المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية
المداخلات في الأفرع المعرفية
الدراسات الدينية
الدراسات الدينية والتيارات الفكرية
التاريخ
كانت الدراسات الدينية في بدايتها نتاجًا لحركة “التنوير” بما ركزت عليه من التجريب والتوصيف والاستقراء والعقل. وقد شجعت هذه الدراسات على الحس بالسياق والتغير التاريخي وعلى الانفتاح على مدى واسع من الظواهر الدينية عبر الزمان والمكان. وقد أبعدت الدراسات الدينية مجالها عن علم “اللاهوت” المسيحي الذي كان يعد المعيار القائم وثيق الصلة بالمسيحية الإنجيلية والاستعمار الأوروبي، كما كانت تنأى بنفسها عن علم الأخلاقيات والغيبيات (الميتافيزيقيا) وعلم الوجود (الأونطولوجيا)، وهي العلوم التي كانت تعتبر أيضًا علومًا معيارية ومحددة ثقافيًا. يعكس الاسم المبكر للدارسات الدينية هذه التوجهات، حيث كان يطلق على الدراسات الدينية مسمى “الدراسة العلمية للدين” (Religionswissenschaft). أما الفرق بين الدراسة الأكاديمية والتعددية لأديان العالم بمفاهيمها المعيارية وممارساتها فقد أصبح أمرًا ذا أهمية خاصة خلال الستينات من القرن العشرين. وبدأ تأسيس أقسام الدراسات الدينية (أو أقسام الدين) في الجامعات الكندية والأمريكية بتمويل من الضرائب، مما أوجب بالضرورة الفصل الحاسم بين الكنيسة والدولة. (أما دراسة الإسلام، فقد بدأت في أقسام الدراسات الدينية وبالتالي لم تثر المشكلة التي أثارتها المسيحية في هذا الصدد).
التعريف
يصعب تعريف مصطلح “الدراسات الدينية“، فهو يشير ظاهريًا إلى أية دراسة للدين، ولأن المضمون عادة ما يتم تحليله من خلال تخصصات عديدة، فهو يصنف ضمن الدراسات البينية أو الدراسات الحقلية. فنجد أن باحثات وباحثي الدراسات الدينية يعتبرون أنفسهم مرتبطين بواحد أو أكثر من الأفرع المعرفية التالية: علم ظاهرات وتاريخ الأديان، فلسفة الدين، علم اجتماع الدين، علم نفس الدين أنثروبولوجيا الدين، إلى آخره، (مثلما يعتمد الكثير من الدراسات النسائية والدراسات الإسلامية اليوم على التخصص الدقيق في أفرع معرفية عديدة).
يعد علم الظاهرات (Phenomenology) من أهم الأفرع المعرفية التخصصية بالنسبة للدراسات الدينية، وقد بدأ في القرن التاسع عشر بألمانيا والنمسا من خلال المبادئ الآتية: “كُنه الأشياء في حد ذاتها” و“لا تفكر بل أنظر“، في إشارة إلى “النظر المباشر” وهو منهج يجعل الباحثات والباحثين على وعي بافتراضاتهم المسبقة كما استخدموا النقد الذاتي لتنحية كل التركيبات الثقافية والدينية المفروضة فوقيًا (epoché)، فيستطيعون بهذه الطريقة معرفة الطبيعة المجسدة الدقيقة للظواهر من خلال الحدس. ويتكامل هذا المنهج مع منهج آخر وهو التقمص (empathy)، أي محاولة فهم الظواهر بطريقة إيجابية على قدر ماهيتها وطبيعتها الخاصة. (وهما منهجان مهمان جدًا في دراسة الأديان لأنهما ساعدا الغربيين على فهم أديان العالم مثل الإسلام والهندوسية حسب ماهيتها وطبيعتها).
