قضايا وآراء (1)
الإنضمام للبروتوكول الاختياري للحقوق الاقتصادية
والاجتماعية كمدخل للانتقال بها إلى نطاق” القاضي“
” إن العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لم يكتب ولم تصدق عليه الدول ليبقى وثيقة اختيارية تلتزم بها الدولة وفقًا لهواها وبمنأى عن يد القضاء. فالعهد وغيره من الاتفاقيات التي توقعها الدول يدخل ضمن قوانين الدول المختلفة“.
أحاول في هذه الورقة الدفاع عن البروتوكول الاختياري للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية باعتباره خطوة في سبيل الخروج بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من إطار الدعوى والتوعية إلى نطاق التقاضي، وكنموذج يحتذي به في محاكمنا الوطنية هنا في مصر وغيرها من الدول.
يطرح الكثيرون أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كالحق في الغذاء والصحة والتعليم ما هي إلا طموحات جيدة على البشر أن يسعوا لها لكنها ليست حقوقًا قابلة للإثبات أمام الهيئات القضائية أو شبه القضائية على العكس من الحقوق السياسية والمدنية كالحق في الحماية من التعذيب أو حرية الرأي والتعبير. ويتبنى هذا الرأي دولاً وأكاديميين وكتاب بل وبعض النشطاء الحقوقيين.
ومن الأمثلة الدالة على انتشار هذه النظرة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن البروتوكول الاختياري للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (والذي يوفر نظامًا للشكاوى والتظلمات من انتهاكات هذه الحقوق أمام اللجنة المعنية لم تتبناه الأمم المتحدة إلا عام 2008 أي بعد أكثر من أربعين عامًا من تبني الأمم المتحدة لآلية مماثلة للحقوق المنصوص عليها في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وقعت حوالي 30 دولة على هذا البروتوكول الذي لا يمكن أن تنضم إليه دولة إلا لو كانت منضمة أصلاً للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لكنه أن يدخل حيز التنفيذ فيصبح ساري المفعول إلا عندما تصدق عليه عشر دول.
وللأسف لم توقع مصر عليه مما يعكس عدم وجود نية للانضمام إليه.1
بموجب الانضمام إلى هذا البروتوكول تكون الدولة قد سمحت لمواطنيها أو غيرهم من الواقعين تحت ولايتها القانونية برفع شكاوى للجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية (نفس اللجنة التي تنظر في تقارير الدول الدورية الخاصة بالتزاماتها بموجب العهد) وتسمح لغيرها من الدول برفع شكاوى في حقها أمام اللجنة بشرط أن تكون الدولة الأخرى منضمة للبروتوكول وتسمح بالمثل برفع شكاوى من المواطنين أو الدول الأخرى المنضمة ضدها.
كُتبت آراء كثيرة تناهض هذا البروتوكول، وتناهض بشكل عام المحاولات المختلفة لإدراج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ضمن الموضوعات التي يمكن التظلم من انتهاكها أمام المحاكم الوطنية أو الهيئات الدولية شبه القضائية.2 من أبرز هذه الآراء والمواقف في الدوائر الأكاديمية والرسمية؛ تصريحات المندوبين الرسميين للولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من مناسبة وخاصة أمام مجموعة العمل المعنية بتبني
بروتوكول اختياري للعهد عام 3،2006 ومقال نشره كاتبان أمريكيان هما مايكل دينيس Michael J، Dennis وديفيد ستيورات David P. Stewart عام 2004، 4 ورغم أنهما نشرا هذا المقال تعبيرًا عن أرائهما الخاصة وليس عن موقف أمريكي رسمي إلا أنهما يعملان مستشارين قانونيين في وزارة الخارجية الأمريكية. ولدحض تلك الأفكار سألجا لبعض المقالات المكتوبة للرد عليها، 5 ونماذج من أحكام المحاكم الوطنية في دول مختلفة وهيئات قضائية أو شبه قضائية دولية وإقليمية تناولت شكاوى متعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
بدأ موضوع قابلية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتقاضي في فرض نفسه بقوة خاصة على الساحة الدولية منذ تسعينيات القرن العشرين، وخاصة بعد تقديم اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الأمم المتحدة عام 1997 مشروع بروتوكول اختياري لإنشاء آلية شكاوى 6، وتعبر الانتقادات الكثيرة التي لاقاها هذا المشروع في جوهرها آراء معادية لاعتبار الحقوق الاقتصادية الاجتماعية
أ ) الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ليست حقوقًا من الأساس:
لم يعد الكثيرون يجرؤون على طرح هذه الفكرة بهذه الطريقة الفجة اليوم بعد أن صار عدد الدول المصدقة على العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (سأطلق عليه” العهد” فقط فيما يلي) حوالي 160 دولة، وإن كانت دولة كالولايات المتحدة الأمريكية لم تنضم لهذه الاتفاقية حتى الآن.
