المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع
أوروبا الغربية
من عام ١٩٤٥ حتى الآن
عادة ما تصرح التقارير النسوية بأن التحكم في النساء وفي حياتهن الجنسية كان أمرًا محوريًا لبناء المجتمع الوطني في عالم بلاد المسلمين، وفي نفس الوقت كان يتم إبعاد النساء إلى هامش عملية الحكم. وقد استخدمت حالة النساء المسلمات في أوروبا أيضًا، لا لأن النساء المسلمات لا يمكن تعريفهن بأنهن أمهات للأمم ويستخدمن كأيقونات شرعية للتقدم القومي، بل لأن تاريخهن وحالتهن الاجتماعية مطموران تحت طيات تاريخ هجرة المسلمين إلى غرب أوروبا. ولهذه الهجرة سمتان كبيرتان: أنها حدثت بعد الحرب، كما حدثت بعد انتهاء الاستعمار الكولونيالي.
الوضع ما بعد الكولونيالية
في العقدين الأخيرين، بزغ الإسلام كعاقبة غير متوقعة لهجرة العمالة إلى أوروبا، حاملة معها تغيرات ثقافية وعرقية غير متوقعة للمجتمعات الأوروبية. وقد بدأت الموجة الأولى للهجرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سبعينات القرن العشرين، وسادها تحرك جماعي كبير من العمالة الزائدة الوافدة من العالم الثالث وشرق أوروبا. وأثناء فترة الازدهار الاقتصادي الكبير التي اجتاحت العالم الغربي منذ عام ١٩٤٥ حتى ١٩٦٩م، ارتبط النمو الاقتصادي في البلدان الصناعية لغرب أوروبا ارتباطًا وثيقًا بالعرض الكثيف للعمالة وزيادة القدرة على الإنتاج. وحفرت هذه العوامل الهجرة المنظمة التي تكفلها الدولة لاستقدام مجموعات من العمال الذكور من شمال أفريقيا والهند وباكستان وتركيا، تصادف أنهم كانوا أيضًا مسلمين. وانتهى استقدام الدول الأوروبية للعمال الأجانب بصدمة البترول في عام ۱۹۷۳م، لكن هذا التوقف عن جلب العمالة الأجنبية إلى غرب أوروبا لم ينقص من وفود أشكال أخرى من الهجرة، كالهجرة لجمع شمل الأسرة، والهجرة الموسمية، والسفر ذهابًا وإيابًا عبر الحدود. وهكذا، تكونت الموجة الثانية للهجرة أساسًا من هجرة ثانوية لأفراد الأسرة، ولم تنحسر هذه الموجة منذ ثمانينات القرن العشرين. وقد كونت النساء المسلمات معظم هذه الموجة. أما الموجة الثالثة والأخيرة للهجرة فتتكون من لاجئين إلى بلدان أوروبا الغربية وطالبين للجوء إليها. وأكبر عاملين حفزًا هذه الموجة الثالثة للهجرة هما القيود الصارمة التي فرضتها الحكومات الأوروبية الغربية على الهجرة الشرعية إلى بلدانها إبان سبعينات القرن العشرين، والانقلابات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ارتبطت بالثورات التي حدثت في أوروبا الشرقية في تسعينات القرن العشرين، وهي موجة تشمل للمرة الأولى الكثير من النساء غير المتزوجات، اللاتي أتين بمفردهن إلى البلدان الأوروبية.
وقد أحدثت هذه الهجرة التي تلت الحرب تحولات عميقة في أوروبا. فهي لم تقف عند حفز النمو الاقتصادي العارم في فترة ما بعد الحرب، بل حفزت أيضًا تغيرات ملحوظة في الأسس الاجتماعية والثقافية لكل مجتمع من المجتمعات، وفاقمت الصراعات الاجتماعية. ونتج عن هذا تسييس مستمر لسياسة الدولة في تنظيم الهجرة ومحاولات لتغيير قواعد المواطنة.
وفي البداية، تجاهلت الدراسات التي تناولت المسلمين كأقلية دينية النساء، ثم بدأت في التركيز على النساء كموضوع لاهتمام متزايد. وكان أول من وفد إلى غرب أوروبا من المسلمين العمال الذكور، الذين لم يحصلوا إلا القليل من التعليم الرسمي، ودخلوا في أدنى مستويات أسواق العمل الأوروبية، وكانوا يميلون إلى النظر إلى إقامتهم في مختلف المجتمعات المضيفة على أنها إقامة مؤقتة، لجأوا إليها لأسباب اقتصادية صرفة. لذا، كانوا يعيشون معًا في مجموعات كبيرة، ويتقاسمون دفع الإيجار، ولا يضعون نصب أعينهم إلا هدفًا واحدًا: تعظيم مدخراتهم والعودة إلى الوطن. وفي هذه المرحلة المبكرة كان وجود النساء المسلمات نادرًا. وقد تم إهمال البعد الإسلامي تمامًا في التقارير والدراسات الأولى عن الهجرة. ولابد من القول بأن علم اجتماع الهجرة في ستينات وسبعينات القرن العشرين قد تعامى عن الدين وتوازنات القوى بين النساء والرجال، إذ اكتظ بتحليلات عن أثر هجرة المسلمين على سوق العمل أو الإسكان، لكن لا يوجد إلا القليل من التقارير التي تناولت إفراط هؤلاء العمال المسلمين في التدين. وفي نفس الوقت الذي قللت فيه البلدان الأوروبية من الهجرة إليها حتى توفقت في النهاية في عام ١٩٧٤م، لوحظ في جميع المجتمعات المحلية للمسلمين ازدياد تواتر جمع شمل الأسر، وتحول المهاجرون عن النظر إلى الإقامة في أوروبا كشيء مؤقت. وفي هذا السياق، وصل معظم الجيل الأول من النساء المسلمات كتابعات يعولهن الرجال. وعندند، بدأت الدراسات في تناول النساء المسلمات في السياق الأوسع لدراسات الأعراق والتعددية الثقافية. وفي محاولة من هذه الدراسات لشرح أحوال النساء المسلمات في أوروبا، تبنى معظمها – عن وعي أو عن لاوعي – المنظور الكولونيالي للتفسير.
يفترض هذا المنظور مسبقًا وجود تعارض جذري بين الإسلام والغرب، ويشكل هذا التعارض أساس الاستشراق، الذي يتميز بمدخل إلى الدين يعتمد على المذهب الجوهري، وبرؤية خطية للتاريخ، وهو منظور يرى سياسات العالم الإسلامي مجبولة على الحكم الديني والنزعة الانتكاسية. وغالبًا ما يكشف مسح الدراسات الحالية عن السياسات والإسلام في العالم الذي يعيش فيه العرب والمسلمون عن منظور مماثل. وتتخفى اللغة العقلانية وراء مقاربة معيارية مشحونة بالقيم، تميل إلى الانتقاص من قدر الإرث السياسي لعالم المسلمين، في حين تعادل التقاليد السياسية الغربية بالحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان. وقد وقعت الدراسات التي أجريت عن المسلمين في أوروبا فريسة لنفس المدخل الجوهري الذي يميز معظم التحليلات السياسية للعالم العربي، ومدخل يفترض عن خطأ أن المهاجرين ذوي الأصول المسلمة شديدو التدين، وأنهم يراعون جميع مبادئ الشريعة الإسلامية. وهو بهذا يتجاهل التنويعات الموجودة في عقيدة وممارسات المسلمين الناتجة عن أثر الهجرة، وأيضًا عن تأثير مناخ التعددية في أوروبا الغربية. إن اعتبار المسلمين كياناً واحدًا غير متمايز يبرر النظر إلى الإسلام كمصدر تهديد، وهي نظرة سائدة في الكثير من الدراسات الأوروبية عن الأقليات المسلمة.
وقد رأت هذه الدراسات أن تدفق المهاجرين من المستعمرات القديمة يخترق ثقافة البلد المضيف صانعًا في قلبها فجوة تخل بأصالتها المعروفة. ففي المملكة المتحدة مثلاً، صرحت مارجريت تاتشر بشكل شنيع عن قلقها من هذا الاتجاه، مشيرة إلى أن البلد “يمكن أن تغرق في مستنقع من أناس ذوي ثقافة مختلفة” (Mohammad 1999، 3). وقد انعكس هذا الاتجاه أيضًا في العودة إلى القيم الفيكتورية كجزء من إعادة المحافظين الجدد لإحياء أساطير الماضي الإمبريالي. وقد اتضحت هذه القيم في ثمانينات القرن العشرين مع إنشاء مقرر دراسي قومي لتلاميذ المدارس، وهو أداة رئيسية لنقل الثقافة القومية المهيمنة وخلق هوية قومية موحدة. وفي جميع أنحاء أوروبا الغربية، اعتبر المهاجرون من آسيا وتركيا وشمال أفريقيا تجسيدًا لنقيض الثقافة القومية. وقد اتضحت هذه المشاعر حتى في الكلام المنمق لبعض السياسيين الذين وصفوا المهاجرين بالفاظ تنتقص من قدرهم مصرحين غالبًا بأن رائحة الكاري تفوح منهم، أو أنهم يرتدون ملابس مثيرة للسخرية.
تركيزًا على هذه الفكرة المتكررة، تتباين تفسيرات “التهديد” الذي يشكله المسلمون من بلد إلى آخر. ففي فرنسا، يركز مختلف الصحفيين والخبراء على الأثر السلبي للإسلام في الضواحي. وقد نتج عن هذه التقارير نوع من الرعب المعنوي من تخيل تزايد المتطرفين المسلمين في داخل البلد. ففي خريف 1995، قتلت الشرطة الفرنسية خالد خلخال، المتهم الرئيسي في حملات التفجيرات الإرهابية. وقد أشعل هذا الحدث شرارة جدل عام واسع النطاق عن ظاهرة الفرنسيين المسلمين الشبان المغتربين الذين يلتحقون بالجماعات الإسلامية التي تمارس العنف. وفي المملكة المتحدة، دعمت “أمانة رانيميد تراست” إصدار تقرير في عام ۱۹۹۷ عن الخوف من الإسلام، فوصف التقرير “الإجحاف والتمييز” اللذين يلقاهما المسلمون في حياتهم اليومية، وكشف عن وجود اتجاهات ضيق أفق وكراهية للأجانب تجاه المسلمين في بريطانيا، وفي ألمانيا، ورد في كتاب عن غواية الأصولية تأليف هايتماير (Heitmeyer, Verlockander Fundamentalismus)، والذي يساوي من طرف خفي بين الإسلام والأنشطة العنيفة والهدامة، كما وصف الشبان المسلمين بأنهم “في خطر“، وأثار جدلاً ساخنًا حول هذا الموضوع وسط الرأي العام.
وفي أعقاب هجمات ۱۱ سبتمبر، تباينت الكراهية والشكوك من سياق قومي إلى آخر، حيث توجد هبات من الكراهية العنصرية ضد المسلمين في كل مكان تقريبا، وهي مصحوبة بردود فعل معينة. ففي بلجيكا وألمانيا وهولندا والدانمارك تكتسب الأحزاب اليمينية المتطرفة تشجيعًا، بينما يناقش في المملكة المتحدة تطبيق قوانين مضادة للإرهاب والاشتباه في ارتكاب الناس للجرائم لمجرد انتمائهم إلى أصل عرقي معين.
وقد ظهر اتجاهان كبيران في إطار تزايد المعرفة بالإسلام في أوروبا: يرتبط أحدهما بالعلاقة بين الأصل العرقي والنوع الاجتماعي والثقافة. أما الاتجاه الآخر فيركز على الرابطة الخلافية بين الإسلام والنوع الاجتماعي و“الأصولية“.
تبحث عدد من الدراسات أثر عملية الهجرة على الأدوار التي تلعبها النساء المسلمات. وتؤكد جميع هذه الدراسات على الوضع الهامشي للجماعات العرقية التي ينتمي إليها المسلمون، وتوضح ارتفاع معدلات البطالة بينهم وتدني أحوالهم السكنية. يعتبر الدين والثقافة من العلامات الدالة على الاختلاف، ومن أسس الاستبعاد. والسؤال الحرج الذي تطرحه هذه الدراسات هو: كيف تعيد الجماعات بناء هويتها؟ وكلها تنظر بعين الاعتبار إلى أهمية الانتماء العرقي لإعادة تشكيل هويات المسلمين في السياق الأوروبي. وبعبارة أخرى، تؤثر مختلف الحواجز الثقافية والعرقية على كل من معنى ومحتوى هويات المسلمين، بينما تدعم المرجعيات الإسلامية والتماهي مع الإسلام بناء المجتمعات المحلية للطوائف ذات الأصول العرقية المختلفة.
وتلقي بعض الدراسات الضوء على تأثير القيم الأبوية على حياة النساء الوافدات من جنوب آسيا وتركيا وشمال أفريقيا، فتبين هذه الدراسات كيف تتجلى القيم الأبوية المتجذرة في الثقافة التي سبقت ظهور الإسلام فعلاً في بعض الممارسات العنيفة والتمييزية المنسوبة عمومًا إلى الإسلام، مثل الختان، وإساءة معاملة النساء، والزواج المدبر.
وعلى طول هذا الخط، يصف بعض المؤلفين والمؤلفات كيفية تعضيد علاقات القرابة الدولية عن طريق الزواج في حالة المهاجرين الباكستانيين والأتراك والوافدين من شمال أفريقيا. حيث تلاحظ إحدى الدراسات أن الرجال الباكستانيين والأتراك والوافدين من شمال أفريقيا يفضلون الاقتران بزوجات من بلادهم الأصلية، لا من بين الجيل الثاني من النساء المسلمات في أوروبا. وهذا التفضيل “لبنات البلد الأصليات“، اللاتي يحظين بسمعة عن التزامهن الديني، يعكس فعلاً رغبة هؤلاء الرجال في أن يظلوا قريبين من الثقافة المحلية لبلدانهم الأصلية، بقدر ما يبين تشوقهم إلى أن يظلوا لصيقين بالإسلام. كما بحث آخرون تنظيم المسافة الاجتماعية التي تحكم علاقات الذكور بالإناث في تجمعات المسلمين، ووصفوا التحكم في حركة النساء خارج البيت. وحيث أن المجالين المتاحين أمام النساء هما المدرسة والعمل، فلا عجب في أن معظم الدراسات تصف النساء في مدارسهن ومقار أعمالهن. ومن المؤسف أن معظم هذه الأبحاث تعتمد على تعريف نمطي للنظام الأبوي، لا يطرح تساؤلات عن التغيرات التي طرأت على مكانة النساء المسلمات سواء في بلدانهن الأصلية أو في أوروبا، ولا يستكشف هذه التغيرات. والمدخل التقليدي للنظم الأبوية يصر على تقييد حرية النساء للحفاظ على ميراث الأب. وفي حالة المجتمعات الإسلامية، تؤكد بعض المؤلفات، مثل فاطمة المرنيسي، على دور الأيديولوجية الإسلامية، التي تفترض للمؤمنين من الذكور الأولوية في العلاقة مع الله. لكن أقل القليلين يحسبون حساب الأحوال المادية، مثل التحضر والتغيرات التي طرأت على دور الأسرة، والتي تؤثر على هذا النظام الأبوي الكلاسيكي وتجلب إليه التحولات. كما أن هذه الدراسات تسم جميع جوانب التأثير الأبوي بنفس الانشقاق الضمني بين ثقافات الداخل/ الخارج (الثقافة العرقية للمسلمين مقابل الثقافة الغربية)، وتسلم بالتعارض بين مملكتي القيم والسلوكيات كشيء مفروغ منه. ومن ثم، تدعم هذه التحليلات التعارض المصطنع والمضلل بين الإسلام والحداثة الاجتماعية، وتمنع القراء من فهم أن الإشارات إلى القيم الأبوية أو الإسلامية لا تدل على استمرارية الاتجاهات العتيقة، لكنها توضح قدرة مختلف الثقافات على التأقلم مع عواقب التحديث الاجتماعي والثقافي. فمثلاً، إن الأمر الذي قد يحدده تحليل ما على أنه ممارسة أصولية قد يكون نتيجة لاختيار شخصي، كما في حالة النساء اللاتي يرتدين الحجاب بدون ضغوط من الذكور، كتعبير عن نزعة روحانية ذاتية وتحرر اجتماعي في سياق حضري. ولإدراك معنى هذا الاستخدام الحداثي للتقاليد، من الضروري تجاوز خطاب الجندر في المطلق إلى دراسة العلاقات بين النساء والرجال من منظور الجندر في السياق الأوروبي.