وقد أعقبت ذلك خطوتان أخريان. أولاً، استخدم الباحثون والباحثات التنويع التخيلي، أي إلغاء أو تبديل ملامح معينة، وذلك لفهم وتمييز الصفات المتأصلة عن العارضة ثانيًا، حددوا أوجه الشبه والاختلاف مع ظواهر أخرى ذات الصلة لإدراك تميز كل ظاهرة وموقعها في سلسلة من الظواهر المتصلة. وعندما تم التعرف على الجوانب المشتركة للصفات المجمدة المحددة افترض بعض باحثي وباحثات علم الظاهرات التغلب على الفجوة المعرفية بين الذات والآخر وأن هناك نمطًا موحدًا أو “جوهرًا” قائمًا على أساس تجريبي عملي. كما كشفت مقارنات أخرى عن أنماط وأنواع وبِنَى إضافية. وبينما يؤكد بعض الباحثين والباحثات في هذا العلم على ملامح غير متغيرة أو “جوهر” ثابت، يؤكد آخرون على عنصر الاحتمالات متأثرين في ذلك بالمفكر فيتجنستاين (Wittgenstein) وفكرته عن “عائلة المتشابهات“. وقد نتج عن دراسات هذه النماذج أو الرموز رؤى متزامنة لأديان معينة وأنواع من الدين أو حتى الدين نفسه (أنظري/ أنظر أصال كل من: Weber, Durkheim, van der Leeuw, Wach, and Eliade ). وأدى ذلك إلى ظهور اسم آخر لدراسة الدين، وهو الأديان المقارنة. وتم استخدام المنهج الفينومينولوجي الظاهراتي (متضمنًا المنهج المقارن) في الدراسات الدينية لتحليل أي مضمون ديني. فعلى سبيل المثال، نجد أن ميرسيا إلياد في كتابه عن أنماط الدين المقارن (Mircea Eliade, Patterns of Comparative Religion) ينظر إلى الأشجار والأحجار والماء والسماء من حيث مدى كونها مواد شارحة، أي تجليات، للمقدس. كما يتناول ميرسيا إلياد في دراسات أخرى الموروث الشفاهي (الأساطير والطقوس والاحتفالات والحج)، وفي أبحاث غيرها نجده يحلل النصوص المقدسة والمؤسسات الدينية.
رغم زعم الباحثين والباحثات أن علم الظاهرات علم تجريبي عملي ويركز على الظواهر أو الأشياء “في العالم الخارجي“، إلا أن علم الظاهرات الدينية ساهم بقدر غير قليل في تناول كيفية تأثير الشعور والتجربة الشخصية على فهم الفرد لظاهرة ما. فقد نبع هذا إلى حد ما من تحليل عمليات المعرفة نفسها: كيف تتشكل الأشياء في الوعي ومن خلاله، وكيف يتغير مظهرها تبعًا للتجربة الجسدية والعاطفية. ومن الممكن أن تضم “الأشياء في حد ذاتها” تجارب العالم الداخلي الخاص بالأحلام أو الرؤى أو حالات التوحد الصوفية. ولو استبعدنا مؤقتًا على الأقل مسألة الحقيقة الواقعية لهذه التجارب، فمن الممكن اعتبارها ظواهر توخذ بجدية وتستدعي التوصيف الدقيق والتحليل، وبالتالي فرغم الإصرار على الدراسة التجريبية العملية للدين فإن علم الظاهرات قد أسهم في تقدير عنصر الذاتية أيضًا.
إن اعتراف علم الظاهرات بالذاتية (حتى بعد تصويب الانحيازات الدينية والثقافية الأخرى) أدى إلى إدماج التخصص الجديد لعلم التأويل “هرمينوطيقا” (hermeneutics)، وهو بصفة عامة يشير إلى تحليل فهم وتفسير النص، ويشير تحديدًا إلى طبيعة النص، بما يتضمنه ذلك من مسائل حول استقلالية دلالات الألفاظ، وقصد المؤلف، وأنواع القراءة، ومناهج التفسير، وقواعد التأويل المشروع، وكذلك الاعتراف بمستويات المعنى والنظم التحتية للتفسير ومشكلات كيفية تجاوز معوقات الفهم للوصول إلى رؤى مغايرة للعالم، وهلم جرا.
