قراءة في وثيقة أو كتاب
(1)
تقرير التنمية الإنسانية العربي 2009.. رؤية نقدية
“وكما العالم العربي – المفكك المجزء والمخترق من الخارج سياسيًا وعسكريًا يأتى هذا التقرير ليعكس واقعًا مريرًا تتجلى أسبابه ونتائجه بين صفحاته – بينما تضيع المسائل الحاسمة والقضايا المصيرية بين كلمات فى سطور تحولت هي نفسها إلى خطوط تماس“
خرج تقرير التنمية الإنسانية العربي لهذا العام 2009 المعنون في ظل تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية في ظروف استثنائية لعل أهمها كان انسحاب كاتب التقرير الرئيسي الدكتور مصطفى كامل السيد – الأستاذ الجامعي المرموق وإعلانه عدم مسؤوليته عن الصورة النهائية التي خرج بها التقرير احتجاجاً على ما أسماه تغييرات جوهرية أجريت على نص التقرير النهائي من قبل موظفي المكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، منها تغيير موقع الفصل المتعلق بالاحتلال والتدخل العسكري (أحد الأسباب المباشرة لإنعدام الأمن في البلدان العربية) من الفصل الثاني ليحتل الفصل الأخير في قائمة فصول أقل ارتباطاً بمفهوم الأمن، هذا بالإضافة إلى اختزال فصل كان تم إعداده عن الصراعات الداخلية والحروب الأهلية في البلدان العربية إلى صفحتين اثنتين فقط بالرغم من أن محصلة ضحايا هذه الحروب والنزاعات تتجاوز محصلة ضحايا الاحتلال الخارجي. وإذا كان من المقبول لأطراف خارجية – لم يكن لها يد في إعداد التقرير ولا كتابته أن توجه إليه الانتقادات، التي وصلت لحد الهجوم من جامعة الدول العربية التي وصفت التقرير بأنه يتبنى وجهة نظر سياسية ما بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي إذ كان موحياً – على حد تعبيرها – أن الاعتداءات الإسرائيلية على الأطفال الفليسطينيين كانت“بسبب كونهم طرفاً في المقاومة“، فإن من المحرج جداً لمكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن ينسحب كاتب التقرير الرئيسي في اللحظات الأخيرة قبل حفل تدشين التقرير – وأن يعتذر رسميًا عن حضوره.
ولعل هذا اللغط الذي صاحب إطلاق التقرير كان سبباً كافياً هذا العام لقراءة هذا التقرير قراءة متأنية. وعند قراءته تتضح مدى التغرات المنهجية والعلمية التي يعاني منها النص التي تساهم فيها بشكل كبير إشارات سياسية وأيديلوجية ضمنية – أخرجت نص التقرير النهائي من حيادة إلى تبني بعض وجهات النظر السياسية. في هذه الورقة البحثية أود تلخيص ملاحظاتي حول التقرير في بعض العناصر الرئيسية – يليها عرض لمحتويات التقرير بفصوله السبع المتعلقة بأمن الإنسان وهي بالترتيب (1) البيئة (2) الدولة وحكم القانون (3) أمن الفئات الضعيفة (4) الأمن الاقتصادي (5) الأمن الغذائي (6) الأمن الصحي (7) الإحتلال والتدخلات الخارجية.
يتخذ التقرير مفهوم“أمن الإنسان أساساً نظرياً له ولكن هناك بعض القصور في هذا المفهوم بالطريقة التي عرض وعُرف بها – وبالتالي تبع هذا القصور ونتج عنه – ضعف البنية المنهجية والنظرية للتقرير ككل. فأمن الإنسان يعرف في ص 2 من التقرير أنه“الركيزة الأساسية للتنمية البشرية … يهتم بتمكين الشعوب من احتواء أو تجنب المخاطر التي تهدد حياتهم وسيل معيشتهم وكرامتهم…” وهذا المفهوم كما هو مذكور هو مفهوم سلبي – أي أنه قائم على احتواء مخاطر معينة – ومحاولة التخلص منها . والسؤال الذي طرح نفسه هو ما هي تلك الأخطار التي تعد من المخاطر على أمن الإنسان العربي – فيرد التقرير في ص 25 إنها تلك المخاطر“الشديدة المنتشرة والمتعددة زمنياً ومتسعة النطاق” التي تتعرض لها حياة وحرية الإنسان. وفي هذا التعريف تحديداً وتضييقاً لمفهوم أمن الإنسان. إلا أن التقرير في أكثر من موقع يهمل هذا التعريف وهذا التحديد الذي عرض في البداية. بل والأسوء من الناحية المنهجية والعلمية أنه فشل حتى في إيضاح العلاقة بين بعض المجالات التي حددها التقرير وبين أمن الإنسان كما هو معرف في بدايته. من ناحية أخرى – ونتيجة لهذا الضعف البنيوي – نجد أن الفصول القطاعية – لم تكن قوية الارتباط ببعضها البعض من خلال مفهوم الأمن – بل تم التعامل مع كل مجال من المجالات على أنه منفصل عن الآخر وتم التعامل معه في ذاته – ودون الرجوع إلى المفهوم الأصلي.
