الأستاذة زينب الإتربي
ولدت وعشت طفولتي مع أسرتي وأخواتي البنات بقرية إخطاب بمحافظة الدقهلية، وكانت القرية كلها تتكون فقط من بيوت العائلة أعمامي وعماتي وأخوالي وخالاتي وأسرهم. تخرج والدي من الأزهر الشريف وكان حاصلاً على إجازة العالمية، فكان رجلاً مستنيرًا يحب العلم ويحترم المثقفين. وكانت والدتي وهي قريبة والدي سيدة رزينة وقورة قوية الشخصية. كان بيتنا في القرية مركز التقاء سيدات العائلة كل يوم بعد صلاة المغرب فالتزاور كان هو التسلية الوحيدة في ذلك الوقت.
أرسل أبي أخواتي الكبار للتعلم في مدينة المنصورة فالحقنا بالقسم الداخلي لمدرسة المنصورة الابتدائية، وحصلت أختي الكبرى على شهادة الابتدائية وتوقفت عند هذا الحد من التعليم. أما أنا وكنت أصغرهن، فحينما بلغت سن التعليم بدأت أختي الكبرى بتعليم اللغة الإنجليزية، والتحقت بمدرسة القرية لأتعلم اللغة العربية والحساب، وكانت المدرسة خاضعة لإشراف مجلس المديرية التعليمي. وبعد أن أديت امتحانًا في مادة العلوم ألحقت بالصف الرابع الابتدائي بالمنصورة الابتدائية لألحق بأخواتي بالقسم الداخلي. كنا نقضي طول الوقت بالمدرسة ونعود لبلدتنا في الأعياد والإجازات فقط، وكنا ننشغل في الإجازة الصيفية بخياطة ملابسنا وبالأشغال اليدوية والفنية.
حصلت على الإبتدائية من مدرسة المنصورة الإبتدائية عام ١٩٢٤، وفي عام ۱۹۲٥ قرر والدي إرسالي إلى القاهرة للالتحاق بالتعليم الثانوي، فالتحقت بمدرسة شبرا الثانوية للبنات. وأمضيت بها ٥ سنوات هي مدة التعليم الثانوي وكنت بالقسم الداخلي حينئذ. وكانت مصاريف الداخلية ٤٠ جنيهاً في السنة، وكانت الناظرة السيدة الفاضلة إنصاف سري. وكانت من أوليات السيدات اللاتي أرسلتهن الوزارة في بعثات دراسية للخارج وعدن للعمل في تعليم البنات.
أما في القسم الداخلي فقد كانت المسئولة عنه سيدة إنجليزية تدعى مس هوفمان، غرست فينا الكثير من العادات الحميدة التي لازمتنا طول عمرنا علمتنا النظام والانضباط والمحافظة على المواعيد وتنظيم الوقت.
كنت أسافر إلى القرية لأقضي إجازتي مع أسرتي وكان السفر وقتها مشقة، فكنت أستقل سيارات تاكسي الأقاليم وأذكر أنه في إحدى المرات انقلبت بي السيارة وكدت أقع في النيل. كما أن الحياة بعيداً عن الأهل كانت مشقة كذلك. وأذكر أنني اضطررت للسفر من بلدتي إلى القاهرة ليلة امتحان البكالوريا وكنت مريضة بالبراتيفود مرضاً شديداً أعقبه هبوط في القلب، وأديت الامتحان وأنا أعاني من ارتفاع في الحرارة والقشعريرة وزرقة الأظافر. كنت أول فتاة في العائلة تواصل تعليمها للمرحلة الثانوية، وكان موضوع تعليمي وما أعانيه من مشقة هو الحديث الرئيسي في اللقاءات اليومية لسيدات العائلة بمنزلنا بالقرية، وكان الأقارب تتنازعهم المشاعر المتعارضة، الرغبة في تعليم بناتهن والخوف والشفقة عليهن من مشقة رحلة التعليم. وبالرغم من هذا فقد ظللت لفترة طويلة الوحيدة من بنات العائلة التي استمرت في التعليم، ففي الوقت الذي كنت استعد فيه لدخول الثانوي عام ١٩٢٥ كانت ابنة عمي تستعد للزواج، أما بقية العائلة فقد تعلمن حتى الثالثة الابتدائية وما دونها.
ظهرت نتيجة البكالوريا وكان ترتيبي الـ ٦٦ على مجموع الناجحين، وتوفي والدي في ذلك الصيف. وشجعتني والدتي على المضي في طريقي والسفر إلى القاهرة لدخول الجامعة. وفعلاً قدمت أوراقي للجامعة. دخلت الجامعة سنة ۱۹۳۰ وكنت ضمن ثاني دفعة من السيدات تدخل كلية الآداب وكان عددنا ٤ سيدات. في السنة الأولى نجحت ثم انتقلت للسنة التالية، وفي بداية العام الدراسي وهو عام التخصص جاءني مسيو كاميل وكان مديرًا لمكتب الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب في ذ ذلك الوقت، وأبلغني أن الدكتور طه ينتظرني في مكتبه، ولما ذهبت لمقابلته أبلغني أنه قد استعرض النتائج وأنني قد حصلت على أعلى درجات في اللغة العربية في السنة الأولى، وأنه يرى أنه من الأفضل أن التحق بقسم اللغة العربية. ولما كنت قد عقدت العزم على الالتحاق بقسم الجغرافيا التي كنت أعشقها. لذلك قد اعتذرت له وقلت أنني أحب الجغرافيا وأرغب في دراستها، فقال لي وقتها كما تشائين.
