(3)
الاستبعاد الاجتماعي وحقوق الإنسان
” المهمة الأساسية تتمثل في النضال ضد حالات الاستبعاد الاجتماعي الهيكلي، بكافة أشكاله وجميع مستوياته، وكذا الوعي التام بأوضاع القوى الفاعلة؛ القائمة على أمر هذا الاستبعاد“
مقدمة – الموقع من القوة الاجتماعية:
إذا كان هناك من يتحدث عن الفقر والفقراء، فإنني أفضل التركيز على الإفقار والمفقرين. فالدرس والفحص لا بد وأن يكون منصبًا على توجهات وسياسات الفاعلين الأساسيين الذين يخلقون الأوضاع الاجتماعية، بدلاً من أن يكون جل همنا مرتبطًا بدراسة تلك الأوضاع كمعطى As a given، أننا لا ندرس ظواهر طبيعية – هنا – كشروق الشمس وغروبها، بل ظواهر اجتماعية – بكل المعنى الموسع لمفهوم الاجتماعية – أى أن لها فاعلين Actors يصيغونها ويتحكمون بها، وبالتالي يصبح بالإمكان المفاوضة بشأن تلك الحالة، وكذا التمرد عليها كلية – في بعض الأحيان – بهدف تغييرها تمامًا.
وهنا نتساءل: هل تحدث هذه المفاوضة، وكذا التغيير هكذا ودون ضوابط؟
الإجابة بالنفي؛ فالمسألة تخضع لتفاعلات أبنية القوة في كل مجتمع، وداخل كل نسق فرعي داخل هذا المجتمع. ومن ثم يغدو كل تغير، سواء أكان محدودًا أم واسع النطاق، مرهون بمدى ما تتمتع به القوة الاجتماعية التي تناصره وتنافحه في لحظة تاريخية بعينها. هذه القوة الاجتماعية تتفاوت في مستويات تنفذها، ومن ثم قدرتها على الفعل، وهو ما يرتبط – تحديدًا – بموقعها داخل مصفوفة تتقاطع عليها محددات ثلاث أساسية؛ هي رأس المال والسلطة، والمعرفة/ الأيديولوجيا. وبناءً عليه، نستطيع أن نقول: أخبرني بموقعك داخل هذه المصفوفة، أخبرك بمدى قدرتك على الفعل داخل مجتمعك؟
وبالطبع ليس المقصود بكل محدد من المحددات الثلاثة السابقة مجرد مستواها الكمي، بل نوعيتها. حيث أن هناك فارق مهول – مثلاً – بين أن يكون رأس المال ناتجًا عن جهد عقلي، إبداعي، ويحقق قيمة مضافة تتجاوز نطاق المجتمع المحلي إلى المجتمع الكوكبي، كأن يكون متولدًا عن إنتاج برمجيات، أو تقنية متقدمة، أو أن يكون – من الناحية المقابلة – ناتجًا عن ريع لثروة تأتي بالمصادفة من تحت الأرض دون جهد يذكر، كتلك الناتجة عن احتياطيات زيت البترول أو الغاز في بلد ما على سبيل المثال.
وما ينطبق على” نوعية” رأس المال، ينطبق كذلك على محدد السلطة، والتي قد تكون متدنية للغاية في نوعيتها، لتصير مجرد قوة باطشة تعتمد على القهر الفيزيقي، أو ترتقي لتصبح معتمدة على الهيمنة Hegemony، بالمفهوم الجرامشي.
وما يقال في محددى رأس المال والسلطة يقال أيضًا عن محدد المعرفة/ الأيديولوجيا؛ فقد تنبني قوة جماعة اجتماعية ما على معرفة ثيولوجية، أو حتى خرافية تهيمن من خلالها على أتباعها، وقد يكون مصدر القوة – على جانب آخر – قائمًا على نمط من المعرفة العلمية.
كلاهما قد يمارس هيمنة ناجحة على وسطه الاجتماعي، بيد أن الفارق بين نمطى المعرفة شاسع؛ فالأول يعتمد على الجهل والتخلف، والآخر ركيزته العقل والمنهج العلمي.
هذا وإذا ما سلمنا بأن مجتمعًا إنسانيًا ما لا يكاد يـخلو من تنويعة من المستويات المتعددة والمختلفة من تلك المحددات الثلاث الأساسية، فإن التركيز سيكون منصبًا على أوزان مرجحة نسبية داخل مصفوفة كاملة تتداخل وتتقاطع عليها المستويات المختلفة لتلك المحددات. ومن خلالها يكون الحكم على” نوعية” القوة الاجتماعية في كل مجتمع محدد بعينه (1).