من ناحية أخرى مهمة – يؤطر هذا التقرير للعلاقة بين أمن الفرد – الذي يرتكز إليها هذا التقرير وأمن الدولة. فيرى التقرير أن أمن المفرد وأمن الدولة – مرتبطين إذ أن أمن الفرد هو الأساس الذي يحمي الدولة من الاختراق الخارجي والعكس صحيح فإن أمن الدولة يحمي أمن الفرد فإذا تم اختراق الدولة – من خلال الاحتلال مثلاً – فذلك يقوض بالتالي أمن الفرد. إلا أن هناك قصور تشوب رؤية التقرير” لأمن الدولة” لأنها محددة بالأمن العسكري فقط وهذه الرؤية المحدودة والناقصة إلى حدٍ كبير أدت إلى اقتطاع الوطن العربي من موقعه في النظام العالمي. فبالرغم من أن القوة العسكرية هي أحد أشكال القوة التي تهدد الأمن لكن سياسات بعض الدول والقوى الإقليمية والعالمية الاقتصادية، التي تستطيع أن تفرضها بفضل هيمنتها على العالم قد تكون أحد مسببات انعدام الأمن في بلاد كثيرة.
فتركيز التقرير على أمن الإنسان العربي وضع التركيز على علاقة الأفراد بحكوماتهم فيم يخص الصحة والغذاء والبيئة والحرية السياسية والنمو الاقتصادي، فرأى التقرير استنادًا إلى هذه الرؤية القاصرة أن الأزمة فقط كانت“هشاشة البنى السياسية والاقتصادية والبيئية في المنطقة وافتقارها إلى سياسات تنموية تتمحور حول الناس، وفي ضعفها حيال التدخل الخارجي …” ص 1 لكن هذا يغفل بشكل كبير أنه حتى الحكومات العربية – والدول العربية ليست حرة في اختيار سياساتها بشكل تام – لأنها هي أيضًا مكبلة بواقع سياسي ونظام سياسي عالمي وإقليمي – في زمن تضاءلت سلطات الدولة في مقابل تيارات وقوًا خارجية. وقد أدى إغفال هذا البعد إلى بعض المقارنات المجحفة – في رأيي – بين بعض الدول العربية والأوروبية مقابل الدول العربية بطريقة كانت تستقطع السياق السياسي الدولي الذي أدى لتمكين دول معينة وإلى تهميش وإضعاف دول أخرى.
من ناحية أخرى ثالثة – لا يستطيع أي قارئ أن يغفل أنه كانت هناك محاولات حديثة في النص لعدم إحراج وتفادي الاصطدام مع أطراف معينة في بعض القضايا. ظهر ذلك في مناقشة الاحتلال في العراق وعدد من النقاط التي تطرقت إلى دور الولايات المتحدة هناك أيضًا وإلى مدى مسؤولية الفلسطينيين عن أوضاعهم – محاولة استخدام لغة هادئة – لكن ليست موضوعية في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي الذي قصر على احتلال الضفة وغزة ولم يتم ذكر الجولان السوري ولا الأراضي اللبنانية المحتلة وحظيت بعض الدول الخليجية كذلك ببعض المجاملات فيم يخص دورها في إحلال السلام في المنطقة . وحتى بعض الدول العربية – كان لها نصيبًا من المجاملة.
1 – البيئة – وغياب الفاعل
يعرض هذا الفصل التحديات البيئية التي تهدد أمن الإنسان العربي وتشكل أهم عناصر هذا الفصل – ندرة الموارد – المياة – التصحر والتلوث بمختلف أنواعه وصولاً للخطر الأشد على أمن الإنسان وهو الاحتباس الحراري والنتائج التابعة له في الدول العربية. لعل أول إخفاق لهذا الفصل هو الإخفاق المنهجي الذي تطرقنا إليه سابقاً – وهناك ضعف بنيوي يتجلى في قلة الربط والتأصيل بين الأزمات البيئية وبين أمن الإنسان. وهذا لا يعني إني أنكر وجود هذه العلاقة – بل المقصود هنا هو أن العلاقة غير واضحة في النص ولا تربط بين المشكلات البيئية المذكورة وبين أمن الإنسان كما عرف أن مفهومه يتطرق إلى التحديات“الشديدة، المنتشرة، الممتدة زمناً، وواسعة النطاق” فلم يوضح النص – إلى أي مدى وصلت المشاكل البيئية لدرجة من الخطورة ليتم التعامل معها كتهديد أمني وفقاً للتعريف – واكتفى النص – بدلاً من التأصيل للمفهوم إلى سرد المعلومات والتقديرات البيئية.
من ناحية أخرى – واعتقد أن هذه هي النقطة الأهم – هذا الفصل يتعامل مع الأخطار البيئية – وانعكاساتها على بعض النواحي في حياة الناس – دون أدنى الإشارة إلى السياسات المتبعة لتخفيف من آثار الأزمات البيئية – أو تلك السياسات التي تؤدي لتفاقمها. فقلما يتحدث عن دور الحكومات في هذا الصدد . فالتقرير يتحدث عن النمو السكاني الذي يؤدي لاستهلاك الموارد المحدودة والتوسع الحضري الذي يضع ضغوطاً على البنية التحتية في البلاد العربية، وندرة المياة التي ستنضب بشكل متسارع“نظراً للنمو الديمغرافي والاقتصادي“، والتصحر الذي أصبح ظاهرة عادية (أو يبدو كذلك في التقرير) بعد انتهاء فترة الرطوبة منذ آلاف السنين وأساليب حياة السكان (النمو السكاني واستخدامهم تقنيات حديثة في الزراعة) هي التي فاقمت الأمر .. إلخ – الأمر يتم معالجته بمعزل تام عن الحكومات والسياسات المتبعة ما لا يؤهل الفصل ليكون في تقرير“تنمية بشري“، فيقوم الفصل بدلاً عن ذلك بتلخيص تقارير بيئية متنوعة.