تخرجت في عام ۱۹35 في جامعة فؤاد الأول، والتحقت في نفس العام بمعهد التربية العالي للمعلمات بالزمالك بعد حصولي على الليسانس قسم الجغرافيا، وحصلت على دبلوم معهد التربية الذي يؤهلني للتدريس، في عام ١٩٣٧.
كان مرتب أول التعيين حينئذ ١٥ جنيهًا، عينت في مدرسة حلوان الثانوية للبنات وكانت هيئة التدريس بها خليطاً بين الإنجليز والفرنسيين والمصريين، وكانت المشكلة أمامي أنه لم تكن هناك كتب مقررة، كان يجب على إعداد كراسة تحضير وجمع مذكرات أدرسها، فالتجأت إلى أستاذتي بالجامعة، وعاونني كل منهم في البداية، عوض بك في الجغرافيا الطبيعية والدكتور حُزين في جغرافيا المناخ ومصطفى بك عامر في الجغرافيا الاقتصادية، كذلك كنت أجمع المراجع الإنجليزية والفرنسية كالجيوجرافي ينيفرسال، ودأبت على مدى عام كامل على إعداد مادة كراسات التحضير.
كنت أسهر كل يوم لأحضر دروس اليوم التالي من المراجع والكتب التي كان يصل عددها في بعض الأحيان إلى أحد عشر مرجعًا في وقت واحد، وأصبح لدي سبع كراسات تحضير أشاد بها يوسف بك مجلي المفتش القدير المشهود له بالدقة في ذلك الوقت، أقمت بالقسم الداخلي بحلوان الثانوية واخترت حجرتي بالدور الثاني بجوار حجرة الجغرافيا، أخرجت من مخزن المدرسة الخرائط ووسائل الإيضاح اللازمة لترتيب حجرة الجغرافيا وأنشأت بها مرصدًا به دوارة للريح لحساب اتجاه وسرعة الريح، وساعدني فني المعمل في توصيل الأجهزة لسطح المدرسة، ووضعت جهاز الباروميتر وباروجراف لتسجيل الضغط الجوي وهايدروميتر لقياس الرطوبة، وكنت أشرك الطالبات في إصدار نشرة أسبوعية لقراءات الضغط والرياح والتنبؤ بحالة الجو. أتذكر أنني في العام الأول من التدريس لم أتمكن من رؤية الحديقة اليابانية بحلوان، وهي على بعد دقائق من المدرسة إلا في آخر يوم من العام الدراسي وذلك لشدة انشغالي بالتحضير والتدريس. وكنت أرسم ٤ خرائط على السبورة قبل بداية كل حصة للشغل عليها مع البنات، ولما كانت معظم الطالبات من سكان حلوان والباقي بالقسم الداخلي، فكنت أجمعهن لإعطائهن دروساً إضافية، وكانت نتيجتي دائماً مائة بالمائة.
لم يقتصر دوري في الفصل على التدريس. ولكني كنت أتدخل في طريقة اللبس والتسريحة، فكنت أحب تلميذاتي كثيراً، وأتبرع بنصحهن، ورغم التعب في التدريس إلا أن كل هذا كان يزول مع ظهور النتائج، فنجاح الطالبات أكبر مكافإة لي على التعب طول العام. عملت بحلوان الثانوية خلال 5 سنوات، ثم نقلت إلى المدرسة السنية فعملت بها ٤ وكنت قد تزوجت في هذه الأثناء ورزقت باثنتين من بناتي، وتدخلت أمي في ذلك الوقت لإثنائي عن العمل وعرضت عليَّ أن تعوضني إذا ما تركت التدريس،فكانت تعتقد أن التدريس مع أعباء الأسرة الجديدة سيرهقني، فلت لها في ذلك الوقت “يانينتي أنا أحب التدريس ولا أتصور حياتي بدون تدريس“. عينت بعد ذلك أستاذة بمعهد التربية العالي للبنات بجامعة عين شمس، وبقيت به إلى أن تمت إحالتي إلي المعاش.
أنا راضية والحمد لله وسعيدة بما أنجزت في حياتي خاصة حينما أسعد واستمتع بنجاح تلميذاتي في شتى مجالات العمل، خاصة وأن الكثيرات منهن قد شغلن مناصب كبيرة وبرزن في تخصصاتهن.
تعلمنا
في مدرسة حلوان الثانوية الإنضباط ونشأنا على هذا، لأنه كل أمامنا نماذج مثل أبلة زينب رقيقة مرسومة. كأن الخالق الأعظم رسمها وتفنن فيها. فهي شخصية أثرت ودخلت في تكويننا. كانت طوال حياتنا نبراسًا أمامنا، عندما نغوص في قضايا سياسية ونتعرض لوعد ووعيد. كنا نستلهم النموذج الرفيع ونسترشد بخطاها. تعلمنا منها كيف نتصرف. كيف نتكلم. رقة الصوت. نوع الألفاظ. لقد نسجتنا خيطًا خيطًا بدون عشوائية في التشكيل.
نعمات فؤاد