المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية
المداخلات في الأفرع المعرفية
الدراسات الأدبية
مقدمة
إن علاقة فرع الدراسات الأدبية بـ. “النساء والثقافات الإسلامية” في جهدنا الموسوعي الراهن هو أولاً وقبل كل شيء تناول لعلاقة “النساء والثقافات الإسلامية” بفئة الأدب نفسه. وفيما يتعلق بالأخير – أي الأدب في معناه الحديث – والحقل الملازم له وهو “الدراسات الأدبية” هو بنية أكاديمية وفكرية حديثة نسبيًا. ورغم أن الشعر أو الملحمة أو الدراما سبقت بكثير العصر الحديث ومفهومه لـ. “الأدب“، إلا أنها بالنسبة للدراسات الأدبية مفهومة في العالم المعاصر باعتبارها أنواعًا أدبية معينة تدخل ضمن فئة الأدب بمعناها الواسع. ولم يكن هذا هو المفهوم السائد في العالمين القديم أو الكلاسيكي التقليدي، حيث كان الشعراء يلقون الملاحم بإلهام من الآلهة وربات الشعر، وكانت تحكي حياة إنسان عظيم أو أبطال، وأحيانًا بطلات، من أنصاف الآلهة – جلجامش أو إنانا، وأوديسوس أو أخيل، على سبيل المثال – وعلاقاتهم مع عالم الآلهة وأربابه إلى جانب عالم البشر والمخلوقات. وتضرب الدراما بجذورها في الطقوس الدينية. أما الشعر فقد نشأ في معظم لغات العالم القديم والكلاسيكي بأعراض متعددة – من غزل ومراثي وقصائد احتفالية ومديح وشعر غنائي. وهذه الأشكال – والتعليق عليها – ترجع في تاريخها إلى آلاف السنين، ولكن المفهوم والمصطلح والأدب كفئة تصنيفية – ومن هذا “الدراسات الأدبية” – هي ظاهرة متأخرة حتى لو كان “التراث” النقدي يتضمن الأعمال الكلاسيكية من فلسفة وبلاغة وسرد وشعر. بل إننا لم نستطع أن نتحدث عن علاقة الدراسات الأدبية بـ. “النساء” وبـ. “النساء والثقافات الإسلامية” إلا بقدوم العصر الحديث وصياغته لفئة الأدب والدراسات الأدبية.
دخلت كلمة “الأدب” (literature) اللغة الإنجليزية ولغات جنوب أوروبا الحديثة ذات الأصول اللاتينية من الجذر اللاتيني (littera) أي “الحرف“، وتشير أساسًا إلى نص مكتوب، أي إلى نص يتكون من حروف. ومن ثم كان الربط المباشر بين القدرة على فك رموز الحروف ومعرفة حروف القراءة والكتابة (literacy). وكان الأدب ودراسته علامة على علو المقام والطبقة الاجتماعية – على التعلم والثقافة والسلوك – وعلى الإيمان. وسواء كان مصطلح ومفهوم الأدب في اللغات غير الأوروبية قائمًا على كلمة “حرف” أو لم يكن مشتقًا منها (مثل كلمة “أدب” في اللغة العربية) فإن الفهم التاريخي للأدب والتعامل معه كمؤشر على الثقافة والتهذيب وقدرة التواصل مع النصوص والكتب الدينية يحمل قاسمًا مشتركًا منذ النشأة الأولى للمصطلح ومفهومه.
الأدب الديني
إذا كانت أنواع معينة – كالشعر والدراما والملحمة – والتي دخلت ضمن إطار التصنيف الحديث لفئة الأدب موجودة منذ آلاف السنين، فكذلك كانت النصوص الدينية المكتوبة. فالكتب المقدسة للديانات التوحيدية الثلاثة – المسيحية واليهودية والإسلام – رغم أن كلا منها بدأ منطوقًا ومنقولاً بالحفظ، دونت فيما بعد ووصلت إلينا نصوصًا مكتوبة، كما كان الحال النصوص المقدسة لكثير من الديانات والمناطق الأخرى. فهي إذن تشكل “الأدب الديني“، وبالنسبة لهذه النصوص فإن ما نعتبره الآن فرع “الدراسات الأدبية” كان أقرب ما يكون إلى دراسات النصوص الدينية، أي دراسة الكلمة المقدسة والتي كانت تقوم على الدراسة اللغوية الجادة والدقيقة القائمة على الإيمان. وهكذا فإن الإجابة على سؤال ما إذا كان هناك أدب إسلامي بهذا المعنى هي إجابة بالإيجاب بدون شك. وهناك كمية هائلة وثرية من النصوص الدينية التي يمكن أن نطلق عليها – مع وهو ما أطلق عليها في الواقع منذ قرون – أدب إسلامي أو مسيحي أو يهودي أو بوذي.
ولكن هذا ليس الأدب الذي تتناوله الدراسات الأدبية الحديثة. والتمييز في رأيي ضروري، ففي الواقع إذا أردنا وضع فئة تصنيفية للأدب الإسلامي الحديث فإن مفهومه الأكثر فاعلية لن يكون بالضرورة أدبًا دينيًا أو حتى أدبًا مكتوبًا على أساس ديني. ولن يكون أيضًا بالضرورة أديًا كتبه مسلمون. بل إن الأدب الإسلامي هو أدب حديث مبني على التراث المتشعب العظيم للثقافة الإسلامية، الذي يتغلغل في السياقات الأدبية والثقافية للعالم العربي الحديث (دون أن يقتصر عليها فحسب). وهكذا فإن الثقافة “الإسلامية” تصبغ الإنتاج البصري والنصي والثقافي لعدد كبير من مختلف الفنانين والفنانات بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو أي انتماء ديني على الإطلاق.
معرفة القراءة والكتابة
إن الأدب الحديث يحمل على أية حالة عبء تراث يمتد قرونًا طويلة على اعتبار الأدب نصًا دينيًا مدونًا وأن مفهوم الأديب – وأحيانًا الأدبية – يشير إلى من يقرأ ويفهم الكلمة المقدسة. ويحمل الأدب الحديث عبء تراث يرى أن من يقرأ الكلمة المقدسة لابد وأن يكون بالتالي متعلمًا ومثقفًا وحسن السلوك وحتى فاضل الأخلاق، وأساس تلك الأخلاق والثقافة والسلوك والتعلم هو معرفة القراءة والكتابة أي القدرة على قراءة الكتاب أو الكتب المقدسة. وهكذا فأننا نجد في إنجلترا أواخر القرن السادس عشر المقولة: “ليس لديه أدب كاف ليفهم النص المقدس” (quoted in Williams 1976، 184). ومع ذلك فإن نشأة الأدب في العالم الكلاسيكي (اليوناني والروماني القديم) أو البيزنطي أو الإسلامي أو الصيني القديم، وقراءة هذا الأدب – وإن لم يكن ذلك يتم بعد ضمن “الدراسات الأدبية” موضوع بحثنا هذا – كانت مرتبطة بكتب ذات مجالات تتعدى النصوص المقدسة. ففي القرون الوسطى الإسلامية كان المتعلم رجلاً أو امرأة يستطيع قراءة نصوص الإسلام المقدسة، ولكن مع اطلاعه في نفس الوقت على مؤلفات في الجغرافيا والتاريخ والفلسفة والشعر والطب وكتب الرحالة. وبشكل مواز نجد أنه في أواخر القرون الوسطى الأوروبية، وخاصة في أوروبا عصر النهضة، كان مفهوم معرفة القراءة والكتابة والأدب، رغم تداخلهما، أوسع نطاقًا حيث يشتمل على أدبيات تتجاوز النصوص الدينية.
من أواخر القرن الثامن عشر إلى بدايات القرن العشرين. إن الأدب الحديث، بما يحمله “حديث” من نقيض لوصف اللغة باعتبارها قديمة أو كلاسيكية أو من القرون الوسطى، ظهر في مرحلة تالية على تراث النصوص المقدسة. وقد أدى انتشار لغة دارجة مشتركة إلى تمكين الأدب الحديث وتشكيله مع ظهور المطابع والصحف ونظم التعليم التي بدأت تشمل طبقات اجتماعية أوسع من نخبة البلاط الملكي والنبلاء ورجال الدين. وقد تأثر الأدب الحديث تأثرًا كبيرًا بالحركات التاريخية الحديثة المتزامنة كالحركة القومية والرأسمالية الدولية والاستعمار، التي هي كما يذكرنا بها بحكمة إتيان باليبار (Etienne Balibar) متشابكة على اختلافها: “إن كل أمة حديثة هي بشكل ما نتاج للاستعمار، حيث أنها كانت بدرجة ما إما قوة استعمارية أو خاضعة للاستعمار، وأحيانًا كانت كلاهما معًا” (Balibar and Wallerstein 1991, 89).وبالنسبة للشعوب المستعمرة والشعوب الخاضعة للاستعمار فإن هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أنتجت أدبًا علمانيًا يعتبر متاحًا بدرجة أكبر ومعبرًا عن تاريخ و“شخصية” شعب “قومي“. إن الأدب الحديث – أي النصوص المكتوبة والمصنفة على أنها “كتابات أدبية” من أواخر القرن الثامن عشر إلى بدايات القرن العشرين – تحوي في طياتها بدون شك تأثيرات التراث السابق المدون منه والشفوي للنصوص الدينية والشعر الشفوي، والأغاني الشعبية والأساطير الشعبية، ونصوص العصور الكلاسيكية والقرون الوسطى. ولكن الأدب الحديث يعرف بأنه البيان النصي لثقافة وتاريخ شعب يفترض أنه قومي وحديث. (وبديلاً عن ذلك طبعًا يمكن أن يستخدم كـ. “دليل” على الملامح اللاحداثية واللاقومية في سمات “التخلف” لشعب ما).
