الإمبراطورية العثمانية من القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر

التصنيفات: غير مصنف

المنهجيات والمنظومات والمصادر

لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع

الإمبراطورية العثمانية

من القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر

لا تحتوي المصادر التاريخية المتعلقة بتكوين واتساع الدولة العثمانية إلا على شذرات عن صور حياة النساء. وتقدم كتابات الرحالة الأوروبيين ملاحظات مهمة ولكنها سطحية عن النساء المسلمات اللاتي قابلوهن في الأماكن العامة. وفيما يتعلق بتفاصيل الحياة اليومية لهؤلاء النساء، اعتمد الرواة الأوروبيون الرجال عادة على مترجمين كانوا في العادة من الرعايا غير المسلمين للإمبراطورية. أما الحوليات التاريخية العثمانية التي ذكرت كل ما كان يقع من أحداث مهمة تدور حول الحكام العثمانيين قلم تذكر إلا القليل من نساء البلاط الملكي البارزات، مثل الزوجات أو المحظيات أو البنات، طالما كان لأية منهن تأثير في الأحداث التاريخية. على أن الأبحاث التي أجريت على المعاملات القانونية في الإمبراطورية، والتي سجلتها الآلاف من مجلدات سجلات المحاكم الإسلامية، كشفت عن جوانب عميقة ومهمة من داخل الحياة اليومية للنساء العثمانيات، من المسلمات وغير المسلمات وتقدم هذه المداخلة في البداية خلفية تاريخية موجزة لتلك الفترة، ثم تتناول بعد ذلك بالدراسة النقدية المصادر التي تقدم معلومات عن النساء العثمانيات.

 

تمثل الفترة من ١٤٠٠ إلى ۱۷۰۰م سنوات تشكيل الدولة العثمانية ثم تحولها في النهاية إلى إمبراطورية. وقد ظهرت الدولة العثمانية في بادئ الأمر في بلدة سوغوتبغرب الأناضول، حوالي سنة ۱۲۹۹م، عندما قام عثمان، الذي كان زعيم بلدية سلجوقية حدودية صغيرة، بإعلان استقلاله عن السلطنة السلجوقية في قونية. وفي سنة ١٣٢٦م استولى العثمانيون على مدينة بورصةمن الإمبراطورية البيزنطية وأعلنوها ثاني عاصمة لهم. وبحلول عام ١٤٠٠م كان الحكم العثماني قد اتسع ليشمل معظم الأناضول، والأراضي البيزنطية في مقدونيا وبلغاريا. وفي سنة ١٤٠٢م انتقلت العاصمة العثمانية إلى مدينة إدرنه (أدريانوبوليس) في أوروبا، ومنها أعلن العثمانيون تحديهم لآخر المعاقل الكبرى للإمبراطورية البيزنطية، أي عاصمتها القسطنطينية.

ثم دخل العثمانيون فترة ركود قصيرة، عندما هاجمت قوة من السهول، بقيادة تيمور الأعرج (تيمورلنك)، الحاكم العثماني بايزيد الأول سنة ١٤٠٢م وهزمته. وشهد العقد التالي صراعا بين أبناء بايزيد الأربعة على العرش، حسمه محمد الأول (١٤١٢ ١٤٢٠م) في النهاية لصالحه. وبحلول عام ١٤٤٠م كانت الدولة العثمانية قد أعادت توحيد أراضيها في ظل حكم مراد الثاني، ثم استطاعت في عهد ابنه محمد الثاني (١٤٥١ – ١٤٨١م) هزيمة الإمبراطورية البيزنطية والاستيلاء على مدينة القسطنطينية، لتصبح العاصمة الأخيرة والنهائية للدولة العثمانية. ثم اتسعت الأراضي العثمانية اتساعا عظيما في عهد سليم الأول (١٥١٢ ١٥٢٠م) الذي أتم انتصاراته في شرق الأناضول وشمال العراق وفي سوريا وفلسطين ومصر والحجاز. ولكن الإمبراطورية العثمانية لم تصل إلى أقصى اتساعها في آسيا وأوروبا، إلا في عهد ابنه السلطان سليمان الأول (١٥٢٠ ١٥٦٦م).

وقد أدت فترات حكم خلفائه، سليم الثاني (١٥٦٦ ١٥٧٤م)، ومراد الثالث (١٥٧٤ ١٥٩٥م)، ومحمد الثالث (١٥٩٥ – ١٦٠٣) إلى الاضطرابات الاجتماعية التي شهدها القرن السابع عشر نتيجة للأزمات المالية والزراعية. وشهدت تلك الفترة أيضًا كثرة تغيير الحكام العثمانيين، حيث تولى السلطة تسعة سلاطين خلال القرن السابع عشر، وهم: أحمد الأول (١٦٠٣ ١٦١٧م)، ومصطفى الأول (١٦١٧ ١٦١٨م)، وعثمان الثاني (١٦١٨ ١٦٢٢م)، ومراد الرابع (١٦٢٣ ١٦٤٠م)، وإبراهيم (١٦٤٠ ١٦٤٨م)، ومحمد الرابع (1648 – 1687م)، وسليمان الثاني (۱۹۸۷ ١٦۹۱م)، وأحمد الثاني (۱6۹۱ ١٦٩٥م)، ومصطفى الثاني (١٦٩٥ ۱۷٠٣م). وبالرغم من بعض النجاحات المتواضعة التي أحرزها العثمانيون خلال تلك الفترة، كإعادة النظام في الإمبراطورية على يد مراد الرابع، والتوسع شرقا بالاستيلاء على بغداد سنة ١٦٣٨، فقد آلت حملاتهم الطموحة، مثل الحصار الأول لفيينا سنة ۱6۸۳م، إلى هزيمة العثمانيين أمام القوات الأوروبية. وبالرغم من أن تلك الهزيمة كانت بداية فترة سلام طويلة، فقد أدت عمليا إلى إنهاء الفتوحات العثمانية. وفي سنة ١٦٩٩م، عندما اضطر العثمانيون إلى توقيع معاهدة كارلوفيتز، لم يكن يخضع لسلطانهم في أوروبا سوى مقدونيا والبلقان.

وتعكس هذه الرواية التاريخية لأحداث الدولة العثمانية النبرة السائدة في كتابة التاريخ العثماني، والتي تتمحور حول كل حاكم من الحكام العثمانيين. ويرد ذكر النساء في تلك الروايات التاريخية عندما تكون إحداهن سببا في انتقال السلطة إلى أحد الحكام عن طريق علاقة القرابة، كأن تكون المرأة أمه أو أخته، أو عن طريق علاقة جنسية، أساسا وبداية من خلال الزواج، أو أن تكون المرأة محظية أنجبت وريث العرش. وتعيد روايات الرحالة الأوروبيين إنتاج هذه الرواية المهيمنة، مضيفة إليها في حالة النساء أوصاف ما يرونه عادة من ارتداء النساء المسلمات للحجاب في الأماكن العامة، واحتجابهن مكانيا، وما يسمعونه عادة من شذرات عن النساء المسلمات، يلتقطونها من أفواه رعايا الإمبراطورية من غير المسلمين.

تحديات دراسة النساء العثمانيات دراسة تحليلية

تكتنف دراسة النساء العثمانيات خلال تلك الفترة مشاكل نظرية ومنهجية. فالتركيز النظري على المجال العام يعمل على تهميش النساء العثمانيات، اللاتي عادة ما لا تشاركن فيه كما تفعل قريناتها الأوربيات. وسرعان ما تصبح هذه المشكلة مشكلة مركبة بفعل المنهج، حيث ينظر إلى البيانات التاريخية التي تغيب عنها النساء على أنها تمثل الواقع الاجتماعي خلال تلك الفترة. لذلك ترى معظم كتابات تلك الفترة أمرًا طبيعيًا في فكرة كون المؤسسات العامة التي يهيمن عليها الرجال تمثل الواقع الاجتماعي في العصر العثماني، وأن النساء اللاتي كانت لهن أنماط مختلفة من المشاركة لم تساهمن في هذا الواقع.

