نفس المنطلقات الفكرية، كما يوفر الملتقى فرص بديلة للبحث تبشر بخلق قنوات تتصل من خلالها هذه الدراسات باحتياجات الجماعة، أي إقامة جسر ممتد بين البحث العلمي والمجتمع. تعمل هاله حاليًا مدرسة مساعدة بكلية الآداب جامعة القاهرة.
وتعمل أميمة أبو بكر كأستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، وكتبت رسالة الدكتوراه عن الشاعر الأندلسي الصوفي أبي الحسن الششترى وعن علاقة التفسير الصوفي للقرآن بكتابة الشعر لديهم وفهم وظيفته. والاهتمام بالشعر مرجعه الحماسة لأشكال التعبير الأدبي التي تكشف وتعكس التجربة الإنسانية وتطرحها للتحليل، وقد تمثل هذا التوجه في بحثها الأكاديمي من خلال المنظور المقارن. اجتمعت في كتابتها موضوعات عن جلال الدين الرومى و“تشوسر” الشاعر الإنجليزي، عن أفكار من الأدب المسيحي والشعراء الصوفيين، عن تصوير شخصية الرسول محمد في النصوص الغربية، ثم عن النساء الصوفيات في جدلية تظهر إنجذابها إلى المنطقة المشتركة التى يلتقى عندها الشرق بالغرب؛ وكان من الطبيعى أن تتجه إلى العصور الوسطى كفترة زمنية توليها اهتمامها، فهى بالنسبة لها تمثل الجذور التاريخية للأديان وفترة تشكل العلوم الدينية الإسلامية والمسيحية، وهي حقبة غنية بقنوات الاتصال والتقاطع بين الخطابين الثقافى / الدينى فى الحضارتين كنموذج آخر للتفاعل غير النموذج الاستعماري اللاحق. وعلى المستوى الشخصي يتيح هذا الزمن الفرصة للبحث عن بدايات تكوين هوية دينية وثقافية وعن سبل كيفية إعادة بناء هوية إسلامية معاصرة، هوية عاملة فعالة وذات كرامة في علاقتها بالآخر. وأدى ذلك بها إلى قضايا “الجندر” ورغبة في الإنصاف إلى كونها مسلمة وامرأة. ولكن من أجل الوصول إلى هذه الهوية الدينية والأنثوية المتسقة مع نفسها كان من الضرورى دراسة المسألة من الناحية التاريخية وتتبع أصول ما قد يبدو اليوم أنه في شكل صراع أو توتر. وتأمل أميمة فى أنه إذا تم ذلك من وجهة نظر المرأة سيتحقق نموذج تحررى من الأنماط الاجتماعية والثقافية التي تحول النساء دون الإنضمام إلى الصورة الإنسانية المتكاملة للإسلام كديانة ومنهج حياة. يمثل الملتقى لأميمة دائرة يحفها الدفء تضم صحبة فكرية لنساء زميلات يجمعهن هم مشترك حول المجتمع وثقافته ودورهن فيه، وتتطلع دومًا لصدى أفكارها عندهن؛ فمن مميزات العمل كمجموعة هو الإحساس بقيمة الهدف الأوحد وتعزيز روح المثابرة والتكاتف. وهكذا عندما بادرتها هدى منذ سنة أو أكثر قليلاً بقولها: “سنقرأ التاريخ معًا“، لقيت الدعوة صداها وكأنها دعوة كانت تنتظرها منذ زمن.
إيمان بيبرس تدربت فى مجال العلوم السياسية وانضمت إلى المرأة والذاكرة من خلال إهتمامها بعلم الإجتماع النسوى. أثناء عملها في مجال التنمية ومديرة برامج في اليونيسف واجهت إيمان العديد من مشاكل نساء الطبقة الفقيرة المحرومة والتى تحولت الآن إلى موضوع رسالتها في الدكتوراه بهدف إعطاء هؤلاء النساء صوتًا خاصًا بهن. ولم تكن دراستها الأكاديمية أو وظيفتها في اليونيسف كافية لإرضاء رغبتها فى التغيير المطلوب في مجال شئون المرأة وقضاياها، ومن هنا اشتركت مع مجموعة أخرى فى تأسيس “جمعية تنمية ونهوض المرأة” وهي منظمة غير حكومية تمنح قروضًا صغيرة للأسر التي تعولها امرأة. ومع ذلك بقيت الفجوة بين العمل الميداني والبحث الأكاديمى الذى يقوم به أفراد لتحسين حال المرأة اجتماعيًا واقتصاديًا وإعطائها صوتًا وحق الظهور تأخر طويلاً. ومن أجل أن يتحقق هذا بشكل أكثر فعالية يجب أن ترتبط سير هؤلاء النساء المهمشات بمشروع موحد طويل الأمد يضمن الاستمرارية والرؤية الشاملة.
ومن أهم مميزات العمل داخل إطار ملتقى المرأة والذاكرة هو أن المجموعة العاملة به على وعى تام بأهمية نشر وترويج نتاج مجهوداتهم؛ وبخلاف الحقل الأكاديمي فإن عمل الملتقى البحثى ينبع من ويصب – في نفس الوقت – داخل إطار مواقف الغبن الحقيقية الواقعة على النساء في المجتمع بسبب المفاهيم المغلوطة المتعلقة بالفروق والتمييز بين الجنسين.