لكن رواسب هذا الموقف تطل برأسها في الكتابات المعادية لاستخدام التقاضي في حماية هذه الحقوق مثل مقال دينيس وستيورات المشار إليه أعلاه، فهم يصفونها بـ” الأهداف التحذيرية والغايات البرامجية أو المثل الطوباوية“7 أو” الأهداف التطلعية8، وفي قول مندوب الولايات المتحدة في مجموعة العمل المشار إليها أعلاه إن” العهد” يفتقر لأي معيار ذو معنى يسمح بنظر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قضائيًا.”9 إنهم يطرحون بالأساس أن التقاضي ليس السبيل الملائم للمطالبة بهذه الأهداف أو المثل العليا، ويعود ذلك إلى إيمانهم بأن العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا يخلق التزامات قانونية على الدول بمعنى تأكيد استحقاق المواطنين للتمتع بهذه الحقوق لأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
” معترف بها بشكل عام” فقط في العهد، 10 وأن” الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية طبيعتها مختلفة، وأن إجراءات تحقيق هذه الحقوق لا يجب أن تكون نسخة من الإجراءات المستخدمة في الوثائق المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية“.11 ويقال أيضًا إن الدعوة لإنشاء الية للشكاوى الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية خطوة ستضفي المزيد من الطابع القانوني غير المناسب لهذه الحقوق، 12 وإن هناك سبل أفضل لتحقيق” الوعود والرؤى” التي يتضمنها هذا العهد والإعلان العالمي لحقوق الإنسان أيضًا، 13 ويعبر هذا القول الأخير عن مراوغة في غير محلها، حيث يتعامل مع العهد والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكأنهما من نفس الطبيعة القانونية. فالعهدين الدوليين عبارة عن اتفاقيتين ملزمتين لكل الدول المصدقة عليها بينما يعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وثيقة غير ملزمة لم يوقع أو يصدق عليها أي من الدول. ورغم أن الإعلان العالمي صارت له مكانة قانونية كبيرة مع مرور السنوات، 14 إلا أن قوته تمكن في دوره كـ“منبع أساسي تستلهم منه الجهود الوطنية والدولية في تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية“.15
تنص المادة 2 (1) من العهد على” تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد بأن تتخذ… وبأقصى ما تسمح به مواردها المتاحة، ما يلزم من خطوات لضمان التمتع الفعلي التدريجي بالحقوق المعترف بها في هذا العهد…” وهذه الطريقة في صياغة العهد سببت مشكلة وخلاف كبيرين فيما يتعلق بتحديد طبيعة ونطاق الالتزام الواقع على الدول المنضمة للعهد، فالبعض يراها فضفاضة تترك للدول المختلفة حرية اختيار وسائل تنفيذ التزاماتها، وتعبر أيضًا عن نسبية محتوى الالتزام وفقًا لوضع الدولة والتمتع التدريجي بالحقوق.16 لكن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة عملت جيدًا على جعل نصوص العهد ذات طبيعة ملموسة ومحددة من خلال” أربعة استراتيجيات أساسية في التفسير 17” تتمثل في بيان معايير التمتع بكل حق، واستخدام المؤشرات وأدوات القياس، وتحديد الأنواع المختلفة من الالتزام الواقع على الدولة (واجب احترام الحق وحمايته وتحقيقه وتعزيزه 18)، وتحديد الأطر الزمنية لتنفيذ الالتزام.19 وتعتبر التفسيرات المختلفة التي قدمتها اللجنة لنصوص العهد سواء من خلال التعليقات العامة التي تصدرها أو من خلال مناقشتها
للتقارير أدوات تفسيرية مفيدة في تقييم التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 20 وهو الدور المنتظر تعزيزه بعد أن تبدأ اللجنة سماع الشكاوى الخاصة بدول مختلفة
كذلك لعبت اللجان الدولية والإقليمية الأخرى المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثل اللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان أو اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان دورًا مهمًا في إثبات أن التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية قابل للقياس والتقييم، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه محاكم وطنية رائدة في هذا الصدد ومنها على الأخص المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا والمحكمة العليا الهندية. مما يدحض الإدعاء بأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ما هي إلا تطلعات أو مثل عليا على الدول تعزيزها من خلال سياساتها المختلفة لكن التقاضي لا يعتبر وسيلة جيدة للتعامل معها.
ب) الآليات الوطنية أنسب وأقدر على تناول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:
يطرح المعارضون للبروتوكول أن المؤسسات الوطنية سواء القضائية أو غيرها أجدر على التعامل مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. هذا صحيح بالطبع، لكنه ينطبق على كل الحقوق بشكل عام وليس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكل خاص. يعتقد الكاتبان المشار إليها أعلاه (دينيس وستيوارت) أن إنشاء آلية للشكاوى في إطار العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية يقوم على أساس عدم الثقة في قدرة المؤسسات الوطنية (وخاصة المحاكم) في حماية هذه الفئة من الحقوق. 21 لكن إنشاء جميع آليات الشكاوى الدولية والإقليمية بما في ذلك البروتوكول الاختياري الأول للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي انضمت إليه أكثر من 100 دولة (ليس من ضمنها مصر ولا الولايات المتحدة أيضًا) لا يعود بالأساس لعدم الثقة في آليات التقاضي الوطنية وإنما إلى الرغبة في توفير فرصة أخرى أمام الناس للحصول على حقوقهم. ولهذا السبب تتطلب كل آليات الشكاوى الإقليمية والدولية عادةً استنفاذ السبل القانونية الوطنية أولاً.