ومما يزيد من تركيب تلك المشاكل التي تسبب فيها اختلاف المشاركة العامة بين كل من الجنسين هو الافتقار إلى أدوات البحث المناسبة التي تمكننا من تحديد موقع النساء العثمانيات في المجتمع، ومن التعبير عن مساهماتهن، بعيدًا عن دورهن الإنجابي البيولوجي. فعلى سبيل المثال، ليس لعمل النساء العثمانيات العاديات في الحرف أو الزراعة نفس الوضوح الذي يحظى به الرجل، لأن هذا العمل لا يصل في العادة إلى السوق. بالإضافة إلى ذلك، هناك القليل جدا من الوثائق التي وصلت إلينا عن مجال كانت النساء العثمانيات فيه غاية في النشاط، ونقصد به التكاثر الاجتماعي، والذي يشمل تكوين شبكات الأقارب والأصدقاء والحلفاء والزيجات، والحفاظ عليها جميعا. ونتيجة لذلك أصبحت الروايات التاريخية الخاصة بالمجال العام المتمحورة حول الدولة، والتي يهيمن عليها الرجل، والتي تغيب عنها نساء النخبة هي الروايات المقبولة بغير نقد أو تأويل، فتجسدت بالتالي بوصفها الرواية التاريخية المهيمنة، إن إعادة التحليل المنظم والنقدي لهذه المصادر التاريخية وما يستتبعه ذلك من إعادة تأويل، هو وحده السبيل للكشف عن التنوع والتعقيد في مظاهر حياة النساء في الإمبراطورية العثمانية.

 

قدم الرحالة الأوروبيون إلى الإمبراطورية العثمانية في العادة كممثلين للحكام الأوروبيين في مهام خاصة، أو كمرتحلين عبر الأراضي العثمانية في طريقهم إلى مقاصدهم في الشرق. هؤلاء الرحالة، وكذلك السفراء الأجانب الذين أقاموا في العاصمة لفترات متفاوتة، وبطاناتهم والتجار والمارقون أو الأسرى، تركوا لنا روايات عن أسفارهم. وعادة ما كانت تتقاطع الحقائق مع ما يسمعونه من أقاويل ومع عناصر الخيال فيما وردنا من رواياتهم عن النساء. وبينما اتسمت الروايات الأوروبية التي كتبت خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، في وقت شهد تصاعد العظمة العثمانية، بموقفها الإيجابي تجاه العثمانيين، إلا أنه حدث تحول في تلك الكتابات خلال عصر التنوير. فبعد أن كانت الدولة العثمانية تصور على أنها عدو قوي لأوروبا، أصبحت تقدم كتجسيد للطغيان، ولعب عزل نساء النخبة دورًا مهمًا فيما يروى عن انحطاط الدولة الأخلاقي. ولم تلحظ روايات الرحالة، إلى حد بعيد، المشاركة الاقتصادية والاجتماعية للنساء من غير النخبة.

وكانت الاختلافات الدينية من الموضوعات المهيمنة، والتي صبغت كل كتابات الرحالة الأوروبيين خلال تلك الفترة. وقد أدى ذلك إلى تصوير العثمانيين على أنهم الآخر، مع التركيز على السمات التي تفرق بين العثمانيين والأوروبيين، على حساب أوجه الشبه العديدة بينهم. وبما أن الكتابات الأوروبية كانت تحتوي بطبيعتها، في الأغلب الأعم، على مقارنات بين الأوروبيين والآخرين الذين يتم تصنيفهم دائمًا باعتبارهم مختلفينفلم يكن هناك من بد أن يتمحور هذا الاختلاف على الجانب الأكثر وضوحًا، أي الاختلاف بين المسيحية والإسلام فكان المجتمع العثماني، في إطار الثقافة والطابع المهيمن، مجتمعًا إسلاميًا في الأساس، وجاء الفصل المفروض دينيًا بين مجالي العام والخاص ليقلل من الظهور العام للنساء العثمانيات، من النخبة ومن غير النخبة في المناطق الحضرية. وقد أدى هذا الغياب النسبي بالرحالة الأوروبيين إلى مقارنة المرأة العثمانية المسلمة بالمرأة المسيحية التي تظهر في الأماكن العامة في مجتمعاتهم، وهي مقارنة كانت تتم عادة على حساب العثمانيات. ونتجت عن ذلك أساطير حول كون المرأة العثمانية ضحية ومقهورة.

ومن هنا ظهرت عدم الدقة في جانبين يرتبط كل منهما بالآخر في كل كتابات الرحالة الأوروبيين عن النساء العثمانيات. وكان منشأ أحدهما ثقافيًا حيث استخدم الرحالة في العادة الأطر المرجعية الخاصة بهم، وهو وضع النساء في مجتمعاتهم الأوروبية، فوصفوا المرأة العثمانية في ضوء ما لم تكن عليه المرأة الأوروبية. وقد أدى ذلك إلى صورة للمرأة العثمانية غير قائمة على أسس موضوعية، ولكنها بالأخرى تكونت اجتماعيًا من خلال نفي أوجه الحالة الأوروبية. ويرتبط الجانب الآخر من عدم الدقة في الاستيعاب الأوروبي بالسياق العام، حيث أن عدم إمكانية وصول هؤلاء الرحالة إلى النساء العثمانيات قد أدى بهم إلى وصف ما لم يستطيعوا رؤيته بأنه غير فعال وبالتالي غير مهم. وقد أدى هذا التصنيف إلى تأكيد رؤية المرأة العثمانية على أنها مختلفة تمامًا عن المرأة الأوروبية. وقد ازداد هذا الاختلاف تعقيدًا بسبب عدم استطاعة الرحالة الأوروبيين مقارنة الصورة التي كونوها عن النساء العثمانيات مع الحقيقة الموضوعية أو المقابلة بينهما، فلجأوا إلى تقديم ما يترامى إلى مسامعهم من المقولات التي تؤكد الصورة التي رسموها. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يمثل عزل النساء أكثر ما اهتم به الرحالة الأوروبيون. فربما كانت مصادر معلوماتهم مأخوذة عن نساء الأقلية غير المسلمة اللاتي كان من الأيسر للأوروبيين الاتصال بهن عن طريق أزواجهن الذين كثيرًا ما كانوا مترجمين لهولاء الرحالة الأوروبيين.

ونجد تلك الأفكار موضحة في عدد من الكتابات الأوروبية، فها هو أوجييه غزلين دى بسبيك (Ogier Ghiselin de Busbecq)، السفير الإمبراطوري للملك فرديناند في إسطنبول من عام ١٥٤٤ إلى ١٥٦٢م، وأحد أوائل من زاروا الأناضول منذ احتلال الأتراك العثمانيين لها، يذكر في مذكراته على سبيل المثال ما يلي:

يحرص الأتراك على عفة زوجاتهم أكثر بكثير من أية أمة أخرى. لذلك يحسونهن في البيوت ويخفونهن عن الأعين حتى لا تكدن ترين نور الشمس. ولو كان لزاما أن تخرج الواحدة منهن، فلا تنطلق إلا مغطاة مسربلة حتى تبدو للمارة كما لو كانت طيفًا أو شبحاً.

…. ويمكن الحصول على المحظيات إما بالشراء أو بالأسر في الحرب، ولو دب الملل منهن، فليس هناك ما يمنع من إرسالهن إلى سوق العبيد وبيعهن (117, 1927).

ونجد معلومات شبيهة في روايتين أخريين لرجلين كانا في معية سفيرين أوروبيين، وهما غيوم بوستيل (Guillaume Postel) الذي كان في إسطنبول سنة ١٥٣٥م، وسالومون شفایغر (Salomon Schweigger) الذي كان فيها من عام ١٥٧٧ إلى ١٥٨١م. فعلى سبيل المثال نجد أن (بوستيل Postel 1560)، والذي ربما لم ير بنفسه أية امرأة عثمانية مسلمة، يقول مع ذلك أنهن يفضلن أن تكون شعورهن سوداء، وكثيرًا ما يقمن بالوصل ما بين الحاجبين كعلامة على الحسن. في حين يذكر شفايغر (Schweigger 1608) أنه لم يكن شائعًا بين الرجال العثمانيين أن يتخذ الواحد منهم أكثر من زوجة، وذلك لسببين: التأثير الطيب لمسيحيي ويهود الإمبراطورية، والسلام والهدوء الذي يكفله العدد المحدود من الزوجات في البيت. ويشير شفايغر أيضًا إلى أنه بالرغم من أن العالم بأسره يخشى التركي، فالتركي بدوره يخشى زوجته التي كانت هي الحاكم المطلق في البيت.