2 – الحكومات العربية وفصلها عن السياق الدولي
وبالرغم من غياب الدولة في الفصل الأول – إلا أنها واضحة جلية في الفصل الثاني المعني بأنظمة الحكم العربي ومدى التزامها بتوفير حقوق أساسية لمواطنيها والتزامها بالديمقراطية والحكم الرشيد. لعله من المؤسف حقاً أن يبدأ فصلاً بهذه الأهمية – بالرغم من علامات استفهام كثيرة حول علاقته بأمن الإنسان (كما هو معرف في النص) بمقارنة مجحفة وسطحية بين دول غربية ودول عربية مفادها أن الدول الغربية استطاعت أن تطور مؤسسات قوية – وإشراك مواطنيها في الحكم ما أدى“لتغليب طابع التوازن على النزاعات الانفصالية” في تلك الدول – في حين أن الدول العربية أدت غياب مثل هذه المؤسسات الجامعة إلى“تنامي تيار قوي في هذه الكيانات بهدف حجب التنوع في أوساطها” . هذه المقارنة مجحفة وسطحية لعدد من الأسباب. وهي تعزل هذه الدول عن سياقها التاريخي . فالدول العربية المذكورة في المقارنة كلها كانت استعمارية في الماضي القريب (إسبانيا – بريطانيا – فرنسا)، وكان لهذه الدول الاستعمارية دور كبير في إثارة النعرات الطائفية والإثنية في عدد من الدول التي استعمروها تطبيقاً للسياسة الإستعمارية“فرق تسد” وعندما قررت الدول الاستعمارية أنه من المناسب سياسياً لها إنشاء عدد من الدول الجديدة – قامت تلك الدول برسم الحدود الفاصلة بينهم على الخريطة – وطبعاً لم يؤخذ بعين الاعتبار التجانس الإثني أو العرقي أو المذهبي في تلك القسمة. فإن تتم هذه المقارنة الآن بهذه الطريقة في تقرير تنمية بشرية عربي أقل ما يقال عنها أنها سطحية ومجحفة.
من ناحية ثانية تؤكد هذه المقارنة – على حالة منهج“تبعي” إن جاز التعبير في هذا الفصل – فالفصل يتطرق إلى فكرة المواطنة بصفتها المؤسسة التي استطاعت“إدارة السوع الإثني والثقافي واللغوي” وبحث الدول العربية على فعل الشئ نفسه . والغريب في الأمر أن اتباع النموذج العربي في التطور السياسي – يتم التعامل معه بهذه السذاجة التي تعامل معها النص. وذلك أدنى إشارة أنها شكلاً واضحاً من أشكال التبعية. وبالرغم من أني اتفق مع مضمون مفهوم المواطنة وأرى أن هناك قصورًا شديدًا في ممارسة الديمقراطية والحكم الرشيد في البلدان العربية – إلا أني لا أقبل مقارنة مجحفة مفادها النهائي التبعية. إذ إننا نستطيع أن ترجع للتاريخ وحتى الأحداث السياسية هذه الأيام التي تذكرنا دعم الدول الغربية للأنظمة العربية الديكتاتورية. أو لم تبدأ الولايات المتحدة بتقديم الدعم المادي لمصر من بعد اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979 – بالرغم من أن هذه الاتفاقية لم يتم التصويت عليها في البرلمان المصري وعلى إثرها استقال 3 وزراء خارجية مصريون؟ ألا يستمر هذا الدعم حتى الآن بالرغم من أن التقارير تشير إلى استمرار الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان كالحق في الحياة من خلال التعذيب وسوء المعاملة واستمرار القوانين الاستثنائية كقانون الطوارئ. والأسوء – ألم تتحول بعض البلاد العربية إلى مُصدره لخدمة التعذيب لمن يريد من الحكومات العربية – أن يعذب مسجونين؟ أو لم تعترض الدول الغربية – أيضًا على نتائج الانتخابات التي اعترف العالم بنزاهتها في الأراضي المحتلة والتي أفضت إلى وصول حماس للسلطة السياسية وتشكيل حكومة، ومنعت عنها الدعم – الشيئ الذي منع الحكومة من دفع رواتب الموظفين من إداريين وأساتذة وأطباء … إلخ. فعندما يتحدث التقرير عن أهمية” ترسيخ حكم القانون وإقامة الحكم الرشيد في البلدان العربية” ص 64 وبعدها يقوم النص بتجزئة الواقع والحديث عن“النصيحة” التي وجهها“الحلفاء الاستراتيجيون للحكومات العربية بالرضوخ للمطالب الشعبية في أعقاب حرب الخليج في 1991 وغزو العراق في العام 2003″ ص 69، لا يسعنا إلا وضع علامات تعجب كثيرة حول إدعاءات مجتزنة من السياق، كان يجب أن ينظر لهذا الفصل من منطلق شامل ينظر لموقع البلاد العربية من النظام الدولي.
من الناحية العلمية – يفشل هذا الفصل في ربط مضمونه بمفهوم أمن الإنسان كما يعرفه التقرير في الفصل الأول الذي حدد المفهوم في“التهديدات الشديدة والمنتشرة والممتدة زمنًا وواسعة النطاق” التى تتعرض لها حياة وحرية الفرد. فإلى أي مدي“حيازة الدولة قبول المواطنين” (ص 54) لها علاقة بأمن الإنسان كما يعرف. وإلى أى مدي يكون التمييز ضد المرأة في أمر جنسية الطفل (ص 58) يشكل خطرًا على أمن الإنسان؟ ولعل القارى يتبين فى هذا الفصل أن مفهوم أمن الإنسان كما هو معرف فى التقرير مفهوم ضيق. لم يستطيع أن يستوعب الانتهاكات المختلفة لحقوق الإنسان التي تقوم بها بعض البلاد العربية بشكل منهجي. فأقضي ذلك أن ينقلب الفصل من الحديث عن أمن الإنسان للحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان والتأصيل لها في دساتير الدول العربية وحتى تلك الحقوق التى رأي الفصل الأول أنها لا تشكل تهديدًا لأمن الإنسان (كالحق فى تكوين الجمعيات الأهلية مثلاً) يري الفصل الثالث أنه كان المهم مناقشة هذا الحق!!!
3 – انعدام الأمن الشخصي للفئات الضعيفة وأزمة التعميم:
ينقسم الفصل الرابع الذي يتحدث عن أمن الفئات الضعيفة إلى أربع أقسام:
1 – العنف ضد النساء
2 – الاتجار بالبشر
3 – حالة النساء والأطفال في ساحات النزاع
4 – اللاجئون والمهاجرون داخليًا
يعاني هذا الفصل أيضًا من عدد من نقاط الضعف لعل أهمها هي ميله إلى التعميم وإطلاق أحكام جزافية دون الاستناد إلى إحصاءات عددية تمكن القراء من تخيل مدى شدة وانتشار هذه الظواهر في البلدان العربية. ففى الجزء الأول من الفصل الذي يتحدث عن العنف ضد المراة يلجأ النص إلى التعميم بشكل مرعب ونقرأ ( ص 79 )” تجد المرأة في البلدان العربية نفسها في مرتبة دونية داخل الأسرة، ولا تتمتع إلا بالقليل من الحماية من النظام القانوني إزاء ما تكابده من انتهاكات من جانب أفراد العائلة من الذكور. وتواجه النساء العربيات العنف خلال مختلف مراحل حياتهن. ففي صباها تواجه الإيذاء والتعنيف الجسدي والجنسي والنفسي وتشويه أعضاءها التناسلية والزواج فى سن الطفولة وبغاء وإباحية الأطفال وفي فترة المراهقة والبلوغ يمكن أن تتسع هذه الانتهاكات لتشمل الاستغلال الجنسي والاغتصاب والدفع إلى ممارسة البغاء والانحلال القسري والاتجار بالنساء وعنف الزوج والاغتصاب وصولاً إلى القتل المقصود” (ص 88) واستخدام هذا الأسلوب في التعبير عن المشاكل والانتهاكات التى تعانى منها النساء فى الوطن العربي به مزج غير علمي وغير دقيق بين العام والمنتشر وبين الحالات الاستثنائية التى يحرمها حتى المجتمع العربي. فيبدو للقارئ أن المجتمع العربي بأسره يمارس ويؤذي المرأة جسديًا وجنسيًا وبرغمها على الانحلال والبغاء والزواج فى سن الطفولة وهذا غير صحيح بالمرة . وإن كانت هناك حالات استثنائية مدعومة بثقافة ما تضع المرأة في مرتبة أقل من الرجل يحب أن يبين هذا الفرق.
ومن ناحية أخري يفشل هذا الفصل في إظهار مدى شدة انتشار ظاهرة العنف ضد النساء وقهر المجتمع لها فيلجأ إلى التعميم فنرى مثلاً أن الفصل لا يقدم إحصاءات تعلق بحالات الاغتصاب فى البلدان العربية ولا العنف الجسدي ضد المرأة ولا حتى تقديرات للأطفال والنساء الذين يرغمون على ممارسة الرذيلة. وهنا تظهر مشكلة لأنه من غير الممكن قياس هذه المشكلة على المدى البعيد ومدى التحسن والتدهور الحاصل إلا من خلال استحداث وسيلة ما لقياس هذه الظاهرة. وعلى أثر عدم الحصر العددي لحالات الانتهاك واللجوء إلى التعميم جاء هذا الفصل بعيدًا عن أمن المرأة كما عرف المفهوم وتحول كما الفصل السابق إلى” حقوق المرأة” في القوانين كما الجزئية المتعلقة بقوانين الزواج في البلدان العربية.
ويقع الجزء الخاص بالاتجار بالبشر فى نفس الأزمة – أزمة التعميم – إذ أنه يفشل فى حصر أو إعطاء تقديرات عددية حول هذه الظاهرة. فيلجأ إلى التعميم ويؤكد” يشكل (هذا النشاط) نشاطًا ضخمًا … تقدر قيمته بمليارات الدولارات“. من ناحية أخرى يعاني الجزئين الأخيرين من هذا الفصل المتعلقين بأحوال النساء والأطفال فى ساحات النزاعات واللاجئين والمهاجرين داخليًا من عدد غير قليل من نقاط الضعف، بالرغم من أنه يرصد عددًا من الظواهر المتعلقة كاغتصاب المرأة والأطفال كسلاح من أسلحة الحرب إلا أنه يقصر هذه الحالات فقط فى الدول التى تعانى حروب داخلية (السودان – الصومال) ولا يذكر الدول التى تعانى الاحتلال (العراق – فلسطين)، وهذا تمييز واضح فى النص – أخشى أن مفاده قصر هذه الظاهرة على البلاد العربية ونفي وجودها فى البلاد المحتلة من الخارج – الشيء الذي يشكك فى مصداقية النص العلمية وحياده.