ونظرًا لأن “الأشياء” أو “المواد” الخاصة بالدين تتشكل جزئيًا من خلال سياقاتها والعوالم الداخلية للأفراد، فإن هذه الظواهر الدينية بالتالي تتغير بتغير تلك العناصر. ولذلك فقد ركز علم الظاهرات أيضًا على كيفية توصيف التغيير، مما قربه إلى المنهج التاريخي والتأريخ، وهي من الموضوعات وثيقة الصلة بالهرمينوطيقا (على طريقة ديلثي (Dilthey) وآخرين). وبحلول النصف الثاني من القرن العشرين أصبح يطلق على هذا المجال اسم علم تاريخ الأديان والذي ركز على دراسة اللغة والنصوص والتوثيق الدقيق للتغير التاريخي.
مع نمو الموجة الثانية للنسوية في الستينات من القرن العشرين (بإلهام من حركة الحقوق المدنية) هوجمت المسيحية خاصة وأديان العالم عامة باعتبارها جميعها تشكل أركان السيطرة الذكورية أو النظام الأبوي. وكانت النساء قد بدأن في الحصول على شهادات عليا مثل الدكتوراه في الدراسات الدينية منذ أواسط القرن العشرين، واكتسبن مهارات لغوية وخبرات في مجال الهرمينوطيقا تؤهلهن لقراءة النصوص الدينية وفهم السياقات التاريخية جيدًا، مما مكنهن من توثيق وتفسير وشرح أصل الأبوية وتأثيرها. وقد استطعن الكشف دائمًا وبلا هوادة عن غياب أو تهميش النساء في سجلات التاريخ (التي كانت في العصور ما قبل الحديثة تتكون معظمها من النصوص الدينية). كما أن خبرتهن بمجال الهرمينوطيقا دربتهن على القراءة بين السطور لاستخراج بِنَى ومعانٍ خفية ومفاهيم دينية وتفسيرات كان لها تأثير كبير على مكانتهن ووضعهن في الحياة. وانبثق كل ذلك من اكتشاف كيف صارت بنى ومنظومات القوة الذكورية كامنة داخل النصوص والمعايير والقيم الدينية. وقد كان لهذا التوجه تأثير خطير على مجال الدراسات الدينية بجذوره التي تكمن في فرعي علم الظاهرات وتاريخ الأديان، والذي طالما ادعى الشمول وعدم الانحياز. أما الآن فقد صدر حكم جديد، وتم تجاهل طقوس وتجارب النساء الدينية وكذلك العنصر الأنثوي في شخصيات الآلهة (فاعتبرت الإلهة الأنثى على سبيل المثال فرعًا منشقًا عن سائر الآلهة ولم يتم الالتفات إلى الفروق أو التمايزات بين هذه الإلهات). وحتى عند إدراج هذه المعلومات، كان يتم تشويهها لاعتمادها على كتابات الرجال (التي كانت في أغلب الأحيان إما تقوم بتحقير المرأة أو رفعها إلى مستوى المثال أو النظر إلى دورها فقط في ارتباطه وإلحاقه بأدوار الرجل). وباختصار، تم اتهام الدراسات الدينية (مع كثير من التخصصات الأخرى) بالتحيز والذكورية.
وكان هذا هو الوضع أيضًا في حالة دراسة النساء والإسلام، حيث استدعى فهم مكانة النساء في القرآن قراءة دقيقة مع الانتباه إلى الآتي: أصول الكلمات، وعلاقة كل فقرة بالأخرى، والأساليب البلاغية والشعرية والإنشائية ومعانيها في عربية القرن السابع الميلادي، والمعنى العام للقرآن بالنسبة للمتلقين الأوائل له (أي الحفاظ على الشخصية التاريخية للنص بدون تراكم التفسيرات اللاحقة). وبالتحديد قام الباحثون والباحثات في الدراسات الدينية بفحص ما الذي يقوله القرآن بخصوص النساء والحجاب/ الاحتجاب والزواج وتعدد الزوجات والطلاق والميراث وسلطة الرجل، إلى آخره. بالإضافة إلى ذلك، حاولوا فهم ما الذي حدث بالفعل وأسباب حدوثه، وكيف أعاقتنا المصادر من قبل، والسياق التاريخي الحقيقي. وإلى جانب نصوص التنزيل تم دراسة مصادر مرجعية أخرى مثل الأحاديث النبوية للتأكد من مصداقيتها وحقيقتها. هل الروايات حول النساء – مثل زوجات الرسول – موجودة مثلاً في مصادر يعتمد عليها أو موثوق بها؟ ويشمل التحليل النصي أعمالاً لمفكرين إسلاميين كبار، مثل الغزالي، وأفكارهم حول النساء.
انصب اهتمام دراسة الدين لا على النصوص فقط بل على السياقات أيضًا. وبالالتفات إلى ذلك قارن الباحثون والباحثات بين مكانة النساء في القرآن ووضعهن في شبه الجزيرة العربية ما قبل الإسلام، حيث درسوا كيف تم تفسير الآيات القرآنية حسب أفكار كانت سائدة في العالم أجمع آنذاك، وشمل ذلك موضوعات غطاء الرأس والتحجب، وهي ممارسات اقتصرت في بدايتها على زوجات الرسول ثم تم تعميمها على النساء عندما اختلط الإسلام بالإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية (حيث كانت نساء الصفوة يرتدين حجابًا ويحتجبن). شملت هذه الدراسات كذلك آراء حول النساء في فروع الإسلام المتنوعة – السنة والشيعة والمتصوفة – وكيف تغيرت بسبب تأثيرات من ديانات وثقافات أخرى من أسبانيا وحتى إندونيسيا.
استعادت الأبحاث التي فتشت في النصوص الدينية عن أدلة للعنصر الأنثوي معلومات كثيرة عن حياة النساء الدينية وأعادتها داخل السجلات التاريخية، وخاصة المعلومات عن نساء متميزات مثل المتصوفات والقديسات اللاتي كان تم تهميش حياتهن وأعمالهن أو تشويهها أو تفسيرها تفسيرًا نمطيًا (يربطها بالطبيعة الأنثوية العائلية والمنزلية) حسب الرؤية الذكورية للعالم. على سبيل المثال قام الباحثون والباحثات في هذا المجال بدراسة بعض النساء المسلمات، مثل رابعة متصوفة البصرة في بداية القرن الثامن أو ولية الله المصرية السيدة نفيسة في القرن الثامن والتاسع، من حيث ما يكشفنه عن أنفسهن وكيف فسر الكتّاب الرجال حياتهن.
ومع ذلك أدركنا أن معلومات كثيرة حول النساء، وخاصة النساء العاديات، قد فقدت بدون رجعة. وأدى ذلك إلى تغيير مركز الاهتمام في مجالي المضمون والمنهج بعيدًا عن النصوص والتاريخ (والتي كانت مسيطرة على الدراسات الدينية رغم الزعم المبدئي بالاشتمال على الموروثات الشفاهية والممارسات المقارنة)، وقريبًا إلى علوم الأنثروبولوجيا والاجتماع (رغم أن مستوى التدريب في هذه التخصصات داخل أقسام الدراسات الدينية لم يكن متطورًا)، مما أتاج إمكانية دراسة نساء حقيقيات يستطعن الكلام بلسانهن حول تجاربهن الدينية الشخصية رغم وجود المؤسسات الأبوية. كما أدى إلى ظهور تفسيرات بحثية متخصصة من قبل باحثات نساء. وهكذا غيرت هذه التطورات مركز الاهتمام إلى الدين المعاصر.
وقد نتج عن هذا التفاعل بين الدراسات الدينية والدراسات النسائية عملية تسييس للدراسات الدينية، وذلك إلى حد ما بفضل ربط النسوية بالماركسية والنظرية النقدية (مثل مدرسة فرانكفورت وما تبعها من مفكرين أمثال هربرت ماكيوز وماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو). وأوضحت الماركسية كيف أن البرجوازية أضمرت قيمها الدينية في الثقافة حتى تسيطر على الطبقة العاملة، واستكملت النظريات النقدية والنسوية هذا التحليل الطبقي ليمتد إلى العرق والجنس والميل الجنسي. ورغم أن رفع الوعي كان مشتركًا لدى الجميع، إلا أن الماركسية ركزت أكثر على الاقتصاد والثورة السياسية في الشارع بينما ركزت النظريات النقدية والنسوية أكثر على المعرفة بصفة عامة وعلى قيام ثورة تعليمية في الجامعات والمهن ووسائل الإعلام.