وقد علق نيكولاس دي نيكولاي (Nicolas de Nicholay 1585)، والذي كان الملك الفرنسي قد أرسله إلى إسطنبول سنة ١٥٥١م، قائلاً أن المرأة العثمانية المسلمة كانت تستمتع بالذهاب إلى الحمامات العامة، وأضاف أن النساء كثيرًا ما كن تنتهزن تلك الفرصة للهروب من أزواجهن وإقامة علاقات مع رجال آخرين. كما ذكر هانز دیرنشفام (Hans Demschwam 1923)، الذي كان في إسطنبول سنة ١٥٥٣م ضمن حاشية أحد القادة المجريين، أن النساء العثمانيات المسلمات لم يترددن كثيرا على المساجد، ولكن يقمن بالصلاة في البيت. وقدم لنا فيليب دي فريس كاناي (Philippe du Fresne- Canaye 1897)، والذي التحق بحاشية السفير الفرنسي في إسطنبول سنة ١٥٧٣م، وصفا مفصلاً لأنواع وأقمشة الملابس التي كانت المرأة العثمانية المسلمة ترتديها في الأماكن العامة وفى البيت.

كما أن لويجي دا زارا باسانو (Luigi da Zara Bassano 1963)، والذي كان في إسطنبول من عام ١٥٣٧ إلى ١٥٤٠م، قلم بعد عودته إلى روما بنشر كتاب عن ملابس الأتراك العثمانيين، بمن فيهم النساء. وأشار أيضًا إلى عادات المرأة العثمانية في التجمل: “فهي تحب الشعر الأسود، حتى أنها تصبغه بالحناء السوداء أيا كان لونه الأصلي“. ولم يستطع باسانو كذلك أن يقاوم الإشارة إلى النساء اللاتي يترددن على الحمامات العامة، حيث علق قائلا بقيام علاقات جنسية بين النساء في هذه الحمامات، وأنه قد كان على دراية شخصية بعلاقة من هذا القبيل بين امرأة يونانية وأخرى مسلمة. وقد ذكر نيكولاس دي نيكولاي أيضًا كثرة العلاقات المثلية بين النساء العثمانيات. ويبدو أن العزل العثماني للنساء كان يؤدي حتمًا في أذهان هؤلاء الرحالة الأوروبيين إلى الزنا وإلى ما اعتبروه انحرافًا جنسيًا.

وهناك موضوع آخر هيمن على تلك الكتابات، وهو العدد الكبير للنساء في بيوت الرجال العثمانيين المسلمين. وقد علق باسانو ودير نشفام على الدور الذي لعبته هؤلاء النساء، فعادة ما كن تساعدن في القيام بشؤون المنزل، ولكن الأهم أنهن كن تخدمن رأس الأسرة من الرجال. وقد لاحظ الاثنان بدهشة كبيرة، أن الرجل لو مل يستطيع ببساطة أن يبيع هؤلاء النساء في السوق. ويبدو أن الكاتبين، في إيرادهما لهذه المعلومة المثيرة، إنما كشفا عن خيال الرجل الأوروبي في إقامة علاقة مع امرأة دون تحمل أية مسؤوليات. وعلى ذكر المسؤولية برد مثال آخر على سوء الفهم الأوروبي، حيث أشار ديرنشفام إلى أن الزوجة العثمانية المسلمة لم تكن تمتلك أية مهارات تنظيمية، وعادة ما كانت تجلس في البيت دون عمل. وكان قيام الإماء بتأدية كافة الأعمال المنزلية يؤدي بدوره إلى بيوت تحكمها الفوضى وتفتقد إلى النظام. كما أشار إلى أنه بالرغم من استطاعة معظم النساء على المحافظة على عفتهن في بيوتهن، إلا أنه عادة ما كانت الزوجة التي يتركها زوجها لفترات ممتدة لذهابه إلى الحرب تلجأ إلى الدعارة. ولم يكن في الإمكان حتى معاقبتهن بشكل مناسب بعد عودة الأزواج، لأن التعرف عليهن لم يكن ممكنًا، لاكتساء وجوههن بالبراقع. مرة أخرى، يستنتج دير نشفام أن واقع الإبقاء على المرأة المسلمة حبيسة هو السبب في الانحدار الأخلاقي في إسطنبول.

ويتضمن تناول الرحالة الأوروبيين لأنماط الزواج لدى النساء العثمانيات المسلمات أيضًا على عناصر ساخرة. فقد أشار باسانو إلى أن المرأة العثمانية المسلمة لا تستطيع أن تتزوج من مسيحي، بينما لا يواجه الرجل العثماني المسلم مثل هذا القيد. وبالنسبة للطلاق، تستطيع المرأة العثمانية المسلمة أن تطلق زوجها إن لم يعجبها البيت الذي وفره لها، أو إن لم يكن قد دخل بها، أو لو كان للزوج رغبات غير طبيعية، أو لو أجبرها على شرب الخمر رغمًا عنها. وهي كلها ملاحظات تركز على توضيح الفروق بين حياة النساء العثمانيات والأوروبيات، كما أن المقارنات الكامنة في كل الروايات تعوق وصف تجارب النساء العثمانيات من وجهة نظرهن. ونجد حالة استثنائية في ما رواه توماس دالام (Thomas Dallam) الذي وفد إلى إسطنبول في الفترة ١٥٩٩ ١٦٠٠م للعناية والعزف على آلة الأرغن التي أهدتها الملكة إليزابيث إلى محمد الثالث (1595 – ١٦۰۳م)، فقد لمح الجميلات اللاتي كن في بيت السلطان عندما كان في القصر، ووصفهن كما رآهن.

والخلاصة أن روايات الرحالة تلك تعكس ولع الرجل الأوروبي بفكرة عزل المرأة. وفى محاولتهم لفهم ذلك الأمر لم يستطع هؤلاء المراقبون أن يقاوموا ذكر ما يرونه من أن العزل يؤدي إلى طائفة من السلوكيات غير الأخلاقية من الزنا والانحراف الجنسي إلى الإهمال في القيام على شؤون المنزل. وقد جرى تضخيم تلك الموضوعات في القرون التالية لتمثل النظرة التي وصفت فيما بعد بـ الاستشراق“. على أننا يجب أن نشير إلى أنه كانت هناك بضعة نساء من الرحالات الأوروبيات اللاتي قمن بزيارة الإمبراطورية العثمانية واطلعن بأنفسهن على نظيراتهن العثمانيات، ومن أهمهن ليدي ماري ورتلي مونتاغو (Lady Mary Wortley Montagu) زوجة السفير البريطاني، والتي كانت في إسطنبول في بدايات القرن الثامن عشر، ولذلك فهي خارج نطاق حديثنا هنا.

 

يوجد مصدر آخر للمعلومات عن النساء العثمانيات خلال تلك الفترة، وهو الحوليات التاريخية. وعادة ما تقتصر تلك المصادر على تناول مقتضب لنساء الأسرة السلطانية. فهي توضح على سبيل المثال أن أمهات وزوجات أوائل الحكام العثمانيين، في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها، كن بنات لزعماء دول إسلامية أخرى في المنطقة أو لنبلاء بيزنطيين بارزين. ومع توسع الدولة العثمانية على حساب هذه الدول الإسلامية وعلى حساب الامبراطورية البيزنطية، قلت فرص الزواج من نساء النخبة. إن هذه الحقيقة، بالإضافة إلى الممارسة التي استنتها الدولة العثمانية، أدت بالحكام العثمانيين عادة إلى التوقف عن الزواج من بنات الإمبراطوريات المجاورة، وبدأوا بدلا من ذلك في اختيار شريكات حياتهم من الجواري اللائي كانوا يتلقوهن في العادة على سبيل الهدايا.

ومع تحول الدولة العثمانية إلى إمبراطورية إسلامية وصلتنا المزيد من المعلومات عن زوجات الحكام العثمانيين من المسلمات، وكذلك عن القليلات منهن ممن كن أمهات للسلاطين المتتالين. ومن الأمثلة المبكرة على ذلك نجد نيلوفر هاتون، إحدى زوجات الحاكم العثماني أورهان، والتي كانت ابنة السيد البيزنطي لمدينة يار هيسار“. وفي القرن الرابع عشر، تزوج مراد الأول من عدد من الأميرات البيزنطيات، كان من بينهن ابنة أسرة كانتاكوزينوس، والتي أنجبت له بايزيد الأول، والذي تزوج بدوره من أميرات سيحيات كان من بينهن ابنة الإمبراطور البيزنطي يوحنا الخامس بالايولوجوس. وحتى منتصف القرن الخامس عشر، دأب الحكام العثمانيون على اتخاذ زوجات شرعيات، ومحظيات من الجواري على أن هذا التوجه بدأ في التغير لصالح المحظيات مع ازدياد قوة الحكام ورفضهم إقامة علاقات حميمة مع الأسر الحاكمة المجاورة. وبعد نهاية القرن الخامس عشر، لم يعد يتم تزويج بنات الحكام العثمانيين من أبناء أسر حاكمة أجنبية، ولكن بدأ بدلا من ذلك تزويجهن من أبناء العمومة والخؤولة، أو من كبار رجال الدولة عادة في محاولة لضمان ولائهم للدولة العثمانية.

ومن أبرز محظيات الحكام العثمانيين هي حورم سلطان المعروفة لدى الأوروبيين باسم روكسالينا“. وكانت ابنة كاهن روثيني، كان قد باعها التتار إلى الوزير الكبير إبراهيم باشا، الذي قدمها بدوره إلى السلطان العثماني سليمان الثاني. ولكنها، على عكس بقية المحظيات، دفعت سليمان الثاني إلى الزواج منها، وتدخلت في مسألة وراثة العرش خلال حياتها، حتى تضمن وصول أحد أبنائها إلى العرش العثماني، ولكنها لم تحرز نجاحًا في مسعاها. وكانت حورم تقرض الشعر، وأحيانًا ما كانت ترد بأبيات منه على أشعار الحب التي يرسلها سليمان. ومرة أخرى، نجد سليمان يقدم لابنه المحظية نوربانو سلطان التي كان اسمها في الأصل سيسيليا، والتي كانت ابنة غير شرعية من إحدى العائلات العريقة في مدينة البندقية، وهو بيت عائلة فيرنير بافو“. واشتهرت نوربانو لكونها أم السلطان، كما لعبت دورًا حاسمًا في توقيع العثمانيين على اتفاقية سلام مع البندقية في سنة ١٥٧٣م. وهناك امرأة أخرى لعبت دورًا مؤثرًا، وهي كوسم سلطان، والدة مراد الرابع، التي كان حاكم البوسنة قد أهداها إلى السلطان العثماني أحمد الأول. وقد تعرضت كوسم للقتل سنة ١٦٥١م بمكيدة من تورهان سلطان التي كانت في الأصل جارية روسية أهداها التتار الكريميون إلى القصر. وقد عملت تورهان على قتلها لتضمن جلوس ابنها على العرش العثماني.

إن ما يجمع بين كل هؤلاء النساء هو احتجابهن داخل بيت السلطان العثماني. وقد كانت عادة عزل النساء داخل البيت بالفعل من أهم جوانب الحياة في الإمبراطورية العثمانية، بالرغم من أن الرحالة الأوروبيين عادة ما أساءوا فهمها. كانت أحداث الحياة الاجتماعية والسياسية للنخبة العثمانية تجري بكاملها داخل الحيز الخاص، حيث الفصل بين الرجال والنساء، بينما كان فقراء الرجال والنساء يعيشون ويعملون جنبًا إلى جنب في الحيز العام. وبالتالي ففي سياق الإمبراطورية العثمانية كان العزل دليلاً على المكانة الاجتماعية والسياسية، ولم يكن الانعزال تجربة قاصرة على النساء بحال من الأحوال. فالواقع، أن قوة السلطان كانت تبرز من خلال انعزاله داخل الحريم، حيث كان باستطاعة النساء اكتساب سلطة سياسية واجتماعية على حسب قربهن منه. ولنا أن نلاحظ الفرق البالغ بين وصف الانعزال داخل البيت عند وضعه في سياقه التاريخي، وبين الوصف الذي تشكل بفعل ما رواه الرحالة الأوروبيون كما أوردناه سابقا.

إن حريم البيت العثماني، والذي لم يكن يوجد في العادة إلا لدى الأثرياء، لم يكن يتكون فقط من رجل البيت وزوجاته، ولكنه ضم أيضًا الأطفال والأرامل من الأخوات أو الأمهات، وكذلك الخادمات. ومصطلح حريممشتق من أصل الكلمة العربية حرموالذي يحمل من بين معانيه معنى المقدس، وكان صيغة احترام ويشار به إلى النقاء الديني. وبالرغم من أن الحريم كان يوحي عامة في أوروبا بمكان ذي دلالات جنسية لقهر النساء حيث تفتقرن فيه إلى السلطة ويمنع الرجال من دخوله، كان هذا الحريم في واقع الأمر نظامًا أبويًا داعمًا ومركزًا للحياة الأسرية والاجتماعية. وكانت سياسات الأسرة لا الجنس هي القوة الرئيسية وراء ظهور الحريم، وكان يشغله كل من الرجال والنساء.

أما الحريم الملكي المعروف باسم جريمي همايون، أى حريم الحاكم العثماني، وبالرغم من تشابه فكرته مع الحريم بوجه عام، فكان أكثر تعقيدًا، كما كان نظامًا للإدارة والتراثية بالغ التنظيم، واشتمل على بيوت والدة السلطان، والمفضلات لديه، وكذلك بيوت بناته وأمهاتهن. وارتفع شأن الحريم في المجتمع العثماني مع قيام السلاطين تدريجيًا باستبدال الزواج باتخاذ المحظيات. وقد كرست تلك الممارسة من الطبيعة الأبوية للسلطة، حيث أن المحظية لم يكن لها نسب معترف به، فاستمدت بالتالي قوتها من زوجها الذي كانت تدين له عادة بالإخلاص والولاء. وهو وضع يختلف كثيرًا عن وضع الزوجة التي قد يتداخل اهتمامها بمصالح أسرتها مع ولائها لزوجها. وربما تكون عادة اتخاذ المحظيات قد تأثرت أيضًا باستخدام العبيد في كل بنية الإدارة العثمانية، حيث كان يتم تحويل الشباب المسيحيين، بشكل منظم، إلى الإسلام، مع إلحاقهم بالقوات العسكرية للسلطان وتوليهم أرفع المناصب الإدارية. وكانت المحظيات في العادة شابات رائعات الجمال، أرسلن إلى السلطان كهدايا من كبار رجال الدولة الذين كانوا قد أسروهن خلال الغزوات أو اشتروهن من أسواق العبيد بعد اختطافهن أو بيع آبائهن الفقراء لهن. وبما أن استرقاق المسلمين كان ممنوعًا، فعادة ما كانت تأتي هؤلاء المحظيات من مناطق غير إسلامية، وكانت أسر جورجية وشركسية كثيرة تشجع بناتها على أن يصبحن من المحظيات لتتمتعن بحياة الرفاهية والراحة.

إن البنية التنظيمية للحريم، والتي يقوم فيها كل فرد بمهمة محددة بدقة، تعكس البنية المحيطة بالسلطان العثماني نفسه. وكانت كل الإماء اللاتي يدخلن الحريم السلطاني يطلق عليهن اسم أوضليك، أو نساء البلاط، وعادة ما يصبحن خدما في الحريم. وكانت والدة السلطان تنتقي من بينهن فائقات الجمال والمواهب كمحظيات يتم تقديمهن بعد التدريب إلى السلطان. وكان يتم تعليمهن الرقص وإلقاء الشعر والعزف على الآلات الموسيقية والتمكن من فنون الجنس. وكانت أكثرهن موهبة تقدم إلى السلطان لتصبح خادمته الشخصية أي غديكلي“. وبالرغم من أن هؤلاء المحظيات لم يكن لهن أي حق مشروع في السلطة فقد اكتسبن ألقابًا مثل سلطان كادنأو هاسيكيإذا ما رضي السلطان عنهن، وخاصة إذا أنجبت إحداهن ولي العهد. وكان هناك حرص على ألا تنجب أية امرأة أكثر من ابن واحد للسلطان. وعندما تصبح امرأة ما أما للسلطان العثماني التالي كانت تنال لقب والدة سلطان“. وكما كان يحدث في كل الأسر، كثيرًا ما قامت منافسة بين الوالدة سلطانوالهاسيكيعلى السلطة.