من ناحية ثانية – أن يتم وضع هذه الجزئيات في فصل يتعلق” بالفئات الضعيفة” لا في الفصل المتعلق بالنزاعات والحروب يعطي انطباعًا أن الاحتلال العسكري لا يشكل حالة استثنائية تتعرض من خلالها حياة جميع الناس للخطر.. وبالتالي فالجزء الخاص بتجنيد الأطفال يمزج بين تجنيد الأطفال كآلية للحرب الداخلية وبين الدفاع عن النفس التي يقوم حتى الأطفال يفعلها في حالات الحرب والاحتلال، وأيضًا يؤدي المنظور الذي تبناه هذا الفصل للتعامل مع أحوال اللاجئين والمهاجرين إلى مدى الاهتمام الذي يلاقونه في البلدان العربية وليس فى مسئولية القوى المحتلة عن تلك الظاهرة التي تثقل كاهل الاقتصاديات العربية فيبدو أن سوء أحوال اللاجئين مسؤولية تتحملها فقط الدول المضيفة – والدول المحتلة – تفلت هذا من المساءلة والعقاب.
4 – تحديات الأمن الاقتصادي – بين الأمن والاقتصاد
يتحدث الفصل الخامس من التقرير عن التحديات التى تواجه الأمن الاقتصادي للدول العربية وينقسم كما سبق إلى عدد من الأجزاء – يناقش بالترتيب – حالة الاقتصاد العربي والبطالة والفقر، وبالرغم من أن الفصل شيق على مستوى المحتوى إلا أنه ضعيف جدًا على مستوي المنهج المتبع، بالرغم من أن التقرير يتحدث عن أمن الإنسان الفرد نرى أن أول أجزاء هذا الفصل تتحدث عن الأمن الاقتصادي للدول العربية وقلما يتم ربط هذا بذاك حتى فى الأجزاء الأكثر تعرضًا للإنسان العربي كالفقر والبطالة تتم مناقشتها فى ذاتها وليس بالارتباط بالمفهوم الإطاري الأكبر الذي يمثله أمن الإنسان.
وعلى ذلك أمثلة كثيرة. ففى الجزئية الخاصة بالبطالة يتحدث التقرير أن المعدلات متدنية في أغلب دول الخليج (الإمارات 2.3%، الكويت 1.7%).” لكن يقابل هذه المعدلات المتدنية (التى لا تشكل تهديدًا على أمن الإنسان في تلك الدول) المعدل الذي يقدر ب 6.1% في عام 2005 في السعودية حيث يمثل تحديًا قائمًا بالفعل للأمن الاقتصادي” – لم يمثل هذا الرقم تهديدًا للأمن الاقتصادي ولا يمثل 3% أو 1% تهديدًا؟ وعلى أي أساس نستطيع إصدار الحكم – بما أننا نتحدث عن أمن الإنسان الفرد؟ هذا سؤال لا إجابة له فى التقرير. أما في القسم الخاص بالفقر – فيقوم باستدعاء جميع المؤشرات المستخدمة لقياس الفقر وأيضًا دون ربطها بأمن الإنسان بالرغم من أن التقرير يذكر (ص 116)”أن انعدام الأمن الاقتصادي هو بمثابة إنقاص فى مستويات التعليم والصحة والمعيشة!” طبقًا لمؤشر الفقر البشري لكن لا يتم ربط الأمن بالفقر البشري منهجيًا.
من ناحية ثانية يتم اجتزاء الاقتصاد العربي فى الجزء الأول وكأن الدول العربية ليست جزءًا من نظام اقتصادي عالمي وبالتالي تكون رؤية التقرير للاقتصاديات العربية قاصرة على الظاهرة دون عرض أسباب هذه الظاهرة. نعم” ترتبط مسيرة الاقتصاديات العربية منذ السبعينات بمسيرة النفط” (ص 99) وتعاني من ضعف بنيوي – أهم معالمه الاستيراد والاعتماد على الخدمات – وقلة التصنيع والإنتاج الزراعي ( ص 103 ) وأتفق أن” الأقطار العربية كانت في العام 2007 أقل تصنيعًا منها في عام 1970″ ( ص 103 ) (بالرغم من التعميم الشديد فى كل هذه المقولات) إلا أن ذلك يجب أن يتم ربطه بالنظام الاقتصادي العالمي والتغير الذي حدث في السياسات الاقتصادية للدول العربية الكبرى بعد نكسة 67.
تصدير النفط – مثلاً – كان الرابط الذى يربط بعض الدول الاستعمارية بالدول العربية واستمرار هذا النهج حتى الآن يبين أنه لم يتغير الكثير من الناحية الاقتصادية بالرغم من حصول تلك الدول على استقلالها السياسي. من ناحية ثانية شكلت بعض السياسات التي فرضت على بعض الدول العربية – كسياسة الإصلاح الهيكلى جزءًا آخر من الأزمة والتي لم تناقش تتبعاتها – وآثارها المدوية على الفقر والبطالة إلا أنها تمثل إطارًا مهمًا للحديث في هذا الموضوع.