تباين توزيع القوة الاجتماعية:
هذا وإذا كان جوهر كافة النظم اللاديمقراطية هو تركز القوة، تلك التي تحتوي السلطة – القوة المشرعنة – ورأس المال، والمعرفة/ الأيديولوجيا، واحتكار تلك النطاقات من قبل البعض في مقابل الأغلبية، فإن النظم الديمقراطية، وبالضرورة، لا بد وأن تقوم في جوهرها على مبدأ لا مركزية القوة. ومن ثم تغدو كل ممارسة تهدف إلى دمقرطة مجتمع من المجتمعات – في تحليلها الأخير – بمثابة ممارسة هادفة إلى إعادة توزيع أنصبة القوة – في أبنيتها المتعددة والمختلفة – على نطاق مجتمعي.
وفي هذا الصدد نجد التحليل الذي قدمه كلا من بارنت Barnett ودوفال Duvall مفيدًا للغاية، حيث قررا:” تشكل القوة البنائية أوضاع وحالات الوجود للفاعلين عبر طريقين. يتأسس الأول على حقيقة أن المواقع البنائية لا تتولد عنها أوضاعًا اجتماعية متساوية أو متكافئة، ولكنها وبديلاً عن ذلك، تخلق بناءات اجتماعية للقدرات المتباينة، وهو ما يترتب عليه خلق مصالح وامتيازات اجتماعية متباينة أيضًا لكي تخدم تلك الأوضاع الاجتماعية.
أما الطريق الآخر فلا يتعلق بمسألة تشكيل البناء الاجتماعي للفاعلين وقدراتهم فقط، بل بخلق أنماط فهمهم لذواتهم ومصالحهم الشخصية. ومن ثم، ووفقًا لتباينات التوزيع البنائي للقوة الاجتماعية، نجد أن بإمكان القوة البنائية المهيمنة العمل على كبح بعض الفاعلين الاجتماعيين وإعاقتهم حتى عن إدراك نطاقاتهم الاجتماعية الخاصة، ذلك إلى الحد الذي يخدم فيه الفهم الذاتي – لهؤلاء الفاعلين الاجتماعيين – أفعالاً اجتماعية تسهم في إعادة إنتاج، بأكثر من مقاومة، الوضع السائد للبناءات الاجتماعية القائمة على القدرات اللامتكافئة (2)”.
تصل حالة التباين – أو اللاتكافؤ – في توزيع القوة في عديد من المجتمعات حد احتكار البعض للقدر الأعظم من محدداتها الرئيسة، في حين تقع غالبية الناس ضحية لحالات من الاستبعاد الاجتماعي. قد يعتقد البعض أن هذه الحالة تعد وقفًا على مجتمعات العالم الثالث، وفي القلب منها العالم العربي، نظرًا لشيوع هيمنة نظم الحكم الشمولية والتسلطية في هذه المجتمعات، إلا أنه من الملفت أن مفهوم الاستبعاد الاجتماعي Social Exclusion ذاته، قد صك في مجتمعات الغرب الرأسمالي المتقدم، كالمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وذلك خلال العقدين الماضيين، وهي الفترة التي انفردت فيها الولايات المتحدة ومعسكر حلفائها بحكم العالم والهيمنة عليه، ومحاولتها فرض ايديولوجيا الليبرالية الجديدة على العالم أجمع. وكان نتاج هذه الأيديولوجيا وسياساتها المتطرفة استبعاد قطاعات واسعة من مواطني تلك المجتمعات على مستويات وصعد عديدة من صنع القرار، لصالح محاولات لتكريس النزعة النخبوية The Elitism، سواء في دول المركز الرأسمالي أو الأطراف التابعة له. أفضى ذلك كله إلى طرح تساؤلات إشكالية عديدة بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث أصبحت قيمًا عديدة في هذا الصدد على المحك، أهمها قيم الحرية والمساواة، والمشاركة، والعدالة الاجتماعية.
ويعبر رونالدو مونك Ronaldo Munk من هذه الحالة بقوله: التهميش، والاستبعاد الاجتماعي، والعولمة تجتمع كلها في تعبير البرزلة Brazilianization، والذي صك وغدا شعبيًا من خلال عالم الاجتماع الألماني اولرش بك Ulrich Beck. يعني بك بالبرزلة استدعاء صورة للعلاقات الاجتماعية وأنماط الانتاج المنتشرة نمطيًا في الجنوب إلى المراكز الامبريالية في الشمال، حيث يكتب” بك“:” تغدو البنية الاجتماعية في مراكز الغرب لتشبه غطاءً تم نسجه في الجنوب، موسومًا بالتشتت وعدم الوضوح وعدم الأمان في حياة الناس وأعمالهم.
لقد خلقت عولمة النيوليبرالية حالة من الفوضى الهائلة في أنماط التوظيف المؤقت، وغير المؤمن، وغير الرسمي في الشمال وصولاً إلى خلق حالة من التهميش الاجتماعي في المدن العظمى (3)“.
ليس المقصود بالاستبعاد الاجتماعي هنا مجرد حديث عن حالة الاستبعاد من العمل المأجور، كما هو حال التعريف في نموذج خطاب التكاملية الاجتماعية من بنزوعه الدوركايمي، والمشبع بالأخلاق الكاثوليكية (4). ولا هو الاستبعاد المترتب على حالة الفقر فقط، وإنما هو مفهوم أكثر شمولاً ودينامية.” حيث نقيم التمييز هنا واضعين في اعتبارنا الفقر كنقص في الموارد المادية، خاصة الدخل، في حين نرى الاستبعاد الاجتماعي كتكوينة أكثر شمولاً، تشير إلى العملية الدينامية لحالة الإقصاء Shut out، سواء أكان كليًا أم جزئيًا، عن أي من الأنساق الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية، أو الثقافية، والتي تحدد مدى التكامل الاجتماعي للشخص في المجتمع، هذا الاستبعاد الاجتماعي الذي قد ينظر إليه بوصفه إنكار للحقوق السياسية والمدنية للمواطنة (5)“.
وفي هذا أيضًا يفصل مادانيبور Madanipour وزملائه الاستبعاد الاجتماعي كعملية متعددة الأبعاد، تشمل الاستبعاد من: المشاركة في صنع القرار والعمليات السياسية، والنفاذ إلى التوظف والمصادر المادية، والاندماج في العمليات الثقافية العامة (6)“.
لا يتعلق الاستبعاد الاجتماعي إذا بمشكلات فردية أو جماعية محدودة النطاق، بقدر ما يعكس حالة بنائية (هيكلية) في المجتمع. هذا المجتمع الذي يحدد شروط الاندماج والانتخاب والتصعيد من ناحية، والاستبعاد والتهميش من ناحية أخرى، وهو ما يتم بناءً على استراتيجيات وخطط وآليات متبناة، وكذا أجواء محفزة على الفعل وعدم الفعل.
يعني ذلك عمليًا أن بالإمكان معاينة حالات الاستبعاد الاجتماعي في مجتمعاتنا عبر دلائل ومؤشرات عديدة، أهمها: نسب من يقعون تحت خط الفقر، ونسب المتعطلين عن العمل. نسب الأمية، ونسب التسرب من التعليم. نسب من لا يشاركون” فعليًا” في أحزاب سياسية أو جمعيات أهلية. نسب من يسكنون في مناطق عشوائية لا تتوافر فيها الشروط الاجتماعية والصحية الملائمة… إلخ.
وعلى الجانب الآخر، لا بد أن ننظر جليًا في الوجه الآخر من العملة، أعني النخب الاجتماعية، وبالأخص نخبة القوة The Power Elite في المجتمع، والتي تصوغ شروط إعادة إنتاج النظام في مستوياته الأكثر تأثيرًا، وتهيمن – من ثم – على آليات الإدماج من ناحية، والاستبعاد من ناحية أخرى.
هذا ولا يعني تركيزنا على النخب من ناحية، والعامة من ناحية أخرى اطفال مساحات يشغلها من يقعون ضمن نطاق الوسط الاجتماعي القلق، والذي يحوز شاغلوه مواقع اجتماعية تتيح لهم بعضًا من كل محددات القوة الاجتماعية على مستويات متباينة نسبيًا، والذين يظلون دائمًا رهن الحالة الاجتماعية التي يمكن أن نطلق عليها: قيد التصعيد أو الانحدار. والمشكلة هنا أن المواقع الاجتماعية الوسيطة هذه، وليست طبقية بالضرورة، بل هي أشمل مجتمعيًا، تتضاءل لصالح حالات الاستبعاد الاجتماعي والتهميش، حيث يصير تقسيم المجتمع إلى نخب تتمتع بكافة المقومات والصلاحيات إلى درجة وصولها حد فائض الاختيار بين فرص الحياة المتاحة أمامها من ناحية، وأغلبية تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط الحياة من ناحية أخرى.
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من منظور تنموي:
إن نظرة سريعة في الأدبيات المتعلقة بحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، سواء الصادرة عن منظمات دولية أو اقليمية أو محلية، تدلنا على مدى التردي الذي باتت تعيشه ملايين من البشر على اتساع المعمورة، فيما يخص الحد الأدنى لحياة أي كائن بشري، ولا أقول إنسان ! ذلك أن مجرد المطالبة بالحق في الطعام، والشراب والمأوى، والصحة … إلخ، لهو في مجمله من تراث مفهوم تاريخي للتنمية، كان الظن السائد أن العصر الراهن قد تجاوزه.
ما نقصده هنا أن مفهوم التنمية قد مر بمراحل تطور فيها من مجرد حديث عن نمو اقتصادي يهدف إلى مراكمة الثروة، إلى آخر ذي طبيعة اقتصادية – اجتماعية، بتأثير التجارب الاشتراكية، ينحاز بقدر أكبر إلى الشرائح الطبقية الدنيا والوسطى في المجتمع، لينتقل إلى مفهوم أشمل للتنمية البشرية، يركز بشكل” نوعي” عام على صحتهم، وتعليمهم، وإسكانهم، وتوظيفهم … إلخ، إلا أن الانتقال الحاسم لهذا المفهوم قد حدث مؤخرًا مع طرح مفهوم للتنمية الإنسانية، وهو المفهوم الذي تجاوز مجرد الحديث عن الإنسان ككائن بشري له حقوق، يغلب عليها الطابع المادي الأولي، ليؤكد بقدر أكبر من القوة والوضوح على قيم أخرى تتجاوز ما هو مادي إلى ما هو معنوي ورمزي، كالحرية، والكرامة، والعدالة.. إلخ، والتي لا بد أن يتمتع بها الجميع على حد سواء، وذلك دون إغفال للحقوق المادية، والتي اعتبرت بمثابة حقوق قارة ليس لأحد أن يغفلها أو يذكرها.
إن تحول القوة إلى الناس أنفسهم هو مدخل التنمية الإنسانية، والتي تعرف على أنها عملية توسيع الخيارات أمام الإنسان، ففي كل يوم يمارس الإنسان خيارات متعددة، بعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي، وبعضها سياسي، وبعضها ثقافي، وحيث أن الإنسان هو محور تركيز جهود التنمية، فإنه ينبغي توجيه الجهود نحو توسيع نطاق خيارات كل إنسان في جميع ميادين سعي الإنسان.
إن تنمية الإنسان هي تنمية لفرصه وحقوقه في الحياة في أن يكون مبدعًا، ومنتجًا، ومتمتعًا باحترام الذات، وحقوق الإنسان المكفولة له دون تمييز (7).
ولكن، ورغم كل هذه التطورات التي طرأت على نطاق المفاهيم التنموية، تظل المشكلة قائمة على الأرض! وتظل المطالبات بحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية” في حدها الأدنى في الغالب” مستمرة.
إن المهمة الأساسية في هذا الصدد تتمثل في النضال ضد حالات الاستبعاد الاجتماعي الهيكلي، بكافة أشكاله وجميع مستوياته، وكذا الوعي التام بأوضاع القوى الفاعلة؛ القائمة على أمر هذا الاستبعاد، أعني نخبة القوة في المجتمع، والتي تتبنى من الاستراتيجيات والخطط التنموية ما يحقق لها مزيدًا من احتكار مقومات القوة، في حين تستبعد الآخرين عبر سياسات وإجراءات متعددة، يغلب عليها الطابع الأمني.
1 – See: Mohamed Abdel Moneim, The Global Power Elite: A Critical View, Part One: The theoretical Concept, The National Review of Social Sciences, No. 2, May 2009, PP: 4-9.
2 – Barnett, M & Duvall, R. Power in Global Governance. Cambridge, Cambridge University Press, 2005, P: 19..
3 – Munck, R. Globalization and Social Exclusion: A Transformationalist Perspective, Kumarian (3) Press, Inc. Bloomfield, 2005, P: 30.
4 – Ibid. P: 23.
5 – Byrne, D. Social Exclusion, Open University Press, Berkshire, Second Edition 2005, P: 2.
6 – Ibid, P: 2.
(7) انظر: تقرير التنمية الإنسانية العربية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي الأردن، 2002، ص ص: 13 – 16.