 

بالرغم من أن روايات الرحالة الأوروبيين والحوليات التاريخية العثمانية رأت في القوة السياسية غير المسبوقة للحريم الإمبراطوري في العصر العثماني منذ منتصف القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن السابع عشر أمرًا غير مشروع ومصدرًا للفساد، أثبتت دراسة حديثة (Peirce 1993) أن القوة السياسية النسائية كانت منطقية، بل ونتيجة مقصودة لتغير بنية الوصول إلى العرش والحكم في العصر العثماني. فقد كان الوصول إلى العرش في البداية يتحدد عن طريق صراع بين كل المطالبين به من ورثته، يستولي فيه أقدرهم على السلطة. وأثناء حياة والدهم، كان يتم إرسال الورثة من الذكور للتدريب في ولاية الأناضول، وكانت الأمهات تصاحبن الأبناء للإشراف عليهم وتنظيم بيوتهم ومتابعة شؤونها. وعند وفاة السلطان، كان الجميع يهرعون إلى العاصمة، ثم يقوم من يستولي على العرش بإعدام كل أخوته وأبنائهم ليضمن عدم قيام صراعات جديدة. وخلال القرن السابع عشر، أعيد النظر تدريجيًا في تلك الممارسة، فأصبح الأخ الأكبر هو الذي يجلس على العرش، ويحبس أخوته وأسرهم في العاصمة. إن هذا التحول السياسي في الوصول إلى العرش لم يؤد فقط إلى تقليص خبرات الورثة في الحكم، بل أدى أيضًا إلى زيادة تأثير أمهاتهم وزوجاتهم عليهم.

ومع انسحاب سلاطين المستقبل من شؤون العالم، وتوقفهم عن قيادة جيوشهم في المعارك، أصبحوا يقضون معظم أوقاتهم في صحبة النساء في القصر، فتنامت بذلك سلطة نساء البلاط، وأصبحت أمهات السلاطين رعاة السلطة الحاكمة، حيث يقمن على تدريب الأبناء على استخدامها، وتمارسها بشكل مباشر كوصيات إذا دعت الضرورة إلى ذلك. وقد اكتسبن المهارات الإدارية المطلوبة من خلال قيامهن بإدارة البيوت الكبيرة لأبنائهن، وترأست نساء الأسرة السلطانية الفرق الداخلية، وتفاوضن لعقد الاتفاقيات مع القوى الأجنبية، ولعبن دور الوصيات على أبنائهن، وقمن برعاية الفنون والأعمال الخيرية.

نساء الأسرة السلطانية راعيات للفن والعمارة في العصر العثماني

لعبت نساء الأسرة السلطانية أدوارًا محورية في ثقافة العامة الخاصة بالحكم، وتحديدًا فيما يتعلق بالاحتفالات الملكية والمباني الأثرية ورعاية الإنتاج الفني، وذلك منذ بداية الدولة العثمانية. ومن أوائلهن، نيلوفر هاتون التي تبرعت بتمويل بناء جسر وزاوية صوفية ومسجد بالقرب من مدينة بورصة. وتبعيت نساء من الأسر العثمانية البارزة خطواتها، فقمن بيناء القصور والمنشآت العامة مثل المساجد والمدارس والمستشفيات والوكالات، وحبسن عليها الأوقاف. ونجد أنه بتوفيرهن أماكن عامة لأبناء دولتهن، لم تظهر نساء الأسرة السلطانية مكانتهن السياسية والاجتماعية فحسب، بل كشفن أيضًا عن التزامهن الديني، وجذبن الانتباه إلى مواقع مهمة في الإمبراطورية. وكان ينظر إلى رعاية المنشآت المعمارية على أنها من أعمال التقوى التي تنال الثواب في الآخرة.

وفي القرون المتأخرة، بدأ يظهر نمط اجتماعي بين هؤلاء الراعيات، حيث هيمنت أمهات السلاطين على أنشطة البناء، فباستثناء حورم سلطان زوجة السلطان سليمان، والتي كانت لا تزال في سن الإنجاب عندما رعت العمارة، كانت نساء الأسرة السلطانية عادة ما ينتهين من الإنجاب والتربية أولا، فيكتسبن أقدمية المقام في الحريم، قبل أن تشرعن في أنشطتهن الإنشائية. وكانت حورم أول امرأة من الأسرة السلطانية ترعى أعمالا في العاصمة، بدلا من رعايتها في المدن الإقليمية. وكانت أهم مساهماتها المعمارية، هاسيكي حورم كلية، التي اشتملت على العديد من المنشآت الدينية والاجتماعية، حيث كانت تضم في الأصل مسجدًا ومدرسة ومكتبالتحفيظ القرآن، ومطعما. ثم أضافت لاحقا حمامًا مزدوجًا، ومستشفى مخصصًا للنساء فقط في جزء من المدينة يسمى أوراتبازاريحيث كان باستطاعة النساء المتاجرة في السلع، وهو المكان الذي كان في السابق مقرا لسوق الجواري.

ومن بين أبرز الراعيات من الأسرة السلطانية أيضًا ابنتها محرمة سلطانالتي أقامت هي الأخرى العديد من المساجد والمؤسسات الخيرية في العاصمة، وكذلك في العاصمة العثمانية السابقة إدرنة“. وكان مسجدها الذي يقع عند مدخل إدرنة من تصميم أشهر المعماريين العثمانيين، سنان، وكان يشتمل بالإضافة إلى المسجد على حمام ومطعم ومدرسة، وكذلك على ساحات وحدائق شاسعة. وكانت منشآت نساء الأسرة السلطانية تتميز في العادة بالابتكار أكثر من تلك المنشآت التقليدية التي تتميز بالفخامة مع الطابع المحافظ، والتي كان يأمر الرجال ببنائها. ومن بين الأخريات اللاتي حملن لقب والدة سلطانهي صفية سلطانوالدة محمد الثالث التي أمرت ببناء جامع يني والدة“. وبعد إسقاط ابنها من على العرش، قامت كوسم مايبيكر سلطانوالدة خليفته السلطان أحمد الأول، بإتمام هذا المشروع.

وعادة ما كانت نساء الأسرة السلطانية العثمانية تظهرن في الحوليات من خلال علاقاتهن بالسلاطين. وعندما ازداد بروزهن خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت الإشارات إلى هذا التغير، سواء في الحوليات العثمانية أو في روايات الرحالة الأوروبيين إشارات شديدة السلبية تلقي باللوم على ضعف الحكام والانحطاط الأخلاقي الذي نشره نظام الحريم. بيد أن هذا التغير كان في واقع الأمر نتيجة للتحول السياسي في نظام تولي العرش العثماني. فمع التوقف عن إرسال ورثة العرش إلى الأقاليم لتلقي التدريب، وبقائهم في العاصمة في قصور تحت رعاية أمهاتهم، تزايدت أهمية الأمهات وضوحًا، كما أصبحن راعيات بارزات للفن والعمارة، ومع ذلك شكلن مجموعة نخبوية صغيرة في الدولة والمجتمع العثماني. وقد أشارت مصادر تاريخية أخرى إلى موقع وأدوار النساء العثمانيات من غير النخبة، المسلمات منهن وغير المسلمات.

 

كان هنالك مصدران تاريخيان لتنظيم حياة النساء العثمانيات المسلمات من غير النخبة، وهما تعاليم الشريعة الإسلامية المستقاة من القرآن، والتفسيرات الفقهية لها للوصول إلى أحكام في القضايا المعروضة على المحاكم، والتي كانت تدون بدورها في سجلات المحاكم الشرعية العثمانية (“قاضيأو شرعي سجلري“). ويكشف تحليل هذه الأحكام عن أن العثمانيين رفعوا تقاليدهم وكذلك ممارساتهم المحلية إلى مكانة التشريعات وأسموها القانون“. ومع بداية القرن السادس عشر كانت أحكام القانونفي الدولة العثمانية قد أصبحت مجموعة من القوانين لها نفس أهمية القانون الشرعي الإسلامي.

وقد قدم القرآن صورة للوضع الأمثل للنساء في المجتمع، في مقابل وضعهن الفعلي. وقد كان الفشل في التمييز بين ما هو مثالي وفعلي في غير صالح الصورة المرسومة للنساء العثمانيات المسلمات في روايات الرحالة الأوروبيين، حيث اعتبرت تلك الروايات أن تعاليم القرآن هي وصف مباشر للوضع الاجتماعي. ولكن في الواقع، لجأ الفقهاء المسلمون إلى طائفة متنوعة من المصادر للتعامل مع مسألة تحويل التعاليم الإسلامية إلى ممارسة فعلية، فاستندوا إلى تراثهم التشريعي وإلى ملاحظاتهم لمجتمعاتهم وإلى قدراتهم على التمييز والحكم (Tucker 1998)، هذا بالإضافة إلى وجود القوانينالعثمانية، مما وفر للفقهاء مساحة قانونية واسعة للوصول إلى الحكم.

وفي سبيل الوصول إلى حكم ما من الأحكام، كان الفقيه يضع القضية في سياقها، آخذا في اعتباره الوضع الشخصي المركب لظروف الفرد الاجتماعية والمدنية. وكان القضاء ينظر إلى النساء العثمانيات باعتبارهن أشخاصًا، وبالتالي بوسع المرأة أن ترث وتتملك وتدير الأملاك الشخصية والعقارية. وبما أن ممارسة عزل النساء كانت من الممكن أن تحول دون مثول المرأة أمام المحكمة، فكثيرًا ما كان يتم تعيين حارس لها من الرجال يكون مسؤولاً عنها قانونًا. ومع ذلك، فبالرغم من أن القانون العثماني كان يقر مسؤولية الرجل عن المرأة، إلا أنه كان حريصًا أيضًا على وضع حدود لتلك المسؤولية (Peirce 1999).

لقد اتضحت آفاق أوضاع النساء من الدراسات التي تناولت الثروة المعلوماتية التي تتضمنها سجلات المحاكم الإسلامية، وأجراها باحثون مثل رونالد جينينغز (Ronald Jennings 1975)، وهايم غرير (Haim Gerber 1980)، ومؤخرًا كل من جوديث تاكر (Judith, Tucker 1986, 2001) وثريا فاروقي (Suriya Faroqhi 1987) وغولرو نيسيبوغلو (Gulru Necipoglu 1991)، وجولي ماركوس (Julie Marcus 1992), وليزلي بيرس (Leslie Peirce 1993). فقد استطاع هؤلاء الدارسون والدارسات توسيع مجال المعلومات المتاحة حول النساء العثمانيات من كافة الطبقات والانتماءات الدينية – العرقية، وذلك إلى ما هو أبعد من الحدود الضيقة لروايات الرحالة الأوروبيين والحوليات التاريخية العثمانية، والمعارف القانونية، فكشفوا بذلك عن الدور الفاعل للنساء العثمانيات والذي كان منكرا في السابق.

على أن سجلات المحاكم الشرعية تتسم ببعض القصور كمصدر تاريخي، ويتمثل أكبر جوانب قصورها فيما يشوبها من انتقائية، حيث أن القضايا التي رأى أطرافها الوصول بها إلى المحاكم هي وحدها التي تظهر في سجلاتها، أما التعاملات الاجتماعية والاقتصادية التي يتم حلها بشكل غير رسمي بين الناس فلم يتم تسجيلها أبدًا. هذا بالإضافة إلى أن المحاكم الشرعية، بما أنها كانت تقام في مناطق حضرية، فعادة ما كانت قضايا نساء الحضر فيها أكثر من نساء الريف اللاتي ربما فضلن عدم السفر إلى المراكز الحضرية. ولم تترك الفلاحات قراهن للتقاضي أمام محاكم الحضر إلا في حالات استثنائية. على أننا يجب أن نتوخى الحذر فلا نزيد من إضفاء أهمية قصوى لهذا التميز القائم في صالح الحضر، حيث أن نسبة السكان في المناطق الحضرية في الإمبراطورية العثمانية في الأناضول والبلقان في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كانت أعلى بكثير من مثيلتها في أوروبا.

وتتناقض الصورة العامة التي تقدمها سجلات المحاكم الشرعية عن حياة النساء العثمانيات من غير النخبة مع تلك التي تقدمها روايات الرحالة الأوروبيين، والذين أساءوا فهم غياب النساء عن المجال العام باعتباره مظهرًا للانحطاط. فقد ظهرت النساء العثمانيات في تلك الفترة في قضايا المحاكم بوصفهن مشاركات على قدر كبير من القوة والفاعلية. كذلك توضح كثرة القضايا التي كانت تمثل المرأة فيها نفسها أن التعاليم الإسلامية الخاصة بانعزال المرأة قلما كانت ملزمة في المدن الإقليمية، وذلك بلا شك بفعل دورة الفصول الزراعية حيث يكون على الرجال والنساء القيام جنبًا إلى جنب بأعمال الحصاد والدرس. وهناك عامل آخر مهم، وهو غياب الرجال المسلمين لفترات طويلة خلال الحملات العثمانية، مما كان يجبر النساء على الانخراط في الأعمال الزراعية ورعاية الحيوانات، بالإضافة إلى الأعمال المنزلية.

وبالإضافة إلى الزراعة، شاركت النساء أيضًا بنشاط في جانب آخر مهم من الاقتصاد العثماني وهو إنتاج وتجارة المنسوجات. فقد عملت النساء في التطريز والغزل والصباغة والنسج، وهو ما سمح لهن بكم لا بأس به من القوة والاستقلال المالي. وقد أصبح التطريز الذي كانت تقوم به النساء بشكل مستقل في بيوتهن من المهارات المهمة التي تتعلمها الفتيات في سن صغيرة في جميع أنحاء الامبراطورية، وبعد اكتساب الفتيات للمزيد من المهارات، ونضجهن، كان باستطاعتهن إقامة مدارس صغيرة غير رسمية لتعليم الفتيات الأصغر، وقد مكنت هذه التجمعات النساء من تكوين شبكات اجتماعية. وتشير سجلات المحاكم أيضًا إلى أن النساء، في جميع ربوع الأناضول، جمعن الثروات من امتلاكهن للطواحين والمخابز والأفران ومحال البقالة وغيرها من أماكن العمل.

وبالإمكان إضافة المزيد من المعلومات الواردة في سجلات المحاكم الإسلامية حول حياة النساء العثمانيات المسلمات من غير النخبة، وتوثيق هذه المعلومات من خلال إجراء دراسات على حالات معينة. وقد قام رونالد جينينغز (Ronald Jennings 1975, 1980) بدراسة ما يقرب من ألفي قضية نظرتها المحاكم، كان أحد أطرافها امرأة، وذلك في الفترة من عام ١٦٠٠ إلى ١٦٢٥م في بلدة قيصري العثمانية. وكانت النساء ترفعن القضايا أمام المحكم لحل منازعات حول العقارات أو نقل الملكية أو لحل الخلافات الناشئة عن الزواج أو الطلاق. وتكشف السجلات بأن النساء عن مشاركات نشطات في المجتمع، حيث أنهن كثيرًا ما أدرن أملاكهن بأنفسهن وشاركن في التعاملات التجارية ووقفن في المحاكم لمتابعة شكاواهن. وبما أنه لم يكن من الممكن أن تتولى النساء مناصب حكومية، فقلما كانت الواحدة منهن تشارك في الأنشطة الاقتصادية في الدكاكين أو الصناعات الحرفية أو النقابات في المدن، فتركزت مشاركتهن الاقتصادية إلى حد بعيد في امتلاك الأراضي وإقراض الأموال.