وبالتالي فالفقر والبطالة يتم النظر إليهم بعين الاقتصاد الداخلي للدول – الأمر الذي يؤدي إلى استقطاع وعدم وضوح الرؤية بشكل كبير وبالتالي تقديم حلول تتعلق بالسياسات الداخلية للدول فقط واستبعاد الطرف الدولي منها. فتتحدث المقترحات المطروحة إلى حشد الموارد البشرية لزيادة الإنتاج (ص 112) من خلال إعادة هيكلة وإصلاح التعليم وتطوير البيئة المؤسسية اللازمة للقطاع الخاص ومن ناحية ثانية المقترح المقدم لحل الفقر كان تفعيل شبكات الأمان الاجتماعي ! ونعم هذه الحلول قد تكون مجدية جدًا وبل ضرورية في بعض البلدان للحد من المشاكل لكنها لن تكون كافية لأنها ليست المشكلة الأساسية.
5- تغذية الأمن وأمن الغذاء
يتحدث الفصل السادس بشكل مطول عن الجوع وسوء التغذية وأمن الإنسان إلا أنه لا يخلو منهجيًا من العيوب. فيتحدث عن الجوع ونسب الجوعي في البلاد العربية ولا يعطي تعريفًا واضحًا للجوع، هذا بخلاف عدم ربطه بمفهوم الأمن الإنساني. ولكن إذا كان بمقدورنا أن نفهم كيف يهدد الجوع الأمن – يصعب علينا أن نفهم كيف تهدد السمنة الأمن الإنساني. فبالرغم من أن السمنة تنال من النقاش جزءًا غير قليل ولا يتم تعريفها ولا يتم ربطها أيضًا بالأمن وإذا كانت السمنة تؤثر على صحة الإنسان – هل بالضروري تكون تهديدًا للأمن؟
يطلق هذا الفصل بعض الأحكام – دون التدليل عليها بشكل كافٍ – فلا يدري القارئ مدى استشرائها وتفاقمها. فمثلاً –” الجوع يستهدف الصحة” والجوع يحول أمراض الأطفال القابلة للشفاء أمراضًا قاتلة” و” الجوع يقوض الاستقرار“…. كل هذه الأحكام تطرح بشكل نظري ولا يتم ربطها بالواقع العربي. فإذا كان” الجوع يستهدف الصحة” هل أُجريت دراسة علي الجوعى فى الوطن العربي للمقارنة بين صحتهم وصحة الآخرين من وجعتهم اللذين لا يعانون من الجوع؟ فبدون مثل هذه الدراسات لا يمكن ربط أحكام الفصل بالواقع.
و بالرغم من أن التقرير يرى أن الأزمة الغذائية التى تعانى منها الدول العربية متمثلة في ارتفاع نسبة من يصيبهم سوء التغذية منذ التسعينات سببها إن تلك الدول تعاني من سوء تقسيم وتوزيع الغذاء – وليس فى عدم توفره صـ 128. هذا كان يجب أن تتم مناقشته من منظور واسع – يتحدث عن سياسات العولمة وتحرير السوق وإلغاء الدعم. وبالرغم من أن هذه السياسات تذكر في الفصل إلا أنها يتم التعامل معها كسبب ثانوي وليس من الأسباب الرئيسية على العكس يتم التعامل مع استيراد الأغذية وعدم كفايتهم الذاتية من الغذاء – دون ربط هذا الواقع العربي بالسياسات الدولية.
ولعل هذا الاجتراء الذى يحدث للاقتصاد العربي من الاقتصاد العالمى تتجلى آثاره في المقارنة المجحفة والمستفزة مع اليونان. فهذه المقارنة تقضى إلى أن مستوى نصيب الفرد من المغذيات فى الدول العربية كافة أقل نسبيًا من حصة الفرد في اليونان. ودون الأخذ فى الاعتبار أن اليونان هي جزء من الاتحاد الأوروبى الذى يتخذ تدابير حمائية – لحماية مزارعيه بالإضافة إلى نظام دعم اجتماعي قوي وفعال وبيئة ومناخ طبيعي يساعد على الزراعة. يرى واضعوا هذا التقرير أن من الملائم مقارنةً تلك الدولة بالدول العربية التى تعاني من ضغوط خارجية لإلغاء الدعم وإستيراد الطعام وقلة الموارد الطبيعية المتمثلة في شح المياه والأراضي الزراعية. وبالتالي تخرج التوصيات عن هذا الفصل هزيلة وغير واقعية بالمرة أهمها إتباع سياسة الاعتماد على النفس في الغذاء واستخدام سياسات تنموية ترفع إنتاجية المياه والموارد الزراعية وأن تقدم الحكومات للمزارعين حوافز للتوسع في الإنتاج.. هذه التوصيات غير واقعية ونظرية جدًا – لا تأخذ فى الاعتبار عددًا كبيرًا من العوامل الخارجية – التي تحد من تنفيذها.
