رحلت عني بهجتي يوم رحلت. رحلت عني كل“شقاوتي” و“عفرتتي” وضحكة طفولتي الشقية، واندفاعة مراهقتي يوم رحلت. يوم رحلت .. كنت أسير في الشارع متعجبا ومتسائلا لماذا لا تغرب شمس النهار الآن في غير موعدها؟ لماذا لا تمطر السماء الآن رغم قيظ الصيف الحارق؟ كنت في انتظار آية كونية كي أصدق أنك قد رحلت! المعجزات قليلة عليك … وقد كنت أنت من المعجزات؟
معاكسة البنات في الطرقات و“الجري وراءهن” و“تغييرهن” و“تبديلهن” كان هم أصدقائي الأول في مراهقتهم، أما أنا فلم أحب إلاك.. ولكنى كنت أشعر بألم شديد كلما تذكرت كيف رحلت.. ومتى رحلت … كنت أهیم على وجهي في شوارع المعادي الهادئة متأملا في توقيت رحيلك .. بكيت عاما كاملا من أجلك .. وكنت تعلمين هذا جيدا، ولكنك رحلت .. بل أصررت على الرحيل.
قرأت كل الكتب المقدسة كي أعرف أو أفهم أسباب رحيلك. ناجيت الله وسألته كثيرا عنك .. وأخيرا تمردت. فتشت في كتب الفلسفة عن أسباب رحيلك فلم أجد .. فمللت .. مللت حتى أنني قد أعدت التفكير في كل ما أو من به بعد رحيلك. مللت من الإيمان والكفر. مللت من الحب والكراهية. وأخيرا آمنت… آمنت بك أنت .. وبسببك أنت آمنت.
لا تسأليني لمَ لم أقاوم أيا من بائعات المناديل على القهاوى واللاتي كنت أشتري منهن دون حاجتي لمناديلهن، فأنا لا أعرف! لا تسأليني لماذا أنظر بامتنان شديد لكل عاملات النظافة في الشوارع والأماكن التي كنت أرتادُها، فأنا لا أعرف ! تسأليني لماذا أهيم شوقا بهؤلاء الموظفات الجميلات المتأنقات اللاتي يرتدين تنورة قصيرة وأقدامهن بديعة، فأنا لا أعرف؟ لا أعرف سر هيامي بكل عقود الحلى الحجرية الرخيصة في أعناق البنات، فأنا لا أعرف! لماذا أبتسم لكل فتاة تطل من شباك بيتها، صدقيني، لا أعرف. لماذا أفتش عنك في وجه كل امرأة جميلة بيضاء متشحة بالسواد .. الأسود .. لون الحزن والمهابة والجلال .. أنت وحدك تعرفين.
ما أعرفه أنني، ومنذ رحلت، قررت أن أهدي إليك أول أعمالي المكتوبة ونسيت، أو عذرا أنسانيه الشيطان. أحببت بنات عدة وصرت من أهل الردة .. يوم ارتددت قليلا قليلا عن حبك والتفكير فيك. حركت مشاعري“المصرية“، وألهبتني بنار حبها“اللبنانية“، وتلاعبت بمشاعري“الأردنية“.. حتى تيقنت تماما من أنني الآن لم أتوقف فقط عن التساؤل عن أسباب رحيلك .. ولكنني ويا للمفاجأة .. قد نسيتك !!
ولكن كيف أنساك؟ كيف أنساك يا صاحبة الوجه الوضاء؟ يا كامنة في كل خلاياي؟ لقد أتيتني يومها، عندما كنت أكتب الصفحة الأخيرة في رسالتي للماجستير، وكانت صفحة الإهداء! تذكرتك يومها .. وتذكرت هذا الإهداء الذي كان محفورا بداخلي وأحفظه منذ أربعة عشر عاما !! أتعرفين المفارقة؟ لقد كانت الرسالة عن“حقوق المرأة“! أتضحكين؟ لقد كانت الرسالة كلها دفاعا عنك! ياه .. لقد اكتشفت لحظتها أنني قد قطعت كل هذه الرحلة الطويلة، وعانيت، وبذلت كل هذا الجهد والتعب كي أكتب في النهاية سطور هذا الإهداء .. كي اكتب عنك. لقد كان اكتشافا بالنسبة لي هذا الأمر، ولكنني أعرف أنه لم يكن مفاجأة لك أنت. فلقد كنت تعرفين .. تعرفين عني وعنك أكثر مني..
يومها، وبعد أن طبعت النسخة النهائية ، كنت أسير في الشارع نحو الجامعة الأمريكية وموسيقى مميزة وحزينة لزياد رحباني في أذني، ودموعي تملأ عيني، أسير معك.. لقد كنت جديرا بك في هذا اليوم .. كنت فخورا بك في هذا اليوم .. واثق بانك كنت ايضا“فخورة” بي في هذا اليوم .. رأيتني لحظتها أسير بجوارك عندما أخذت بيدي لكي نذهب سويا لالتقاط صورة لي لكي أكمل أوراق الالتحاق بالمدرسة الابتدائية لكي“أتعلم” و“أبقى كويس“.. وها أنا قد تعلمت .. وها أنا قد كتبت إليك على الصفحة الأولى من رسالتي .. إليك وحدك قد كتبت في إهدائي ..
“إلى التي أمسكت بيدي ..
بثوان قليلة قبل رحيلها وقالت لي:
“لو كان بيدي لعشت العمر كله من أجلك“..
إلى أمي ..
إليها وحدها .. وليس لمخلوق آخر
أهدي هذه الرسالة
“سلام على تلك الرمائم في التراب“
ولكني لازلت حتى اللحظة، يا أمي، أتساءل لماذا رحلت .. فأنا .. أنا لا أزال في حاجة وحنين وشوق .. إليك