إن الأمم التي تنشأ كوحدات أيديولوجية وثقافية واقتصادية وسياسية من إمبراطوريات “الشرق” و“الغرب” العظيمة – أي الإمبراطورية النمساوية الهنغارية والعثمانية والروسية –، أو تتوسع كقوى إمبريالية جديدة – أي فرنسا وإنجلترا، متتبعتين أثر خليفتيهما البرتغال وإسبانيا –، هي أمم كانت تسعى بشكل متزايد إلى إضفاء الشرعية على طموحاتها لتكون (أو في صورتها عن ذاتها باعتبارها قائمة بالفعل) أممًا حديثة وموحدة من خلال الأدب (والثقافة). أي أن الأدب الحديث باللغات الحديثة متأثر بشكل مباشر، أكثر من التراث النصي السابق، بعبء قيم الإمبراطورية والأمة والإثنية والعرقية. وفي حين أن هذه المفاهيم وحقائقها الاجتماعية لم تكن بالتأكيد جديدة على العصر الحديث، إلا أن وضعها كان بدون شك مختلفًا في المجتمعات القديمة أو الكلاسيكية عنه في مجتمعات القرون الوسطى أو في الديانات التوحيدية ونصوصها.
الدولة القومية
إن فئة الأدب الحديث ازدادت تماهيًا مع (صورة الذات المفضلة لدى) شعب أو أمة ما، وكذلك مع لغتهم الحديثة والدارجة أو على الأقل اللغة القومية المعاصرة. إن هذه الصيغة للأدب الحديث تكشف عن السمات الجوهرية والتواصل الثقافي لشعب ما، عمومًا من خلال خصوصيته، وبالنسبة للنص الأدبي وتفاعلاته المحددة. وبشكل اعتراضي فإن هذه الصيغة للأدب الحديث باعتباره يتمتع بالخصوصية من حيث فردية النص الأدبي وتفرده، وتمتعه بالعمومية من حيث ما يكشف عنه النص الأدبي عن شعب ما أو طبقة أو أمة، هما جانبان يعكسان مقولة جديرة بالاحترام. ففي الخلاف الكلاسيكي بين الخصوصية والعمومية رأى أرسطو في كتابه عن فن الشعر (Poetics) أن الشعر أكثر عالمية (وبالتالي أكثر فلسفة) من التاريخ الذي يهتم بالخصوصيات فقط. ويبدو أن الأدب الحديث ينقصه الجانبان، وبالتالي فمن مهام الدراسات الأدبية الحديثة إذن تتبع تفاعلات الجانبين في النص الأدبي الحديث. وهكذا فإن فرع الدراسات الأدبية كانعكاس نظري وتحليل للممارسة الإبداعية للأدب مطالب بالعناية بالأدب ونظامه، بلغته واستخداماته اللغوية، أي بالمضمون الأدبي والمجاز والصور والرموز. لأنه إذا كانت النصوص المقدسة نتاج وحي أو إلهام – أو إيحاء على أقل تقدير – من الذات الإلهية فإن النصوص “الدنيوية” الحديثة باللغات الدارجة هي نوع من الوحي والإلهام أيضًا ولكن ليس من الذات المقدسة وإنما من الشعب أو الأمة. (يقدم لنا تراث الرومانسية أيضًا النص الأدبي باعتباره من وحي أو إلهام أسلوب ورؤية بعينها، وإن كانت نابعة من مؤلف بعينه أكثر من كونها صادرة عن شعب أو أمة ما). إن هذه الصيغة للأدب وما يصاحبه من فرع الدراسات الأدبية قد كانت بشكل عام تعبيرًا عن نخبة ناشئة في الأمة أو الدولة القومية الوليدة. وليس من المثير للدهشة حدوث عجز في تصور واستيعاب صورة الذات المفضلة لـ. “الأدب الحديث” وفرعه الدراسات الأدبية، وكذلك بالنسبة لصورة الذات المفضلة للأمم والنخب الحديثة، وهي صورة لا يتم استيعابها بدون بناء نماذج أخري لما هو غير نخبوي وغير قومي وغير حديث. (ومن الأمثلة الأوروبية المعروفة والمؤثرة في هذا الصدد كتاب هيجيل عن فينومينولوجيا الروح بما فيه من مسار لتقدم مسيرة التطور الثقافي والروحي للأمم الأوروبية، وكتاب ماثيو آرنولد عن الثقافة والفوضى بما فيه من دعوة إلى تدريس الثقافة باعتبارها العلاج في وجه التهديد الذي تمثله الطبقات الدنيا: (G. W. F. Hegel, Matthew Arnold, Culture and Anarchy وكتاب، Phenomenology of Spirit).
إن الأهمية الكبرى التي تحملها هذه الفئة الجديدة نسبيًا في الأدب الحديث بالنسبة للإنتاج الثقافي والسياسي لما أصبح يعرف في العقود الأخيرة من القرن العشرين بمسمى “تمثيلات الهوية” هي مسألة ضرورية لتناول فرع الدراسات الأدبية إذ تحاول تفسير “النساء والثقافات الإسلامية“. ففي الصيغ الأسبق لـ. “الدراسات الأدبية” لم تكن دراسة النساء و/ أو الثقافات الإسلامية ظاهرة بوضوح في هذا الفرع من الأدب، وكانت مثل هذه الدراسات بالكاد تظهر على الهامش. (إن الدراسة الرزينة التي قام بها إيريك أورباخ عن المحاكاة: تمثيل الواقع في الأدب الغربي، ومع أنها في الحقيقة كتبت في “الشرق” المسلم خلال الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا في إسطنبول، ولكنها قلما تلتفت إلى “النساء والثقافات الإسلامية“: (Eric Auerbach, Mimesis: The Representation of Reality In Western Literature). وكذلك كان الأمر مع كتاب نظرية الأدب لكل من ويليك ووارين (Wellek and Warren, Theory of Literature)، وهو نص آخر مؤسس للدراسات الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين، حيث كان المؤلفان معنيين بتعريف مجال بما فيه من مراكز معرفية تتضمن يفترض أنه تراث أدبي متفق عليه، وبالتالي لم تكن “النساء” و“الثقافات الإسلامية” ضمن اهتماماتهما النقدية. بل إن فئتي “النساء” و “الثقافات الإسلامية“، إن وجدتا أصلاً، كانتا ستتحولان إلى فانتازيا شبه أنثروبولوجية مدغدغة للمشاعر (النساء)، واستعراض شبه أنثروبولوجي وغرائبي يؤكد بشكل كبير على التفوق الثقافي والأخلاقي للغرب على الآخر (الثقافات الإسلامية). (وللحصول على العديد من الأمثلة الأدبية على هذه الظاهرة مع رؤية تاريخية لماحة، أنظري/ انظر كتاب مهجة كهف عن التمثيلات الغربية للمرأة المسلمة بما فيها من مقارنة بين رؤى العصور الوسطى وعصر النهضة بشأن النساء المسلمات في مقابل رؤى العصر الحديث“، (Mohja Kahf, Representations of the Muslim Woman)، ولم تكن النساء والثقافات الإسلامية تعتبر محورية لفرع الدراسات الأدبية، مع أنها كانت في الواقع أساسية لصياغة مفهومي “الحديث” و “الغرب” حيث أن الحديث يضع نفسه بالضرورة في موقع ضد ما هو غير حديث أو مناهض للحديث، كما أن الغرب يضع نفسه ضد ما هو غير الغرب أو مناهض للغرب. وبتعبير أكثر دقة، لم يكن مفهومًا “النساء” و“الثقافات الإسلامية” يعتبران ذا صلة بالموضوع. فكان فرع الدراسات الأدبية تسوده موضوعات مثل الشكلية اللغوية أو البنيوية، والنقاشات حول العبقرية والتجديد الأسلوبي، والتفوق الحضاري، أو سير حياة المؤلفين. ولم يحدث إلا في العقود الأخيرة من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الأخص في السبعينات من القرن العشرين، أن تجاوز اهتمام الدراسات الأدبية القاعدة الراسخة في التراث الأدبي التي كانت تعمل بشكل منظم تقريبًا على إقصاء واستبعاد النساء والثقافات الإسلامية، مثلما كانت تقصي العديد من الشعوب والثقافات الأخرى.