6 – الصحة والأمن
لعل الفصل المتعلق بالصحة هو أقل الفصول إصابة بالمشاكل. من ناحية يعطى الفصل تعريفًا واضحًا وعمليًا للصحة – ويربط هذا بمفهوم الأمن وصدى ذلك عالميًا وعربيًا ثم يتحدث عن المشاكل الصحية ويبين المشاكل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية – وبالتالى يخرج بحلول وتوصيات أكثر شمولاً وأكثر واقعية. يعرف هذا التقرير الصحة: (منظومة من النشاطات المتعددة المسارات التى لا بد من تفعيلها للتخفيف من نشوء الأوضاع الصحية الحادة التي تحقق صحة المواطنين. وهذا التعريف تعريف عملي إلى حد كبير إذ أنه يتحدث عن النشاطات الفعالة التي تمنع انتشار الأمراض وتفاقم الوضع الصحي – التي من الممكن التحكم فيها وتغييرها أو تعديلها – وهذا أفضل مثلاً من اتباع تعريف أكثر عمومية لكن أقل عملية (كالتحرر النسبى من المرض والعدوى) الذى استخدمته لجنة أمن الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
من ناحية أخرى يتم ربط هذا التعريف بأمن الإنسان. فيرى التقرير أن العولمة وما انطوت عليه من الكثرة في حركة تنقل الأفراد حول العالم يجعل المخاطر الصحية في بلد ما – قادرة على الانتشار السريع في جميع أرجاء المعمورة – الشيء الذي يهدد الأمن الصحي للجميع. من ناحية ثانية يرى التقرير أن مفهومًا آخر للأمن الصحى يستخدم في بعض الدول وهو الإرهاب الصحي من خلال استخدام أو التهديد باستخدام أسلحة بيولوجية أو جرثومية ونشر فايروسات قاتلة في الحروب أو النزاعات الشيء الذي يمكن أن يضر بصحة الشعوب على المدى الطويل. وبالرغم من أن هذا المفهوم للأمن الصحي أضيق من الأول (ولا يتم التطرق له فى التقرير) إلا أن هذا التأصيل لفكرة الأمن وارتباطه بالصحة صائب إلى حد كبير من هذا المنطلق يرى التقرير أن الأمن الصحي يستوجب شراكة محلية – دولية.
ومن ناحية أخرى يشير إلى الدور الذى تلعبه منظمات دولية كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية في تحديد الأخطار الصحية وأسبابها وكيفية حصارها. ولكن النص يخفق مثلاً فى التطرق إلى شركات الأدوية العالمية والضغوط التي تمارسها على الدول الفقيرة لتزويدها بالأدوية باهظة الثمن. أعتقد أن هذا الجزء يحتاج لكثير من الشرح والإسهاب.
استطاع النص الربط بين الصحة وبين عوامل أخرى كالفقر والنزاعات السياسية والوعي الصحي والموروثات والممارسات الاجتماعية فنرى أن الصحة ليست معزولة عن الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة. فالفقر قد يمنع بعض الناس من الحصول على الرعاية الصحية والعلاج – والنزاعات السياسية قد تؤدى إلى تفاقم الأوضاع الصحية وانتشار الأمراض – بالإضافة إلى أن بعض السلوكيات العامة كالتدخين – والموروثات الاجتماعية كختان الإناث وتفضيل الصبي على الفتاة – في التعليم والصحة قد تساهم في تدهور الأوضاع الصحية لقطاع كبير من الناس، لكن أيضًا كل هذا كلام نظري بشكل كبير ما لم يتم تعزيزه بالدراسات الميدانية اللازمة.
بالنظر إلى الوضع الصحي العربي يرى التقرير أن الوضع الصحي تحسن في العالم منذ الستينات من القرن المنصرم – ويذلل على ذلك من خلال تضائل معدل وفيات الأطفال عند الولادة ( من 152 حالة إلى 39 من كل ألف ) وتأخير الوفاة – وإطالة العمر نحو 23 سنة. إلا أن أهم المشاكل الصحية التى لا تزال تعانى منها الشعوب العربية في البلدان المستقرة سياسيًا هي الأمراض غير المعدية ( الضغط / السكر …. إلخ ). أما في البلاد التي تعاني عدم استقرار سياسي كالنزاعات والحروب فالأمراض المعدية وآثار العنف الجسدي على صحة الجسدية والصحة النفسية هي الأشد وطأة.
ولعل هذا الطرح في تحديد المشكلة الصحية وأبعادها – سيسمح للتوصيات أن تكون شاملة أكثر فيرى التقرير أنه يجب أن يتم التعامل مع الصحة ليس كخدمات صحية فقط – بل تشمل التغذية الصحية وتوفر المياه والصرف الصحي ونشر الوعي الصحي. إذ أن المشاكل الصحية مرتبطة بعدد من العوامل لا يجب نسيانها.
من ناحية ثانية يعترف التقرير بعدم قدرة الدولة على التعامل مع الأزمات الصحية بمفردها – إلا أن الدول العربية لا تنفق على هذا القطاع الهام كثيرًا بالإضافة إلى ذلك فالقطاع الصحي مكبل ببيروقراطية إدارية تمنعه من أن يتجاوب مع احتياجات المرضى. إضافة إلى ذلك فإن ضعف برامج التأمين الصحي الخاص لا يفي بالغرض. وبين هذا وذاك – تتعرض العائلات في البلدان ذو الدخل المتوسط للمخاطر لأن قوتها الشرائية محدودة مع استمرار زيادة كلفة العلاج. ولعل هذه النقطة كان ممكن مناقشتها من منظور أعرض إذا نظرنا إلى عملية خصخصة الصحة التي تتم فى عدد من البلدان العربية وشركات الأدوية الأجنبية وما تفرضه من أعباء على الدول الفقيرة لكن لم يكن لتلك المقاربة مكان.