وقد أظهرت دراسة هايم غربر (Haim Gerber1980) التي تناول فيها نحو مائة سجل من سجلات محكمة مدينة بورصة، في الفترة من عام ١٦۰۰ إلى ۱۷۰۰م أن النساء استخدمن المحاكم بشكل أكثر من نساء مدينة قيصري، حيث مارسن البيع والشراء وتأجير العقارات في الريف والحضر، كما امتلكن العديد من الدكاكين والورش والأراضي الزراعية. كما شاركت بعضهن في المعاملات التجارية الآجلة، فحصلن على القروض وقمن بالإقراض بالأجل بشكل شبه احترافي، بينما كانت أخريات تقمن بغزل ونسج الحرير وصناعة الخيوط الحريرية ثم بيعها في السوق. وربما تعود مشاركة المرأة المتزايدة في مدينة بورصة إلى قرب تلك المدينة من عاصمة الدولة بتعداد سكانها الكبير الذي زاد على نصف مليون نسمة مما أتاح فرصا للتعاملات التجارية.

وقدمت دراسات ثريا فاروقي المتعددة (Suraiya Faroghi 1995, 1987, 1980) معلومات إضافية عن النساء العثمانيات المقيمات في هاتين المدينتين وفي مدن أخرى في الأناضول. فهي تقول على سبيل المثال أن نحو ٥٠ بالمائة من مصانع غزل النسيج في مدينة بورصة سنة ١٦٧٨م كانت ملك امرأة أو تديرها امرأة، وعندما كانت توجد آلة نول في البيت، كانت المرأة تنسج عليها أيضًا. وبالرغم من أن النساء فلما امتلكن الدكاكين، ولم ينتمين في العادة إلى النقابات التجارية إلا أنهن تمتعن بحق الامتياز في بيع مصنوعاتهن في أي سوق شئن دون دفع ضرائب. بل أن نساء مدينة بورصة أنشأن سوقا خاصا بهن، على غرار سوق اسطنبول. وقد درست ثريا فاروقي (Faroghi 2002) أيضًا سجلات مواريث النساء العثمانيات والتي كان يتم تسجيلها وتقسيمها في المحاكم وفقا للشريعة الإسلامية. وتدل تلك السجلات على امتلاك النساء كميات كبيرة من الأموال السائلة والممتلكات التجارية والشخصية، وقد شملت ممتلكاتهن التجارية طواحين الهواء وأشجار الزيتون والفاكهة ومزارع الكروم والحقول الزراعية، كما قمن بأعمال الفروض المالية. وقد اتضحت الفروق في الاختيارات الشخصية لدى النساء في طبيعة ممتلكاتهن الشخصية حيث امتلكت بعضهن كميات هائلة من الملابس والحلي بينما لم تمتلك أخريات نفس الأشياء. ويقدم تحليل ثريا فاروقي أيضًا تفاصيل أدق عن حياة النساء العثمانيات، فقد لاحظت مثلا أن النساء من العبيد كن أقل حظا من الرجال في الحصول على الحرية من العتق عن طريق الوعد الرسمي لمن يملكهن.

وقد لاحظت ثريا فاروقي (Faroghi 2002) وجود عامل آخر وراء الحضور القوي للنساء في الأناضول، خاصة في الزراعة، والذي يتمثل في التدخل القانوني العثماني. فمنذ أواخر القرن السادس عشر، بدأت الدولة العثمانية في تعديل القواعد المهيمنة على ملكية أراضي الدولة من خلال القوانين، وذلك بهدف السماح لعدد محدود من النساء باستغلال الأراضي الزراعية والمزارع، ربما بسبب غياب الرجال لفترات طويلة في الحملات العسكرية. ويبدو أن عددًا قليلاً من النساء قد تمتعن بحيازة أراض زراعية من أملاك الدولة، ودافعن عن حقوقهن فيها أمام المحكمة. وسيرا على خطى نساء الأسرة السلطانية، وتمشيا مع مبادئ الصدقة في الإسلام، استخدمت هؤلاء النساء الثروات التي تجمعت لهن في إنشاء أوقاف وتولين الإدارة في المجالس التأسيسية لتلك الأوقاف. وقد كان من العوامل الإضافية المحفزة على إنشاء تلك المؤسسات هو قدرتهن بوصفهن صاحبات الوقف على تعيين ورثتهن المفضلين معهن في إدارة تلك الأوقاف.

 

إن الطابع الإسلامي الذي اتخذته الدول العثمانية في مراحلها الأخيرة، بالإضافة إلى كون غالبية سكان المنطقة اليوم من المسلمين، أدى إلى اعتبار العديد من الدارسين حياة النساء العثمانيات المسلمات نمطًا للسلوك الاجتماعي الخاص بالجزء الأكبر من السكان من النساء غير المسلمات اللاتي عشن في ظل الإمبراطورية العثمانية. كانت الدولة العثمانية، كما أشرنا في السابق، متعددة الأعراق والديانات منذ بدايتها، ولم يهيمن عليها الطابع الإسلامي إلا قرب نهايتها. ويكشف تحليل سجلات المحاكم الشرعية عن معلومات مهمة بشأن النساء العثمانيات غير المسلمات اللاتي قمن برفع القضايا أمام المحاكم الشرعية واللاتي تمتعن بمعاملة مماثلة، في الكثير من الوجوه، لما تلقاه مثيلاتهن المسلمات (Goçek and Baer 1997).

وقد استخدم الحكام العثمانيون نظام محاكم متعدد المستويات للفصل في منازعات رعاياهم، كانت المحاكم الإسلامية والمسيحية واليهودية تعمل فيه معا. وبالرغم من أن المحاكم كانت تنقسم إلى محاكم شرعية مخصصة للرعايا المسلمين، وأخرى للمسيحيين ولليونانيين الأرثوذوكس والأرمن واليهود، إلا أن كلا من المسلمين وغير المسلمين كان يلجأ إلى المحاكم الشرعية القائمة في المجتمع السائد. ويبدو أن غير المسلمين كانوا يرفعون قضاياهم أمام المحاكم الشرعية نظرًا للأنصبة غير العادلة نسبيًا التي كانوا يحصلون عليها وفقًا لقوانين المواريث العرفية الخاصة بهم. فوفقا لتقسيم المواريث في الشريعة الإسلامية كانت المرأة على سبيل المثال تحصل على أنصبة لم تكن تحصل عليها في الشريعة اليهودية. كذلك لم يكن باستطاعة المرأة اليهودية الطلاق من زوجها وفقًا لشريعتها، بينما كان للمرأة المسلمة حسب الشريعة الإسلامية أن تطلق نفسها من زوجها. وكانت المرأة المسيحية بدورها تذهب إلى المحكمة الشرعية لأغراض الزواج أو إشهار الإسلام. هذا بالإضافة إلى أن السلطات القضائية الإسلامية، بما لها من اتصال مباشر بسلطة الحكومة السلطانية التي تساندها، كانت عادة ما تعتبر هي الحكم النهائي الذي تحمل قراراته ثقلاً أكبر بكثير من ذلك الذي تتمتع به المحاكم العرفية غير الإسلامية. ولنا أيضًا أن نفترض أنه في حالة نشوء منازعات خارج العاصمة، لم يكن وصول المرأة غير المسلمة إلى محاكمها العرفية ميسورًا، فكانت تميل إلى السعي إلى عدالة الحكم الشرعي بدلاً من العرفي.

وتتشابه الثروات والممتلكات التي تمتعت بها النساء غير المسلمات الواردة في سجلات المحاكم الشرعية مع ما كانت تتمتع به نظيرتها المسلمة. ومع ذلك كانت لغة المحاكم الشرعية تولي أفضلية للوضع الاجتماعي للرجال وللمسلمين أكثر من ذلك الذي توليه للنساء أو لغير المسلمين. فعلى سبيل المثال، كان يشار إلى المرأة المسلمة في النصوص بـ هاتونأي السيدة، بينما يشار لغير المسلمة في العادة تبعًا لوضع زوجها الوظيفي. وبشكل أكثر تحديدًا، فبينما كان يشار إلى المرأة المسلمة عند تسجيل المواريث بكلمة الـ ساكنة، متبوعًا باسمها الذي يسبقه لقب تشريفي هو وفاة إدن” (أي التي استردها الله)، كان يشار إلى المرأة غير المسلمة في المواريث بكلمة الـ متمكنة، متبوعا باسمها دون أي لقب تشريفي، بل بعبارة هالكة أولان” (أي الهالكة على الكفر). وبالتالي فقد كان هناك تفريق منظم في اللغة التي استخدمتها المحاكم الشرعية للإشارة إلى المرأة المسلمة في مقابل غير المسلمة، مما يعكس الفروق بين الجنسين والاختلافات الدينية المفروضة اجتماعيًا في المجتمع العثماني بأسره.