دراسات ما بعد الكولونيالية
أصبح كتاب إدوارد سعيد الاستشراق (Edward Said, Orientalism)، والذي يستند إلى عمل سابق ومصاحب له في فرنسا، هو النص الأساسي في الدراسات الأدبية في العالم الناطق باللغة الإنجليزية حول الطرق التي سارت بها عملية الصياغة والبناء الحديثة من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتحديدًا بالطرق التي قام بها “الغرب” ببناء وصياغة “الشرق” في حالة إدوارد سعيد. وفي طيات تحليل إدوارد سعيد حول الفرضية “الغربية” بشأن وجود “شرق” متخيل بشكل كبير، نجد إيحاءات تفرض نفسها حول كيفية بناء “الغرب” لا “الشرق” وحده فحسب وإنما بناء “الغرب” لنفسه أيضًا خلال هذه العملية. وقد أصبح كتاب إدوارد سعيد الاستشراق من النصوص المؤسسة لمجال من مجالات الدراسات الأدبية – وهو “الدراسات ما بعد الكولونيالية” – والذي كان له أن يتضمن كأحد مواضيعه المهمة موضوع “النساء والثقافات الإسلامية“. وقد سعت دراسة النساء و/ أو الثقافات الإسلامية من هذا المنظور المهم لا إلى تقديم مجرد قصة أخرى من منظور سبق إهماله، بل سعت الدراسة ومن منطلق جدري أكثر راديكالية إلى إعادة التركيز على تعريف كلمة “الغربي” ذاتها من خلال الفعل النصي الذي يوضح مدى الاعتماد في فهم “الغربي” على مفاهيم نخبويه خاصة بما هو “غربي” أو “ذكوري” أو “أوروبي أو عقلاني” أو “متحضر“، تعتمد بدورها اعتمادًا كبيرًا على خلق ما يمثل نقيضها التام. وفي هذا السياق، فإن دراسة النساء ودراسة النساء في الثقافات الإسلامية أصبحت واحدة من بين عدد من الطرق المهمة للتحدي والسعي إلى تفكيك سردية المسيرة المطردة للعقل والحقيقة والنور والحضارة ضد الشرق المظلم والشهوائي والعنيف والمؤنث. (ما زالت هذه السلسلة القاتلة من الثنائيات المتعارضة قائمة، وإن كانت يشوبها ترهات بلاغية في القرن الواحد والعشرين. ويتم تحريكها بشكل قاتل مرة أخرى لشن حرب أو لتبرير حروب تم شنها فعلاً ضد أجزاء من العالم العربي، وفي غيره). لقد ساهمت الدراسات الأدبية في هذا الجهد التفكيكي بعنايتها التقليدية باللغة، وبناء الشكل الأدبي، واستخدام الصورة والشكل التوضيحي، وتوظيف الاستعارة والرمز. وهذه السمات التي تخص النص (الأدبي وغير الأدبي) لم تعد الإشارة إليها على أنها مجرد علامات على عبقرية وإبداع مؤلف ما أو لغة ما أو تراث ثقافي ما عظيم. فقامت تلك السمات يتسجيل الحدود بين الإقصاء والتضمين، والقهر والسكوت، والسلطة والسيادة. (أنظري/ أنظر كتاب ليلا غاندي عن نظرية ما بعد الكولونيالية للحصول على صياغة واضحة وموجزة لباحثة في الدراسات الأدبية متخصصة في تقاطعات نظرية ما بعد الكولونيالية مع النسوية والقومية، وأهمية عدم طمس أوجه الاختلاف بين الشعوب: (Leela Gandhi, Posterolonial Theory).
إن هذا التطور الأنجلو فرنسي في الدراسات الأدبية صاحبته في نفس الوقت تقريبًا جهود على نفس القدر من الأهمية والاتساع (رغم عدم كونها أدبية بالضرورة) وهي أعمال مجموعة دراسات التوابع (Subaltern Studies) في جنوب آسيا. (للتعرف على أعمال المجموعة أنظري / أنظر: Guha and Spivak, eds, Selected Subaltern Studies، وللحصول على امتداد دراسات التبعية بعيدًا عن أصولها في جنوب آسيا وانتشارها في مناطق أخرى بما في ذلك اعتبارات خاصة بمسألة الجندر: (ILana Rodriguez, ed., The Latin American Subaltern Studies Reader: Latin America Otherwise).
وبناء على التراث النظري “الشرقي” “والغربي” سعت دراسات التبعية إلى (إعادة) بناء قصة تاريخ التبعية والتوابع أو التاريخ غير السائد والذي كان مفقودًا في كتب تاريخ النخبة في الهند، سواء في الفترة الاستعمارية أو فترة ما بعد الاستقلال. وقد ركزت دراسات التوابع اهتمامها الفكري على دور طوائف الشعب التي يكاد يغيب ذكرها تمامًا في التاريخ الرسمي للنخبة، وهي تتضمن فقراء المدن والفلاحين والجماهير الكبيرة من الشعب في الهند ممن كانوا يعملون على خلق الهند الحديثة. وفي هذا السياق تم تضمين أدوار النساء والدين في دائرة الاهتمام النقدي. واعتمادًا على سجلات التعدين الاستعمارية الرسمية، إضافة إلى الوثائق التاريخية المهملة سابقًا، سعت دراسات التوابع ليس فقط إلى بناء سرد معارض للتاريخ الرسمي الذي يضفي “سموًا زائفًا” على النخبة الوطنية، بل تقوم دراسات التوابع كمشروع لغوي ونصي وثقافي وتاريخي، في أحسن أحوالها، بتفكيك أو بكشف الإشكاليات الكامنة في نفس الفئات التي يستند إليها التاريخ الاستعماري أو الوطني. إن نظريات التغير الثقافي والاجتماعي والتاريخي الكامنة في أعمال مجموعة دراسات التوابع، كما التحول (العنيف) بين أنظمة الإشارة، تنصب جهودها جميعًا – ولو مجازًا – على حقل معرفي مشترك مع الدراسات الأدبية في دراسة تأثير أنظمة الإشارة في النصوص الأدبية.
وينطبق الأمر نفسه على النظريات والتحليلات النسوية – ذات التركيز الأدبي خصوصًا ولكن ليس حصريًا – التي اتخذت فئة “النساء” كموضوعات للتحليل، حيث كانت فئة “النساء” قد تعرضت للتغييب أو الإسكات في السردية السائدة لـ. “الأدب” أو “الثقافة” أو “الحضارة“. (النص الفرنسي الكلاسيكي هو كتاب سيمون دو بوفوار الجنس الثاني، وبالنسبة للأدب الإنجليزي والأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر خاصة لا اللغة عمومًا كما حول الحال لدى سيمون دو بوفوار، فمن النصوص الكلاسيكية المبكرة كتاب غلبرت وغوبار عن المجنونة في الطابق العلوي: (Simone de Beauvoir, The Second Sex: Gilbert and Gubar, The Machwoman In the Attic). إن مصنف “النساء” اتسع ليشمل ليس فقط ما يدخل ضمن المفهوم العام لـ. “المرأة” ولكن أيضًا النساء “في أماكن أخرى“. (للاطلاع على نقد حاد عن قصر نظر النسوية، أنظري/ أنظر مقالة تشاندرا تالبيد موهانتي التي كتبتها في منتصف الثمانينات من القرن العشرين بأهميتها المستمرة عن تحت أعين غربية: البحوث النسوية والخطابات الكولونيالية: (Chandra Talpade Mohanty, Under Western Eyes: Feminist Scholarship and Colonial Discourses) هذا الاعتراف بالنساء الموجودات في أماكن أخرى – أي خارج الأصول الأوروبية بيضاء البشرة والمفترضة في الحركة النسوية “الغربية” (رغم أن هذه الصياغة لأصول النسوية الغربية تتجاهل مجالاً حافلاً من نشاط النساء من غير الأوروبيات ومن غير البشرة البيضاء) – هو اعتراف تضمن أنواعًا متنوعة من الاهتمام بـ. “النساء في الثقافات الإسلامية“. كذلك، فإن النظريات الفرنسية السياسية والأدبية والنسوية انجذبت بوضوح إلى أخذ “النساء والثقافات الإسلامية” في الاعتبار، وذلك لما واجهته الحياة الفكرية الفرنسية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من مواجهات وتحديات مع تراث الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا، والجزائر على وجه الخصوص. وقد أصبحت حالة النساء في الثقافات الإسلامية موضع الاهتمام السياسي والتاريخي والأدبي لبعض الفكر النسوي. (أنظري/ أنظر على سبيل المثال أعمال المنظرة النسوية الجزائرية اليهودية الفرنسية، هيلين سيكسو Hélène Cixous, وكذلك كتابات عالمة الاجتماع مارنيا لازرق Maria Large, أو أعمال وينيفريد وودهل Winifred Woodall في الدراسات الأدبية، أو كتابات ميريام كوك Miriam Cooke، أو فدوى مالطي دوغلاس F. Malti- Douglas، والكاتبتان الأخيرتان على معرفة بتراث النسوية الفرنسية وإن لم تكونا تعملان بالضرورة في إطارها). وقد بدأت حركة ترجمة كتابات نساء ينتمين إلى العالم الإسلامي أو يعشن فيه، رغم أن قدر الاهتمام الذي نلنه لم يكن يتماشى مع التراث الثري والمتنوع لتلك الكتابات (للاطلاع على ترجمات ممتازة تضع النصوص في سياقاتها، أنظري/ أنظر مثلاً أعمال ميرلين بوث Marilyn Booth وسلمى الخضراء الجيوسي Salma Khadra Jayyusi ومشروع ترجمة الأعمال العربية الذي تديره). كما أن نظرية التحليل النفسي – التي ولدت في القرن التاسع عشر في أعمال “أبي التحليل النفسي“، النمساوي سيغموند فرويد Sigmund Freud، والتي تطورت على نحو أهم في أعمال منظر التحليل النفسي في القرن العشرين جاك لاكان Jacques Lacan، وأشكال التوظيف المتعددة لأعماله – كان لها تأثيرها في مجال الدراسات الأدبية النسوية، وهو تأثير جدير بالملاحظة حيث يجذب الانتباه إلى اللغة واستخدامها المجازي (غير المقصود غالبًا) كوسيلة بصرية لفهم الثقافات على أساس الجندر.(انظري/ أنظر مثلاً كتاب الحياة الجنسية والحرب من تأليف إيفيلين عقاد Evelyn Accad, Sexuality and War، أو كتاب باربرا جونسون الرائع عن الاختلاف النسوي: الأدب والتحليل النفسي والعرق والجندر Barbara Johnson, The Feminist Diference: Literature, Psychoanalysis Race and Gender بما فيه من عرض متعمق للتحليل الأدبي المتأثر بالتحليل النفسي ويقضايا العرق والجندر، رغم أن اهتمامها لا ينصب فيه على النساء والثقافات الإسلامية).
إن هذا العرض الموجز للفئات التصنيفية العامة في الفكر والتحليل – الخاص بالأدب الحديث وفرعه الملازم من الدراسات الأدبية، ومدى الاهتمام (أو إغفال) “النساء والثقافات الإسلامية” – هو عرض يكرر أحد اهتمامات الدراسات الأدبية التي أثرت على جهود هذا الفرع المعرفي في “دراسة” النساء والثقافات الإسلامية. وقد أعادت كل من دراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات النسوية ودراسات التابع تركيز الاهتمام على النساء والثقافات (الإسلامية) داخل مجال الدراسات الأدبية. (أنظري/ أنظر أيضًا التناول الرائع لتقاطع هذه المقاربات في كتاب عن الكولونيالية/ ما بعد الكولونيالية تأليف آنيا لومبا (Ania Loomba, Colonialism/ Postcolonialism).
إن دراسة الأدب وتعلم القراءة مع الالتفات بعناية خاصة إلى اللغة والشكل والبنية والمضمون، والسياق التاريخي والاجتماعي، والتراث الأدبي – تقدم طريقة لقراءة و“تعلم التعلم مما هو متفرد وغير قابل للإثبات” من الأدب (Spirak 1988, 145, n. 49) ويمكن أن يذكرنا هذا حتى لو مجازًا بكيفية “دراسة” و“قراءة” العالم فيما وراء النص الأدبي. ويسود فرع الدراسات الأدبية تنويعة كبيرة من طرق المعرفة (epistemologies)، والنظريات (البصريات العمومية أو طرق النظر)، والمناهج (طرق الممارسة). كما أنها تحاول تناول مسألة الجندر (“النساء“)، والاختلاف الثقافي النسبي (“الثقافات الإسلامية“)، والعلاقات غير المتكافئة للسلطة الثقافية والاجتماعية – رغم أنها لم تفعل ذلك دائمًا – ويمكن للدراسات الأدبية أن تقدم تذكرة مفيدة للطرق التي تعلمنا بها طرق دراسة الأدب كيف نقرأ ونسأل ونتعلم بشكل مختلف، وأن نلتفت إلى مواقع السكوت والهفوات وغموض اللغة والنص والسياق (الأدبي).
إذا استطاع الأدب أن يغير في الاستخدام المألوف لأنماط وتقاليد اللغة، فإنه يقدم فرصة للقارئ كي يتأمل مرة أخرى الكلمة (الأدبية) وعالم الأدب والعالم خارج الأدب. إذا كان الأدب قادرًا على تغيير الاستخدام المألوف لأنماط وتقاليد اللغة فهو يستطيع أيضًا أن ينغمس في تغيير مماثل ومنتج لأنماط وتقاليد الفكر. ويمكنه أن يجذب الانتباه إلى الطرق التي يمكن لدراسة النساء والثقافات الإسلامية دراسة غير جادة أن يمحو الاهتمام بهذا الموضوع، حيث أن الدراسة الشاملة تحمل أخطارها الخاصة مثلما أشار بذكاء غياتري تشاكرافورتي سبيفاك:
إن هذا المطلب [من مواطن أو مواطنة العالم الثالث أن يتحدث عن نفسه أو تتحدث عن نفسها كفرد عرقي يمثل تراثه تمثيلاً تامًا] … هو مطلب يتجاهل مبدئيًا سرًا معلنًا: أن العرقية التي لم يقلقلها تعاقب التاريخ ويمكن الوصول إليها كموضوع بحث هي صنعة فنية ساهم في خلقها جزئيًا الإخلاص المنضبط العلماء الأنثروبولوجيا والفضول الفكري للاستعماريين الأوائل والباحثين الأوروبيين المتأثرين بهم، إضافة إلى النخبة من القوميين المحليين، وقد ساهموا كلهم بأعمالهم من خلال ثقافة الإمبريالية، وبالتالي فإن الموضوع (الملائم) (للبحث) قد “تاه” (Gayatri Chakravarty Spivak, 1998, 60).
ومع ذلك ما زال ضمن مجال الدراسات الأدبية التي تقرأ وتدرس الأدب أي “تعلم التعلم” من “المتفرد وغير القابل للإثبات“، يمكننا أيضًا أن نتعلم التعلم مما هو مختلف ومما لا يكون هوية قابلة للتكرار، ومما ليس هو مجرد موضوع جامد للدراسة الأدبية أو غيرها. ويمكننا أيضًا أن نتعلم التعلم من النساء في الثقافات الإسلامية. وربما عن النساء والثقافات الإسلامية. وفي أثناء ذلك كله نناقش فئات الفكر تلك تبدو لنا كحقيقة مسلم بها – أي “النساء” أو “الثقافة” أو “الأدب“، أو حتى “الإسلامية“.
E. Accad, Sexuality and war Literary masks of the Middle East, New York 1992.
M. Arnold, Culture and anarchy. New Haven, Conn. 1994.
E. Auerbach, Mimesis. The representation of reality Western literature, trans W. R. Trask, Princeton, N. J. 1968.
E. Balibar and I. Wallerstein, Race, nation, class Ambiguous identifies, trans. Chris Turner. New York 1991.
S. de Beauvoir, The second sex, trans H. M. Parshley, New York 1988.
M. Booth (trans.), Stories by Egyptian women My grandmother’s cactus, Austin, Tex. 1993.
H. Cixous, The Hélène Cixoux reader, ed. S. Sellers, New York 1994
H. Cixous and M. Calle- Grubar. Hélène Cixous, rootprints. Memory and life writing, trans. E Prenowitz, New York 1997.
M. Cooke, Women claim Islam. Creating Islamic feminism through literature, New York 2000.
L.Gandhi, Postcolonial theory, New York 1998. L
S. Gilbert and S. Gubar, The machwoman in the attic. The woman writer and the nineteenth- century literary imagination, New Haven, Conn. 1979.
R. Guha and G. C. Spivak (eds.), Selected subaltern studies, New York 1988.
G. W. F. Hegel, Phenomenology of spirit, trans., A. V. Miller, New York 1977
S. K. Jayyusi (ed.). Anthology of modern Palestinian literature, New York 1992.
-, The literature of modern Arabia. An anthology, Austin, Tex. 1989.
-, Modern Arabic poetry, New York 1991.
-, The legacy of Muslim Spain, New York 2000.
B. Johnson, The feminist difference. Literature, psychoanalysis, race and gender, Boston 1998.
M. Kahf, Western representations of the Muslim woman. From termagant to odalisque, Austin, Tex. 1999.
M. Lazreg. The eloquence of silence. Algerian women In question, New York 1994.
A. Loomba, Colonialism/ postcolonialism, New York 1998.
F. Malti- Douglas, Woman’s body, woman’s word. Gender and discourse in Arabo- Islamic writing, Princeton, N. J. 1992.
C. T. Mohanty, Under Western eyes. Feminist scholarship and colonial discourses, in Feminist Review 30 (1988), 61- 85 and C. T. Mohanty, A. Russo, and L. Torres (eds). Third world women and the politics of feminism, Bloomington, Ind. 1991, 191- 208.
I. Rodriguez (ed.). The Latin American subaltern studies reader Latin America otherwise, Durham, N. C. 2001. Nawal el-Sa’adawi, Memoirs from the women’s prison, trans. Marilyn Booth, Berkeley 1994.
E. Said, Orientalism, New York 1978.
G. C. Spivak, 4 critique of post- colonial reason Toward a history of the vanishing present, Boston 1998.
Sahar Tawfiq, Points of the compass. Stories, trans. M. Booth, Fayetteville, Ark. 1995.
R. Wellek and A. Warren, Theory of literature, New York 1956.
R. Williams, Keywords. A vocabulary of culture and society. New York 1976,
W. Woodhull, Transfigurations of the Maghreb. Feminism, decolonization, and literatures, Minneapolis, Minn. 1993.
Latifa Zayyat, Open door, trans. M. Booth, Cairo 2000.