إيثار: طفلة، مدرسة، رحلة من التحديات

الشركاء: أندريا

تاريخ النشر:

2022

بقلم:

٢٧ نوفمبر ٢٠٢٢  

كل ما ذاق كأس يأس مرير** جاء كأس من الرجاء معسول

قصيدة صوفية

مثل المساحات الفنية ، تُركت المؤسسات التعليمية للجهود الفردية والجماعية لمعالجة الإهمال ونقص الموارد من حكومة الإنقاذ. صورة لمبنى مهجور في ود مدني. المصدر: أندريا أستاذة نجاة عبد الرازق إن الإنصات لصوت الطبيعة الذي ينادي قد ينتج معارك محتدمة مع الذات ومع مايسود في الأرض من مظاهر سيئة أحياناً، فالأستاذة نجاة عبد الرازق أبو زيد كانت مثالاً يقطر منه الإرادة والمحبة.  في العام 2007 كانت أستاذة نجاة عبد الرازق أبو زيد تعمل بتدريس اللغة العربية في مدرسة أبوبكر الصديق الابتدائية، في قرية روينا التي تقع في ولاية الجزيرة بوسط السودان. إيثار طفلة صمّاء ذات سبع سنوات تقطن تلك القرية مع ذويها. طلبت استاذة نجاة من والدتها الحاقها بالمدرسة الوحيدة بالقرية، ليتم دمجها مع الأطفال لما كانت تعانيه من عصبيّة ووحدّة وتوحّش. فاستجابت والدة الطفلة لذلك الأمر وتم إدراجها بالمدرسة، وتمت هذه المعلمة بالاعتناء بالطفلة من كل النواحي حتى طريقة ترحيلها من وإلى المدرسة. سرعان ما اندمجت هذه الطالبة مع المجتمع واستجابت له، بل وكانت سريعة التعلّم والتجاوب، فحصلت على درجات عالية جداً. بدأت أستاذة نجاة تتجه نحو هذه الحالة، وإنصب كل اهتمامها عليها. كانت أول الخطوات تحويلها لمركز السمع بمدينة ودمدني لكشف درجة الضرر، ثم زيارة لمركز الصّم بنفس المدينة لأول مرة لترى الحالات المشابهة لطالبتها. ثم تواصلت مع مدير مرحلة الأساس في وزارة التربية والتعليم، وكذلك التربية الخاصّة بالولاية، وقد أبدوا استعدادهم في بادئ الأمر. نشأة مدرسة إيثار في عام 2007، حين استحوذت هذه الطفلة الجزء الأكبر من حياة المعلمة العمليّة والأسريّة وحتى الماديّة، وصل التفكير بهذه المعلمة إلى عمل مدرسة للإعاقة الحركيّة في قرية روينا. من هنا بدأت التحديّات الكثيفة منذ ولادة الفكرة إلى يومنا هذا. فقد كان أول التحديّات هو وقوف الوحدة الإدارية لمحلية جنوب الجزيرة التي يقع مقرها في قرية الحوشفي وجه هذا العمل، باعتبار أن الحوش أولى من قرية روينا كحاضرة لمحلية جنوب الجزيرة. هذه النظرة المركزيّة السائدة حتى يومنا هذا سببت معاناة للمعلمة، و لكن وبعد إصرارها وافقت الوزارة على هذه الفكرة واشترطت على المعلمة تلقّي دورات إشارة في محلية الحصاحيصا بالولاية، لتكون لائقة عمليّاً بهذه المدرسة. كما اشترطت أيضاً اختيار معلمين معها. بعد الدورات، كانت الفكرة هي انقاذ ايثار فقط كواجب تربوي تجاهها كما ذُكِر بلسان هذه المعلمة، وتم تسمية المدرسة بـإيثارنسبة إلى الطالبة التي ألهمت هذا التطوير. بدأت الفكرة تنتشر في القرية، وفكّرت أستاذه نجاة في دمج هذه المدرسة مع مدرسة الأساس بالقرية، وكان التحدّي الكبير هو رفض إدارة المدرسة دمج المدرستين لأسباب كثيرة. لم يكن في ذلك الوقت لدى هذه المعلمة سوى (تصديق) للمدرسة، بل حتى لم يتم انتدابها للتربية الخاصّة، فظل حلمها في خارطتها الذهنيّة. زاد عدد الطلاب