الخاتمة

نستخلص إذن أن عناصر المجال القانوني والمادي والعرفي تتداخل معًا في صياغة الحدود المفروضة على تجربة النساء العثمانيات خلال الفترة من القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن السابع عشر. ولم تستطع ملاحظات الرحالة الأوروبيين حول النساء العثمانيات من التعرف على مشاركتهن الحقيقية في المجتمع، كما أن الحوليات التاريخية العثمانية عادة ما كانت تركز على أنشطة نساء الأسرة السلطانية فقط. أما تعاليم الشريعة الإسلامية المنظمة لحياة المرأة العثمانية، وقضايا المحاكم التي شكلت هذه الحياة فتعكس من جهتها حقيقة أنه بالرغم من أن كل النساء العثمانيات كان باستطاعتهن الحصول على قدر كبير من الأموال، وحصلن عليها بالفعل، إلا أن ثروات المسلمات وغير المسلمات العثمانيات لم تمثل بالضرورة مصدر قوة، ولكن كان موقع المرأة في البنية الاجتماعية العثمانية هو الذي يشكل حدود قوتها في المجتمع. وعادة ما كانت القيود المكانية تتفاعل مع النصوص القانونية والحدود العرفية ومع الوضع داخل بنية السلطة في فرض الحدود الاجتماعية على تجربة المرأة العثمانية خلال الفترة محل التحليل هنا.

G. Baer, Women and waqf. An analysis of the Istanbul tahrir of 1546, in Asian and African Studies 17 (1983), 9–27.

L. da Zara Bassano, Costumi et i modi particolari della vita de’ Turchi, Munich 1963.

Ü. Bates, Women as patrons of architecture in Turkey, in L. Beck and N. Keddie (eds.), Women in the Muslim world, Cambridge, Mass. 1978, 229–44.

O. Ghiselin de Busbecq, Turkish letters, trans. E. S. Forster, London 1927.

T. Dallam, The diary of Master Thomas Dallam, 1599–1600, ed. M. H. Hauser, London 1893.

H. Dernschwam, Tagebuch einer Reise nach Konstantinopel und Kleinasien (1553–1555) nach der Urschrift in Fugger- Archiv, Munich 1923.

S. Faroqhi, Land transfer, land disputes and askeri holdings in Ankara, 1592–1600, in R. Mantran (ed.), Mémorial Ömer Lütfi Barkan, Paris 1980, 87–99.

——, Men of modest substance. House owners and house property in seventeenth-century Ankara and Kayseri, London 1987.

——, The fieldglass and the magnifying lens. Studies of Ottoman crafts and craftsmen, in Journal of the Economic and Social History of the Orient 20:1 (1991), 29–57.

——, Making a living in the Ottoman lands 1480 to 1820, Istanbul 1995.

——, Stories of Ottoman men and women. Establishing status, establishing control, Istanbul 2002. P. du Fresne-Canaye, Le

voyage du Levant, ed. M. H. Houser, Paris 1897.

A. Galland, Journal d’Antoine Galland pendant son séjour à Constantinople (1672–1673), ed. C. Schefer, 2 vols., Paris 1881.

H. Gerber, Social and economic position of women in an Ottoman city, Bursa, 1600–1700, in International Journal of Middle East Studies 12 (1980), 231–44.

F. M. Göçek and M. D. Baer, Social boundaries of Ottoman women’s experience in eighteenth-century Galata court

records, in M. Zilfi (ed.), Women in the Ottoman Empire. Middle Eastern women in the early modern era, Leiden 1997, 48–65.

F. M. Göçek and S. Balaghi (eds.), Reconstructing gender in the Middle East. Power, identity and tradition, New York 1994.

G. Goodwin, The private world of Ottoman women, London 1997.

R. C. Jennings, Women in the early seventeenth-century Ottoman judicial records. The sharia court of Anatolian Kayseri, in Journal of the Economic and Social History of the Orient 28 (1975), 53–114.

——, The legal position of women in Kayseri, a large Ottoman city, 1590–1630, International Journal of Women’s Studies 3 (1980), 559–82.

——, Divorce in the Ottoman city of Cyprus, 1580–1640, in Studia Islamica 78 (1993), 155–67.

C. Kafadar, Between two worlds, Berkeley 1997.

A. Marcus, Men, women and property. Dealers in real estate in 18th-century Aleppo, in Journal of the Economic and Social

History of the Orient 26 (1983) 137–63.

J. Marcus, A world of difference. Islam and gender hierarchy in Turkey, London 1992.

M. Meriwether and J. Tucker (eds.), Social history of women and gender in the modern Middle East, Boulder, Colo. 1999.

G. Necipoğlu, Architecture, ceremonial, and power. The Topkapı palace in the 15th and 16th centuries, Cambridge, Mass.

1991.

N. de Nicolay, The navigations, peregrinations and voyages made into Turkie, London 1585.

L. Peirce, Shifting boundaries. Images of Ottoman royal women in the 16th and 17th centuries, in Critical Matrix 4 (1988), 43–81.

——, The imperial harem. Women and sovereignty in the Ottoman Empire, New York 1993.

——, Seniority, sexuality and social order. The vocabulary of gender in early modern Ottoman society, in M. Zilfi (ed.),

Women in the Ottoman Empire. Middle Eastern women in the early modern era, Leiden 1997, 170–96.

——, “The law shall not languish.” Social class and public conduct in sixteenth-century Ottoman legal discourse, in A.

Afsaruddin (ed.), Hermeneutics and honor. Negotiating female “public” space in Islamicate societies, Cambridge, Mass. 1999, 140–58.

——, Gender and sexual propriety in Ottoman royal women’s patronage, in D. Fairchild Ruggles (ed.), Women, patronage, and self-representation in Islamic societies, Albany, N.Y. 2000.

G. Postel, De la republique des Turcs: & là ou l’occasion s’offrera, des meurs et loy de tous Muhamedistes, Poitiers 1560.

H. Reindl-Kiel, A woman timar holder in Ankara province during the second half of the 16th century, in Journal of the

Economic and Social History of the Orient 40:2 (1997), 207–38.

R. Roded, Gendering Ottoman history, in K. Çiçek (ed. in chief), The great Ottoman-Turkish civilisation, ii, Economy and

society, Ankara 2000, 677–85.

H. Sahillioğlu, Slaves in the economic and social life of Bursa in the late 15th and early 16th centuries, in Turcica 17 (1985), 43–112.

S. Schweigger, Reyssbeschreibung aus Deutschland nach Constantinopel a. Jerusalem, Nuremberg 1608.

Y. Seng, Standing at the courts of justice. Women at the law courts of early 16th century Üsküdar, Istanbul, in M. Lazarus-

Black and S. Hirsch (eds.), Contested states. Law, hegemony, and resistance, New York 1994, 184–206.

L. Thys-Senocak, The Yeni Valide mosque complex of Eminonu, Istanbul (1597–1665). Gender and vision in Ottoman

architecture, in D. Fairchild Ruggles (ed.), Women, patronage, and self-representation in Islamic societies, Albany, N.Y. 2000.

J. Tucker, In the house of the law. Gender and Islamic law in Ottoman Syria and Palestine, Boulder, Colo. 1998.

S. Yerasimos, Les voyageurs dans l’empire Ottoman (XIVe–XVIe siecles). Bibliographie, itinéraires et inventaire des lieux habités, Ankara 1991.

F. Zarinebaf-Shahr, Women, law, and imperial justice in Ottoman Istanbul in the late 17th century, in A. Sonbol (ed.),

Women, the family, and divorce laws in Islamic history, Syracuse, N.Y. 1996, 81–95.

D. Ze’evi, An Ottoman century. The district of Jerusalem in the 1600s, Albany, N.Y. 1996.

M. Zilfi (ed.), Women in the Ottoman Empire. Middle Eastern women in the early modern era, Leiden 1997.

شارك:

اصدارات متعلقة

الاتجار بالاطفال
مرصد الاختطاف 2017-2018
مرصد وقائع الانتحار في مصر
استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم