بعد إقرار العديد من الحقوق السياسية اتجهت الحركة النسوية للتركيز على مطلبين أساسيين، المساواة في الأجور وضمان حقوق النساء في التحكم بأجسادهن والحصول على وسائل منع الحمل والإجهاض. ومنذ ثمانينات القرن الماضي، بدأت تيارات الحركة النسوية العالمية اجتماعات دولية في إطار برنامج “المرأة والصحة”. النشاط الذي بدأته الحركة النسوية والمنظمات غير الحكومية كان له أثرًا مباشرًا على خطة الأمم المتحدة 1076-1985 حيث قررت زيادة الاهتمام بصحة المرأة، وهو ما يعني أن الحكومات تبنت الطريق الذي مهدته النساء والمجتمع المدني وكان التركيز في البداية ينصب على “منع وفيات الأمهات“.
بالتزامن مع نمو حركة صحة المرأة، بدأ الاهتمام بما يسمى “المجال الخاص”، بما في ذلك الحياة الجنسية والإنجاب، وطوال التسعينات من القرن العشرين، ساهم هذا النشاط في تنامي الوعي العالمي بصحة المرأة التي تحتاج إلى فهمها ومعالجتها في إطار التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفردية أيضا. وبالتالي بدأت الربط المنطقي بين العمل على صحة النساء وبين الجهود المبذولة على صعيد الأسرة والمجتمع المحلي، فضلًا عن الهياكل الاجتماعية الأوسع نطاقًا، مثل الصحة والتعليم، والقوانين والسياسات التي يمكن أن تشكل حواجز أمام حصول النساء على الصحية لأنفسهن ولأطفالهن.
ومن هنا يجب أن تشمل السياسات الخاصة بصحة المرأة العديد من الجوانب، على رأسها التوعية وتغيير المفاهيم السائدة وعدم التمييز ومكافحة العنف ضد النساء في القطاع الطبي. وفي هذه الورقة نعتمد على البحث عن أحدث التوصيات بخصوص النظم الصحية في مختلف دول العالم؛ لتكون بمثابة إضاءات على ما ينبغي أن تشمله السياسات في مصر كي لا نعيد اختراع العجلة من جديد ولا نستورد نسقًا بعينه بمميزاته وعيوبه أيضا.
يمكن القول بأن مرض نقص المناعة المكتسب –الإيدز– كان من أبرز المشكلات التي واجهت العالم –ولا تزال– ويمكن من خلالها التعرف على مدى تأثير الثقافة السائدة والعادات الاجتماعية على منع النساء من حقهن في الرعاية الصحية. وأوحت الإحصائيات أن النساء والفتيات يصيبهن فيروس في سن أقل من الرجال وهو في الغالب بسبب ميل الكثير من المجتمعات لاعتبار الفتيات قادرات على ممارسة الجنس والزواج في وقت مبكر مقارنة بالفتيان والرجال. كما أن النساء والفتيات أكثر عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة ويرجع ذلك جزئيًا إلى عدم المساواة في الحصول على المعلومات. ووجدت دراسات من البرازيل والهند وموريشيوس وتايلاند أن جميع الشابات يعرفون القليل عن أجسادهن، وعن الحمل أو الأمراض التي تنتقل بالاتصال الجنسي. هذا النقص في المعرفة يحد من قدراتهن على حماية أنفسهن من الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة.
وبعدما أقر العالم بأهمية مكافحة التمييز ضد المرأة لضمان صحة النساء، بدأت الدول المختلفة تضع سياسات لمحاولة جسر الفجوات بين النساء والرجال على المستويات المختلفة. ولعل من أخطر المجالات وأكثرها حساسية مجال الصحة. والذي ينبغي وضع سياسات شاملة لضمان عدم التمييز ضد النساء وعدم تعنيفهن ولضمان حصولهن على الخدمات الصحية المطلوبة. وبالتأكيد يجب أن تشمل السياسات الصحة الإنجابية بكل جوانبها التي يعتبرها المجتمع “حساسة” أو تلك التي يعتبرها البعض غير مقبولة ثقافيًا أو دينيًا. ففي مرحلة سابقا كانت وسائل منع الحمل مرفوضة اجتماعيًا وثقافيًا في مصر وهو الاقتناع الذي دفع بعض رجال الدين إلى الإفتاء بتحريمها. ومع تنامي الزيادة السكانية وحرص الدولة على التوعية بخطورتها وتأثيراتها السلبية على واقع الأسر اقتصاديًا واجتماعيًا، تراجع التشدد في رفض وسائل منع الحمل. إلا أن نفس الثقافة السائدة ترفض أو تتشدد في التعامل مع الوسائل الموضعية أو الطارئة بزعم أنها قد تشجع على ممارسة الجنس خارج إطار الزواج.
وعلى جانب آخر يجب الانتباه إلى أن النساء الأكثر فقرًا هن الأقل قدرة على التمتع بالخدمات الطبية. وفي مصر تؤثر التحديات الصحية بشكل أكبر على فقراء الريف، حيث تقل احتمالية حصول النساء الفقيرات على رعاية ما قبل الولادة بنسبة 20% مقارنة بالنساء الأثرياء. وبينما تبلغ وفيات الأطفال دون الخامسة 42 وفاة لكل 1000 مولود حي في الأوساط الفقيرة، هناك 19 وفاة فقط لكل 1000 مولود بين الفئات الأكثر ثراءً. ومن هنا يجب توفير الرعاية الصحية المتكاملة في المناطق الأكثر فقرًا.
سجلت الدراسة الاستقصائية الديموغرافية والصحية لعام 2014 في مصر زيادة غير مسبوقة عالمياً بنسبة 17 في المائة في إجمالي معدل الخصوبة في البلاد منذ عام 2008، لكنها تزامنت مع تراجع في أفضل الممارسات الرئيسية المتعلقة بصحة الأم والطفل الجيدة، مثل الرضاعة الطبيعية المبكرة. وبالطبع يمكن ربط بعض هذه الاتجاهات بتراجع جودة ومعدلات تقديم خدمات الرعاية الصحية قبل وبعد الولادة، وضعف إدارة أنظمة الصحة العامة.
وهو ما يؤكد أهمية أن تعتمد فلسفة أية سياسات صحية على ضمان صحة النساء وتسهيل حصولهن على الخدمات الصحية المطلوبة وحرية تحكمهن في أجسادهن خاصة في المناطق الأكثر فقرًا. فالاستناد إلى الثقافة السائدة سينتج عنه سياسات قاصرة لا تراعي حقوق النساء وصحتهن وتعتمد بالأحرى على ضمان سيطرة الذكور وسيادتهن وتحكمهن في الإناث وغالبًا ما يتم تمرير تلك الحالة من خلال ربط المفاهيم الثقافية بالدين والزعم بكونها أوامر إلهية.
الثقافة السائدة ليست محصورة بالدول النامية أو مصر، فما زالت النساء في بريطانيا غير قادرات على الحصول على حبوب منع الحمل التي يمكن تناولها بعد العلاقة الجنسية دون استشارة طبية. ومؤخرًا انطلقت دعوات للتخفيف على النساء وتسهيل الحصول على أدوية منع الحمل دون استشارات متعددة، وطالب العديد من الخبراء بفتح مراكز في الشوارع الرئيسية، حيث يمكن للنساء الذهاب للحصول على وسائل منع الحمل، وخدمات الفحص، ومشورة انقطاع الطمث، والمساعدة في تلبية الاحتياجات الصحية الأخرى، في حين يجب بيع حبوب منع الحمل التالية للعلاقة دون الحاجة إلى استشارة طبية.
وأصدرت الكلية الملكية لأطباء الولادة وأمراض النساء، تقريرًا لها بعد أكثر من عام من العمل على وضع مخطط للخدمات الصحية للمرأة، أكدت فيه أن الخدمات المقدمة للنساء بحاجة إلى إصلاح كامل لمنحهن سيطرة أكبر بكثير على صحتهن. وأضاف التقرير الذي صدر بعنوان “الأفضل بالنسبة للنساء”، إن البريطانيات يصارعن للحصول على الرعاية الصحية والمشورة التي يحتاجون إليها؛ بسبب السياسات الصحية التي تتطلب من النساء رؤية العديد من الممرضات والأطباء في مجموعة متنوعة من العيادات المتخصصة.
وأظهرت دراسة استقصائية شملت 3000 امرأة بريطانية أن كثير من النساء يجدن صعوبة في الحصول على المشورة والرعاية بالقرب من المنزل. قال أكثر من الثلث (37٪) أنهن لا يستطعن الحصول على خدمات منع الحمل محليًا وأن 60٪ لا يمكنهن الوصول بسهولة إلى خدمات بخصوص الحمل غير المخطط له بما في ذلك الإجهاض.
وبالتالي يجب أن تعمد السياسات الصحية إلى تسهيل حصول النساء على الخدمات المختلفة وبالتأكيد من بينها وسائل منع الحمل لتقليل معدلات الإجهاض. بل ويجب تقنين الإجهاض إذا كانت الدولة جادة في وضع سياسات لمواجهة الزيادة السكانية، خاصة بعدما أصدر الأزهر فتوى تبيح الإجهاض خلال الأسابيع الأولى من الحمل.
لا تزال ملايين النساء تعاني من عدم القدرة على الحصول على وسائل منع الحمل رغم زيادة الوعي، وجاء السعي نحو مزيد من التعهدات الحكومية في نوفمبر 2019، بشأن تنظيم الأسرة والإنفاق على الصحة الإنجابية خلال “قمة نيروبي” التي اجتمع خلالها ممثلي مختلف دول العالم لمناقشة مشكلات تطبيق برنامج المؤتمر الدولي للسكان والتنمية والذي تبنته 179 دولة في مؤتمر القاهرة منذ 25 عامًا.
ووفقا لدراسة حديثة، فإن حوالي 314 مليون امرأة وفتاة يستخدمن وسائل منع الحمل الحديثة. وبحسب الدراسة التي ركزت على 69 دولة منخفضة الدخل واستخدمت الإحصاءات الوطنية وبيانات الأمم المتحدة السكانية، هناك حوالي 900 مليون امرأة في سن الإنجاب في 69 دولة. من تلك الدول يبدو أن تسعة فقط تسير في الاتجاه الصحيح لتحقيق الأهداف المحددة لعام 2020. هذه البلدان –لم تكن من بينها مصر– وتشمل: موزمبيق وتشاد والكاميرون وجمهورية قيرغيزستان وزيمبابوي وكينيا وغانا وبوركينا فاسو وسريلانكا.
كان التحسن الأكبر في الوصول إلى وسائل منع الحمل الحديثة في جميع أنحاء شرق وجنوب أفريقيا، حيث زادت نسبة النساء اللائي يصلن إلى الخدمات بنسبة 7% منذ عام 2012.