وانضم لايثار ثلاثة طلاب من قرى مجاورة عندما بدأت فكرة المدرسة تنتشر، فانضمت الطفلة المقاممن قرية قسم الله و معتصممن قرية الفوايدة عزيزاب. تم ضم هؤلاء الطلّاب الى الطلاب الأصليين بالفصل في المدرسة، وعندما جاء طالب آخر لديه اعاقة ذهنية، قررت أستاذة نجاة تحويل المدرسة الى منزلها، فقد تعددت الاصابات فأصبحت لا تُقتَصر على الاعاقة السمعية فقط. أصبحت تغيب من المدرسة للفترة الصباحية و تذهب لمدرستها في الفترة بعد وجبة الإفطار، رغم رفض الإدارة أمر تفريغها الفترة الصباحية في بادئ الأمر، بعض المعلمين ساندوها بتخفيف بعض الحصص عن عاتقها. فلم يكن من الادارة إلّا عقاب هؤلاء المعلمين بتحميلهم فوق طاقتهم لكي لا يساندها أحد. فكانت حرب نفسيّة وكلما اتخذت خطوة تجاه حلمها كلما اتخذت الوزارة خطوة في الإجراءات اللّازمة المعاكسة.  قسّمت المعلمة اليوم بين المدرستين، بين مدرستها (إيثار) الكائنة في صالون بيتها، والمدرسة الأساسيّة التي تعمل بها، بل اهتمت بترحيل هؤلاء الأطفال من والى المدرسة الجديدة رغم ان بعضهم من قرى مجاورة. في العام 2008، زاد عدد الطلاب ذوي الإحتياجات الخاصة واستمر وضع مدرسة إيثارأي التدريس في المنزللمدة ثلاث سنوات. ثم طالبت المعلمة ببناء مدرسة داخل مدرسة الأساس، فرفضت ادارة المدرسة. بل تفاقم الأمر بالتأثير على أولياء الأمور ورفض الآباء تواجد الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة مع أبناءهم في نفس الحيّز المكاني، فقررت اللجنة الشعبية بالقرية منحها أرض لبناء المدرسة. التحديات والمطاردة لاحقاً ظهر التحدي الأكبر في ظل نظام الإنقاذ الشمولي من معتمد محلية جنوب الجزيرة، حيث تم إعلان العداء المباشر لها. كيف لمدرسة مثل هذه المدرسة أن تنشأ فكرتها من شخص لا ينتمي للنظام ويظهر العداء الواضح له، بل ويناضل من أجل إسقاطه وينتمي لحزب سياسي فكري يناهض هذه الحكومة؟ فما كان منه إلا زرع العراقيل وإبراز الكراهيّة التي صبها على هذه المدرسة. عرضت أستاذة نجاة فكرة تحويل المدرسة لقرية مجاورة، فلم يكن من اللجنة الشعبية إلا الوقوف معها، ولكن تكفلت المعلمة وزوجها بكل التكاليف الماديّة. ساندتها اللجنة الشعبية التابعة للقرية في البداية، و كان وقوفها مع هذه المدرسة ما هو إلا ردّ فعل كإنجاز لهم كلجنة شعبية تتبع للنظام. توالت التحديات كذلك عندما قررت المعلمة أن ترفع وعي المجتمع تجاه ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة في القرية والقرى المجاورة، لتشجيع الآباء للدفاع عن أبنائهم ذوي إعاقات ذهنيّة أو حركية لإلحاقهم بمدرستها. قامت المعلمة بإستضافة معرض في منزلها و مقرّ المدرسة، وأعلنت عنه من خلال قافلة صحية ودعت المسؤولين بمن فيهم المعتمد. ظلت العقبات تُزرع من قِبل المعتمد رغم دعم بعض الموظّفين بالوزارة لها، بل حتى تطاول المعتمد إلى إهانة الأستاذة شخصياً بعد إحراجها ورفض مقابلتها في المكتب عندما لجأت إليه فيما يخص المدرسة. ونقل المعلمين من مدرسة إيثار باعتبارها مدرسة لا تستحق هؤلاء المعلمين، وكان هذا الكلام يقال أمام آباء وأمهات الأطفال. ورغم ذلك تم اجبارها لشكر