7 – احتلال الأمن أم أمن الاحتلال؟
أما الفصل الذى يناقش الاحتلال الأجنبي – وهو فصل يعتبره التقرير نقطة – من نقاط كثيرة تهدد الأمن العربي وليس أهمها أو أقساها أو أشدها وطئة. وبالرغم من أن ذلك خطأ فادح، إذ أن الاحتلال أو الصراع المسلح هو أحد الأسباب الرئيسية والتقليدية لتهديد الأمن – يرى هذا التقرير مستوى هذا الفصل من الأهمية ليجعله الأخير فى القائمة. في هذا الفصل يتم مناقشة حالة 3 دول عربية تتعرض للاحتلال (العراق/ فلسطين/ الصومال). وبالرغم من أن أجزاء من سوريا ولبنان لا تزل تحت الاحتلال إلا أن التقرير لا يتحدث عنها.
وبالرغم من أن هذا الفصل يحاول أن يأخذ من الموضوعية زيًا له في حديثه عن الاحتلال إلا أنه يفشل في مناطق عديدة بالاحتفاظ بهذا الزى. فمثلاً نرى ص 169 قوله” أخفقت القوات المتحالفة المتعددة الجنسيات في أداء التزامها بضمان الأمن للمواطنين العراقيين” هذا النص فى أسلوبه الذى يتسم بالدبلوماسية الشديدة – يخفي ما حواه الاحتلال من تهديد للحياة وإهانة لكرامة العراقيين أنفسهم. فيتم الحديث عن اشتداد وتيرة العنف من” الميليشيات العراقية” لكن عن تهديد الأمن من قبل القوات المتحاربة أو عناصر الشركات الأمن الخاصة – التي قامت بقتل أعداد من العراقيين المدنيين الغير مشتركين في المعارك – فلا حديث. ويتم التعامل مع أمر تهديد الأمن على أساس أنه من قبل العراقيين – الذين تحول بعضهم إلى ميليشيات متحاربة وإلى الإستقطاب الطائفي.
بالإضافة إلى ذلك – يتم إحاطة تعداد الضحايا العراقيين بغموض شديد. فيتم ذكر ثلاث تقديرات مختلفة من أقل تقدير وهو 47 ألف حالة وفاة جراء العنف إلى أقسى تقدير وهو 601 ألف… – وبين هذا التقدير وذلك فرق كبير – ولا يرجح التقرير تقديرًا على آخر وبالتالي يتم تشتيت القارئ بين التقديرات المختلفة دون الوصول إلى شيء في النهاية. أما تهديد حياة الإنسان الفلسطيني – فالتقرير يتبع نفس النحو – من ناحية يعترف بدور إسرائيل بتهديد الأمن إلا أن هناك تهديد آخر هو الصراع بين الفصائل الفلسطينية أنفسهم – في محاولة إيضاح أن إسرائيل لا تتحمل عبء المسئولية بشكل كامل بل يتحملها الفلسطينيون أنفسهم. الأسوء من ذلك هو أن التقرير يعتمد على بعض البيانات الإسرائيلية لأعداد القتلى والجرحى – دون إعطاء بيانات من مصادر فلسطينية أو عربية. فيرى القارئ أن أعداد الضحايا الفلسطينيين على أيدى القوات الإسرائيلية وصل 4908 فى 8 سنوات (2008 – 2000) لكن أعداد قتلى أحداث الاقتتال الداخلي وصل نحو 509 قتيل في نفس الفترة الأمر الذى يدل على أنه ليست قوى الاحتلال هي فقط المسؤولة.
عندما تتم مناقشة الأوضاع الاقتصادية وسبل العيش فى الدول المحتلة. نجد نفس الأزمة – محاولة خفية لتبرئة الاحتلال من مسؤولياته. فنرى مثلاً ص 175 أن نظام صدام أهدر” مقدرات العراق وخلف وراءه اقتصادًا دمرته سنوات حرب وعقوبات وسوء الإدارة الاقتصادية والتنمية المتقطعة غير المستقرة وانهيار البنية التحتية والمؤسسية” وبعد هذه المقدمة التي تسعى أن تقول أن الاقتصاد كان سيئًا والسبب في ذلك النظام البعثى نرى كيف أنه كان هناك” انتعاش طفيفًا” طبقًا للتقرير حدث سنة 2007 لكنه لم يترك أثرًا ملموسًا فى مستوى المعيشة العام… ويكمل هذا القسم أسباب تردي أوضاع العراقيين في انعدام الأمن وتهريب النفط (نتيجة المسؤولين العراقيين الفاسدين) والقصور البيروقراطي (لتفشي الفساد بعجز الأجهزة الحكومية) وهجرة الأدمغة (بسبب هروب العراقيين من بلادهم).
وكما العالم العربي – المفكك المجزء والمخترق من الخارج سياسيًا وعسكريًا يأتي هذا التقرير ليعكس واقعًا مريرًا تتجلى أسبابه ونتائجه بين صفحاته – بينما تضيع المسائل الحاسمة والقضايا المصيرية بين كلمات في سطور تحولت هي نفسها إلى خطوط تماس.