في دوائر كثيرة ارتبطت النسوية بالتفكيك الذي امتد وعمل على تسييس الهرمينوطيقا وإظهار أن كل النصوص غير ثابتة في أصلها وأن كل القراءات منحازة أيضًا في أصلها، وذلك لتقويض المفاهيم والأسس الموجودة للسلطة. وبالتالي ظهرت اختلافات كبيرة بين دين النساء ودين الرجال، وتم زعزعة الرموز والتعميمات السابقة بشأن طبيعة الدين نفسه. ومن المفارقات أن النظرية القائلة بأن المعرفة متأثرة بـ. “موقعها” (وبمُسمى آخر: نظرية “المنظور“) شهدت تطورًا يرجع جزئيًا إلى الدراسة المنظمة التي يقوم بها علم الظاهرات والهرمينوطيقا لكيفية مساهمة الوعي في تشكيل “كُنه الشيء ذاته“، والذي كان في قلب ظهور الدراسات الدينية منذ البداية.
وجدت الباحثات في الدراسات الدينية أن الفهم التفكيكي بشأن عدم ثبات النصوص هو فهم مفيد بالذات في تحدي القيم الأبوية، وهو موقف ساعد في تعضيده تركيز التفكيكية على الفجوات والانقطاعات والصراعات. وتمت الاستفادة من فكرة بول ريكور عن “هرمينوطيقا الشك” (Paul Ricoeur, “hermeneutics of suspicion”)، ومن مفهوم جاك دريدا عن قراءة التناص (Jacques Derrida, “intertextual readings”)، (أي مجاورة كل من النصوص المعترف بها سياسيًا وغير المعترف بها لبعضها البعض لإحداث صدمة لدى القارئ)، وتمت الاستفادة من ذلك للكشف عن البِنى الخفية العنصرية منها والطبقية والمنحازة لجنس دون الآخر، ومن ثمّ رفع الوعي. وانبعثت فكرة تسييس الدراسات الدينية من مفهوم “البحث المتفاعِل” أو النشط سياسيًا واجتماعيًا، فلم يعد البحث غاية في حد ذاته بل أصبح وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية للنسوية. ونتيجة لذلك تطورت الدراسة الأكاديمية للنساء والدين تبعًا للحركة النسوية وبالتفاعل معها، بحيث يتم النظر إلى قاعات الدرس والدورات الدراسية عن النساء والدين على أنها مكان لحدوث “ثورة المعرفة” وإحداث التغيير الاجتماعي على نطاق واسع. لكن حتى هذا لم يعد كافيًا بالنسبة لنساء كثيرات في مجال الدراسات الدينية، فقد جعلتهن دراسة تاريخ وواقع النساء أكثر راديكالية وثورية مما دفعهن إلى التخلي عن المشاركة في ديانات العالم الموجودة وبدأن ديانات جديدة: (“العصر الجديد“، “الوثنية الجديدة“، وديانات أخرى تتمحور حول آلهة أنثوية يكون فيها “صوت” النساء هو الغالب). فقد فتحت عملية تفكيك الدين التقليدي الباب أمام إعادة بنائه.
وبينما اهتم بعض باحثي وباحثات الإسلام والنساء “بتصحيح الصورة“، ألهمت الحركة النسوية آخرين، حيث مهدت كل هذه الدراسات عن النصوص والسياقات الطريق لهم بوسائل عديدة: مكنتهم من تحدي التفسيرات التقليدية للنساء عن طريق إظهار مواضع التحيز في الآيات المهمة، ومن اكتشاف أصول جديدة للكلمات المهمة بحيث يتم إلغاء الآراء المعادية للنساء، كما استطاعوا إثبات أن بعض القواعد كانت مقصودة للتطبيق على زوجات الرسول فقط، وأن يطرحوا فكرة انفصال المستوى “الأزلي” للقرآن عن التاريخي، ويشيروا إلى أن الله العدل لا يمكنه أن يقصد أو يرضى بالقهر، وهكذا. فعلى سبيل المثال تأثرت الكاتبة رفعت حسن (Riffat Hassan) بالنسوية عندما تحدّت الفرضيات الدينية التقليدية حول كيف ولماذا خُلقت المرأة ولماذا اعتبرت مسؤولة عن “السقوط” من الجنة، وطرحت فكرة أن تتولى النساء المسلمات بأنفسهن تحليل ودراسة النصوص الدينية المهمة حتى يشاركن بفعالية في مناقشات العلوم الدينية واحتياجات النساء. كما أشارت إلى أن مساهمات النساء في هذا النقاش الديني ضرورية للناشطين السياسيين وللمشرِّعين. وتماشيا مع تيار ما بعد الحداثة طرحت بعض النسويات المسلمات فكرة كون القانون نفسه غير ثابت ويمكن تغييره لأنه بناء تاريخي.