إن نفس التحيز موجود، وربما إلى درجة أكبر، في الدراسات التي تتناول العلاقات بين النوع الاجتماعي والإسلام وما يسمى بالأصولية. وعمومًا، تقول معظم التقارير التي كتبتها نسويات عن النساء المسلمات – سواء في المجتمعات الإسلامية أو في المجتمعات المحلية لطوائف المسلمين في المجتمعات الأوروبية – أنه حيثما يلعب الإسلام دورًا حاسمًا في تشكيل الخطاب الاجتماعي السياسي لفترة ما بعد رحيل الاستعمار الكولونيالي، يصير التحكم في النساء وفي نزعاتهن الجنسية أمرًا محوريًا للإجراءات القومية والعرقية. فالنساء المسلمات في أوروبا يركزن على تمكين جماعتهن الاجتماعية المحلية، وذلك على النقيض من المعركة الدائمة من أجل إقامة دولة إسلامية في العالم الإسلامي. والاتجاه السائد الظاهر في كثير من المقالات هو النظر إلى الإحياء الإسلامي وسط مجموعات المسلمين في أوروبا كعلامة على الأصولية. وكما توضح دراسة جلافانيز، فإن مثل هذه الجهود التحليلية تساوي بين كل الحركات الدينية الجديدة وبين “الأصولية” ولا تشير إلا قليلاً إلى أبحاث اجتماعية كبيرة في مختلف المجتمعات الأوروبية (Glavanis 1998a, 391- 410). ويبدو أن هذه الدراسة تستقي فهمها للـ. “أصولية” من قبولها الضمني للانشقاق التحليلي والسياسي بين الحداثة الاجتماعية المتقدمة والديانة التقليدية. وهكذا، تتمكن هذه الدراسات أيضًا من القول بأن النضال ضد “الأصولية” يجب أن يشكل مكونا محوريا من مكونات النسوية. وبهذا الخصوص، لا عجب في أنهم يتمكنون من الخروج بخلاصة فحواها أن العلمانية من المكونات الضرورية لتمكين النساء، بما فيهن النساء المسلمات. فالدراسات تتجه إذن إلى إعادة إنتاج ما فعله الاستشراق الجديد التقليدي – دون نظرة نقدية إليه – من وضع الإسلام مقابل العلمانية دون الإشارة إلى علاقات القوى بين النساء والرجال في المجتمعات المحلية الإسلامية. فأي إبراز لتدين النساء ينظر إليه كأحد آثار الأصولية، وكعلامة دالة على حالة خضوع للهيمنة. وغالبًا ما تعتمد مثل هذه التأكيدات أساسًا على قراءة لنصوص وخطابات الفقهاء المسلمين والإسلاميين، ولا تتم عن أي بحث اجتماعي موسع.
ولحسن الحظ، أخذت دراسات أخرى في حسبانها خصوصية السياق الاجتماعي الأوروبي، فتجاوزت الصور التمثيلية لعلاقات القوى بين الرجال والنساء لتتناول العلاقات بينهما كما هي عليه، عن طريق تحليل النساء المسلمات تحليلاً تاريخيًا. والدراسات التي تتناول الحجاب تمثل هذه المحاولات، فمعظمها يوضح ضرورة فهم الحجاب في السياق التاريخي الخاص الذي تبنته النساء فيه. فخلال هيمنة الاستعمار الكولونيالي، صار الحجاب دالاً قويًا على القومية والثقافة، لا على مجرد المعنى الاجتماعي لجنس النساء. وقد تم حبس الحجاب في قمقم التعارض ما بين الغرب والقيم الداخلية الأصيلة، ومعظم التحليلات التي تناولت الحجاب في أوروبا أظهرت هذا الإطار، إذ وصفت الحجاب بأنه شكل من أشكال المقاومة الرمزية، ودال على السياسات الثقافية المتنازع عليها والمتعلقة بمعاني الهوية القومية والثقافية والدينية في فرنسا وألمانيا المعاصرتين. وهم يصرون على ما للحجاب من معان رمزية مختلفة وفقًا للطبقة الاجتماعية والسن. ويحدد آخرون نوعًا من النسوية الإسلامية المرتبطة بالحجاب وغيره من السمات الدينية ويصفون ما للحجاب من قوة – تبدو متناقضة ظاهريًا – على تحرير النساء في السياق الأوروبي. ووصف قليل من المؤلفين تدين النساء، خاصة في أشكاله الباطنية، كطريقة لتمكين النساء وتحسين أحوالهن. ولا شك أن الدراسة الاجتماعية للتدين الإسلامي عمومًا ولدى النساء خصوصًا سيصير أكثر الاتجاهات تزايدًا في الدراسات التي تتناول الإسلام في أوروبا.
وتوجد في أوروبا المرأة العلمانية أيضًا جنبًا إلى جنب المرأة المسلمة ذات الأصول العرقية والأصولية، وهي معروفة على نطاق أضيق من المرأة التي ذكرناها أولاً. وربما يرجع عدم الاهتمام بهذه الفئة من النساء إلى التحيز الاستشراقي الجديد الذي يفترض مسبقًا وجود صراع بين القيم والمعايير الأوروبية والإسلامية، وهو تحيز يحول دون اهتمام البحوث بأي نوع من أنواع التهجين الثقافي. والمسلمون العلمانيون، لا سيما النساء منهم، ولد معظمهم في أوروبا أو تعلموا فيها، وهم يعتبرون الإسلام جزءًا من إرثهم العائلي والثقافي دون تمسك دائم بقواعد طقوس عباداته، وهي أغلبية كبيرة صامتة تعيد وضع التقاليد الإسلامية في المجال الخاص بأكبر قدر ممكن من التحفظ. وهذه العلمنة لا تجذب انتباه وسائل الإعلام، لكن ممارستها تشكل ثورة ثقافية.
ينظر المسلمون العلمانيون إلى دينهم كمصدر للقيم التي تجعل حياتهم مشبعة بالمعنى، دون أن يتخلوا عن التماهي مع الإسلام، دون أن تقدهم هذه النظرة إلى الممارسة الدينية. إن عملية “تعبئة” القيم و“إضفاء الطابع الذاتي” عليها تفصل الرسالة الإسلامية عن محتوى التقاليد ومعاييرها المتفق عليها. وبهذه الطريقة، يبعد الفرد نفسه/ نفسها عن الجماعة ويضع نفسه/ نفسها في موضع الوسيط بين محتويات القانون وتطبيقه. وعندما تفصل هذه المعايير عن تحديداتها الأصلية والصارمة، قد يمارس الأفراد الاختيار والإبداع في تطبيقها. ويذكرنا هذا الاتجاه بغيره من الأشكال الجديدة للتدين في المجتمعات الحديثة، التي لم يعد فيها المؤمنون يطيعون المعايير التي تنقلها إليهم المؤسسات أو التقاليد، لكنهم بدلاً من ذلك يختارون قيمًا روحية كدال على التفرد. وهكذا يجري تنظيم البعد الجمعي للإسلام عن طريق منطق فردي، يشكل نمطًا غير مسبوق إطلاقًا للتمسك بالإسلام. وما زال هذا النمط في مراحله الأولى في أوروبا ومازال بحاجة إلى المزيد من الدراسة المكلفة.
ومن المؤسف أيضًا أن الباحثات والباحثين لا يتعلمون الأمور المتعلقة بانتقال الإسلام وتعديل قانون الأسرة الإسلامي ليناسب السياق الأوروبي إلا عن طريق المعلومات التي يحصلون عليها بطريق غير مباشر. فعلى سبيل المثال نجد أن المحامين المهتمين بتعديل الشريعة (القانون الإسلامي) لتناسب السياق الغربي يدرسون قوانين الزواج والطلاق والإرث ليحاولوا فهم كيف تظل التعاليم الأساسية للإسلام سارية المفعول في بيئة قضائية مختلفة. لكن هذه الدراسة لا تتناول الأحوال الاجتماعية للنساء المسلمات. فمثلاً، الباحث الذي لا يبحث إلا في تطبيق القانون يمكنه أن يستخلص أن القوانين الأبوية التقليدية الخاصة بالزواج والطلاق والإرث تنتشر بين طوائف المسلمين في غرب أوروبا. ولكن من الواضح أن تمكين النساء يتزايد في جميع هذه المناطق، فحتى رغم أن النساء قد يحترمن إجراءات الطلاق على المستوى الرسمي مثلاً، إلا أن الكثير من المفاوضات تجري بين الأزواج والزوجات حول الممارسات التقليدية.
وأخيرًا، يمكننا القول بأن المسلمين عمومًا، والنساء منهم خصوصًا، لم يكتفوا بالتكيف مع ما بعد الحداثة الاجتماعية والتحضر والعولمة في السياق الأوروبي، بل تكيفوا أيضًا مع “ثقافة انفصال“، تفترض مسبقًا استقلالية الفرد باتخاذ قراره وبعيش حياته حتى في المجال الديني. وبناء على ذلك، تنقسم الهويات المتكاملة في بلدان المسلمين إلى مكونات دينية واجتماعية وعرقية في بلدان الغرب. وبهذا الخصوص تكون ممارسات المسلمين أكثر تقدمًا بكثير مما قد توحي به الدراسات والبيانات.
H. Afshar and M. Maynard (eds.), The dynamics of race and gender. Some feminist interventions, London 1994.
L. Ahmed, Women and gender in Islam, New Haven, Conn. 1992.
S. Andessian, Migrant Muslim women in France, In T. Gerholm (ed.), The new Islamic presence in Western Europe, London 1988, 196- 204.
F. Anthias and N. Yuval-Davis (eds.), Woman, nation, state, London 1989.
F. Anthias and N. Yuval-Davis, Racialized boundaries Race, nation, gender, colour and class and the antiracist struggle, London 1992.
A. Bastenier, J. Carlier, and M. Verwilghen (eds.), Le statut personnel des musulmans Droit comparé et droit international privé, Brussels 1992.
B. Botiveau, Islamic law in the French legal context, Cambridge Anthropology 16:2 (1992), 85- 96.
A. Brah, Race and culture in the gendering of labour markets. South Asian young Muslim women and the labour market, New Community 95 (1994), 441- 8
L. Brouwer, Binding religion. Moroccan and Turkish runaway girls, In W. A. Shadid and P. S. Van Koningsveld (eds.), The integration of Islam and Hinduism in Western Europe, Kampen, The Netherlands 1992, 75-89.
J. Cesari, Musulmans et républicains. Les jeunes, la France et l’Islam, Brussels 1998.
F. Gaspard and F. Khosrokhavar, Le foulard et la république, Paris 1995.
P. Glavanis, The struggle for identity Race, ethnicity and difference in post-war Britain, London 1998a.
-, Political Islam within Europe. A contribution to the analytical framework, Innovation 11:4 (1998b), 391- 410.
N. Gole, The forbidden modern Civilization and veiling, Ann Arbor 1996.
F. Halliday, Islam and the myth of confrontation, London 1996.
W. Heitmeyer, Verlockender fundamentalismus, Frankfurt 1996.
D. Kandiyoti (ed.), Women, Islam and the state, London 1991.
D. Kandiyoti, Identity and its discontents. Women and the nation, In P. Williams and L. Chrisman (eds.), Colonial discourse and post-colonial theory. A reader, New York 1993, 376- 91.
G. Kepel, Allah in the West. Islamic movements in America and In Europe, Stanford, Calif. 1997.
C. Lacoste- Dujardin, Yasmina et les autres de Nanterre et d’ailleurs. Filles de parents maghrébins en France, Paris 1992.
T. Modood, British Asian Muslims and the Rushdie affair, in J. Donald and A. Rattansi (eds.), Race, culture and difference, London 1992, 260- 77.
R. Mohammad, Marginalisation, Islamism, and the production of the “other’s” “other,” In Gender. Place and Culture, 6:3 (1999), 221-40.
D. Pearl and W. Menski (eds.), Muslim family law, London 1998.
S. Poulter, Multiculturalism and human rights for Muslim families in English law, In M. King (ed.), God’s law versus state’s law, London 1995, 81-7.
G. Saghal and N. Yuval-Davis, Refusing holy order Women and fundamentalism in Britain, London 1992.
C. Saint-Blancat, L’islam in Italia. Una presenza plurale, Rome 1999.
A. Shaw, A Pakistani community in Britain, Oxford 1988.
N. Venel, Musulmanes françaises Des pratiquantes voilées à l’université, Paris 1999.
S. Vertovec, Annotated, select bibliography of academic publications regarding Islam and Muslims in the United Kingdom, Oxford 1993