يكاد دينيس وستيوارت يعترفان بعدم صحة منطقهما حين يقولا إن المشكلة في تطبيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تكمن في أن” النخب والأنظمة الحاكمة لا تستطيع أو لا تقوم بتوفير الوقت والطاقة والموارد لتحسين حياة السكان.”22 هذا بالضبط ما يجب أن تسعى آليات الشكاوى الدولية والإقليمية لمعالجته، وأعنى الحالات التي تتقاعس فيها السلطات الوطنية (ومنها القضائية أيضًا) عن بذل الجهد المطلوب منها. والمدافعون عن استخدام التقاضي الإقليمي أو الوطني لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا ينكرون أن أهل مكة أدرى بشعابها. وفي الواقع، معرفة المؤسسات المحلية بظروف الدولة وسبل تحسينها ليست مجرد ميزة بل هي التزام على الدولة مكون من شقين، أولهما أن الدولة يجب أن تعرف أفضل من غيرها ظروف مواطنيها، وثانيهما أن هذه المعرفة تلزمها باختيار أنسب البرامج لهذه الظروف. فقد
قضت اللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية مثلاً في قرارها في شكوى مركز حقوق الغجر الأوروبي ضد اليونان (2004) أن نقص المعلومات يعتبر جزءًا من فشل الدولة في الإيفاء بالتزاماتها.23
إن العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لم يكتب ولم تصدق عليه الدول ليبقى وثيقة اختيارية تلتزم بها الدولة وفقًا لهواها وبمنأى عن يد القضاء. فالعهد وغيره من الاتفاقيات التي توقعها الدول يدخل ضمن قوانين الدول المختلفة (كل وفقًا لنظامه القانوني) ويصبح جزء من منظومتها القانونية. وهو ما حدث بالفعل في مصر مثلاً حينما قضت محكمة أمن الدولة العليا طوارئ عام 1987 بأن المادة 8 من العهد الدولي، والخاصة بالحق في الإضراب قد نسخت المادة 124 من قانون العقوبات المصري التي تجرم الإضراب لأن نصوص المعاهدات الدولية التي يوافق عليها البرلمان تصبح كمواد القانون التي سنها البرلمان بنفسه وتعامل معاملتها.24 وهو ما أكده حكم المحكمة التأديبية بطنطا عام 25.1991
من ناحية أخرى، يمثل القانون الدولي لحقوق الإنسان المعايير الدنيا التي يمكن للدول المختلفة أن تتجاوزها وتتفوق عليها في تعزيزها لحقوق مواطنيها. فلو تناولنا مثلاً الحق في تشكيل نقابات والانضمام إليها المنصوص عليه في العهد وفي دستورواتفاقيات منظمة العمل الدولية، نجد أن اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 اتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم) تنص على التالي:” تحدد القوانين واللوائح الوطنية مدى انطباق الضمانات المنصوص عليها في هذه الاتفاقية على القوات المسلحة والشرطة” (المادة 9 (1)). يتضمن الميثاق الاجتماعي الأوروبي مادة مماثلة (المادة 5). معظم الدول في العالم تحرم أفراد القوات المسلحة من الحق في التنظيم تمامًا، وهو ما لا تعتبره منظمة العمل الدولية انتهاكًا للاتفاقية ما لم يكن هذا الحق ثابتًا لهم قبل الانضمام للاتفاقية. كذلك، قضت اللجنة الأوروبية في أربعة حالات على الأقل (شكاوى ضد فرنسا وإيطاليا والبرتغال) أن القيود التشريعية الوطنية على حق أفراد القوات المسلحة والشرطة في تكوين نقابات لا تتعارض مع الميثاق الاجتماعي الأوروبي.26 لكن محكمة وطنية ألا وهي المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا ارتأت أن هذا المنهج لا يناسب دستور الدولة وظروفها فقضت في قضية نقابة قوات الدفاع الوطنية بجنوب أفريقيا ضد وزير الدفاع (1998) بعدم دستورية قانون يحرم أعضاء القوات المسلحة من تشكيل نقابات وقضت بأحقيتهم في تشكيل نقابات والالتحاق بها والمشاركة في أنشطة الاعتراض السلمي العام بشرط أن يمارسوا كل هذا بطريقة تناسب مهامهم وواجباتهم الخاصة كأفراد في القوات المسلحة.27
ولو نظرنا للطريقة التي تمارس بها اللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية دورها كأحد الأمثلة على هيئات دولية أو إقليمية تنظر في شكاوى خاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنجد أن هناك اتجاهًا نحو الاعتراف بأن المؤسسات الوطنية تكون غالبًا هي الأكثر قدرة على التعامل مع هذه الحقوق وأن اللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية حريصة على ألا يكون دورها تدخليًا بإفراط. على سبيل المثال، قضت اللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية في شكوى الرابطة الدولية للتوحد بأوروبا ضد فرنسا (2002) بأن السياسات الفرنسية الخاصة بتوفير خدمات التعليم والرعاية للمصابين بالتوحد تنتهك التزاماتها بموجب الميثاق (المواد 15 و17) وأن الحكومة الفرنسية تتبنى تعريفات ضيقة جدًا لمرض التوحد مقارنة بالتعريفات الخاصة بمنظمة العمل الدولية، وأن الإحصائيات الرسمية المتوفرة غير كافية لتقييم تطور الأداء الحكومي.28 لكن اللجنة رفضت التدخل في الجانب المالي من سياسات الدولة المطروح في الشكوى قائلة إن الأمر يعود للدول نفسها بالأساس لتقرير ما يتعلق بطرق التمويل ونسبته. 29
وأخيرًا، من الثابت أن تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قد ساعد المحاكم الوطنية على إيجاد أسس أقوى تستند إليها عند تبرير أو تفنيد سياسات وتشريعات الدولة التي تعتبر معززة أو مضرة بهذه الحقوق. ويوضح حكمان صادران عن محاكم مصرية هذه النقطة بشدة. أولاً، حكم محكمة أمن الدولة العليا طوارئ القاهرة في 15 أبريل 301987 بخصوص إضراب عمال السكة الحديد عام 1986 المذكور آنفًا. وثانيًا، حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 8 لسنة 16 قضائية دستورية والذي قضت فيه المحكمة الدستورية بأن سياسة الدولة التي تخصص 5% من وظائف قطاعات معينة للمعاقين تعتبر متفقة مع الدستور على أساس إعلان حقوق الأشخاص المعاقين الصادر بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3447 رغم أن هذا الإعلان ليس وثيقة قانونية ملزمة. فالمحكمة اعتبرت أن الإعلانات التي تتبناها الجمعية العامة للأمم المتحدة“وإن لم تكن لها قوة إلزامية تكفل التقيد بها، إلا أن النزول عليها لا زال التزامًا أدبيًا وسياسيًا، وهى… تعبر عن اتجاه عام فيما بين الدول… باعتبارها طريقًا قويمًا لدعم جهودها في مجال الاستثمار الأعمق لطاقاتها البشرية“.38 وهكذا أعتقد أن قيام لجنة كاللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة بنظر الشكاوى والبت فيها سيشكل إضافة مهمة للأدبيات القانونية عن طريق الأحكام التي سيصدرها خبرائها والتي يمكن الاستفادة بها في تطوير الفقه القانوني المحلي بخصوص الحقوق.
ت) التضارب مع عمل الوكالات المتخصصة
يطرح بعض المعارضين للبروتوكول أنه سيؤدي لازدواجية وتضارب محتملين في التفسيرات القانونية والأحكام بين توصيات اللجنة بموجبه وتوصيات اللجان التابعة للمنظمات الدولية المتخصصة مثل لجنة الخبراء أو لجنة الحرية النقابية التابعتين لمنظمة العمل الدولية، وهي الوكالة المتخصصة للأمم المتحدة الخاصة بأمور العمل.31
وهذه المزاعم مردود عليها لعدة أسباب. أولاً، إنه لا توجد أي آلية دولية يتم من خلالها التقاضي بشأن جميع الحقوق المنصوص عليها في العهد. توجد بالفعل آليات إقليمية مثل اللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية، واللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان واللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان32. كذلك، توجد آليات تحكيم دولية تتناول أحيانًا قضايا تمس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثل المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار لكن هذه الآليات موضوعها الأساسي ليس حقوق الإنسان، وإن كان بعض الحقوقيين يدعونها لأخذ القانون الدولي لحقوق الإنسان في الاعتبار وهي تمارس عملها.33
أما بالنسبة للمنظمات الدولية الأخرى مثل منظمة العمل الدولية والتي يتعلق عملها بحقوق العمال فقط وليس بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية جميعًا، فهناك احتمالية نظرية بحدوث تضارب لا يجب أن ينفيها المساندون للبرتوكول الجديد. لكن نص البروتوكول تضمن أن اللجنة عليها استشارة الوكالات المتخصصة في هذه الشكاوى وإخطارها (بموافقة الدولة) بالنتائج التي تتوصل إليها (المواد 8 (3) و14 (1)). إن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية تتبنى بالفعل هذا المنهج في نظر التقارير الدورية للدول المعنية، فإرشادات التقارير التي أصدرتها اللجنة لتبين للدول ما يجب أن تتضمنه تقاريرها تسمح للدول الأعضاء في اتفاقيات دولية أخرى 34 بالإشارة لأجزاء التقارير المرفوعة للجان المعنية بالتقارير المختلفة بدلاً من تكرار المعلومات نفسها في تقريرها أمام اللجنة 35، وهو ما تفعله الدول بالفعل مثل مصر في تقريرها أمام لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.36 كذلك تعتمد اللجنة في تقييمها لأداء الدول في الحقوق المتعلقة باختصاصات أحد الوكالات المتخصصة مثل الحرية النقابية مثلاً على آراء هذه الوكالات، فاللجنة أثناء مناقشتها لتقرير مصر الذي أرسلته عام 1998 على سبيل المثال أشارت للانتقادات والطلبات المحددة التي قدمتها لجنة الخبراء التابعة لمنظمة العمل الدولية لمصر بخصوص الحرية النقابية. 37
ث) الرقابة القضائية بشكل عام تمثل تدخلاً ضارًا في صنع القرار والسياسات يرفض البعض (في الولايات المتحدة ومصر أيضًا) فكرة التقاضي لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على أساس إن الرقابة القضائية بشكل عام (سواء المحلية أو الدولية) تمثل تدخلاً ضارًا في صنع القرار والسياسات الذي يقع في اختصاص السلطتين التشريعية والتنفيذية الوطنيتين 38، مما يحدث ارتباكًا في تقسيم الصلاحيات القائم بين السلطات ويمثل تدخلاً في الموازنة العامة. سأؤجل نقاش الجزء المتعلق بالموازنة العامة للنقطة التالية نظرًا لأهميته ووجوب تناوله منفردًا.
يعتبر توفير سبل قضائية محلية لرد المظالم أحد الالتزامات الملقاة على الدول بموجب انضمامها للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. توضح اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية في التعليق العام رقم 4 (الحق في السكن الملائم) بالتفصيل طبيعة سبل الإنصاف القضائية التي يجب على الدولة أن توفرها للمواطنين الذين انتهك حقهم في السكن الملائم وفقًا للأنظمة القانونية المختلفة في الدول المختلفة.39 كذلك تعبر مبادئ ماستريخت التوجيهية المتعلقة بانتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1997)40 – والتي لا تعتبر ملزمة قانونيًا لكنها قيمة جدًا نظرًا لصدورها عن خبراء متخصصين في المجال بالإضافة لتبنيها من قبل اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية – عن أن التزامات الدول تتضمن توفير سبل لرد المظالم والتعويض المناسب.41
علينا الاعتراف بأن أي نظام للمراجعة أو الرقابة القضائية على القوانين واللوائح التي تمس حقوق المواطنين (سواء محليًا من خلال المحاكم الدستورية أو دوليًا من خلال لجان مرجعيتها اتفاقيات دولية معينة) تمارس شكل ما من أشكال الرقابة أو الضبط على صلاحيات السلطة التشريعية والتنفيذية.42 لكن هذه الرقابة لا تصل بالضرورة لدرجة التدخل غير الجائز في عمل السلطة التشريعية والتنفيذية. وبوجه خاص، لا يجب أن يمثل هذا هاجسًا لدى دولة كمصر يمنعها من الانضمام للبروتوكول الاختياري الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وذلك في ضوء القواعد التي وضعتها اللجنة المعنية بالعهد بخصوص طبيعة التزامات الدول فيمامأخوذ من: خالد على عمر، العمال والمقاومة الاجتماعية، مركز هشام مبارك للقانون واللجنة التنسيقية للحقوق والحريات النقابية والعمالية، 2007، ص 83.
يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والتي أكد عليها نص البروتوكول الجديد نفسه. 43 لقد أكدت هذه اللجنة في تعليقها العام رقم 3 أنه” ينبغي لكل دولة طرف أن تقرر بنفسها ما هي أنسب السبل، في ظل الظروف السائدة، فيما يتعلق بكل حق من الحقوق” 44 وأن الدول عليها أن توضح” الأساس الذي تعتبر بناءً عليه أنها” أنسب” التدابير في ظل الظروف السائدة“45. وهذا المبدأ بعينه تبناه البروتوكول الاختياري في الفقرة 8 (4) منه. وتتبع المحاكم الوطنية في الدول المختلفة نفس المنهج في التعامل مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فعلى سبيل المثال قضت المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا في حكمها في قضية متعلقة بالحق في السكن وهي قضية حكومة جمهورية جنوب أفريقيا ضد جروتبوم وآخرين (2000) حيث قالت المحكمة إن هناك“العديد من الإجراءات الممكنة التي تستطيع الدولة تبنيها للإيفاء بالتزاماتها. والكثير منها يستوفي شرط المعقولية. وفور أن تثبت الحكومة أن إجراءاتها معقولة، يكون هذا الشرط قد استوفى.”46 كذلك قضت نفس المحكمة في قضية سوبر اموني ضد وزير الصحة (1997) أن أي“محكمة قد تكون بطيئة في التدخل في القرارات الرشيدة التي تتخذها الأجهزة السياسية بحسن نية…”47 ومن الجدير بالذكر أن المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا حكمت في القضية الأولى ضد الحكومة على اعتبار أنها لم تقم بواجبها مما حدا ببعض المواطنين المعدمين باحتلال قطعة أرض فضاء تابعة للدولة للسكن فيها، وحكمت في القضية الثانية لصالح الحكومة.
ج) الآثار التوزيعية للتقاضي في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (التدخل في بنود الموازنة العامة):
يطرح المعارضون لهذا البروتوكول ولفكرة استخدام الأساليب القضائية وشبه القضائية في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنها قد تؤدي لتدخل القضاة (أو أشباههم) في تنظيم الدولة لميزانيتها، وأن هذا يعتبر تدخلاً في سيادتها (إن كان الموضوع مطروح دوليًا) أو تدخلاً من القضاء في عمل السلطة التشريعية (إن كان الموضوع مطروح محليًا). وقد طرحت هذه الآراء بقوة دولاً رأسمالية كبرى كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة حتى من قبل تبني العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فمثلاً قال ممثل المملكة المتحدة عام 1954 في سياق اعتراضه على اقتراح فرنسي بتضمين العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الجاري صياغته إمكانية اختيارية لشكاوى من الدول ضد بعضها بخصوص انتهاكات الحقوق المنصوص عليها في العهد:
إن تحديد ما إذا كان الحد الأقصى من الموارد المتاحة تم استخدامه… يقتضي تناول توزيع البنود المختلفة في الموازنة العامة. لا يمكن لأي دولة ديمقراطية أن تتوقع رد فعل برلمانها على موضوع توزيع النفقات أو ترتيب الحكومة لأولويات برامجها المختلفة.48
طرحت المخاوف من أثر التقاضي في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية على الموازنة على المستوى المحلي في دول مختلفة أيضًا. لكن من أهم الردود على هذه المخاوف ما قاله مثلاً رئيس الجمعية الدستورية بجنوب أفريقيا أثناء مناقشة الدستور الجديد واعتماده بعد انتهاء الحكم العنصري، ألا وهو إن العديد من الحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في الدستور لها آثار مالية وتوزيعية خطيرة لكن أحدًا لا يشكك في ضرورة استخدام التقاضي في حمايتها، وكون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لها دائمًا تقريبًا نفس التبعات لا يبدو سببًا كافيًا لمنع القضاء من النظر فيها.49 وقد قال رئيس المجلس هذا في معرض الرد على المعارضين لاحتواء دستور جمهورية جنوب أفريقيا الجديد للعديد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كالحقوق المنصوص عليها في العهد الدولي ولقيام المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا بالنظر في دستورية القوانين واللوائح وفقًا لتماشيها أو تعارضها مع الحقوق المنصوص عليها في الدستور.
من ناحية أخرى، لو اتفقنا على أن الحقوق المدنية والسياسية كالحق في الحماية من التعذيب وحرية التعبير والصحافة والمشاركة في الحياة السياسية لا تقتصر على مذكور في حكم المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا في قضية حكومة جمهورية جنوب أفريقيا ضد جروتيوم وآخرين (2000)، فقرة 20.
كونها حقوق سلبية تتطلب من الدولة الامتناع عن انتهاكها، وإنما لها أيضًا جانب إيجابي يتمثل في بذل الدولة لجهود وموارد في سبيل حمايتها وتعزيزها، نجد أن الفارق بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقوق المدنية والسياسية ليس شاسعًا.
إن الهيئات القضائية التي تنظر في انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية قد طورت أساليب لتقييم الجانب الإيجابي لهذه الحقوق يفترض استخدامها مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أيضًا. فمثلاً المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تنظر في مدى كفاية جهود الشرطة لمكافحة جرائم القتل أو منع التعذيب أو قيام أجهزة الرعاية الدولة بدورها الكامل في حماية الأطفال من الأسر غير الجديرة بتربيتهم وهذه أمور تتعلق بالموارد التي تخصصها الدولة لهذه الأجهزة وبكيفية إنفاقها وما إلى ذلك، رغم أن الحق في الحياة أو الحماية من التعذيب مثلاً من الحقوق المدنية التي لا يعترض عليها أحد. لا يوجد مانع مبدئي إذن من أن تفعل الهيئات القضائية المثل فيما يتعلق بالالتزامات الايجابية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية 50
ولمزيد من الإيضاح لهذه النقطة يفيدنا الرجوع للتعليق العام رقم 6 (الحق في الحياة) الذي أصدرته اللجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية عام 1982. في هذا التعليق اعترضت اللجنة على التعريف الضيق للحق في الحياة الذي تفضل الدول المختلفة تبنيه في تقاريرها.51 ودعت اللجنة لتبني تعريف أكثر شمولاً للحق في الحياة يتضمن في الواقع إجراءات إيجابية مكلفة ماليًا مثل تخفيض معدل وفيات الأطفال
وزيادة السن المتوقع للمواطنين والقضاء على سوء التغذية والأوبئة.52 واللافت للنظر أن توسيع مفهوم الحق في الحياة بهذا الشكل عن طريق إدخال عنصر إيجابي في التزامات الدولة وعدم الاكتفاء بالجانب السلبي لالتزاماتها صار مقبولاً لدى الدول وهو ما يتبين من مراجعة تقاريرها أمام هذه اللجنة.53
ورغم ذلك يبقى أمام الدول حرية تصرف وسلطة تقديرية كبيرة في الاختيار بين السياسات المختلفة ذات التكاليف المتباينة للإيفاء بالتزاماتها وفقًا للعهد أو أي اتفاقية حقوقية أخرى. إن آليات التقاضي الوطنية في الدول المختلفة تترك للدول هذه الحرية62، وعلى مثيلاتها الدولية أن تفعل هذا أيضًا.
يجب ألا ننسى أيضًا أن الالتزام بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية له جانب سلبي لا يجب أن يثير كل هذا اللغط عن قابليتها للتقاضي أو المخاوف من تكلفتها وما إلى ذلك، مثل التزام الدولة بعدم إخلاء المواطنين قسريًا أو تعسفيًا من منازلهم باعتباره الحد الأدنى من الالتزام بحماية الحق في السكن. وبالعودة لما قاله رئيس المجلس الدستوري في جنوب أفريقيا سابق الذكر،” كحد أدنى، يمكن حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية سلبيًا عن طريق عدم انتهاكها“.54
إن المحاكم تتخذ كل يوم أحكامًا لها آثار توزيعية ومالية باهظة. فمثلاً في الولايات المتحدة والتي تعتبر من أكثر الأنظمة القضائية عداءً للحقوق الاقتصادية والاجتماعية شهدت محاكمها مثل هذه القضايا مثل ما قررته المحكمة العليا بنيويورك في قضية کالاهان ضد كاري (1979) حين أمرت حكومة الولاية بتوفير مأوى عاجل لمجموعة من المعوزين قبل دخول الشتاء تنفيذًا لدستور الولاية الذي ينص على توفير العون والرعاية للمحتاجين.55 وفي مصر أيضًا صدر عن المحكمة الدستورية العليا أحكام ذات آثار مالية هائلة مثل أحكام الضرائب والرصيد النقدي للإجازات والمعاشات غيرها، مثل الحكم في قضية محمد فوزي السيد فوزي ضد رئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي وآخرين (34 لسنة 13 دستورية قضائية) والذي أدى لإعادة حساب معاشات جميع من تقاعدوا قبل سن القانون المطعون فيه. ورغم أن المحكمة الدستورية العليا قد استخدمت مزيج من الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية في حيثيات حكمها (عدم جواز التمييز، المساواة، الحق في الضمان الاجتماعي، الحق في حد أدنى من المعاش والحق في الملكية واستقلال القضاء) إلا أن الحكم الصادر كلف وزارة التأمينات الاجتماعية حينها مبالغ طائلة.56
من المخاوف الكامنة خلف العداء لاستخدام التقاضي في حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الاعتقاد بأنه سيهدد توزيع الثروة في المجتمع وأنه بالأساس سيكون الصالح الفقراء، أو أن تتحول آلية الشكوى أو التظلم من انتهاك هذه الحقوق إلى هجوم من الفقراء المطالبين في حقهم في الغذاء والمأوى والتعليم لو كانت الدولة ستعتبر مذنبة بشكل بديهي كلما اشتكى فرد محروم من أحد احتياجاته.57
فرغم أن جنوب أفريقيا على سبيل المثال من أكثر الأنظمة القانونية احترامًا للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يعبر الحكم الشهير الذي اتخذته محكمتها الدستورية في قضية سوبر اموني ضد وزير الصحة (1997) عن رد بليغ على المخاوف المذكورة أعلاه. فهذا الحكم الذي يبدو صادمًا للكثيرين يوضح أن القضاة في تناولهم للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا يكونوا عاطفيين أو كرماء أكثر من اللازم مع الفقراء كلما أتى واحد منهم إلى المحكمة طالبًا المساعدة. فالمحكمة قررت أن القانون المطعون عليه دستوري لأن الدولة فعلت أفضل ما في وسعها لتوزيع مواردها المحدودة على الاحتياجات الصحية المختلفة وأن شروط استحقاق المصابين بالفشل الكلوي للعلاج المجاني شروطًا معقولة رغم أنها اعترفت بـ” الحقيقة القاسية الكريهة المتمثلة في أن الطاعن لو كان ثريًا لتمكن من الحصول على العلاج من مصادر خاصة“.58
من المنتظر أن تتبع اللجنة المعنية بالبروتوكول الاختياري نفس المنهج، وذلك حتى لا يتحول التقاضي أو الشكاوى لوسيلة لانتقاد الدول بمناسبة وغير مناسبة في كل ما يتعلق بسياساتها الصحية والتعليمية والسكانية وغيرها، وهو ما يبدو الخوف الأكبر لدى معظم الدول والذي يمنعها من الانضمام للبروتوكول.
وأخيرًا، إن الأحكام التي ستصدرها اللجنة في إطار البروتوكول الجديد أقرب للتوصيات أو الآراء الاستشارية. ولا يجب أن تتمادى الدول كثيرًا في خوفها على سيادتها من جراء هذا البروتوكول. فالأهمية الأساسية له تتمثل في دلالة أحكام اللجنة التوعوية والدعائية بالأساس، والتي ستمثل نماذج تحتذي بها فقهيًا الهيئات الوطنية المختلفة سواء القضائية أو غيرها. ومن شأن هذه الأحكام أيضًا أن تعطي ضحايا انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدافعين عن هذه الحقوق دعمًا معنويًا ودعائيًا كبيرًا. ذلك في ضوء أن تنفيذ الأحكام أو التوصيات التي تصدر عن أي من اللجان الدولية الشبيهة عمومًا يتوقف على استجابة الدولة وتعاونها سواء احترامًا لحقوق مواطنيها أو تحسينًا لصورتها في المحافل الدولية.
1- مصر لم تنضم أيضًا للبروتوكول الاختياري للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والذي يقيم هو الآخر نظام للشكاوى المتعلقة بانتهاك الحقوق المدنية والسياسية. وإن كان من الممكن أن يقوم مواطني مصر أو أي شخص موجود على الأراضي المصرية وخاضع لولايتها باللجوء للجنة الأفريقية لحقوق الإنسان للشكوى من تعرضه لانتهاك أحد الحقوق الواردة في الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والذي يتناول الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية أيضًا.
2- تعتبر اللجان الدولية مثل اللجنتين المعنيتين بمتابعة الالتزام بالعهدين الدوليين أو لجان منظمة العمل الدولية كلجنة الحرية النقابية ولجنة الخبراء هيئات شبه قضائية لأنها تقوم بسماع الشكاوى من مواطن الدول المختلفة والبت فيها وتحديد الحل الأمثل لها، لكن أحكامها (عادة ما يطلق عليها آراء أو توصيات) تفتقر للقابلية للتنفيذ التي تتمتع بها الهيئات القضائية الوطنية.
3 – انظر وثيقة رقم E/CN.4/2006/47 من وثائق الأمم المتحدة، الفقرات 18 و68 و124.
عارضت الولايات المتحدة إنشاء البروتوكول أما مصر فقيلت إنشاء البروتوكول من حيث المبدأ لكنها اشترطت عدم السماح للجنة بإجراء تحقيقات (انظر الفقرة 78).
4 – Michael Dennis and David Stewart, Justifiability of Economic, Social, and Cultural Rights: Should There be an International Complaints Mechanism to Adjudicate the Rights to Food, Water, Housing, and Health? American Journal of International Law, July 2004.
5 – وخاصة مقال لأكاديمي إسرائيلي يدعى بوفال شاني يعمل بالجامعة العبرية في الدولة الصهيونية. طرح آخرون آراء شبيهة بآرائه، إلا أنه كتب مقاله المستخدم هذا خصيصًا للرد على دينيس وستيوارت المقال هو:
Yuval Shany, Stuck In a Moment in Time: The International Justiciability of Economic, Social and Cultural Rights (August 2006). Hebrew University International Law Research Paper No. 9 – 06.
6- تقرير اجتماع مجموعة العمل المعنية بالنظر في البدائل المختلفة بخصوص إنشاء بروتوكول اختياري للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في 14 مارس 2006 وثيقة رقم E/CN.4/1997/105 من وثائق الأمم المتحدة.
7 – دينيس وستيورات، ص 467.
8- المرجع السابق.
9 – انظر وثيقة رقم E/CN.4/2006/47 من وثائق الأمم المتحدة، الفقرة 18 (موقف مندوب الولايات المتحدة في مجموعة العمل المشار إليها سابقًا).
10 – دينيس وستيوارت، ص 469.
11- رأي مندوبي الولايات المتحدة وهولندا وبولندا في مجموعة العمل المشار إليها سابقًا، وثيقة رقم E/CN.4/2006/47 من وثائق الأمم المتحدة، الفقرة 68.
12- دينيس وستيوارت، ص 469.
13- المصدر السابق.
14 – اعتبرت محكمة العدل الدولية مثلاً في حكمها ضد الولايات المتحدة لصالح نيكاراجوا في 27 يونيو 1986.
أن الإعلان العالمي صار جزءًا من القانون الدولي العرفي ومن ثم صار ملزمًا لكافة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
15 – Fact Sheet No.2 (Rev.1), The International Bill of Human Rights.
16 – طرح هذا الرأي الكثيرون منهم شاني، مصدر سابق، ص 7 – 8.
وإن كنت أرى أن هذه الصباغة في ذاتها ليست مشكلة بالنظر لطبيعة الحقوق المنصوص عليها في العهد وهو ما سيتضح أكثر لاحقًا.
17 – شاني، ص 9.
18- صدر هذا التصور عن طبيعة التزامات الدول في مبادئ ماستريخت التوجيهية (1997) وفي التعليق العام رقم 3 للجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
19- شانی، ص 7.
20 – المصدر السابق، ص 13.
21 – دينيس وستيوارت، ص 467.
22 – المصدر السابق، ص 515.
23- اللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية، شكوى رقم 15/ 2003 (European Roma Rights Center v. Greece)، تاریخ الحكم 8 ديسمبر 2004، الفقرات 41 و50.
24- قضية النيابة العامة رقم 4190 سنة 86 الأزبكية (21 كلي شمال) ضد صلاح الدين مصطفی إسماعیل شرف و37 آخرين. تاريخ الحكم 16 أبريل 1987.
25 – قضية النيابة الإدارية رقم 1120 لسنة 17 فضائية ضد 17 عامل بمصنع السجاد بالجمعية التعاونية للصناعات المنزلية بالمحلة الكبرى. تاريخ الحكم 10 مارس 1991
26 – شكوى رقم 2/ 1992 (European Federation of Employees In Public Services France) وتاريخ القرار 4 ديسمبر 2000، والشكوى رقم 4/ 1999(European Federation of Employees in Public Services v. Italy)
وتاريخ القرار 4 ديسمبر 2000، والشكوى رقم 5/ 1999 (European Federation of Employees In Public Services. Portugal) وتاريخ القرار 4 ديسمبر 2000، والشكوى رقم 11/ 2000(European Council of Police Trade Union v. Portugal) وتاريخ القرار 21 مايو 2002.
27 – المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا، (South African National Defence Union v Minister of Defence)، عام 1998، رقم الحكم CCT 27/ 98
28 – شكوى رقم 2002/ 13 (International Association Autism Europe v. France)، الفقرة 54 وغيرها.
29 – المصدر السابق.
30- قضية النيابة العامة رقم 4190 سنة 86 الأزبكية (121 كلي شمال) ضد صلاح الدين مصطفى إسماعيل شرف و37 آخرين. تاريخ الحكم 16 أبريل 1987.
31- حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 8 لعام 16 فضائية دستورية.
32 – انظر مثلاً دينيس وستيورات، ص 466 و502.
33 – وإن كان عملها يقتصر على بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها في بروتوكول سان سالفادور وليس نصوصه جميعًا.
34 – انظر على سبيل المثال: منظمة العفو الدولية،
CONTRACTING OUT OF HUMAN RIGHTS The 2005 Chad-Cameroon pipeline project
35 – كالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل واتفاقيات منظمة العمل الدولية المختلفة.
36 – وثيقة رقم E/C.12/1991/1 من وثائق الأمم المتحدة.
37 – تقرير مصر الأول أمام اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1998)، وثيقة رقم E/1990/5/Add.38 من وثائق الأمم المتحدة، الفقرة 87.
38 – اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الجلسة الثانية والعشرون، الاجتماع الثاني عشر، مناقشة تقرير مصر والأردن، التاريخ 18 يناير 2001، وثيقة رقم E/C.12/2000/SR.12، الفقرة 19.
39 – دينيس وستيوارت، ص 492.
40 – اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التعليق العام رقم 4، الفقرتان 16 و17.
41- للاطلاع على الترجمة العربية انظر
http://www1.umn.edu/humanrts/arabic/MaastrichtguidelinesAR.html
42 – المصدر السابق، الفقرات 22 و23.
43 – المبدأ الثابت في القضاء الدستوري المصري مثلاً يقر بأن الدستور “وإن خول السلطة التشريعية أصلاً اختصاص إقرار النصوص القانونية… إلا أن إقرار هذه النصوص لا يعصمها من الخضوع للرقابة القضائية التي تباشرها المحكمة الدستورية العليا في دستوريتها وهي رقابة غايتها إيطال ما يكون منها مخالفًا للدستور ولو كان ذلك من زاوية الحقوق التي أهدرتها…” (حكم رقم 33 لسنة 15 قضائية – الجريدة الرسمية العدد 51 في 21/ 12/ 1995).
44 – المادة 8 وخاصة الفقرة 8 (4).
45- اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التعليق العام رقم 3، فقرة 4.
46 – المصدر السابق.
47 – المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا، قضية (Government of RSA and others v Grootboom and others)، 2000، الفقرة 41.
48 – المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا، قضية (Soobramoney v the Minister of Health) 1997، الفقرة 29.
49 – وثيقة رقم E/CN.4/SR.432 من وثائق الأمم المتحدة، الفقرة 9.
50- وثيقة اعتماد دستور جمهورية جنوب أفريقيا 1996، الفقرة 78.
51- انظر على سبيل المثال شاني، ص 5.
52- اللجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية، التعليق العام رقم 6، الفقرة 160 – المصدر السابق، الفقرة 5.
53- انظر على سبيل المثال، تقرير مصر للجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية (وثيقة رقم CCPR/C/EGY/2001/3) وفيه ذكرت الدولة البيانات الخاصة بمؤشرات العمر المتوقع (الفقرة 24) ومعدل الخصوبة (الفقرة 25).
54- حكومة جنوب أفريقيا ضد جروتبوم وآخرين، مصدر سابق، الفقرة 41.
55 – وثيقة اعتماد دستور جمهورية جنوب أفريقيا، 1996، مصدر سابق، الفقرة 78، س.
56- المحكمة العليا لدائرة مقاطعة نيويورك، قضية ((Callahan V. Carey رقم 42582 – 79، عام 1979.
57- المحكمة الدستورية العليا المصرية، قضية رقم 34 لسنة 13 قضائية دستورية.
58- دينيس وستيوارت، ص 243.
59– سوبر اموني ضد وزير الصحة، مصدر سابق، الفقرة 31.