ومرة أخرى تحرك الباحثون والباحثات حول النساء والدين إلى التطور في اتجاه أكثر شمولاً بالنسبة لممارسة ودراسة الأديان، فعادت مثلاً شعبية المجموعات المهمشة واللغات المحلية والموضوعات المهملة إلى الضوء، وهي مجالات كانت في الأصل جزءًا رسميًا من الدراسات الدينية ولو حتى نظرياً. وأصبحت مثلاً دراسة الإسلام عبارة عن دراسة أشكال من الإسلام حسب سياقات ثقافية ولغوية مختلفة، وصاحب ذلك بالطبع الدراسة الأنثربولوجية للنساء داخل هذه السياقات للإسلام.
الدين والعلمانية
على مدى تاريخ الدراسات الدينية حاول الباحثون والباحثات تعريف الخاصية المميزة لمنهجهم، فزعم البعض أن المنهج الاستقرائي أدى إلى إمكانية اعتبار الدين عالميًا وحقيقيًا ومحوريًا في الطبيعة الإنسانية (أطلق عليها رودولف أوتو تجربة المقدس: holy، وكذلك إلياد: sacred ). ونتجت عن هذه النظرة الواقعية القناعة بعدم اختزال التجارب الدينية إلى مجرد حيل عقلية أو سلوك جماعي أو تفسيرها بطريقة أخرى من هذا القبيل. وقد ساعد ذلك – بالإضافة إلى المقاربة الأكاديمية – على تعريف وتحديد تميز الدراسات الدينية منذ تم تأسيسها بالجامعات في منتصف القرن العشرين.
إلا أن الأصل “التنويري” للدراسات الدينية وتخصصاتها المتعددة قد اجتذب أيضًا كثيرًا من الباحثات والباحثين العلمانيين الذين لم يقتنعوا بالبعد الديني الخاص للإنسانية ولكنهم اهتموا اهتمامًا كبيرًا بوظيفة الدين ورموزه. وكلما تحولت المجتمعات ككل إلى العلمنة كلما حدث نفس الشيء للدراسات الدينية في الجامعات العامة وكثير من الكليات والجامعات الخاصة للعلوم العقلية الحرة. ورغم إتباع الجيل السابق من باحثي الدراسات الدينية (الرجال) فكرة إلياد (Eilade) بشأن “الحركة الإنسانية الجديدة” (new humanism) (وباستخدام مصطلح “المتدين” (homo religious)، مع ما يثيره من تساؤلات عما إذا كان يشير إلى “الرجل” أم “البشر“)، إلا أنهم تمسكوا بالنظرة الموحدة للدين (sui generis) باعتباره ذي طبيعة عامة (وبالتالي كونه حقيقيًا) بناء على أسس تجريبية عملية واستقرائية. وقد عملت بعض المناهج النسوية الأكاديمية على تفكيك هذا التفسير “العام” الشامل للدين باعتباره تفسيرًا “جوهريًا” ثابتًا، وحققن ذلك بالاستعانة بمبادئ تحليلية مثل “الزعزعة” و“الخلخلة” و“التعقيد” و“الإشكالية” و“التسمية والتأطير“. ومن هنا تنشط بعض النسويات الآن في المرحلة القصوى من التفكيك، وهي تفويض فكرة الطبيعة الموحدة للدين وتأصله داخل كل إنسان. ويعتبرن أن تلك الفكرة ليست سوى تعميم زائف تم إسباغ “كينونة” مصطنعة عليها، وهي مثال على ما أطلق عليه دريدا “مركزية الكلمة” (logocentrism) والتي تشير إلى المفهوم الفلسفي القديم “الإسمانية“: أي إضفاء الواقع على مجرد اسم أو مفهوم. وهكذا انحدرت مفاهيم “الحقائق” و“الشرائع” والسلطة الدينية إلى مجرد وجهات نظر أي “منظورات“. وبينما سادت شعبية “الخطابات” و“الأصوات“، أقل نجم الميتافيزيقا (علم الغيبيات) والوحي. كما برزت ظاهرة مرتبطة بذلك، وهي ظاهرة النسوية نفسها باعتبارها ديانة علمانية ورؤية شاملة للعالم، لها وحي خاص بشأن طبيعة العالم، ووسائل حصرية للتفسير، ورؤى خاصة للخير والشر، ولها طقوسها وتمايزاتها بين المنتمين إليها والخارجين عنها، وهكذا.
من المؤكد أن إحدى التحديات التي تواجه الإسلاميين في مجال الدراسات الدينية اليوم هو كيفية التعامل مع الصدام بين الرؤيتين الدينية والعلمانية للعالم. هل أصبحت الدراسات الدينية مجموعة من الرؤى ووجهات النظر، باعتبارها حركة الإنسانية الجديدة أو العلمانية أو ديانة نسوية علمانية؟ وقد تساءلت باحثة مسلمة متخصصة في الإسلام في الدراسات الدينية قائلة: هل من الممكن أن أكون نسوية ومتدينة في آن؟ ومما زاد الأمور تعقيدًا أن علماء الدين واللاهوت المسيحي، الذين كان عملهم في الماضي مقصورًا على معاهد اللاهوت بدأوا يعبرون أنهم أيضًا ينتمون لأقسام الدراسات الدينية. فإذا كان بوسع النسويات الاعتراف بانحيازاتهن منذ البداية واعتبارها أمرًا مرغوبًا فيه، بنفس الشيء ينطبق على المتدينين والمتدينات. إن هذا التحول في اتجاه المستوى المعياري يسانده بعض الأكاديميين الغربيين الذين أصبحوا بوذيين ومسلمين وهندوس وغيره، وكذلك الغربيون الذين اعتنقوا ديانات أخرى فيجمعون بين وضعهم الجديد كمنتمين إلى الداخل ودراستهم الأكاديمية للدين. فكيف يؤثر ذلك كله على المنهج القديم (epoché)، أي تنحية الاقتراضات الشخصية المسبقة من أجل تفسير تراث مختلف؟ وهل يجب أصلاً دراسة موروثات أخرى أجنبية على مستوى التعليم العالي لو كان المنتمون فقط هم من بمقدورهم تدريس هذا الدين؟ وإذا كان الخارجون عن الموروث هم المهيمنون على البحث العلمي عن طريق فرضياتهم (بما فيها الفرضيات العلمانية)، ألا يؤدي ذلك إلى تشويه الصورة العامة المقدمة لهذا الدين؟ وهل يعتبر تصحيح ذلك الوضع، هو الآخر، خروجًا على النظام؟
ومن ناحية أخرى يثير هذا الدعم “للصوت” الديني الصريح في أقسام الدراسات الدينية مجموعة مشاكل. فنظرًا لأن هذا الأمر يدمج المستوى المعياري مع المستوى التوصيفي، ويتناقض مع السبب الأساسي لوجود الدراسات الدينية (الذي كان في الأصل توصيفيًا لكن تم التوصل من خلال الاستقراء إلى إدراك أن الدين جوهري للحياة الإنسانية عن طريق المناهج المقارنة). كما يثار مرة أخرى سؤال كيف تكون الدراسة الأكاديمية للدين؟ وبالتالي: هل يتم تمويل هذه الدراسات من أموال الضرائب، ولو حدث ذلك فعلاً فما معنى ذلك بالنسبة لفكرة الفصل بين الكنيسة والدولة؟ وكيف يمكن تناول هذه المسائل؟ وما هي إسهامات الباحثين والباحثات حول الإسلام والنساء في هذا الجدل؟ وهل توجد رؤى معينة أو أفكار ثاقبة من الفلسفة الإسلامية بشأن هذه القضايا المعرفية؟
الإصلاح والثورة
مهدت كل من الهرمينوطيقا والتفكيكية الطريق أمام الإصلاح لأنهما أثارا تحديًا في مواجهة التفسيرات التقليدية السلطوية للنصوص المقدسة، مما أوجد مجالاً للتغيير. في دراسة الإسلام على سبيل المثال ظهرت سبل متعددة عملت على زعزعة التفسيرات التقليدية للنصوص الدينية والقانون، وهي: التفريق بين العناصر القرآنية وغير القرآنية (حتى يمكن إلغاء الأخيرة إذا كانت لا تدعم إصلاحات للنساء)، وتبني آليات هرمينوطيقية للتعامل مع الآيات الإشكالية بالنسبة للنساء في القرآن، وتوثيق الاختلافات داخل المجتمعات الإسلامية العديدة وفيما بينها. إن زعزعة التفسيرات التقليدية للنصوص والقانون فتحت الباب أمام الإصلاح، إلا أن ذلك أثار الشبهات أحيانًا بسبب اعتبار القيم المؤسسة لهذه الإصلاحات غربية المصدر ولذا مناقضة للقيم الإسلامية، أي أن الإصلاح هنا مرتبط بالهوية ارتباطًا وثيقًا. وعندما يتم النظر إلى الإصلاحات على أنها عربية، فإن ذلك يستدعي رد فعل وينتهي إلى ثورة من “اليمين” (أو إلى الأصولية). وعندما يتم ترك الإصلاحات بدون ترشيد تصبح ثورة من “اليسار” (تقود إلى العلمانية أو إلى ديانة علمانية). هل تم استكشاف كل مصادر التفسير الإسلامي بالكامل بحيث تستطيع تقديم مقاربة إسلامية مميزة، مع تجنب الاستقطاب الحاصل بين “الثورتين” من اليمين واليسار؟ هل تم الاعتراف بحد أدنى للهوية الإسلامية تستطيع النساء المسلمات أن تتعايش معها؟ وهل يمكن توفير حجج وأطروحات جيدة للدفاع عنهن حتى لو كان ذلك يعني الرد على أو معارضة بعض المواقف النسوية المعروفة وبعض التفسيرات التقليدية؟
M. Ferguson, Women and religion, Englewood Cliffs, N. J. 1995.
E. Schussler Fiorenza, Method in women’s studies in religion. A critical feminist hermeneutics, in A. Sharma (ed.), Methodology in religious studies. The interface with women’s studies, Albany, N. Y. 2002, 207- 41.
R. M. Gross, Feminism and religion. An introduction, Boston 1996.
-, Feminist issues and methods in the anthropology of religion, in A. Sharma (ed.), Methodology in religious studies. The interface with women’s studies, Albany, N. Y. 2002, 41- 66.
R. Hassan, Feminism in Islam, in A. Sharma and K. K. Young (eds.), Feminism in world religions, Albany, N. Y. 1999, 248- 78.
C. A. Jones, Feminist research in the sociology of religion, in A. Sharma (ed.), Methodology in religious studies. The interface with women’s studies, Albany, N. Y. 2002, 67- 96.
D. Jonte- Pace, The impact of women’s studies on the psychology of religion. Feminist critique, gender analysis, and the inclusion of women, in A. Sharma (ed.), Methodology in religious studies. The interface with women’s studies, Albany, N. Y. 2002, 97- 146.
D. Kinsley, Women’s studies and the history of religions, in A. Sharma (ed.), Methodology in religious studies. The interface with women’s studies, Albany, N. Y. 2002, 1- 16.
R. R. Ruether, Methodologies in women’s studies and feminist theology, in A. Sharma, Methodology in religious studies. The interface with women’s studies, Albany, N. Y. 2002, 179- 206.
M. A. Stenger, Feminist philosophy of religion, in A. Sharma, Methodology in religious studies. The interface with women’s studies. Albany, N.Y. 2002, 147- 78.
K. K. Young, Introduction and Postscript, in A. Sharma and K. K. Young (eds.), Feminism and world religions, Albany, N. Y. 1990, 1- 24, 279- 312.
-, Introduction, in A. Sharma (ed.), Methodologies in religious studies. The interface with women’s studies. Albany, N. Y. 2002, ix- xi.
-, From phenomenology to feminism and women’s studies, in A. Sharma (ed.), Methodologies in religious studies. The interface with women’s studies, Albany, N. Y. 2002, 17- 40.