المعتمد في المعرض. في تلك السنوات، لم يكن هنالك تعيين رسمي للأساتذة لعدم اعترافهم بهذه المدرسة، فقامت بإحضار قرائبها متخرجين من كليّات مختلفة للعمل معها بدون تعيين رسمي وبدون راتب، ولم يتم تعيين حارس أو مشرف تربوي أو أي موظف خاص بالمدرسة. لجأت أستاذة نجاة لصندوق دعم الولايات منذ عام 2008 و لكن لم يأتيها الدعم حتى 2011 . في هذا العام تم تأسيس المدرسة لبنائها وتأثيثها بعد أن تأخرت كل تلك السنوات بسبب مؤامرة من معتمد المحلية لتحويلها لادارة الحوش. وأخيراً في 2012 تم فتح التسجيل المدرسة، وحتى ذلك الوقت لم تكن مدرسة إيثار في قائمة المدارس المُدرجة في الوزارة. تم بناء المدرسة في خلال ثلاث سنوات ونصف، وكانت عبارة عن فصلين (بالزنك) ومكتب، وكان هذا من فاعلين الخير. تم اتهامها بالتلاعب بالمال بعد ان ورطها المعتمد وأعطاها عدد من المواد التي لا تنفع لبناء شيء من أساسه مثل السيخ والكمر. تم تنظيم المدرسة بصورة راقية جداً رغم قلة الإمكانيات، وتقديم وجبة الإفطار للأطفال مجاناً و التي يتم تحضيرها داخل المدرسة من قبل المعلمات. فجر جديد قامت أستاذة نجاة بتنزيل برنامج يو سي ماسلقدرات الحساب الذهني في المدرسةونافس بعدها الطالب مسلم والطالب عبدالعظيم 750 طالب من كافة أنحاء الوطن في برج الفاتح ، للأسف تمت عرقلة أوراق (عبد العظيمبينما فاز (مسلم) من قرية أم تريبات بالمركز الأول. بعدها سافر إلى ماليزيا برفقة المعلمة، والتزمت المعلمة بكافة التكاليف المادية منذ البداية حتى احتاز (مسلم) على المركز الأول بين 12 دولة من دول شرق آسيا، وتم نسب نجاحه في المؤتمر الوطني لمجهود المعلمة. لم يتم افتتاح المدرسة رسمياً من قبل الوزارة حتى عام 2013. تجاوزت هذه المدرسة حدود التعليم، فقد تعلم هؤلاء الأطفال الزراعة والفنون والأعمال اليدوية وشاركوا في الدورات المدرسيّة والمعارض. و زاد عدد الطلّاب وتعدّدت الإعاقات. واستمر التعدي من قبل المعتمد للحدّ الذي عيّن معلمة كجاسوس على المدرسة لمعرفة كيف يتم تمويلها بينما كثر فاعلي الخير حتى من خارج السودان لاجتهاد المعلمة وتفانيها في نشر الفكرة. تم بناء المدرسة على مستوى عالٍ من التميّز، وشاركت بطلابها ومعلميها في ثورة ديسمبر المجيدة بالمواكب والإعلام للثورة، فقد علمتهم هذه الثورة حق الحياة. جولة بسيطة مع هذه المعلمة في أروقة المدرسة قد تعيدك إلى ذات مليئة بالتصميم والعزيمة والتطلّعات. ومازال حلمها يكبر داخلها. ومازالت تحلم بعالميّة المدرسة، لتضم كافة الأطفال الذين يحتاجون للرعاية والاهتمام، ولتملّك كلاً من ذوي الإحتياجات الخاصة مهنة يعتمد بها على نفسه ويكمل بها انسانيته.

**

تم نشر هذه المقالة كجزء من سلسلة محتوى حول الفن و المقاومة والثورة . المشروع مدعوم من الصندوق العربي للثقافة والفنون والمجلس العربي للعلوم الاجتماعية ومؤسسة أندرو دبليو ميلون. الآراء المعبر عنها في هذا الإنتاج هي آراء صانعيها ومن أجريت معهم المقابلات ولا تمثل بالضرورة آراء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية.
شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات