أوراق من تاريخ عمل المرأة المصرية

اعداد بواسطة:

التحرير:

مقــدمة يعتقد البعض أن علاقة المرأة بالعمل، المهنى والحرفى، علاقة حديثة النشأة، وأن خروج المرأة لميادين العمل المختلفة، خارج منزلها، إنما تم تحت تأثير الاتصال بالحضارة الأوربية فى مطلع القرن العشرين، والحقيقة أن مثل هذا الاعتقاد لايجد له سنداً من وقائع التاريخ فى مصر منذ عهودها القديمة ووصولا إلى تاريخنا المعاصر بل على النقيض من ذلك تماما، نجد فى صور المعابد القديمة ووثائق ومصادر العصور الوسطى ما يفصح عن اندماج المرأة فى مجالات العمل المختلفة ، اندماجاً صادقا، ومشاركتها بالنصيب الأوفر فى بعض هذه المجالات ، ربما تعويضاً عن غيابها الكامل عن مجالات أخرى . ولا جدال فى أن الموروثات الثقافية التى تسيدت المجتمع المصرى على مر العصور قد فرضت بدرجات متفاوتة من الصرامة ، تقسيما للعمل وفقاً لاعتبارات النوع الاجتماعى ( الجندر ) وحاولت أن تبقى النساء فى أدوار العمل المنزلى ، وخاصة فى إطار الوظائف الإنجابية والتنشئة الاجتماعية للصغار ، ذلك بالإضافة إلى الأدوار التقليدية التى كانت تمارسها النساء فى المناطق الريفية ، حيث كن يقمن بالمعاونة فى أعمال الحقل المختلفة بدءا من نثار البذور وانتهاء بجنى المحاصيل ، وممارسة بعض مراحل العمل الحرفى لخدمة الزوج أو الأب ، ويعتبر غزل الخيوط ونسجها أكثر هذه الأعمال شيوعاً فى مصر منذ أقدم العصور ، بيد أن مثل هذه النشاطات الحرفية كانت فى أغلب الأحيان مدفوعة الأجر ، ولا يعتبرها المجتمع من الواجبات المنزلية التى ينبغى على أفراد الأسرة من النساء القيام بها . ومهما يكن من أمر ، فان هذا الكتاب سوف يركز على عمل النساء فى الحرف والمهن المختلفة ، مع الأخذ بعين الاعتبار ، أن وصول بعضهن إلى مقاعد الحكم مثل ملكات المصريين القدماء ( حتشبسوت ) والسلطانة المتفردة فى العصور الوسطى ( شجر الدر ) أو قيام البعض الآخر بلعب أدوار رئيسية فى تسيير دفة الحكم، كالملكات من الأمهات أو الزوجات فى مصر القديمة أو سيدات من وزن سيدة الملك فى عهد الحاكم بأمر الله الفاطمى أو أم السلطان شعبان فى العصر المملوكى، كل ذلك سينظر إليه باعتباره من الوقائع التى تخرج عن الأعمال الاعتيادية للنساء العاديات ، ذلك أن وصول سيدات ، صراحة أو من وراء ستار إلى التأثير على مجرى الحياة السياسية إنما تم لاعتبارات خاصة تتصل بالدماء الملكية وحق الإرث السياسى وهو ما يضعه فى نطاق بحث آخر يتصل بالأدوار السياسية للمرأة أكثر من اتصاله بعمل المرأة . ونزيد على ذلك ، ولكن لأسباب مختلفة ، الإعراض عن ذكر النساء اللاتى اشتهرن بإلقاء دروس العلوم الدينية والإسهام فى الحياة العلمية المتصلة بخدمة الأديان ، فذلك كان على الدوام من ضمن الواجبات الدينية المقررة على الأفراد دون تمييز ولم تكن تعتبر من الأعمال الدنيوية حتى أن أغلب المشتغلين بها كانت لهم مهن أو حرف أخرى ينخرطون فى ممارستها. ويتبقى أن نشير فى خاتمة هذه المقدمة إلى أن الصورة الإجمالية لعمل المرأة لم تكن تحوى فقط أطياف من الألوان الوردية والمبهجة وإنما احتضنت أيضاً ألواناً من القسوة وأصنافاً من الاستغلال المقيت، ولا تجد الإنسانية عزاء لها سوى فى حقيقة أن مثل هذه الممارسات اللاإنسانية لم تكن لتستمر طويلا فضلا عن أنها لم تكن فى أى وقت من الأوقات موضع ترحيب أو قبول اجتماعى، فلطالما تمت مقاومة أعمال كالبغاء المنظم من قبل المجتمع سواء لأسباب تتصل الأخلاق والقيم أو لدواعى الالتزام بتعاليم الأديان.

المرأة والعمل فى مصر القديمة

تمتعت النساء فى مصر القديمة بمساواة شبة تامة مع الرجل، ويكاد الاتفاق أن يكون تاما بين المؤرخين على أن المرأة المصرية كان لها وضع اجتماعى وقانونى لم يتح مثله للمرأة فى أية حضارة قديمة أخرى.
ويكفى أن نشير إلى أن موقف قدماء المصريين من ولادة الأنثى كان يختلف اختلافاً كلياً عن مواقف العديد من الشعوب القديمة التى عرفت عادة دفن البنات وهن على قيد الحياة فور ولادتهن ( الوأد )، إذا لم تكن ولادة الأنثى لدى المصرى القديم من بواعث حزنه وأساه وليس أدل على ذلك من تلك الأسماء التى منحها القدماء لبناتهم والتى تحمل قدراً كبيراً من الاعتزاز بهن. ومن هذه الأسماء وبت نفر أى بشيرة السعد قدم الخير ونحنتىأى تلك التى كنت أرجوها، وتاحر نحنس أى تلك التى تدعو لها الدنيا وسنت إبتس أى أخت أبيها وحنوت سن أى (سيدتهم) .
وإجمالاً فإن فكرة المساواة بين الجنسين كانت تتردد أصدائها باستمرار فى النصائح التى يحفل بها تاريخ الأدب فى مصر القديمة حتى عد ذلك فى نظر علماء المصريات من أمجاد الحكمة المصرية وخاصة فى تعبيراتها لأول مرة عن كرامة الزوجة والمرأة ورفعة شأنهما.
ومن أشهر هذه النصائح تلك التى ساقها بتاح محب ومنها إذا كنت حكيما اعتن ببيتك واحب زوجتك حباً نقيا واملأ بطنها بالطعام وغط ظهرها بالكساء ولاطفها وحقق لها رغباتها أثناء حياتك…”.
وهناك أيضا نصائح آنى من عصر الدولة الحديثة إذ يقول لابنه عامل زوجتك برعاية إن كنت تعرف عنها أنها ممتازة ولا تقل لها أين هذا إن كانت قد وضعته فى مكانه الصحيح أعد لأمك كل ما فعلته من أجلك أعط المزيد من الخبز واحملها كما حملتك ثقلا وحين ولدت وبعد تمام شهورك حملتك على عنقها وظل ثديها فى فمك ثلاث سنوات ولم تكن تشمئز من قاذوراتك وأرسلتك إلى المدرسة كى تتعلم الكتابة وفى كل يوم كانت تنتظرك بالخبز والجعة فى بيتها.”
وفى ظل هذا التقدير للمرأة ومراعاة المساواة بينها وبين الرجل كانت المرأة تقف على قدم المساواة معه ففى الميراث كان أولاد الشخص المورث هم ورثته بالدرجة الأولى وكانت البنت تحصل على نفس النصيب الذى يحصل عليه الابن مع استثناء واحد وهو أن الابن الأكبر كان له نوع من الامتياز حيث كان يحصل على نصيب أكبر من بقية أخوته نظراً لدوره فى رعاية الأسرة من بعد أبيه . وإذا لم يعقب الميت سوى بنت واحدة استغرقت وحدها تركته كاملة دون أن يزاحمها فى ذلك أحد، أما إذا لم يكن للميت غير زوجة حصلت هى على ثلث تركته وحصل أقاربه الآخرون على الثلثين. وكان الطبيعى مع هذا الميل للمساواة بين الجنسين ألا يحظر المصريون القدماء على المرأة ممارسة أى نوع من المهن أو الحرف.
وما له دلالته فى هذا الإطار ذلك المرسوم الملكى الذى صدر فى عهد الأسرة الثانية (الدولة القديمة)، ليقضى بصلاحية المرأة لشغل وظيفة الملك . ويحفل التاريخ القديم بأمثلة على حرص الملوك على استشارة زوجاتهن الملكيات فى الأمور العامة، وبدورها كانت الملكة تكفل للقصر وللمعبد أوجه نشاط تكميلية وضرورية لاغنى عنها.
وعلى الرغم من أن سيدات جلسن على عرش مصر مثل حتشبسوت ونيتوكرس ونفروسبك إلا أن منصب الوزارة لم تشغله سوى سيدة واحدة من عصر الأسرة السادسة، وفيما عدا ذلك كانت مناصب الوزراء قصراً على الرجال حتى فى الفترات التى حكمت فيها ملكات . ويعزى د. زاهى حواس فى كتابة Silent Images ذلك إلى الصرامة الشديدة التى تميز بها نظام البيروقراطية المصرية.
وقد أتيحت فى ظل هذا النظام البيروقراطى العتيد فرص للنساء للعمل فى أجهزة الدولة وإن كانت قليلة وربما يرجع ذلك جزئيا إلى حقيقة أن حظ البنات فى التعليم فى مصر القديمة كان فى أغلب الأحوال دون حظ الأولاد.
ولا يعنى ذلك أن التعليم كان قصرا على الذكور فقط ، إذ أن هناك ثمة وثائق تشير إلى أن إناث كثيرات من أواسط الناس كن يتراسلن مع بعضهن بعضاً وتميزت أساليب البعض منهن بإجادة الوصف والتعبير، ويغلب على الاعتقاد لدى العالمة الفرنسية كريستيان نوبلكور أن المنتفعات بمثل هذه الثقافة كن بطبيعة الحال بنات الأمراء والنبلاء اللاتى تيسر لهن الالتحاق بمدرسة القصر الملكى مع أبناء وبنات الأسرة الملكية.
ونظراً لما عرف عن المصرى، قديما وحديثا، من ميل نحو التدين، فقد كانت خدمة المعابد من أهم الوظائف وأرفعها قدرا، ليس فقط على صعيد القبول الاجتماعى ولكن أيضاً على المستوى المادى المرتفع حيث كانت للمعابد إداراتها الخاصة التى ترعى الأراضى الموقوفة عليها وما يتصل بأنشطتها من تجارات وصناعات مختلفة. وبالنسبة للنساء كانت أبواب الالتحاق بسلك الكهنوت مفتوحة أمامهن بعد أن تتلقى الواحدة منهن قسطا من التعليم الدينى. وقد اشتهرت فى التاريخ المصرى القديم كاهنات عملن فى خدمة معابد كل من حتحور ونيث ، وكانت موسيقيات المعابد من أرفع العاملين فى خدمة هذه المعابد قدراً، وكثيراً ما يظهرن وهن يعزفن على الآت مختلفة فى النقوش الجدارية وقد ارتدين الملابس الكتانية الرقيقة.
وإضافة إلى الالتحاق بوظائف المعابد المختلفة فقد عملت المرأة وبشكل تقليدى فى خدمة بلاط الفرعون، فعلى سبيل المثال كانت لدى وزيرة الأسرة السادسة، التى تجرى فى عروقها الدماء الملكية هيئة وظيفية كاملة من النساء مثل مزخرفات الملابس وحفظة الكنوز. وفى عصر الدولة الوسطى حملت بعض السيدات ألقابا وظيفية ، تتصل جميعها بالأشراف على البيوت الملكية مثل المشرفة على المطابخ وحارسة الغرفة (غرفة الملك ) وكانت النساء تعين أيضا فى وظائف الأشراف على الراقصات والموسيقيات الملتحقات بخدمة البلاط الملكى .
ولدينا حالة واحدة فقط عملت فيها سيدة كمشرفة على أطباء القصر الملكى حيث نعرف أن المرأة عملت بمهنة الطب وخاصة فى المجال الذى نسميه الآن طب النساء والتوليد .
ويبدو أن النساء تخصصن فى مهام تزيين الملك وإعداد ملابسه وضبط الهيئة التى يواجه بها رعاياه بل ومراعاة رسوم البلاط وتجميله أثناء الاحتفالات العامة وقد عرفت من تشغل هذه الوظيفة غالبا بألقاب من قبيل المعروفة جيدا للملك وشغلت بعض النساء وظائف إدارية رفيعة فى عهد الدولة الوسطى مثل أدارة الأختام . وبعيدا عن هذه الوظائف الرئيسية والهامة فقد اختصت النساء بالعمل فى المناسج الملكية القريبة من القصور حيث كانت تنتج أفضل أنواع المنسوجات الكتانية . وتشير سجلات الدولة الوسطى فى طيبة وغيرها إلي أن صناع الثياب من السيدات كن يعينن فى المؤسسات الحكومية .
والحقيقة أن هذا الأمر يتفق مع ما نعرفه عن أن الغزل والنسيج كان بالأساس حرفة نسائية منذ فجر التاريخ المصرى وحتى نهاية عصر الدولة الحديثة، إذ كانت النساء تعمل فى غزل الخيوط حتى داخل منازلهن ويقمن بنسجها بأنوال أفقية .
ويظهر فى أحد مناظر مقبرة خنوم حتب فى بنى حسن عدد من النساء وهن يعملن فى غزل خيوط الكتان بينما يقوم عدد أخر بعملية النسج باستخدام نول أفقى .
ومن الحرف التى اختصت بها المرأة كانت المراحل المختلفة لانتاج الخبز، بدءا من طحن الغلال مرورا بأعداد العجين وانتهاء بإنضاج الخبز فى الأفران . ورغم أن النساء العاديات كن يخبزن احتياجاتهن الأسرية بأنفسهن ألا أن الأسر الكبيرة كانت تعين خادمات وربما تشترى الإماء للقيام بذلك العمل .
وتعرض بعض جداريات المقابر ورشة كبيرة بها سيدات وقد انخرطن فى أداء أعمال المراحل المختلفة لصناعة الخبز ، وغالبا ما تكون مثل هذه المخابز الكبيرة تابعة لإدارات حكومية ، أو للمعابد .
ومن المهن المرتبطة بعمل الخبز ، إعداد البيرة ، إذ كان فتات الخبز، بعد تخميره المادة الأساسية فى صناعة البيرة فى مصر القديمة ، وهى بذلك تشبه إلى حد ما صناعة البوظا فى صعيد مصر والسودان ، ونرى فى النقوش الجدارية مناظر لسيدات وقد خلعن ملابسهن العلوية وهن منهمكات فى تخمير الخبز بأرجلهن . وقد اشتغلت النساء أيضا بالتجارة فى الأسواق وخاصة بعد عهد الدولة القديمة ذلك أن مناظر الأسواق التى سجلتها النقوش الجدارية فى معابد الدولة القديمة كانت تحوى رسوما لرجال فقط يقومون بعمليات البيع والشراء .
وبدءا من عصر الدولة الحديثة أصبحت الصور الجدارية التى تمثل حركة البيع والشراء فى الأسواق، تضم غالبا سيدات يجلسن على ضفة نهر النيل ومعهن سلال ضخمة مملؤة بالسلع التى يتم تداولها ومعظمها فيما يبدو من منتجات الريف المصرى لأنها كانت تنقل من قوارب لتعرض على الشاطئ .
وتظهر فى هذه الرسوم بعض سلع يمكن تمييزها بسهولة مثل الصنادل والنعال والأقمشة المنسوجة وهناك أيضا جرار الخمر وأوانى الفخار فضلا عن الحبوب المختلفة ( القمح خاصة )، حيث كانت الحبوب تستخدم كسلع نقدية يتم عبرها تبادل السلع المختلفة بعد تقييمها بكيل من هذه الحبوب .
ولاشك أن عمل النساء فى هذا النوع من التجارة الداخلية ، والذى غالبا ما كان ينظم وفق ما نعرفه فى الريف المصرى الى يومنا هذا بالأسواق الأسبوعية ، يعتبر امتدادا للنشاط المهنى والحرفى الكبير الذى عرفت به نساء الريف فى مصر منذ أقدم العصور .
فقد كانت المرأة تقوم بأعمال الفلاحة فى الحقول وتعنى أيضا بتربية الدواجن والماشية وما يرتبط بذلك من تجارة المحاصيل وبيض الدجاج ومنتجات الألبان المختلفة . ذلك بالإضافة الى غزل الخيوط ونسجها حيث عد ذلك من المهن النسائية بالدرجة الأولى.
ولا توجد فى مصر القديمة عبر عصورها قرائن تاريخية تشير الى أن البغاء كان مهنة معترف بها أو تحظى بتنظيم الدولة لها أو جباية الضرائب عنها كما فى مجتمعات أخرى معاصرة .
والحقيقة المؤكدة أن الزنا كان من الجرائم الكبرى فى عرف المصرى القديم. فقد كان الخصاء عقوبة كل من يغتصب المرأة الحرة لأنه المغتصب بارتكابه جريمة واحدة يقترف ثلاثة من أبشع الأثام وهى :-
انتهاك الحرمة والزنا وخلط أنساب المواليد . أما إذا زنى أحد بامرأة وواقعها برضاها فقد كان يجلد ألف جلدة .
أما بالنسبة للنساء فقد كان الزواج يفرض على المرأة الاقتصار على زوجها فى علاقاتها الجنسية وكانت العقوبة فى عهد الدولة القديمة بالنسبة للزانية هى القتل ، ومن أمثلة ذلك الحكم الذى صدر على امرأة زانية فى عهد الأسرة الخامسة بالحرق على مرأى ومسمع من بعض النسوة وإلقاء الرماد المتخلف عن حرقها فى النيل . وهذه العقوبة فى غاية القسوة وفقا لعقائد المصريين القدماء فى البعث والحياة الآخرة إذا أن الزانية لن تصل إليها روحها بعد البعث بعد أن أحرق جسدها ونثر رماده فى النيل ، إنها بقول آخر عقوبة دنيوية وآخروية فى آن واحد.
ولكن عقوبة الزانية لم تكن واحدة فى كل العصور وإنما أخذت تتطور فى اتجاه التخفيف بعد عصر الدولة القديمة، فعوقبت الزانيات بعد ذلك بجدع الأنف لاعتقاد المصرى القديم بأن المرأة التى تتزين للمعصية الجامحة يجب أن تحرم أكبر مقومات الجمال ، وفى أواخر العصر الفرعونى يبدو أن عقوبة الجلد قد حلت محل عقوبة الموت .
هذا التشدد فى مواجهة جرائم الزنا يعد قرينة على أن البغاء لم يكن مهنة تزاولها النساء أما التسرى بعلاقاته المختلفة فقد عرف فى مصر القديمة ولكن على نطاق محدود وكاد أن يكون قصرا على الملوك وكبار الإقطاعيين ، وغالبا ما كانت السرارى من الإماء أو الأسرى الأجنبيات وقد تمتع هؤلاء بمعاملة حسنة على الدوام . ولكن الأولاد الذين يولدون نتيجة لمعاشرة الأسياد للإماء كانوا يعتبرون أولادا غير شرعيين وينسبون الى أمهم دون أبيهم ، ولكن ذلك لم يكن أمرا مرعيا على الدوام وخاصة فى العصور المتأخرة ، إذا اتسعت صفة الحرية لتشمل الابن الأكبر الذى تنجبه الجارية نتيجة تسرى سيدها بها وذلك دون غيره من أولاد قد يجيئون بعد ذلك نتيجة لهذه العلاقة الغير مشروعة .
ومن الأدلة التاريخية على هذا التطور ما قالته سيدة تزوج أخوها من جاريتها أنا سيدتها أقبله من أجلها إذن سيكون معها منذ ذلك اليوم . والآن أنظروا لقد جعلت منها امرأة حرة فى أرض الفرعون . وإذا حملت وأنجبت ولدا أو بنتا فسيصبح حرا فى أرض فرعون “.
والخلاصة هنا أن البغاء لم يكن مهنة تحترفها النساء فى مصر القديمة ، إذ كان من شأن موافقة الملوك على ذلك ، أو قيام الأفراد بتنظيمه أن يفقدوا كل الاحترام لمجافاته للقيم السائدة ، وذلك على النقيض مثلا من موقف الرومان من البغاء ، إذ كان من سلطات السيد الرومانى استخدام إمائه فى البغاء للانتفاع بأجورهن وذلك بطبيعة الحال الى جانب استخدامهن إما للتسرى والمتعة أو فى الخدمة المنزلية وغيرها .
وقد حاكى الرومان أسلافهم اليونانيين برعايتهم للبغاء التجارى والبغاء الدينى أيضا والذى كان يمارس فى المعابد ويستخدم لجذب الأجانب الى البلاد وإنعاش الاقتصاد ، وكان استخدام الإماء فى البغاء منتشرا على نطاق واسع عند الرومان .

المرأة والعمل في مصر الإسلامية حتي نهــاية العصــر الأيــوبي

نجح العرب فى فتح مصر بعد حروب يسيرة ، واستقرت أقدامهم فى البلاد بعد معاهدتين بينهم وبين الروم البيزنطيين ، أولاهما عقدت فى حصن بابليون فى أوائل عام 20 هـ ( 641 م ) وهى المعروفة بمعاهدة بابليون الأولى ، ومن المعروف أنها كانت خاصة بأهل مصر من الأقباط ، ومن يرغب من الروم فى الالتزام بها .
وقد تحدد مركز مصر السياسى باعتبارها ولاية خاضعة للعرب الفاتحين بمقتضى هذه المعاهدة التى عقدت عقب استيلاء جيش الفتح على حصن بابليون , ويلاحظ من نصوص هذه المعاهدة أن العرب وضعوا فيها الخطوط العريضة تهم فى مصر وخاصة فيما يتصل بالالتزامات المتبادلة بين الشعب وحكامه الجدد وفى أواخر عام 20 هـ (641 م ) عقدت معاهدة ثانية فى حصن بابليون وتعرف بمعاهدة الإسكندرية ( أو بابليون الثانية ) وكانت خاصة بالروم البيزنطيين وحاميتهم العسكرية فى العاصمة الإسكندرية وبأهل هذه المدينة أيضا .
ومما يؤسف له أن المصادر التى كتبها مؤرخون فى القرون الثلاثة الأولى من الحكم الإسلامي لم تصلنا فى معظمها إلا ما ورد من مقتطفات منها بين سطور مؤلفات لاحقة ، وقد عنيت فقط بالأحوال السياسية السائدة والصراعات حول السلطة والنفوذ والثروة ، ونادرا ما جاءت الى ذكر معلومات عن الحياة الاجتماعية فى البلاد، وخاصة فيما يتصل بأوضاع المرأة ودورها فى سوق العمل أو الحياة العامة .
ولكن هذا الأسف يظل يستوجب القليل من الحسرة ذلك أن المصنفات التاريخية فى تلك الفترة ، وما تلاها أيضا كانت تعتمد على مفردات منهجية تكاد أن تنحصر فى النقل عن الكتابات القديمة ( اليونانية خاصة ) التى تناولت جغرافية مصر وقسما من تاريخها ، بالإضافة الى المصادر التوراتية المتصلة بتاريخ البلاد، ذلك فضلا عن بعض اقتباسات من أقوال جامعة قالها ولاة أو جغرافيون حظيوا بزيارة مصر والكتابة عنها ، وعن خيراتها وعجائب ما بها من نيل فياض وأثار الأقدمين .
وفيما عدا هذه الشذرات ظلت المادة التاريخية سياسية بالدرجة الأولى ، تتحدث عن الولاة والحكام وخلافات القبائل العربية النازلة بمصر وعلاقة البلاد بالأحداث الجسام فى العاصمتين ، دمشق وبغداد ، وما يتعلق بذلك من إشارات للحركة العلمية وأهم رموزها.
ومهما يكن من أمر هذا النقص الحاد فى المادة التاريخية المتصلة بأحوال المرأة فى عصر الولاة ، فإن كتابات المؤرخين والرحالة المسلمين ، وخاصة من غير أهل مصر ، تفصح عن أن النساء فى مصر كن يتمتعن بقدر أكبر من الحرية والإسهام فى حركة الحياة، وخاصة على الصعيدين الاجتماعى والاقتصادى ، وهو ما أثار دهشة المؤلفين حينا واستنكارهم أحيانا أخرى ، لمخالفة هذه الأوضاع لما ألفوه فى أوطانهم الأصلية ، حتى أن بعضهم غمز المصريين ، صراحة ودون مواربة ، بأن أمورهم ، جليلها وحقيرها فى أيدى النساء وأن رجالهم بلا حول ولاقوة إزاء ذلك . والحقيقة أن هذه المبالغات ، بغض النظر عن مدى مصداقيتها ، تكشف عن وضع متميز للمرأة المصرية على الأقل عند المقارنة بأوضاع نساء الأقاليم والولايات الإسلامية المحيطة بها ، وقد اعتدنا من المؤرخين الأجانب الذين قدموا الى مصر من بلاد عرفت بتجاهلها لدور النساء فى المجتمع على مثل المبالغات، فقبل المؤرخين والرحالة من المسلمين ، قال المؤرخ اليونانى الأشهر هيرودوت الملقب بأبى التاريخ كلاما يحتمل قدرا لا شك فيه من المبالغة التى نحسب أن مبعثها ولاشك ذلك الازدراء الذى تنضح به كتابات الإغريق ، من فلاسفة وعلماء ، عند الحديث عن المرأة .
إذ يقول هيرودوت عن أحوال المصريين فى عصره ، أن النساء عندهم يرتدن الأسواق ويمارسن التجارة ، أما الرجال فيبقون فى البيوت وينسجون وعلى نفس المنوال نسج مؤرخ لاحق لهيرودوت وهو ديودور الصقلى الذى ذكر أنه جرى العرف فى مصر القديمة على أن يكون للملكة من المجد أكثر مما للملك وأن يكون للمرأة بين سواد الناس حق القوامة على زوجها ويتعهد العروس فى العقد الذى يبرم بشأن المهر أن يكون مطيعا لعروسه فى جميع الأمور .
والحقيقة أن عقود الزواج التى وصلتنا من مصر القديمة تكذب ما ذهب إليه ديودور الصقلى فى مبالغاته، وأن كانت تنضح باحترام عميق لحقوق النساء ومراعاة لهن ولقاعدة المساواة مع الرجال .
والذى لا شك فيه أن المرأة فى مصر الإسلامية على عهد الولاة ظلت تمارس ذات الأنشطة والأعمال التى كانت تقوم بها الجدات ، وخاصة فى المناطق الريفية التى ظلت الى حد بعيد بمنأى عن تأثير النظرة الدونية للمرأة التى كانت سائدة فى أوساط الإغريق ثم الرومان ومن أمتزج معهم من نخب الإسكندرية والمراكز الريفية الكبيرة .
فإلى جانب الإسهام فى أعمال الفلاحة ظلت النساء على مشاركتهن فى التجارة بالأسواق وغزل ونسج الخيوط وتربية الدواجن وما الى ذلك من الحرف ذات الصلة الوثيقة بالمنتجات الزراعية ، كإنضاج الخبز .
ويمكن أن نستشف من معلومات عرضية وردت عن زيارة الخليفة العباسى المأمون عصر فى الربع الأول من القرن الثالث الهجرى ( 9 م ) أن المرأة المصرية تقدمت بحظى ثابتة فى مجال الأعمال فى الريف المصرى .
ولامراء أن المصريات قد أفدن من انهيار نظام المواطنة الرومانى بقضاء المسلمين على الاحتلال البيزنطى إذ من المعروف أن سكان مصر كانوا من وجهة نظر القانون الرومانى ينقسمون الى ثلاث مجموعات أو فئات هى : –
1 – فئة الرومان .
2 – طبقة الإسكندريين .
3 – طبقة المصريين .
وكانت كل فئة من هذه الفئات متميزة عن الأخرى من ناحية وضعها القانونى أشد التميز .
فالرومانى هو أرقاها جميعا بطبيعة الحال لتمتعه بالمواطنة الرومانية وما تشتمل عليه من امتيازات ويليه المواطن الإسكندري الذى تمتع بمواطنة الإسكندرية وما اشتملت عليه من امتيازات مثل الإعفاء من ضريبة الرأس وحق الحصول على المواطنة الرومانية مباشرة مما قربه من منزلة الرومانى.
والمصرى أقل الثلاثة منزلة رغم كثرته العددية الساحقة وهو ملزم بدفع ضريبة الرأس وغير مسموح له قانونا أن يتزوج من طبقة الإسكندريين ولا يجوز له الحصول على المواطنة الرومانية مباشرة إلا بعد حصوله على مواطنة الإسكندرية.
وفى القرن السادس الميلادى كان أمر الملكيات الزراعية الكبيرة ( الضياع ) قد استقر لأبناء الطبقتين الرومانية والإسكندرية بعد اندامجهما مع مشاركة محدودة لعدد من المصريين الذين تزاوجوا مع الإغريق وتسموا بأسمائهم من أعيان البنادر، فيما بقيت بعض ملكيات صغيرة متناثرة لبقية سكان الريف من المصريين.
وبعد فتح العرب لمصر اندثر هذا التقسيم الاجتماعى لاسيما بعد أن اعتبرت الأراضى الزراعية التى كانت فى حوزة الأباطرة من أملاك الدولة.
ومنذ الفتوحات الكبرى فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه أصبحت الأراضى الزراعية فى البلاد التى فتحت عنوة ، مثل إيران والعراق ومصر أراض خراجية أى تعود ملكية رقبتها للأمة فيما يبقى المزارعون المحليون يقومون بزراعتها نظير دفع ضريبة الأرض (الخراج) . وكان الهدف من إقرار هذا النظام وعدم توزيع الأراضى على جنود الفتح ، ضمان اعمارها بأيدى الفلاحين وابقاء العرب فى مواقعهم فى جيوش الفتح فضلا عن هدف ثالث إلا وهو عدم تركيز ثروة الأمة فى أيدى قلة من أبنائها.
ويبدو أن إدارة ولاية مصر لم ترغب ، لأسباب لا داعى للخوض فيها ، فى أن يقوم عمالها باستيفاء خراج الأرض بصورة مباشرة من المزارعين وأصحاب الأملاك الخاصة ، ولجأت الى وسطاء من ذوى الخبرة بأحوال البلاد للقيام بذلك وقد عرف هؤلاء بأصحاب القبالات .
ووفقا لما ذكره المقريزى فى خططه فإن قبالات الأراضى كانت تتم فى جامع عمرو بن العاص بالفسطاط فيقوم رجل ينادى على البلاد صفقات موضحاً مقدار ما عليها من الخراج، ويبدو أن ثمة مزايدات كانت تتم بين الراغبين فى تقبل تحصيل الخراج من المزارعين وتوريده للدولة جملة واحدة عن الأراضى المخصصة للقبالات، وما أن تنتهى المزايدة بحصول أحدهم على قبالة كورة أو أكثر يقوم كتاب الخراج بين يدى متولى الخراج بكتابة الأسم ومقدار الخراج، ونظراً لتغير أحوال فيضان النيل من عام لأخر مما يؤثر على المحاصيل فقد كانت مدة القبالة أربع سنوات خشية الظمأ والاستبحار وغير ذلك “. (أي نقص أو زيادة الفيضان).
ولما كان العرب من الفاتحين يعيشون فى مصر داخل معسكرات ويتقاضون رواتب منتظمة من ديوان الجند، فقد كانت قبالات الأرض من نصيب المصريين حتى خروج العرب من ديوان الجند فى منتصف القرن الثالث الهجرى على أقل تقدير، إذ حدث بعد ذلك أن برزت عناصر الترك من حرس الخليفة العباسى وحصدت وحدها اقطاعات الأراضى. ولم تتخلف المصريات عن الإسهام فى المزايدة على قبالات الأرض فى وقت كانت فيه الزراعة هى النشاط الرئيسى للسكان والأعلى دخلاً والأكثر استقرار بين الأنشطة السكانية الأخرى. ولا شك أن دخولها فى هذا المجال كان إحدى ثمار انهيار التقسيم الاجتماعى الذى ظل مهيمنا على مصر خلال الحقبة الرومانية والبيزنطية. وقد شاءت الصدفة التاريخية أن يصلنا أسم إحدى صاحبات قبالات الأراضى فى مصر، وذلك فى غمار رواية تاريخية تواتر ذكرها فى أكثر من مصدر تاريخى.
ففى حوالى عام 214 هـ ثار سكان شرقى الدلتا ( الحوف الشرقى )، من عرب وأقباط ضد عسف جباة الضرائب العباسيين وفسادهم وفشلت جيوش الدولة فى قمع هذه الثورة التى طالت أراضى محافظات الشرقية والقليوبية والمنوفية الحالية، الأمر الذى استدعى مقدم الخليفة العباسى المأمون بنفسه على رأس الجيش لقمع الثورة والتحقيق فى جذورها وأسبابها.
ووفقا لروايات المؤرخين تيقن المأمون من أن ظلم الولاة وجورهم على الفلاحين كان وراء قيام ثورة الحوف الشرقى، وشرع الخليفة بعد قدومه إلى مصر فى سنة 217 هـ وعزله للولاة فى تفقد أحوال الناس بنفسه ليطمأنوا إلى مراعاة الحكومة للعدل.


ويقال أن المأمون لما سار فى قرى مصر كان يبنى له بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقه والعسكر من حوله وكان يقيم فى القرية يوما وليلة ” . وحدث أن مر بقرية يقال لها طاء النمل فلم يدخلها استصغاراً لشأنها، وما أن تجاوزها حتى خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية وقد وصفتها المصادر التاريخية العربية بأنها صاحبة القرية، أى صاحبة قبالة قرية طاء النمل وأخذت العجوز تصيح فظنها المأمون مستغيثة متظلمة فوقف لها وكان لا يمشى أبدا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس فذكروا له أن القبطية قالت يا أمير المؤمنين نزلت فى كل ضيعة وتجاوزت ضيعتى والقبط تعيرنى بذلك وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفنى بالنزول فى ضيعتى ليكون لى الشرف ولعقبى ولا تشمت الأعداء بى وبكت بكاء كثيرا فرق لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل“.

وتمضى الرواية فى بيان مدى كرم وثراء ماريه القبطية، صاحبه القرية فتذكر أن ولدها جاء إلى المسئول عن مطبخ الخليفة وسأله عما يحتاجه من الغنم والدجاج والفراخ والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة وعلوفة الدواب وغير ذلك من الاحتياجات وبعد أن قام الابن بتدوين قائمة الطلبات قام بإحضارها كاملة وزيادة.

واختصت ماريه القبطية كل واحد من كبار رجال الدولة المصاحبين للمأمون بما يلزمه على انفراده ولم تعل أحداً منهم ولا من القواد إلى غيره وكان فى ركب الخليفة أخوه المعتصم وابنه العباس وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى ابن أكثم والقاضى أحمد بن داود، فعاملت كل واحد منهم بما يستحقه من الاحترام. ثم أحضرت ماريه للمأمون من فاخر الطعام ولذيذة شيئا كثيرا حتى استعظم ذلك . وبات الخليفة ليلته فى طاء النمل وهو فى عجب من علو همة صاحبة القرية وكرمها ودرايتها بمعاملة الحكام، فلما أصبح وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ماريه القبطية معها عشر وصائف مع كل وصيفة طبقا فلما عاينها المأمون من بعد قال لمن حضرقد جاءتكم القبطية بهدية الريف الكامخ والصحناء والصبر“.
ولكن صاحبة القرية فاجئت الخليفة وحواشيه عندما وضعت ما حملته الوصيفات بين يديه فإذا ما فى كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمر بإعادتها إلى السيدة، فقالت لا والله لا أفعل.
وتأمل المأمون الذهب فإذا به من دنانير ضربت جميعها فى عام واحد، فقال لها هذا والله أعجب ، ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك، ويكشف رد ماريه القبطية عن مدى إيمان المصرى بأرضه وتقديره لعمله إذ قالت للخليفةيا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا . فقال أن فى بعض ما صنعت لكفاية ولا نحب التثقيل عليك فردى مالك بارك الله فيك فأخذت قطعة من الأرض وقالت يا أمير المؤمنين هذا، من هذا وأشارت إلي الطينة ثم عدلك يا أميرالمؤمنين وعندى من هذا شئ كثير” .
وعندئذ أمر المأمون بأخذ الذهب منها وأمر بأن تقطع عدة ضياع أخرى وأعطاها من قريتها طاء النمل مائتى فدان معفاة من دفع الخراج وانصرف متعجبا من كبر مرؤتها وسعة حالها..”.
وليس بمستعبد أن نساء أخريات عملن كأصحاب قبالات فى عصر الولاة وخاصة قبل ظهور القواد الأتراك على مسرح الأحداث بدءاً من النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى ولكن أسم مارية القبطية هو الذى وصلنا لعله واضحة إلا وهى اتصالها بسيرة المأمون فى رحلته الفريدة إلى أرضى مصر.
وإذا ما وصلنا إلى فترة حكم الفاطميين لمصر ( 358- 567 هـ ) وجدنا معلومات أكثر وفرة عن دور المرأة فى الحياة العامة والتحاقها بالعديد من الأعمال ذات الصبغة الرسمية وتعود هذه الوفرة من المعلومات إلى أسباب عدة لعل أهمها أن مؤلفات وتقييدات لرحالة وصلتنا بالفعل من تلك الفترة بالإضافة إلى مؤلفات متخصصة عن تاريخ الفاطميين فى المقدمة منها كتاب العلامة المقريزى المعروف باسم اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا والذى اعتمد فيه على مصادر أصلية فقدت بعد تأليف المقريزى لهذا الكتاب.
والسبب الثانى أن خلافة الفاطميين كانت أول دولة مستقلة تؤسس فى مصر الإسلامية حيث صارت القاهرة عاصمة لهذه الخلافة بعد أن كانت مصر ولاية تابعة للخليفة الأموى ثم العباسى فى دمشق وبغداد، ولا جدال فى أن رسوم البلاط الفاطمى قد أتاحت دورا متعاظما للمصريين بصفة عامة، ودخلت المرأة لتشارك فى هذه النهضة القومية إن صح استخدام هذا التعبير ، ومثلما لعبت الأميرات من الأسرة الفاطمية أدواراً رئيسية ومؤثرة فى تاريخ الفاطميين، ساهمت المرأة المصرية معهن فى إدارة العديد من مناحى العمل اليومى سواء داخل القصور الفاطمية أو خارجها، وذلك فى تواصل أكيد مع ما نعرفه عن النشاط التقليدى للمصريات فى أعمال الفلاحة والتجارة وبعض الحرف اليدوية إلى جانب إدارة أراضى الخراج. ويمكن أن نضيف إلى هذه الأسباب حرص الفاطميين بعد قدومهم إلى مصر على نشر التشيع وفق المذهب الإسماعيلي بين جمهرة المصريين حتى أنهم أفردوا أياما تحضر فيها النساء دروس الفقه التى كان يلقيها فى الجامع الأزهر فقهاء اسماعيليون مثل القاضى أبن النعمان والوزير يعقوب بن كلس، وذلك بعد أن لمسوا إقبال النساء على حضور مجالس العلم على الرغم من الازدحام الشديد فى الأزهر حتى أن بعضهن قضى نحبه أثناء التدافع للجلوس على مقربة من مجالس الفقهاء.
ويحسن أن نشير بداية الى أن أميرات البيت الفاطمى كن فى طليعة النساء المشتغلات بالأمور العامة، ولعلها المرة الأولى فى تاريخ مصر الإسلامية التى تحرص المصادر التاريخية على الإشارة لأدوار الأميرات وجهودهن المختلفة. فمن المعروفة أن الملكة تغريد زوجة الخليفة المعز لدين الله، بذلت عناية كبيرة بتزويد عاصمة الخلافة بالعمائر وينسب إليها تشيد قصر القرافة الذى وصفه المقريزى بأنه قصر فخم يسر الناظرين. وقد أمرت ببناء هذا القصر وسط مدافن مصر القديمة (الفسطاط) لأن القرافة كانت الموضع الأول لزيارات قبور آل البيت والصحابة والأولياء المعتقدين، الذين ماتوا ودفنوا بمصر، وقد قدرت أنه من الملائم أن تزود هذه المزارات الدينية بقصر منيف تقيم به إذا ما شاءت زيارة القبور، واضعة فى حسبانها أن أقامتها ولو للمدة اليسيرة سوف تستقطب اهتماما حكوميا وشعبيا بعمران القرافة.
والحقيقة أن أحداث العصر الفاطمى كشف عن بعد نظر الملكة تغريد، إذ وقع الاهتمام بترميم المنشات القديمة وتزويدها بالمياه الصالحة للشرب وشيدت عدة مساجد فى القرافة حتى صارت وهى المقابر أكثر عمرانا وحركة من ذى قبل. وأمرت تغريد أيضا بإنشاء أحد قصور الفاطميين الذائعة الصيت وهو القصر المعروف باسم منازل العز وكان مشيدا على ضفة النيل الشرقية لاقامة الخليفة وآل بيته وخاصة فى أوقات الصيف.
ولا عجب فى أن تقوم أميرة فاطمية على أمر تشييد المبانى، إذ كانت للواحدة منهن ثروتها المفردة التى تتحكم فيها، فنعرف، على سبيل المثال، أن الخليفة المعز لدين الله أنجب بنتين، وقد خلفتا بعد موتهما ثروات طائلة فالأميرة رشيدة تركت ثروة منها مليون وسبعمائة ألف دينار من الذهب فى حين تركت أختها الأميرة عبدة العديد من خزائن الحلى والصناديق التى تحتوى على أكياس من الزمرد فضلا عن النقود الذهبية والثياب الفاخرة.
أما سيدة الملك أوست الملك، فقد كانت أبعد أميرات البيت الفاطمى صيتا وأكثرهن انغماساً فى الحياة السياسية وأعمقهن تأثيرا. فهى ابنة الخليفة العزيز بالله وأخت الخليفة الحاكم بأمر الله،وقد لعبت أدوارا رئيسية على مسرح الأحداث فى عهدى الحاكم وابنه الظاهر لاعزاز دين الله.
فقد ولى الحاكم الخلافة وهو بعد فى الحادية عشر من عمره فقامت سيدة الملك بالوصاية عليه مع عدد آخر من القواد والكتاب، ويبدو أن الحاكم، وكان ذكيا أريبا منذ صغره، قد وجد فى حلقه غصة من الذين ساسوا الأمور فى الخلافة وهو دون سن البلوغ، فلما وصل السادسة عشر وأصبح خليفة وحاكما فعليا دون حجر أو وصاية شرع فى استئصال شأفة كل من سولت له نفسه مقاسمة الخليفة نفوذه المطلق على رعاياه، ولاذ بعض القواد من المغاربة بأخته سيدة الملك خشية انتقامه واستبداده بالجميع، ووجد هؤلاء أذنا صاغية من الأميرة التى سلبت كل نفوذ كان لها فى الدولة فى بداية خلافة الحاكم بأمر الله.
وشرع الحاكم فى مجاهرة سيدة الملك بالعداء لإحساسه بأنها صارت مصدر خطر شديد عليه بوجودها داخل القصر واحترام الكافة لها ولرجاحة عقلها، ويقال انه اتهمها بأنها تستقبل رجالا فى حريمها أو على حد ما نقله ابن تغرى بردى فى النجوم الزاهرة أنه قال لها رفع الى أصحاب الأخبار أنك تدخلين الرجال إليك وتمكنينهم من نفسك، وعمل على إنفاذ القوابل لاستبرائها (للكشف عن عفتها) فعلمت أنها هالكة معه“.
وطبقا لروايات تاريخية متواترة فان سيدة الملك تآمرت على أخيها الحاكم بأمر الله ودبرت أمر مقتله واخفاء جثمانه عندما خرج ذات ليلة على عادته للتجول فوق ظهر حماره خارج القاهرة، إذ بعد أن قام عبدان كلفهما القائد المغربى ابن دواس بتنفيذ رغبة سيدة الملك، أحضرا جثمانه الى القصرفدفنته فى مجلسها وكتمت أمره وأطلقت لابن دواس والعبدين، مالا كثيرا و ثياب وأحضرت خطير الملك الوزير وعرفته الحال واستكتمته واستحلفته على الطاعة والوفاء ورسمت له بمكاتبة ولى العهد وكان مقيما بدمشق نيابة عن الحاكم بأن يحضر إلى الباب فكتب إليه بذلك ..”.
وإمعانا فى التغطية على مقتل الحاكم حتى تولى خليفة جديد فقد قالت عندما سأل القواد عن اختفاء الحاكم بأمر الله أنها سمعته يقول أنه يغيب سبعة أيام ، وظلت طوال تلك المدة ترتب الأمور وتفرق الأموال ، وتستحلف الجند ثم بعثت إلى ابن دواس وأمرته أن يستحلف الناس لابن الحاكم ، كتامة وغيرها ، ففعل ذلك فلما كان اليوم السابع ألبست أبا الحسن على بن الحاكم أفخر الملابس واستدعت ابن دواس وقالت له : –
المعول فى قيام هذه الدولة عليك وتدبيرها موكل إليك وهذا الصبى ولدك فأبذل فى خدمته وسعك .
فقبل الأرض ووعدها بالطاعة . ووضعت التاج على رأس الصبى وهو تاج عظيم فيه من الجواهر ما لا يوجد فى خزانة خليفة وهو تاج المعز جد أبيه وأركبته مركبا من مراكب الخليفة وخرج بين يديه الوزير وأرباب الدولة . فلما صار الى باب القصر صاح خطير الملك الوزير :- يا عبيد الدولة مولاتنا السيدة تقول لكم هذا مولاكم فسلموا عليه . فقبلوا الأرض بأجمعهم وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل ولقبوه الظاهر لاعزاز دين الله وأقبل الناس أفواجا فبايعوه وأطلق المال وفرح الناس وأقيم العزاء على الحاكم ثلاثة أيام ” .
وكان من الطبيعى وهى رأس الأسرة الفاطمية أن تكون صاحبة القوامة على الخليفة الجديد الذى كان بعد صبيا وقد بدأت عهده بأن دعت ابن دواس أن يحضر الى الخزانة فى اليوم التالى لخلافة الظاهر لتخلع عليه وتجزيه عن قيامه بقتل الحاكم بتوليته الوزارة فقبل ابن دواس الأرض وفرح وأصبح من الغد فجلس عند الستر ينتظر الإذن حتى يأمر وينهى وكان للحاكم مائة عبد يختصون بركابه ويحملون السيوف بين يديه ويقتلون من يأمرهم بقتله فبعثت بهم ست الملك الى ابن دواس ليكونوا فى خدمته فجاءوا فى هذا اليوم ووقفوا بين يديه فقالت ست الملك لنسيم صاحب الستر اخرج قف بين يدى ابن دواس وقل للعبيد : يا عبيد مولاتنا تقول لكم هذا قاتل مولانا الحاكم فاقتلوه فخرج نسيم فقال لهم ذلك فمالوا على ابن دواس بالسيوف فقطعوه وقتلوا العبدين اللذين قتلا الحاكم وكل من اطلع على سرها قتلته فقامت لها الهيبة فى قلوب الناس ” .
ومن المفيد أن نشير الى أن الظاهر الذى وضعته على كرسى الخلافة لم يكن هو ولى العهد الذى نص عليه الحاكم فى حياته وانما كان عبد الرحيم ابن عم الحاكم بأمر الله ، وقد أرسلت باستدعائه من دمشق حيث كان يقيم بها نائبا عن الخليفة منذ أصبح وليا لعهده فى عام 404 هـ ، وعند وصوله الى مدينة تنيس ( غربى بور سعيد ) قبض عليه صاحب تنيس وبعث به الى ست الملك فحبسته فى دار وأقامت له الطعام والشراب ووكلت بخدمته خواص خدمها وواصلته بالكتب التى تطيب خاطره . وظلت ست الملك تدير شئون البلاد من وراء صورة الظاهر لمدة أربع سنوات منذ مقتل الحاكم فى عام 411 هـ وحتى وفاتها فى عام 415 هـ .
وقبيل وفاتها أصيبت بمرض غامض أدى الى اصابتها باسهال شديد فأيقنت أن ساعتها قد حانت فأرسلت الى الظاهر لاعزاز دين الله ، ابن الحاكم وقالت له : قد علمت ما عاملتك به وأقله حراسة نفسك من أبيك فإنه لو تمكن منك لقتلك وما تركت لك أحدا تخافه الا ولى العهد فبكى بين يديها هو ووالدته . وسلمت اليهما مفاتيح الخزائن وأوصتهما بما أرادت .
ولم تشأ سيدة الملك أن تغادر الدنيا قبل أن يسبقها أخر من يعتقد أنه يمثل خطراً على عرش الظاهر لاعزاز دين الله ، فطلبت من معضاد الخادم أن يمضى إلى حيث كان عبد الرحيم ولى عهد الحاكم محبوسا ليتفقد خدمته وأوصته أن يتفق مع خدامه على ضرب ولى العهد بالسكاكين وشرحت له كيفية أغتياله ، إذا أمرته أن ينكب عليه كأنه يسأله فى آذانه عن أمر ما ، وعندئذ يعاجله الخدم بالقتل، وقد تمت الخطة وفقا لما أرادت وبعد أن أخبرها معضاد بأن عبد الرحيم قد قتل وتم دفنه فى سرية تامة، أقامت سيدة الملك ثلاثه أيام وماتت بعد أن مهدت العرش لابن أخيها الظاهر بقتل ثلاثة من أخطر رجال الدولة الفاطمية وهم : الخليفه الحاكم بأمر الله والقائد المحنك أبن دواس زعيم المغاربة فى الجيش ثم عبد الرحيم ولى عهد الحاكم.
ولعل سيدة الملك هى وحدها من أميرات الفاطميين التى قادت الدولة بنفسها كوصية على خليفتين هما الحاكم وابنه الظاهر وكان الوزراء والقواد يحدثون رجال الدولة بأسمها بوصفهان السيدة و مولاتى وكانت بيدها مفاتيح الخزائن طيلة خمس سنوات فى خلافة الحاكم وأربع سنوات فى خلافة ابنه الظاهر وظلت حتى وفاتها مهابه الجانب يخشاها رجال الدولة وعامة الشعب على حد سواء.
وبعيدا عن سيدات القصر الفاطمى ونفوذهن وثرواتهن فقد كانت الدولة الفاطمية أول من أعاد ما انقطع فى تاريخ مصر من قيام الأدارات الحكومية بتعيين المشرفات السيدات فى إدارة شئون البلاط، إذ كان ذلك من الأمور المرعية فى مصر القديمة إلى أن غزاها الإسكندر الأكبر.
ولا يساورنا الشك فى أنه كان بالأمكان حصر الوظائف التى تولتها السيدات فى بلاط الفاطميين لو وصلتنا الكتب العديدة التى صنفت فى العصر الفاطمى للحديث عن رسوم الدولة ووقائعها السياسية المختلفة، ولكن من أسف إن جل هذه الكتب قد فقد ولم يصلنا الإ بعض شذرات منها فى كتابات مؤرخى العصرين الأيوبى والمملوكى، على سبيل الاقتباس والاستشهاد، بالإضافه إلى عدة صفحات تقل عن الخمسين من مؤلفات المؤرخ الفاطمى المسبحى والتى يقال أنها بلغت نحو أربعين ألف صفحة. ومن هذه الاقتباسات التى أكثر المقريزى وابن تغرى بردى من الاشارة إليها يمكن أن نشير إلى بعض أرباب الوظائف من النساء مثل:-
1- زين الخزان :
وهو لقب شرفى كان يمنح دوما لسيدة تشرف على خزانة الكسوة الباطنة وهى احدى فروع خزانة الكسوات. والأخيرة بها مسئول من الرجال يعرف بلقب صاحب المقص وهو مقدم الخياطين وله وللذين يعملون تحت إمرته مكان خاص لخياطتهم والتفصيل وهم يمارسون عملهم على مقدار الأوامر وما تدعو الحاجة إليه.
وبعد أن يقوم صاحب المقص بتفصيل ملابس الخليفة، يعهد بها إلى زين الخزان المسئولة عن خزانه الكسوة الباطنة الخاصة بملابس الخليفة دون سواه ، ويعمل تحت إمرتها ثلاثون جارية فلا يغير الخليفة أبداً ثيابة الاعندها وقد فسر المؤرخون ذلك بأنها كل الملابس عدا الملابس الداخلية الثياب الدارية التى لا يجوز أن يظهر بها الخليفة أمام النساء ، ومعنى ذلك أنها كانت موظفة حكومية وليست من محظيات الخليفة أو جوارية أو سراريه وكانت الثياب الدارية ذات أكمام تعدل سعتها نصف سعة أكمام الملابس الظاهرة التى تحفظ جميعها فى هذه الخزانة إذ ليس فى جهة من جهاته أى لدى أى من زوجاتهثياب أصلا ولا يلبس إلا من هذه الخزانة ” .
ويبدو أن زين الخزان كانت تنظم عملها بحيث يتبعها مباشرة ست خزان تشرف كل واحدة منهن على عمل خمسة جوارى من الجوارى الثلاثين الذى يشكلون الهيئة الوظيفية لخزانة الكسوة الخاصة أو الباطنة وقد عرفنا ذلك من مقدار الكسوات التى أنعم بها الخليفة الآمر بأحكام الله فى عام 515 هـ إذ ذكر أن زين الخزان المقدمة فى خزانة الكسوة الخاصة حصلت على حلة مذهبة بينما حصلت الست خزان على كسوة أقل كانت عبارة عن حلة حريرى وعشر وقافات لكل منهن” .
ولا غرو أن نسمع بعد ذلك من أوصاف المؤرخين ما ينم عن تناسق ألوان أزياء الخلفاء ومراعاتهم لارتداء زى خاص لكل مناسبة مما كان يصيب العامة من الناس وقصاد البلاط من السفراء وغيرهم بالانبهار حتى عد الخليفة الفاطمى بين حكام عصره الأكثر تأنقا ومراعاة لرسوم الملك .
فعلى سبيل المثال يلبس الخليفة الفاطمى، أى خليفة يوم عيد الفطر الثياب البيض الموشحة وهى أجل لباسهم والمظلة أبدا زيها تابع لزى ثياب الخليفة ، ويرتدى الخليفة نفس هذا الزى فى أول أيام عيد النحر(الأضحى) بينما يرتدى الثياب الحمر عند خروجه للنحر ويخلعها على الوزير بعد نحره للذبائح. وكان الخليفة فى مثل هذه المناسبات الرئيسية يرتدى عمامة بوسطها جوهرة فريدة تعرف باليتيمة وحولها مجموعة أخرى من الجواهر.
وفى أيام الركوب العادية التى يخرج فيها الخليفة للصلاة فى أحد الجوامع أو لزيارة القرافة، أو حتى تفقد أحوال الرعية كانت زين الخزان تراعى أن تخفف من ملبسه فكان لباسه على الدوام الثياب البياض المذهبة والملونة وهى العمامة والمنديل مشدود وشدته مفردة عن شدات الرعية وذؤابته تقرب من الجانب الأيسر، ويتقلد السيف العربي المجوهر بغير حنك ولا مظلة ولا يتيمة جوهرة ” ..
2- مقدمة المائدة :
وقد وصفت بأنها المعلمة مقدمة المائدة ، وكانت من بين المشرفات بخلغ الخليفة فى عيد الكسوات عيد الفطر ، وكانت لهذه السيدة مهمة الإشراف على الموائد والأسمطة التى كانت تعد فى القصر الفاطمى فى مناسبات عدة .
وقد احتفظت لنا بعض المصادر التاريخية بأوصاف مسهبة لما كانت تحتوية الأسمطة التى تشرف مقدمة المائدة على أعدادها وتنفيذها وفقا لرسم وترتيب محددين ، ونختار منها هنا أكثرها اختصاراً وهو الوصف الذى أورده ابن تغرى بردى عن سماط عيد الفطر، إذ يقول مؤلف النجوم الزاهرة:- ” ويعبى السماط فى الليل وطوله ثلاثمائة ذراع فى عرض سبع أذرع وعليه من أنواع المآكل أشياء كثيرة فيحضر اليه الوزير أول صلاة الفجر والخليفة جالس فى الشباك، ومكنت الناس منه فاحتملوا ونهبوا مالا يأكلونه ويبيعونه ويدخرونه وهذا قبل صلاة العيد، فإذا فرغ من صلاة العيد ومد السماط المقدم ذكره فيؤكل ثم يمد سماط ثانى من فضة يقال له المدورة وعليها أوانى الفضة والذهب والصينى فيها من الأطعمة الخاصة ما يستحى من ذكر والسماط بطول القاعة هو خشب مدهون شبه الدكك اللاطية عرضه عشر أذرع . ويحط فى وسط السماط واحد وعشرون طبقا فى كل طبق واحد وعشرون خروفا ومن الدجاج ثلثمائة وخمسون طائرا ومن الفراريج مثلها ومن فراخ الحمام مثلها وتتنوع الحلوى أنواع ثم يمد بخلال تلك الأطبق أصحن خزفيات فى جنبات السماط فى كل صحن تسع دجاجات فى ألوان فائقة من الحلوى والطباهجة اللحم المقلى المفتقة بالمسك الكثير وعدة الصحون خمسمائة صحن مرتبة كل ذلك أحسن ترتيب ثم يؤتى بقصرين من حلوى قد عملا بدار الفطرة زنة كل واحدة سبعة عشر قنطار فيمضى بواحد من طريق قصر الشوق أى باب الذهب ويشق بالآخر من الجانب الآخر فينصبان أول السماط وآخره “.
أما فى يوم عاشوراء الموافق لذكرى الحسين بن على فى كربلاء فكان يمد سماط يعرف بأسم سماط الحزن ولا تزود مقدمة المائدة هذا السماط سوى بالخبز والشعير والعدس والمملحات والجبن والزبادى الساذج ونحو ذلك.
3- مقدمة خزانة الشراب:
وهى المنوط بها حفظ أنواع الأشربة التى يتناولها الخليفة أو تقدم لضيوفه فضلا عن الآوانى من البللور الصخرى والزجاج والذهب والفضة التى تستخدم فى تقديم المشروبات.
وكانت صاحبة هذه الوظيفة على درجة كبيرة من الأهمية فى إدارة البلاط إذ كان عليها أيضاً الاحتراز من أن يدس أحد أعداء الخليفة الفاطمى، وما أكثرهم، السم للخليفة فى شرابه ولعلها كانت تفعل مثل فعل الجاشنكير أى ذواق الطعام فى العصر المملوكى بمعنى أنها تتناول بعضاً من الشراب قبل تقديمه للخليفة، فإذا كان مسموما تكون قد فدته بروحها.
وبالإضافة إلى هؤلاء كانت هناك مستخدمات من أرباب الصنائع فى القصور الفاطمية يفوق عددهن المائة وقد نال هؤلاء فى عام 515هـ حللا حريرية مذهب عندما وزعت كسوات الخليفة الآمر بأحكام الله فى هذا العام.
وكانت هناك أيضاً نائحات ولاعبات بخدمة البلاط الفاطمى، ووظيفة النائحات البكاء والعويل ليس فقط عند وفاة أحد أفراد الأسرة الحاكمة بل وفعل ذلك وزيادة عنه عند الاحتفال بمواسم الشيعة المعروفة مثل يوم عاشوراء، أما اللاعبات فكن ضمن الفرق التى تستعرض مهاراتها فى الألعاب والمهارات التى كانت تشكل جزءا لا يتجزأ من مظاهر احتفالات الفاطميين بعيد ى الفطر والنحر ومن المعروف أن هذه الاحتفالات كانت تتم فى ساحة تواجه القصر الفاطمى الشرقى الكبير وما برحت بقاياها بالجمالية تعرف إلى اليوم باسم رحبة العيد وتقع الان فى مواجهة مدرسة تتر الحجازية.
وقد أشار المقريزى إلى النائحات واللاعبات فى معرض حديثه عن وفاة الوزير يعقوب بن كلس ، إذ أمر الخليفة العزيز بالله القراء بالمقام على قبره لمدة شهر وأجرى عليهم الطعام وكانت الموائد تحضر إلى قبره كل يوم ويحضر نساء الخاصة كل يوم ومعهن نساء العامة فتقوم الجوارى بأقداح الفضة والبللور وملاعق الفضية فيسقين النساء الأشربة والسويق بالسكر ولم تتأخر نائحة ولا لاعبة عن حضور القبر مدة الشهر..”.
وقد أتخذ خلفاء الفاطميين من النساء مسئولات عن إدارة شئونهم اليومية داخل القصور وقد عرفن بالقهرمانات ، ولعل أشهرهن جميعاً قهرمانة الخليفة الأمر بأحكام الله التى لعبت دورا كبيرا فى الحفاظ على حياته من المؤامرات التى كان يحيكها ضده وزيره المستبد ومدبر أمر مملكته الأفضل على بن أمير الجيوش بدر الجمالى.
فبعدما حدث الشقاق بين الخليفة ووزيره راح الأخير يحاول جاهدا أن يغتال الآمر بالسم فلم يقدر ودس إليه السم مراراً فلم يصل إليه . ويعزى المؤرخون ذلك إلى قهرمانة الخليفة التى وصفت بأنها كاتبة فاضلة تعرف أنواع العلوم والطب والنجوم والموسيقى حتى كانت تعمل التحويلات وتحكم على الحوادث فاحترزت على الآمر“.
ومهما يكن من أمر مدى مصداقية داريتها بالتحويلات فالمؤكد أن هذه القهرمانة التى بخلت علينا المصادر التاريخية باسمها لم تزل تدبر ما تواجه به أفعال الوزير الأفضل من خطط ومؤامرات إلى أن نجحت فى قتل الوزير وازاحته من طريق الخليفة. وذلك فى أخر أمسيات شهر رمضان عام 515 هـ, إذ رصده جماعة ممن عينتهم لقتله عند خروجه فى غير موكب، أى بدون حراس، فانقضوا عليه وقتلوه شر قتله. وكما هو الدأب فى كل بلاط ، فقد عملت مجموعة من الفنانات فى قصور الفاطميين، ويظهر أنهن كن موسيقيات ومغنيات، إذ لم نسمع عن راقصات عملن فى البلاط الفاطمى.
وكانت هناك أيضاً فنانات متجولات يقصدن باب الخليفة فى المواسم والأعياد للإنشاد ليحصلن على ما يجود به الخلفاء من عطايا وهبات . ولعل الأشهر بينهن جميعا امرأة تدعى نسب الطبالة.
وتعود شهرة هذه الفنانة التى كانت تنشد الأشعار وهى تضرب على الدف,ولذلك عرفت بالطبالة إلى واقعة نجاح البساسيرى الشيعى فى ثورته ضد الخلافة العباسية فى بغداد، وانتزاعه الخطبة لخلفاء الفاطميين على منابر بغداد فى عام 458 هـ وقد أرسل البساسيرى ثياب وشباك الخليفة العباسى إلى القاهرة ، فلما وصل ذلك إلى حاضرة الفاطميين سر الخليفة المستنصر بالله سروراً عظيماً وزينت القاهرة والقصور ومدينة مصر الفسطاط والجزيرة بالروضه ” .
وفى إطار مظاهر الفرح جاءت نسب الطبالة قبالة القصر الفاطمى، وهى امرأة مرجلة متجولة تقف تحت القصر فى المواسم والأعياد وتسير أيام المواكب وحولها طائفتها وهى تضرب بالطبل وتنشد، فأنشدت وهى واقفة تحت القصر: –
يابنى العباسى ردوا ملك الأمر معد
ملككم كان معاراً والعوارى تسترد
ومعد هو اسم الخليفة المستنصر، فأعجبه ذلك منها وقال لها تمنى، فسألت أن تقطع الأرض المجاورة لميناء القاهرة النيلى المعروف أنذاك بالمقس ، فأقطعها هذه الأرض وقيل لها من حينئذ أرض الطبالة ، وظلت تعرف بهذا الاسم إلي نهاية القرن التاسع عشر الميلادى، عندما زادت زراعة الخضراوات بها وخاصة الفجلفعرفت بأرض الفجالة على وزن الطبالة أو غيط الفجالة نسبة للذين يزرعون، ولما عمرت تلك الجهة بالمساكن سميت الطريق التى كانت تجاور هذه الغيط من الجهة الجنوبية باسم شارع الفجالة وقد حدد محمد بك رمزى فى تحقيقه للنجوم الزاهرة هذه الأرض التى منحها المستنصر لنسب المغنية بأنها المنطقة التى تحد من الشمال والغرب بشارع الظاهر ومن الجنوب بشارع الفجالة وسكة الفجالة ومن الشرق بشارع الخليج المصرىبور سعيد حاليا
وقد شيدت نسب المغنية لنفسها تربة بالقرافة الكبرى إلى جوار مدافن أعلام مصر الإسلامية من العلماء والفقهاء والزهاد والأولياء المعتقدين وقد فقدت هذه التربة المعروفة باسم تربة نسب فى بداية القرن الثامن عشر الميلادى على الأرجح.
ويبقى من وظائف الدولة الفاطمية التى أشتغلت بها النساء واحدة أشار إليها غير مؤرخ، وإن كان ذلك يقتصر على عصر خليفة واحد والوظيفة هى استطلاع أحوال الناس وأخبارهم وأسرارهم ونقلها فى تقارير يومية للإدارة الفاطمية أما الخليفة فهو الحاكم بأمر الله.
وطبقا للروايات التاريخية فإن هذا الخليفة أراد أن يعرف رعاياه كافة أنه بوصفه الإمام لا يخفى عليه شئ من أمورهم ولو كان أمرا عارضا داخل أروقة منازلهم، وانتدب لذلك جماعة من النساء العجائز اللاتى كن يدخلن البيوت ، بيوت الأقارب والجيران، وسلطهن على منازل موظفى الدواوين وكبار التجار وقواد الجيوش وما شابه ذلك من وظائف، فكن يأتينه فى نهاية كل يوم بالأخبار
ولنا أن نتخيل أحد موظفى الدولة وقد وقف بين يدى الخليفة متهما باختلاس شئ أو خيانة أمانة فى عمله، ولما كان الرجل مطمئنا إلى أن أحداً لم يطلع على جرمه، فإنه سلك سبيل الإنكار التام وإذا بالخليفة يذكر له، من الأخبار، مقدار ما اختلس واليوم الذى فعل فيه ذلك سائلا إياه إن كان يظن أن إمامه لا يعرف عنه كل صغيرة وكبيرة بما فى ذلك قوله لامرأته بالأمس كذا وكذا وأن طعام العشاء فى دارة كان من أصناف كذا وكذا.
وفى تلك اللحظة يوقن الموظف التعيس أن الحاكم بأمر الله يطلع على أدق أسراره فى أعمق زوايا بيته فكيف بالحال فى ديوان القصر، فيعترف طالبا عفوا هيهات أن يناله ليكون عبرة لمن يعتبر.
وبقول آخر فقد أنشأ الحاكم أول وربما أخر جهازا استخباراتى من النساء، ويمكن الزعم بأن المهابة والرهبة التى سكنت نفوس المصريين من شخصية هذا الخليفة، إنما كانت بفضل المعلومات المذهلة التى وفرتها نساء هذا الجهاز، حتى أن الحاكم كان ينظر إلى الواحد من رجال دولته أو حتى من تجار الأسواق على سبيل التمعن فإذا بالمنظور إليه ينفجر معترفاًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً بما اقترف من أثام ومخالفات ربما لا يدرى الخليفة عنها شيئا.
ومن المفارقات التى تستحق الذكر هنا أن الحاكم منع فى سنوات خلافته الأخيرة النساء من الخروج للتنزه على شاطئ النيل وخاصة فى المساء ثم عاد فمنع خروجهن البته مساء وصباحا بل ذهب إلى حد منع الأساكفة من صناعة أخفاف النساء حتى يجبرهن على البقاء فى البيوت، ويعزى ذلك إلى ماداخل الخليفة من اعتقاد بأن نقص فيضان النيل فى سنوات متتابعة إنما سببه ما كان يرتكب من معاصى مثل ركوب الرجال والنساء فى قوارب بالنيل ومعاقرة الخمر والتظاهر بالملاهى فى المفترجات على شاطئ النيل ولذلك فقد أمر أولا بمنع خروج النساء للتنزه ليلا ثم منع خروجهن على الأطلاق فى الوقت الذى تعقب فيه جرار الخمر وأراقها فى الطرقات بل وأراق جرار العسل الأسود فى النيل خشية استخدامها فى عمل الخمور ومنع بائعى الكروم من بيع أكثر من رطلين للمشترى الواحد.
ورغم هذا التشدد مع النساء إلا أن الحاكم اعتمد على النساء لتحصيل الأخبار، ولامراء أن سماحه للعجائز فقط بالخروج إلى الطرقات كان من أغراضه تسهيل حركة جهاز الاستخبارات وتغطيته بقرار شرعى عام وقد أتاحت عزلة النساء داخل البيوت لعجائزه فرصا أكبر فى الحصول على المعلومات.
وتجدر الإشارة إلى أن عادة تجول باعة الخضراوات والفواكه وغيرهم فى شوارع القاهرة ومناداتهم على بضائعهم إنما ترجع فى الأصل إلى هذه السنوات التى منع الحاكم بأمر الله خلالها النساء من مغادرة منازلهن، وذلك عندما اشتكت بعض النساء من أنه لا عائل لهن ليقضى لهن حوائجهن من الأسواق. فقد أمر الخليفة الباعة بأن يدوروا فى الطرقات ليبيعوا سلعهم للنساء وذلك بواسطة كبشة من حديد ذات يد طويلة يضع فيها البائع بضاعته ويناولها من بعد للسيدة فى نافذة بيتها وهى بدورها تضع الثمن فى هذه الكبشة.
ويمكن القول بأن الحاكم قد استخدم النساء أيضاً فى عمل جهاز استخباراته فى بلاد الشام وهو ما يبين من دقة المعلومات التفصيلية التى واجه بها عماله فى أكثر من واقعة لعل أشهرها تلك المتعلقة بإشاعة ظهور طيف السيدة مريم العذراء فى كنيسة القيامة ببيت المقدس .
وبالجملة فقد شغلت النساء فى العصر الفاطمى ، الذى كان فى مجمله نموذجا للحريات التى تمتعت بها النساء فى العصور الوسطى قاطبة ، شغلت وظائف رئيسية فى البلاط تكاد تماثل وظائف النساء المصريات فى بلاط الفراعنة ، وان زدن على ذلك اشتغالهن بالأمن السرى على عهد الحاكم بأمر الله .
وليس ذلك فحسب، بل لدينا من الإيماءات التاريخية ما يفيد بأن أسواق القاهرة الذائعة الصيت فى رواجها ودقة تنظيمها كان للتجار من النساء نصيب لا بأس به من حوانيتها، ولم يعد عمل المرأة بالتجارة قصرا على مناطق الريف وتخوم المدن ، وانما امتد إلى قلب العاصمة التى كانت فى حقيقتها ضاحية ملكية على مقربة من العاصمة الشعبية ( الفسطاط ) مثلما هو حال فرساى مع باريس ووندسور مع لندن . ولم تقف النساء عند حدود الاتجار بسلع الريف من المواد الغذائية والمنتجات الحرفية وانما تخطت ذلك إلى كل مجالات التجارة .
ويكفى أن نورد هنا ما ذكره الرحالة الفارسى ناصر خسرو الذى زار القاهرة فى منتصف القرن الخامس الهجرى ( 11 م ) إذ أوضح أنه شاهد فى أسواق القاهرة الأواني النحاسية الكبيرة المصنوعة من معدن النحاس الذى كان يستورد آنذاك من دمشق، وكانت تستخدم فى الطهى عند المهمات والولائم، وأكد هذا الرحالة أنه وجد بالقاهرة امرأة تملك فى حانوتها خمسة آلاف قطعة من هذه الأوانى النحاسية الكبار وإنها كانت تؤجر الواحد منها بدرهم واحد فى الشهر، فيعود عليها ذلك بعائد كبير لرخاء الناس.
والحقيقة أن المرأة كانت موضع تقدير من خلفاء الفاطميين ورجال دولتهم وليس أدل على ذلك من تكرار استخدام المصريين لتماثيل تجسد النساء لحمل شكاواهم واحتجاجاتهم للخلفاء أثناء مرورهم فى مواكبهم، ذلك أن وجود امرأة فى الطريق تحمل ورقة (شكاية) كان يدفع الخليفة إلى إيقاف ركبه لاستلام هذه الورقة لعلها تكون مظلمة يرفعها الخليفة عنها.
وقد حدث ذلك مرة فى خلافة العزيز بالله الذى أكثر من تعيين اليهود والنصارى فى الوظائف الرئيسية بمصر والشام، وكان بعضهم شاًن غيره من موظفى الدواوين فى مستوى الشبهات والحيدة عن العدل، فصنع المصريون تمثالا، ربما من جريد، وألبسوه زى امرأة وجعلوها على هيئة من تمسك ورقة بيدها، فلما رآها العزيز أوقف ركبه وأمر بالورقة فأحضرت إليه فإذا بها عبارة تستحلف الخليفة بالذى أعز اليهود بابن منشا والنصارى بابن نسطورس أن ينظر فى ظلامة امرأة مسلمة. وقد أورد المقريزى أن أهل مصر أوقفوا امرأة من جريد مؤتزرة بيدها ورقة فيها سب الخليفة الحاكم بأمر الله ولعنه عندما منع النساء من الخروج فى الطرقات فعندما مر بها من هناك (سوق المحايرين) حسبها امرأة تسأله حاجة فأمر بأخذ الورقة منها فإذا فيها من السب ما أغضبه فأمر بها أن تؤخذ فإذا هى من جريد قد ألبس ثيابا وعمل كهيئة امرأة فاشتد عند ذلك غضبه..” .
ولعل هذه الرواية الأخيرة تكشف عن مدى وعى النساء بحقوقهن ودفاعهن عن هذه الحقوق مع اللجوء إلى الحيلة لإظهار رفضهن لقرارات الخليفة بمنعهن من الخروج إلى الطرقات.
أما فيما يتصل بأوضاع المرأة العاملة خلال العصر الأيوبى، فان المعلومات التى تتصل بهذا الشاًن تتميز بالندرة الشديدة، ليس لأن النساء لم يمارسن أعمالا مهنية أو حرفية فى تلك الفترة ولكن بسبب تغير رسوم البلاط بعد استيلاء الأيوبيين على الحكم، ونقلهم لمقر الحكم من قلب قصور الفاطميين بالقاهرة إلى قلعة الجبل بأعلى جبل المقطم، حيث أقامت النخب العسكرية من الأكراد .ولما كان صلاح الدين الأيوبى وملوك دولته من بعده قدا انغمسوا فى حروبهم ضد الصليبيين فى كل من بلاد الشام ومصر، فقد اختفت رسوم البلاط ذات الطابع الترفى وانحصرت النخبة فى أصحاب السيوف ومن ثم لم نعد نسمع عن نساء يعملن فى خدمة الدولة. ذلك فضلا عن أن المصادر التاريخية التى ألفت فى العصر الأيوبى لم تنصرف إلا نادرا لشئون الحياة الاجتماعية واستغرق مصنوفها أنفسهم فى تتبع أخبار الحرب والغزوات وأصناف الأسلحة وأسماء القلاع والحصون وملوك الفرنجة، ثم أسباب ووقائع الخلافات الدامية والمريرة التى نشبت بين أبناء البيت الأيوبى وخاصة بعد وفاة الملك العادل أبى بكر بن أيوب أخي صلاح الدين.
ولا يخالجنا شك فى أن النساء اللاتى كن يعملن فى خدمة البلاط الفاطمى قد أخرجن منه ولجأت بعضهن إلى استغلال خبراتهن المهنية لكسب العيش مثل حافظةالتى ذاع صيتها فى بداية العصر الأيوبي بوصفها أفضل من يقوم بعمل كعك العيد ولعلها كانت من المشرفات على دار الفطرةالفاطمية وهى الإدارة التى كانت تعنى بعمل كعك عيد الفطر.
وقد اكتسبت منتجات حافظة شهرة واسعة فى أسوق القاهرة حتى أصبح كعك حافظةبمثابة علامة تجارية بمفهومنا الحديث. ومع ذلك فقد حاكت أميرات الأيوبيين، نساء الفاطميين فى العناية بمظاهر الترف حتى أن أخوات الأمير قطب الدين الأيوبيسكن فى دار الأميرة سيدة الملك بنت العزيز بالله فعرفت لذلك باسم الدار القطبية، وموضعها الآن بيمارستان قلاوون، وكانت القطبيات موضع احترام من كل أمراء البيت الأيوبى حتى فى أحلك أوقات الصراعات الداخلية فيما بينهم.
ويظهر أن الروح الحربية التى سادت العصر الأيوبى قد أملت على بعض الأميرات العمل من أجل دعم المجهود الحربى ولاسيما فى مجالات الإسعاف والمداواة للجرحى، وما أكثرهم فى الحروب القديمة، فنسمع عن الأميرة ست الشام بنت الأمير نجم الدين أخت السلطان صلاح الدين يوسف وقد توفيت عام 616هـ نسمع أنها كانت كثيرة البر والصدقات وكانت تعمل فى دارها الأشربة والمعاجين والعقاقير كل سنة بألوف الدنانير وتفرقها على الناس وكان بابها ملجأ القاصدين، وقد تركت عدة أوقاف وأربطة بمدينة دمشق وغيرها“.ر ولكن حظ المؤرخ الذى بدا عاثراً فى بداية العصر الأيوبى سرعان ما انتقل إلى مدار سعده فى ختام عمر هذه الدولة الأيوبية وذلك عندما جلست على عرش البلاد امرأة لأول واخر مرة فى تاريخ مصر الوسيط أنها شجر الدر التى تسلطنت لمدة ثمانين يوما باسم المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة الملك المنصور خليل“.
والملكة شجر الدر بنت عبد الله، كانت فى المبتدأ جارية للسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب آخر سلاطين الأيوبيين بمصر، وبعد أن أنجبت له ولده خليل صارت أقرب زوجاته لقلبه، ولم تفارقه خلال إقامته فى بلاد المشرق فى حياة أبيه الملك الكامل محمد، بل وأقامت معه عندما حبسه الملك الناصر داود صاحب الكرك بالبادية، وكان معها ولدها خليل أيضاً . وقد قاست شجر الدر مع زوجها الملك الصالح أهوال هذا الحبس ومذلته.
وعندما جاء الصالح إلى مصر وتسلطن بها عاشت معه هى وابنها خليل الذى توفى صغيراً فى حياة أبيه .
وقد أثبتت شجر الدر جدارتها السياسية عندما أصاب الصالح مرض عضال وهو يقود جيوشه من المماليك لمقاومة حملة لويس التاسع على دمياط، إذ كانت تدبر الأمور وتوجه الجيوش بل وتقلد علامة ( توقيع ) زوجها على المناشير، وعندما توفى الملك الصالح كتمت خبر وفاته حتى لا يفت ذلك فى عضد المماليك وهم على أعتاب معركة المنصورة الحاسمة ضد الغزو الصليبى، وظلت تصدر الأوامر باسم الملك الصالح .
ومن قبيل الوفاء لزوجها قامت شجر الدر بإرسال من يحضر المعظم توران شاه بن الصالح ليرث عرش أبيه فأتى مسرعا من الشام ليجدها قد حفظت له عرشه حتى لم يطمع فيه أحد من أمراء الأيوبيين أو قادة المماليك لعظمتها فى النفوس .
ولكن الخلاف وقع سريعا بين توران شاه والمماليك فأقدموا على قتله وهم بعد فى أرض معركة المنصورة، ولم يجد المماليك من يولى أمر البلاد سوى شجر الدر التى كانت حسب المصادر التاريخية خيرة دينة رئيسة عظيمة فى النفوس فاتفقوا على ولايتها لحسن سيرتها وغزير عقلها وجودة تدبيرها ” .
وقد جعلوا المعز أيبك التركمانى أتابكاً لها ( قائداً للجيوش ) وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة ولكنها لم تلبس خلعة السلطنة الخليفية على العادة غير أنهم بايعوها بالسلطنة فى أيام أرسالا وتم أمرها .. ” .
ولكن قيام امرأة في حكم المسلمين لم يقع قبلها ولا بعدها وقد أحست شجر الدر نفسها بما لوضعها من حرج فكانت لا توقع باسمها على المناشير وإنما جعل توقيعها والدة خليل كذلك نقش اسمها على السكة بنسبتها إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله والى زوجها الراحل الصالح نجم الدين أيوب فكان يسجل المستعصمية الصالحية. ملكة المسلمين ووالده الملك المنصور خليل. أما الخطباء في المساجد فكانوا يقولون فى الدعاء لها واحفظ اللهم الجهة الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية صاحبة الملك الصالح. ومعني ذلك أن شجر الدر قد تحرجت من ذكر اسمها صراحة, وظلت تراوح في بحثها عن مناط لشرعية حكمها بين الانتساب للخليفة العباسي المستعصم (المستعصمية) وبين الانتساب للبيت الأيوبي بوصفها صاحبة أو زوجة الصالح نجم الدين (الصالحية ).وخلال الثمانين يوما التى جلست فيها على عرش مصر قادت الملكة شجر الدر عبر مندوبها الأمير حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ( وهو ابن الأميرة الأيوبية ست الشام )، مفاوضات إجلاء الفرنسيين عن دمياط واطلاق سراح لويس التاسع مقابل 800 الف دينار دفع نصفها مقدما قبل الإفراج منه فيما أبقى 12 ألف أسير قيد الاعتقال لحين دفع باقى الفداء المطلوب.
وسيرت شجر الدر أول موكب حج يخرج من مصر وبصحبته كسوة الكعبة المشرفة ، وهو التقليد الذى حرص عليه فيما بعد سلاطين المماليك بل وباشوات مصر العثمانيين. وحاولت شجر الدر ، عبثا أن تحصل على مبايعة أمراء الأيوبيين بالشام, ولكنهم أنفوا أن يخضعوا لواحدة من مماليكهم وصمموا على المسير إلى مصر لخلع شجر الدر ومحاربة المماليك.
وفى هذه الأجواء التى تنذر بحرب وشيكة جاءت القشة التى قصمت ظهر البعير، فى صورة رسالة من الخليفة العباسى المستعصم بالله إلى أهل مصر يعيب عليهم فيها أنهم اختاروا امرأة لتحكمهم إذ قال إذا كانت الرجال عدمت عندكم فأخبرونا حتى نسير إليكم رجلاً “.
ولمواجهة هذه المشاكل مجتمعة وجد أمراء المماليك بمصر أنه من المصلحة أن تتزوج شجر الدر من الأمير عز الدين أيبك أتابك العسكر ، على أن تترك له السلطنة بعد أن يكتسب بهذه الزيجة صفة الانتساب للبيت الأيوبى وتمت هذه الخطوة بالفعل فى يوليو 1250 م ( 648 هـ ) وخلعت شجر الدر نفسها من مملكة مصر وتنازلت عن الحكم لأيبك.
وتعتبر شجر الدر ، بوصفها جارية سابقة ، وانتمائها للأتراك الشركس ، أول سلاطين دولة المماليك بمصر ومؤسسة دولتهم رغما عما لاقته من مصير بائس على يد جوارى زوجها أيبك بعد مقتله الذى اتهمت شجر الدر بتدبيره.

المرأة والعمل فى مصر المملوكية

كان جلوس شجر الدر على كرسى السلطنة فى بداية العصر المملوكى إيذانا بتعاظم دور المرأة فى الحياة العامة ومشاركتها الواسعة فى مجالات عمل أكثر اتساعا من تلك المجالات التقليدية التى دخلت إليها المصريات قبل عدة قرون.
ولابد من الاعتراف بأن سابقة تسلطن شجر الدر وقبول المماليك ، وجلبهم من بلاد الشركس وأواسط آسيا ( التركستان ) قد مهدت الطريق أمام تعاظم أدوار النساء ، ذلك أن التراث الأسيوى مثلما فى الحاضريشهد بأن المجتمعات التركية ، والهندية كانت أكثر تقبلا لتصدر السيدات المشهد السياسى ، حتى أننا نعرف من تاريخ الفتوحات الإسلامية بالتركستان أن ملكة الترك كانت تقود بنفسها تمردات بخارى وسمرقند ضد جيوش المسلمين إلى أن نجح قتيبة بن سلم فى كسر شوكتها حوالى عام 93 هـ ، وقد تعجب العرب وقتها من انقياد المحاربين الأتراك لها وتعظيمهم لها وخضوعهم التام لأوامرها.
وليس ذلك العامل الثقافى التاريخى فحسب هو الذى مهد الطريق أمام النساء فهناك أيضاً حوادث عدة أثبتت فيها زوجات السلاطين وبناتهم أنهن يمارسن أدواراً سياسية مؤثرة سواء من وراء الكواليس أو على مرأى ومسمع من نخبة الحكم، وكما يقال فإن الناس على دين ملوكها.
ففى بداية العصر المملوكى لعبت زوجة الظاهر بيبرس البند قدارى وأم وريث عرشه الملك السعيد بركه خان دوراً مهما فى توجيه أبنها الصغير السن بل أنها تدخلت بنفسها لإقرار الصلح بين السلطان السعيد والأمراء الكبار فى دولته ، حيث أوفدها السلطان للتفاوض معهم ، وقد أظهر الأمراء بدورهم قدرا كبيرا من الاحترام للسلطانة الأم وقد عرضت هى بنفسها على ولدها الشروط التى أملاها الأمراء فقبل بها كرامة لوساطتها. والحقيقة أن نساء المماليك كن يلعبن هذه الأدوار بصفة خاصة، إذا ما توفى الزوج السلطان وجلس أحد أولاده الصغار على عرش البلاد، فمثل هذا السلطان الطفل كان بحاجة ماسة إلى رعاية أمه فى مواجهة أطماع كبار الأمراء ، الذين اعتادوا دوما أن يظهروا الوفاء لعهودهم التى منحوها للسلطان من قبل وفاته بأن يجلسوا ابنه على العرش ، ولكنهم كانوا يرومون فقط تدفئة العرش إلى أن ينجح أحدهم فى إقصاء المنافسين له من كبار المماليك ، وبعدها يزيح الصبى عن العرش ويعلن نفسه سلطانا.
وكان من المألوف أن يكون لزوجه السلطان المتوفى نفوذها على مماليكه، فكانوا يوقرونها ويقفون إجلالا لها. فهناك زوجه المنصور قلاوون وأم ولده السلطان الملك الناصر محمد والمعروفة باسم خوند أشلون التى وقفت بنفسها لتفاوض الأمراء عن سبب حصارهم للقلعة وولدها السلطان ، وأيضاً السيدة خوند بركة أم السلطان الأشرف شعبان ، وقد اشتهرت فى تاريخ المماليك باسم أم السلطان الذى كان لا يصدر أى أمر من الأمور إلا بعد مشاورتها ومراجعتها بل لم يكن بمقدوره مخالفتها، وأيضاً أم السلطان الصالح إسماعيل التى كان لها نفوذ كبير فى دولة ابنها.
كما لعبت بعض الخوندات أدواراً مؤثرة فى إدارة المملكة مثل خوند زينب الزوجة المفضلة لدى السلطان الأشرف إينال ، والتى وصفها المؤرخ أبن إياس بأنها: كانت من أجل الخوندات قدرا ورأت فى دولة زوجها الأشرف إينال غاية العز والعظمة حتى صارت تدبر أمور المملكة من ولاية وعزل وكانت نافذة الكلمة وافرة الحرمة … ” ومن الطريف أنها كانت تقاسم زوجها فى كل هدية تصلة وفى كل رشوة يتقاضاها. وخلاصة الأمر هنا أن تمدد نفوذ الخوندات فى القلعة قد وجد صدى له فى شوارع القاهرة، حيث خرجت النساء للعمل وارتدن المتنزهات والمفترجات وكن فى طليعة جمهور الاحتفالات وشهود المواكب المختلفة.
وقد سجل الرحالة الأوربيون الذين وفدوا على مصر فى العصر المملوكى الجركسى فى مدوناتهم أنهم لاحظوا أن المرأة تتمتع بحرية شبه كاملة ،إذ كن يرتدن الأسواق والمتنزهات ويمشين فى الطرق حتى أن بعضهن يتغيبن عن منازلهن فى أغلب ساعات النهار ومع ذلك فنادرا ما يتعرضن لتوبيخ أزواجهن.
وكانت النساء ترتاد الأسواق لشراء احتياجاتهن منها، كما هو الدأب فى العصور السابقة، ويذهب أحد الرحالة المغاربة إلى حد القول بأن سيدات مصر كن يشترين حتى ملابس أزواجهن. ونعلم من المقريزى أن أسواق بعينها كانت تزدحم بالنساء خاصة مثل سوق الاخفافيين، حيث كانت تعمل أخفاف النساء وتعرض للبيع ، والسوق المسائى الشهير باسم سوق القفيصات وموضعه قبالة مجموعة المنصور قلاوون بالنحاسين، حيث كان التجار يحضرون أقفاصا فى هذا الموضع بعد صلاة العصر ويعلقون فيها الطرف وحلى النساء خاصة.
وعلى الرغم من اعتراض الفقهاء قد استمرت المصريات على عادة الأسلاف من الفراعنة فى الخروج لزيارة المقابر فى المواسم والأعياد فضلا عن السير وراء الجنائز والنواح على ذويهم وهم يسلكون الطريق إلى المدافن ، وعبثا حول الفقهاء والمحتسبون القضاء على هذه العادات، ولطالما تكررت الأوامر بمنع ذلك دون جدوى. والحقيقة أن النساء اعتدن مخالفة مثل هذه الأوامر التى تحاول تقييد الحريات الشخصية، فإبان العصر المملوكى حاول أحد الأمراء إرغام المصريات على تقصير أكمام القمصان حتى أنه أوقف أعوان المحتسب فى الأسواق ومعهم المقصات لا تلاف الأكمام الواسعة ، لأنه رأى فيها ترفا من ناحية وكشفاً لأجساد النساء من ناحية أخرى وظلت المناداة تتكرر فى الأسواق بذلك مما يشير إلى أن أحداً لم يمتثل لأوامر الحكومة.
وشبيه بذلك محاولات الفقهاء لمنع النساء من ارتياد الحمامات العامة، فقد أصدر بعضهم فتاوى تبيح هذا المنع لأن النساء كن يكشفن لزميلاتهن عما يملكن من حلى وجواهر، فكان ذلك سببا فى أن تذهب الأخريات ويعضلن أزواجهن بطلب شراء المزيد من الحلى.
ومن أسف أن بعض سنوات العصر المملوكى شهدت تقييدا لحركة النساء وهو ما هدد النساء المشتغلات بالعديد من المهن والحرف بالتوقف عن أعمالهن وقد أشار المؤرخ أبن تغرى بردى إلى أن قرار السلطان المملوكى فى عام 841 هـ ( 1437 م ) بمنع خروج النساء إلى الطرقات قد أنزل الضرر الشديد بالأرامل وأرباب الصنائع . ومثل هذه القرارات كان يصدر فى حالات استثنائية وأجواء أزمة شديدة وخاصة فى حالة النقص الشديد فى منسوب فيضان النيل أو عند انتشار الأوبئة الفتاكة كالطاعون والكوليرا ففى هذه الأجواء المفعمة باليأس يتصدى رجال الدين لخروج النساء للطرقات تحت زعم أن تبرجهن فى الطرقات واختلاطهن بالرجال سواء فى المنتزهات والمفترجات أو حتى فى أثناء الاحتفالات الدينية ، كالموالد وخروج محمل الحج ، هو سبب هذا الابتلاء وأن على الناس كافة أن يتوبوا عما يقترفون من معاص وآثام بمن فيهم النساء، ولم يكن السلطان المملوكى ليصم آذانه عن مثل هذه الطروحات التى تلقى قبولاً تاماً من العامة ، فيصدر أوامره المشددة بحظر تجوال النساء فى الطرقات ولكن ذلك الأمر لم يكن ليستمر طويلاً.
وتعطى أوامر السلطان فى شعبان من عام 841 هـ أبز الأمثلة على ذلك ، ولندع هنا المؤرخ ابن اياس صاحب بدائع الزهور فى وقائع الدهور ليتحدث عن حوادث هذا الشهر الذى تزايد فيه أمر الوباء بمصر إذ قال الفقهاء للسلطان إنما يظهر الطاعون فى قوم إذا فشا فيهم الزنا وأن النساء قد تزايد خروجهن فى الطرقات وهن متبرجات ليلاً ونهاراً فى الأسواق“.
فأشار بعض العلماء على السلطان بمنع النساء من خروجهن إلى الطرقات إلا إلى الحمام فقط ، فمال السلطان إلى ذلك ونادى فى مصر والقاهرة وظواهرها بمنع النساء قاطبة من الخروج من بيوتهن إلى الطرقات وصار الوالى والحجاب يتتبعون النساء فى الطرقات ويضربون من يجدوا منهن راكبا أو ماشيا فحصل للناس الضرر الشامل ووقف حال التجارة فى الأسواق وقل البيع والشراء.. “.
ولا شك فى أن ما نقله ابن اياس يوضح بجلاء أن حركة التجارة فى الأسواق كانت رهنا بارتياد النساء للأسواق.
والمهم أن النساء عملن فى العديد من المهن والحرف خلال العصر المملوكى وإن أبعدن عن وظائف الدولة التى صارت قصراً على النخب العسكرية من المماليك وأرباب العمائم من علماء ورجال الأزهر، وبعض وجوه التجار، وحتى الوظائف التى كان من المعتاد فى أى بلاط أن تتولاها النساء فقد شغلت بالجوارى دون الحرائر من المصريات.
ومن أشهر جوارى البلاط المملوكى السيدتان حدق ومسكة وأصلهما من جوارى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ، نشأتا فى داره وصارتا قهرمانتين لبيت السلطان وقد ظلت حدق ومسكه طيلة حياتهما فى طليعة من يقتدى برأيهم فى عمل الأعراس السلطانية والمهمات الجليلة التى تعمل فى الأعياد والمواسم لدرايتهما التامة برسوم البلاط المملوكى.
وفضلاً عن ذلك فقد تولت السيدتان ترتيب شئون الحريم السلطانى وتربية أولاد السلطان وطال عمرهما وصار لهما الأموال الكثيرة والسعادات العظيمة ، مما يجل وصفه وصنعا براً ومعروفا كبيرا واشتهرا وبعد صيتهما وانتشر ذكرهما“.
وقد شيدت كل من الست حدق والست مسكة مسجداً، وأشار المقريزى فى خططه إلى هذين المسجدين وقد دثرا الآن ، ومن المرجح أنهما اختفيا عند إنشاء الأحياء الحديثة مثل حى عابدين الذى يشغل بامتداده الشرقى الأحكار التى كانت تحتوى المسجدين.
ولم يصلنا من منشآت جوارى العصر المملوكى سوى جامع أو مسجد فاطمة شقرا بشارع تحت الربع.
أما بالنسبة للنساء العاديات فليس هناك من الدلائل التاريخية ما يحملنا على الاعتقاد بأن المصريات فى الريف قد توقفن عن الإسهام الفعال فى تسيير دفة الاقتصاد الزراعى بمراحله المختلفة بدءا من المشاركة فى أعمال الحقل المختلفة وتربية الماشية والدواجن وانتاج مختلف أنواع منتجات الألبان وغزل ونسيج الخيوط، فضلا عن التجارة المحلية فى الأسواق الدائمة والأسبوعية والتى كانت سمة مميزة للريف المصرى حتى نصف قرن مضى.
ويشير الدكتور أحمد عبد الرازق فى كتابة المرأة فى مصر المملوكية إلى عدد من المهن التى شاركت فيها المرأة مشاركة فعالة غطت بها كل ما يتعلق بالحياة اليومية من أنشطة ، ساعية إلى كسب قوتها جنباً إلى جانب الرجل.
ومن الحرف النسائية التقليدية التى نوه بعمل المرأة فيها الخاطبة التى لعبت الدور الرئيسى فى العديد من مشروعات الزواج خلال عصر سلاطين المماليك ، وقد أشار بعض المؤرخين إلى العديد من النساء اللاتي قمن بدور الخاطبة، وقد وصف ابن دانيال مثلاً الخاطبة إنها كانت تعرف كل حرة وعاهرة وكل مليحة بمصر والقاهرة.
وهناك أيضا الدادات والمراضع ، وإذا كانت الجوارى قد استأثرن بمثل هذه المهن فى قصور السلاطين وبيوت الأمراء المماليك فإن الأمر لم يعدم عمل المصريات فى هذا المضمار وخاصة فى خدمة بيوت السراة وكبار التجار الذين كانوا يشكلون جزءا معتبرا من نخبة المجتمع آنذاك .
وثمة ثلاث مهن اختصت بها النساء فقط وهى تتصل جميعاً بنظافة المرأة وزينتها. وهى:
1- البلانة: وهى فى الأصل جزء أصيل فى الهيئة الوظيفية لحمامات النساء وإذا ما كان الحمام العام يختص بالنساء فى يوم أو أكثر من أيام الأسبوع بينما تخصص باقى الأيام للرجال فإن جميع العاملين داخل الحمام من الرجال كانوا يغادرونه وتدخل عوضا عنهم النساء.
وفى هذه الحالة فإن البلانة تحل فى الواقع مكان الحلاق أو المزين المختص بالرجال، ومعنى ذلك أن عمل البلانة هو نزع الشعر الزائد من وجوه النساء ومختلف أجزاء الجسد ، ويعرف هذا العمل فى مصطلح العصور الوسطى باسم التحفيف لأن البلانة كانت تحف ، أى تنزع فى أجزاء دون أخرىحواجب النساء ووجوهن لتبدو ناعمة صقيلة.
وقد أشار بعض الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر فى العصرين المملوكى والعثمانى إلى عادة الحمامات فى نزع الشعر الزائد، من الرجال والنساء على حد سواء، منوهين إلى أن ذلك لم يكن من الأمور المعروفة فى أوربا.
وإذا كانت السيدات فى الحمام يحظين بعمل البلانات، فإن نساء البيوت ممن لديهم حمامات خاصة فى دورهن أو من لا يستطعن طولا أن يرتدن الحمامات فقد كانت بلانات الأحياء تذهب إلى زيارتهن، بالمنازل ولا سيما فى المناسبات والأفراح.
2- الماشطة: وهى أيضا من أعضاء الهيئة الوظيفية لحمام النساء وفى غير أوقات عمل الحمامات كانت الماشطة تزور السيدات فى منازلهن وحسبما يقول منطوق المثل الشعب ايش تعمل الماشطة فى الوجه العكر فإن مهمة الماشطة هى تزيين المرأة فيما يقارب أعمال الكوافير فى العصر الحديث حيث يمتد عملها ليشمل تصفيف الشعر وتجميل الوجوه، بالأصباغ بل أنها كانت تعير على سبيل الإيجار، النساء الفقيرات الملابس الرفيعة والحلى والجواهر الثمينة فى أوقات الأعراس والحفلات على أن تستعيدها مرة أخرى فى يوم الصباحية” .
3- الصانعة: ويذكر عنها د. أحمد عبد الرزاق أنها كانت تقوم بوشم النساء ، حين كان الوشم من مقتضيات الجمال الأنثوى وقد اعتادت الصانعة أن تجوب طرقات المدينة حاملة المشارط والكاسات وقد تأبطت المخلاة وأظهرت حول جيدها الطوق والشنوف المحلاة وغرزت عصابتها بكلاليب الإبر التى كانت تستخدمها فى عملية الوشم ، وقد اشترط الفقهاء حسبما يشير إلى ذلك أن تكون هذه الصانعة من بين المسلمات ومن غير الشابات اللاتى يمشين مكشوفات الوجوه متبرجات، خشية أن تكتسب المرأة شيئاً من خصالهن وأحوالهن المذمومة شرعاً.
وفضلاً عن هذه المهن المرتبطة بزينة وتجميل النساء فقد اختصت المرأة فى مصر المملوكية بمهنة القابلة أو الداية وكانت هذه المولدة كما تسمى أحياناً تستدعى إلى بيوت الحوامل من أن لآخر وخاصة فى الأيام التى يتوقع فيها الولادة. وكان من تقاليد الدايات فى العصر المملوكى أن يحملن معهن ما يعرف باسم كرسى الولادة الذى تجلس عليه المرأة إذا ما جاءها مخاض فى الولادة, وكان هذا الكرسى يحمل فى بعض الأحيان ليوضع وقد غطى بمنشفة مطرزة وبعض الورود أمام منزل السيدة التى تنتظر مولودا فى إشارة ذات مغزى لجيرانها حيث كان من العادات المرعية أن يتبادل الجيران الزيارات والتهانى فى مثل هذه المناسبات الاجتماعية وإلى جانب ذلك فقد عملت المرأة أيضاً بالتطريز كما يقول الدكتور حسين رمضان وهو تزيين المنسوجات بخيوط ملونة على هيئة زخارف هندسية ونباتية وكتابية مختلفة، وقد أورد المؤرخ والفقيه جلال الدين السيوطى فى ترجمته لابنة محمد بن أبى بكر عثمان السخاوى ( توفيت سنة 857 هـ ) ما يفيد بأنها كانت عمته شقيقة والدى وكانت أسن منه نشأت فى عفة وصيانة فأتقنت التطريز والتنبيت وما أشبه ذلك وعكف عليها بنات جيرانها للتعليم وكانت مثل هذه المهارات من الضروريات الثقافية لبنات الأسر الكبيرة مثلما كانت من الحرف التى تدر على صاحباتها دخلا ماديا لابأس به.
كما عملت النساء فى الدلالة أى بيع السلع والطرف ليس فى الأسواق ولكن أثناء مرورهن على المنازل وكان لكل حى دلالاته اللاتى يوثق بهن، وقد ورد فى إحدى وثائق دير سانت كاترين ذكر امرأة يهودية كانت تعمل دلالة.
وكانت هناك أيضا الغاسلات ( مفردها الغاسلة ) وتقوم صاحبة هذه المهنة بتغسيل وتكفين المتوفيات وقد أوجب الفقهاء على من تقوم بهذه الوظيفة أن تحترز من دخول الماء إلى تجويف البدن وأن لا تنظر إلى عورة الميتة وأن تكون مؤتمنة على ما قد تطلع عليه من الأسرار أثناء عملها.
وفى الأوقات التى كان يضيق فيها على تحرك المرأة وتمنع من الخروج إلى الطرقات ، كانت الغاسلة وحدها هى التى تستثنى من مثل هذه الأوامر، وخاصة فى أوقات الأوبئة وكثرة الوفيات.
فعندما تم فرض حظر التجوال على النساء فى شعبان عام 841هـ كانت الغاسلة تتحرك بين الشوارع لتؤدى مهمتها الخالدة وذلك بعد أن تأخذ ورقة من عند المحتسب وتجعلها فوق عصابتها مخيطة فى الإزار حتى يعلم أنها غاسلة.
ومنذ فجر التاريخ ونحن نعلم أن النساء كن يبعن الأوانى الفخارية ضمن ما يحملنه من منتجات الريف إلى الأسواق وتحدث أكثر من مؤرخ عن عمل النساء تقليديا فى صناعة الفخار، وجاء العصر المملوكى ليحمل إلينا براهين مؤكدة على نشاط المرأة الكبير فى مجال صناعة الأوانى الفخارية والخزفية.
فقد اعتاد أصحاب أفران الخزف فى العصر المملوكى أن يوقعوا على قاع أوانيهم الخزفية بأسمائهم ، أما على سبيل الزهو والافتخار بعملهم الفنى أو لان هذه التوقيعات كانت بمثابة العلامة التجارية او الضمان لجودة هذه المنتجات وقد أشار أستاذى الدكتور حسن الباشا، رحمه الله، إلى عمل المرأة فى صناعة الخزف والفخار مستندا إلى قاع طبق من الخزف عثر عليه فى أطلال الفسطاط وهو ينسب وفقاً لزخارفه إلى عصر المماليك إذا أنه كان يحمل كتابه من الخارج نصها عمل خديجة “.
وقد نشرت الدكتورة امال العمرى بحثا ضافيا عن بعض من عملن فى إنتاج الفخار والخزف فى مصر المملوكية، وجمعت فيه نماذج من توقيعاتهن على الأوانى التى عثر عليها فى حفائر مدينة الفسطاط ( مصر القديمة ) .
ومن المهن التقليدية التى اشتغلت بها النساء تحت تأثير تقاليد البلاط منذ العصر الفاطمى، أعمال الموسيقى والغناء وحسبما يذكر د. أحمد عبد الرازق فإن سلاطين المماليك قد عنوا بتشجيع المغنيين والمغنيات حتى أن المؤرخ ابن تغرى بردى وصف أحد علماء الجامع الأزهر فى ذلك العصر بأنه اشتهر بالتقشف والبعد عن زخرف الدنيا ولكن مع ميل إلى سماع المغانى والرقص واللهو.
وروى عن أحد الفقهاء أنه سمع بمغنية شهيرة تغنى فى مكان معين فترك شيخه بعد الصلاة وتسلل خفية للاستماع إليها، فلما عرف شيخه سبب غيابه قال له عند عودته أمرها عندى خفيف “.
وقد حظى العديد من المغنيات بسمعة طيبة وشهرة كبيرة فى العصر المملوكى حتى أن بعض المؤرخين عنى بذكر أخبارهن والترجمة لهن عند وفاتهن ومن هؤلاء.
1- خديجة الرحابية: وقد توفيت سنة 887 هـ ( 1482 م ) وكانت حسبما نقل الدكتور أحمد عبد الرازق عن ابن اياس من أعيان مصر ولها إنشاد لطيف وحظيت عند أرباب الدولة ورؤساء مصر وكانت جميلة الشكل حسنة الغناء فافتن بها الكثير من الناس حتى قال فيها بعض الشعراء.

رحابية تخفى الشموس جمالها
لها حسن إنشاد تزين مقالها
وقد خايلت بالبدر ليلة تمسه
فمازال من عينى وقلبى خيالها.


2- خوبى العوادة: ويبدو من اسمها أنها كانت من أصل إيرانى او تركى حتى أن ابن حجر العسقلانى يشير إلى أنه لم يدخل مصر مثلها فى الغناء وضرب العود.
3- عزيزة بنت السطحى: وقد توفيت حسما يذكر أبن أياس فى أوائل شهر شوال سنة 906 هـ وكانت من أعيان مغانى مصر فريدة عصرها فى النشيد مع حسن الصوت وفصاحة بإعراب الشعر، فلم يخلفها من بعدها أحد من النساء المغانى ورأت من الأعيان وأرباب الدولة غاية العز والعظمة ما لا رآه غيرها من أرباب هذه الفن وماتت وهى فى عشر الثمانين كان لها بمصر شهرة زائدة ومما قاله فيها الشهاب المنصورى:-

وفتاة نزهت طرفى فيها
شنفت مسمعى بجوهر فيها
منذ زارت محبها وتغنت
كاد يرمى بنفسه من أبيها


4- الريسة خديجة أم خوخة: وقد توفيت سنة 918 هـ ( 1512 م ) وكانت من أعيان مغانى الدكة ولها فى هذا الفن اليد الطولى .
5- الريسة بدرية بنت جريعة: وكانت من أعيان المغانى أيضا ولها شهرة بينهن واسعة .
6- ضيفة الحموية: وهى التى أنشدت فى السلطان الناصر محمد بن قلاوون قائلة :

ولقد نذرت بأن رأيتك سالما
ونظرت وجهك أن أصوم شهورا
حذراً عليك من الزمان وغدره
حتى تعود مؤيداً منصورا.


ولا يتبقى من المهن المشهورة للنساء فى العصر المملوكى سوى الإشارة إلى ما آلت إليه أحوال أقدم مهنة فى التاريخ وهى الدعارة والتى ما برحت تشكل أكبر اعتداء على حقوق المرأة .
ولسنا ندرى على وجه اليقين متى تحول البغاء إلى مهنة تحترفها النساء، ولكن الدلائل التاريخية تشير إلى استبعاد حدوث ذلك حتى نهاية عصر السلطان صلاح الدين الأيوبى على أقل تقدير ، ومن المرجح أن إغضاء السلطات الطرف عنها والسماح بها قد تم فى نهايات العصر الأيوبى أو بواكير العصر المملوكى ، إذ ينسب إلى الظاهر بيبرس البندقدارى انه أول من جرم البغاء وطارد المشتغلات به. ولكن يبقى من المؤكد حسبما يذكر د. حسين رمضان أن بعض النساء فى العصر المملوكى قد احترفن الدعارة وكانت تشرف عليهن سيدة تعرف بضامنة المغانى تتولى جمع الضرائب منهن كما كانت تجمعها أيضاً من حرف نسائية أخرى مختلفة بل ومتناقضة مع هذه الحرفة، إذا كانت مسئولة أيضا عن الواعظات والقارئات والندابات.
ووفق الدكتور أحمد عبد الرازق فإن من ترغب فى احتراف البغاء، كان عليها أن تذهب لتسجيل اسمها لدى ضامنة المغانى، وكانت هذه الضامنة تتعهد بدفع مال إلى الدولة فى مقابل أن تتولى هى جمع ضريبة المغانى التى كانت تجمعها فيما بعد من النساء البغايا فى مقابل أن تحميهن الدولة.
وجلية الأمر أن ضمان المغانى كان أشبه بضمان الأرض أو ما عرف فى العصر العثمانى بالالتزام، ووفقاً لهذا النظام المألوف فى إدارة الشئون المالية إبان عصر المماليك فقد كانت الدولة تحدد مبلغا من المال يتوجب على من ترغب من بنات الخطأ أو الخواطئ فى أن تكون ضامنة لبنات مهنتها أن تلتزم بدفعه، وغالبا ما يكون ذلك مشاهرة شهرياً وربما حصل منها مسانهة سنويا ً على أن تقوم هى بعد ذلك بتحصيل المال من الملتحقات بالمهنة مع هامش ربح معقول لها نظير إدارتها لشئون البغاء وبالطبع فقد كان من صلاحيات الضامنة أن تطلب من ذوى الاختصاص فى إدارة الدولة إرغام من يمارسن هذه المهنة بعيدا عن إشرافها بأداء ما عليهن من ضريبة أو الامتناع كليا عن العمل بها.
ووفقاً للنظام المالى فى العصر المملوكى فقد كانت الضرائب، خارج ضريبة الأراضى الزارعية، توجه للإنفاق على وجه من الأوجه، حيث لم يكن هناك عمل بمبدأ تجميع الموارد ثم إعادة توزيعها على أوجه الإنفاق وكانت ضرائب المغانى موجهة لتسديد رواتب بعض أرباب الوظائف من المماليك وهو ما أعطى لهذه المهنة البغيضة قدرة لانهائية على الاستمرار رغما عن معارضة الفقهاء وأوامر بعض السلاطين بأبطالها وتسريح العاملات بها .
ومن الملاحظ أن بعض السلاطين من المماليك قد حاول منع البغاء فى البلاد بوازع دينى لاشك فيه فيما لجأ البعض الآخر إلى إصدار قرارات آنية بشأن ذلك فى أوقات انتشار الأوبئة والنقص الفادح فى منسوب فيضان النيل ومن الغريب أن السلطان فى هذه الحالات الأخيرة كان يأمر بتغريق ضامنة المغانى فى نهر النيل ولكن لم يحدث أبدا أن غرقت ضامنة من وزن هيفاء اللذيذة أو غنى فالواحدة منهن لم تعدم من كبار الأمراء من تصانعه ترشوه لقاء الحصول على عفو سرى من السلطان ، وفى هذه الحالة كانت الضامنة تتسحب من القاهرة وتختفى فى أحد قرى الريف رثيما يتم وفاء النيل وينسى الجميع أمر السلطان فتعود إلى سابق عهدها من ممارسة البغاء.
ولم يقتصر أمر ممارسة الدعارة على العاصمة وانما امتد أيضاً إلى ضواحيها وبلاد الصعيد والوجه البحرى حيث خصص للبغايا حارات مريبة معينة كأرض الطبالة وربع الزينى وجزيرة حليمة ما بين بولاق والجزيرة الوسطى (الزمالك) التى سمتها العامة بحليمة ونصبوا فيها عدة أخصاص بلغ مصروف الواحد منها ثلاث آلاف درهم من الفضة.
ويقرر المقريزى فى خططه أن ضمان المغانى كان بلاءاً عظيماً وهو عبارة عن اخذ مال من النساء والبغايا فلو خرجت أجل امرأة فى مصر تريد البغاء حتى نزلت اسمها عند الضامنة وقامت بما يلزمها لما قدر أكبر أهل مصر على منعها من عمل الفاحشة وكان على النساء إذا تنفسن (بعد وضع الحمل) أو عرسن امرأة أو خضبت امرأة يدها بحناء أو أراد أحد أن يعمل فرحا لابد من مال بتقرير تأخذه الضامنة ومن عمل فرحا بأغانى او نفس امرأته من غير إذن الضامنة حل به بلاء لا يوصف “. ومعنى ذلك أن الاتجار فى النساء ، كان مهنة ترعاها الدولة أو بالأحرى يرعاها المستفيدون من ريعها من كبار أمراء المماليك خاصة مع استمرار الدولة فى تقسيم الأراضى الزراعية وفقاً لأنظمة الإقطاع الحربى على أمراء الألوف والمئات من المحاربين ، بينما تركت إيرادات الضرائب ، ومنها ضمان المغانى لسد رواتب كبار الأمراء فى العاصمة وكان هؤلاء، رغما عن آنف السلطان أحيانا هم رعاة هذه المذلة وحماتها، تحت زعم أن ابطالها سوف يضر بموارد المال العام إضراراً شديداً.
ولولا الحماية الكاملة التى أسبغها هؤلاء على الضامنة وبنات الخطأ لما كن ارتدن الطرقات والأسواق وهن يضعن شارات المهنة وهى كما كانت عند العرب فى الجاهلية من اللون الأحمر، ولكن عوضا عن الرايات كن يتزين بسراويل من الجلد الأحمر.
وقد ذكر المقريزى وهو يتحدث عن سوق الشماعين (فى مواجهة الجامع الأقمر) أنه كان يجلس به فى الليل بغايا يقال لهن زعيرات الشماعين لهن سيماء يعرفن بها وزى يتميزن به وهو لبس الملاءات الطرح وفى أرجلهن سراويل من أديم أحمر وكن يعانين الزعارة ويقفن مع الرجال المشالقين فى وقت لعبهم وفيهن من تحمل الحديد معها.”. ويعتبر الظاهر بيبرس البندقدارى أول سلطان مملوكى يقاوم البغاء وغيره من المفاسد الأخلاقية ففى سنة 665 هـ أمر بإبطال الضرائب أو المكوس التى كانت تؤخذ على صناعة المزر ( خمر يصنع من القمح ) وأبطل ضمان الحشيش من ديار مصر كلها وأمر بإراقة الخمور وإبطال المنكرات وتعفية بيوت المسكرات ومنع الخانات والخواطئ بجميع أقطار مصر والشام، وقد قال فى ذلك أبو الحسين الجزار الشاعر الشعبى المعروف:-

قد عطل الكوب من حبابه وأخلى الثغر من رضابه
واصبح الشيخ وهو يبكى على الذى فات من شبابه


ولكن يبدو أن أوامر الظاهر بيبرس ذهبت أدراج الرياح مما أضطر السلطان فى التاسع من جمادى الآخر سنة 666 هـ أن يأمر مرة أخرى بإراقة الخمور وإبطال المفاسد ومنع النساء الخواطئ من التعرض للبغاء من جميع القاهرة ومصر وسائر الأعمال المصرية، فتطهرت أرض مصر من هذا المنكر ونهبت الخانات التى كانت معدة لذلك وسلب أهلها جميع ما كان لهم ونفى بعضهم وحبست النساء حتى يتزوجن وكتب إلى جميع البلاد بمثل ذلك بأنه ضمن للأمراء أن يحصلوا على المال المقرر على البغاء ولكن من جهات أخرى (حل)، أما البغايا أنفسهن فقد أمر بحبسهن حتى يتزوجن أو بلغة ذلك العصر حتى يحين أقرب الأجلين وهما الزواج أو الموت وأمر ألا يزاد فى مهورهن عن أربعمائة درهم يعجل منها مائتان رغبة منه فى تيسير زواجهن.
وكما هو الدأب عاد البغاء إلى مصر بعد وفاة الظاهر بيبرس، وأضطر الناصر محمد بن قلاوون فى بداية القرن الثامن الهجرى (14 م ) بعد أن قام بإعادة توزيع أراضى مصر على الأجناد (الروك الناصرى) إلى أن يأمر بإلغاء بعض الضرائب غير الشرعية ومنها ضريبة حقوق القينات وهى ما يجمع من الفواحش والمنكرات والضريبة المقررة على كل جارية أو عبد حين نزولهم بالخانات والفنادق لعمل الفاحشة.
وطفقت أوامر إبطال البغاء تتردد من وقت لآخر، ولامراء أن تكرار إصدار مثل هذه الأوامر يحمل فى طياته ما ينبئ عن الاستمرار فى عدم الاعتداد بها.
ففى أيام الملك الأشرف شعبان وبالتحديد فى سنة 778 هـ صدر الأمر بأبطال ضمان المغانى وفى عهد الظاهر برقوق أول سلاطين دولة المماليك الجراكسة أبطلت عدة مكوس منها ابطال ضمان الأغانى بمنية ابن خصيب بأعمال الأشمونين وبزفتى وبالأعمال الغربية، ولم يمتد الأمر إلى هذه الضريبة فى العاصمة.
وفى شوال من عام 841 هـ رسم السلطان للأمير أسنبغا الطيارى بأن يكبس بيوت اليهود والنصارى لإراقة قنان الخمر .. ثم حجر على بنات الخطأ ومنعهم من عمل الفاحشة وكتب عليهم قسامة ( تعهد ) وأمرهم بأن يتزوجوا وإلا يحجرهم” .. ولكن هذه الأوامر المتكررة لم تفلح فى وقف الدعارة ومنعها، كمهنة منظمة تحميها الدولة وتحصل الضرائب منها، وذلك حتى السنوات الأخيرة من العصر المملوكى، فيذكر ابن اياس أنه فى ذى الحجة من سنة 914 هـ حدث نزاع بين الأميرين انصباى ونوروز وسبب ذلك أن ربعا بجوار قنطرة الموسكى وهو بالقرب من بيت نوروز وكان يسكن به بنات الخطأ يعملن الفاحشة، فقصد أنصباى حاجب الحجاب كبس ذلك الربع، وكان الربع للأتابكى أزبك فتوجه إليه دوادار انصباى وجماعة من النقباء فلما وصلوا إلى هناك ثارت عليهم غلمان نوروز وعبيده فضربوا جماعة حاجب الحجاب ومنعوهم من كبس ذلك الربع، فلما بلغ أنصباى بذلك ركب بنفسه وكبس ذلك الربع وضرب النساء اللاتى كن به وأشهرهن فى القاهرة على حمير
..” .

المرأة والعمل فى مصر العثمانية

فى عام 923 هـ ( 1517 م ) نجحت الدولة العثمانية فى فرض سيادتها على مصر، وذلك فى أعقاب هزيمة طومان باى آخر سلاطين المماليك أمام جيوش سليم الأول العثمانى .
وإذا كان هذا الحدث الخطير قد انتقل بمصر من موقع الدولة شبه الإمبراطورية فى العصر المملوكى إلى مكانة الولاية التابعة لمركز الحكم العثمانى فى استانبول، فإن هذا التحول السياسى قد ترافق أيضا مع تغيرات اجتماعية لا سبيل لإنكار تأثيراتها على حياة المصريين .
فمن ناحية عمق نظام الحكم العثمانى من الفصل بين الحكام والرعية، ذلك أن الباشا العثمانى ورجال الأوجاقات ( فرق الجند ) السبعة احتكروا كل سلطة فى البلاد، وتقلص هامش المشاركة المصرية الذى كان متاحا فى العصر المملوكى أمام أصحاب الأقلام، من العلماء والكتاب، ولم يعد لأرباب العمائم تلك السطوة الكبيرة على الولاة خاصة بعد أن تقاطر الموظفون الأتراك من الأفنديات والبكوات على احتلال المواقع الرئيسية فى الإدارة العثمانية بمصر .
وتعاظم فى خضم هذه التغيرات تأثير النخب التركية، بمصطلحاتها التى تداولها العامة وعاداتها وقيمها النابعة أصلاً من واقع تاريخى واجتماعى يختلف إلى حد بعيد عن واقع مصر، وان ظل مثل هذا التأثير بعيدا إلى حد كبير عن الريف المصرى الذى احتفظ بمساره المعتاد فيما عدا ما سجله المؤرخون عن تأثير سطوة الظلم العثمانى على الفلاحين وجلدهم للدفاع عن حقوقهم.
فالفلاح فى العصر العثمانى أصبح يستثمر أراضى البلاد لصالح حكامه ومستعبديه وأصبحت مطالبه وشكاواه لاتصل إلى آذان سادته، بينما كانت تتناثر ثمار جهده على موائدهم وتصل إلى أعتاب مستعمريه مستسلما لعجلة الزمن قانعا بما كتبته عليه يد القدر …. لقد خمد طموح الفلاح من طول حياته على هامش الحياة “.
أما الحضر، وخاصة فى القاهرة وما حولها من أحياء، فقد شهد امتزاجا كبيرا بين النخب المصرية وتلك التى وفدت على البلاد من بلاد الأتراك والشام والمغرب سواء طلباً للوظائف أو سعيا وراء تجارة أو حتى طلبا للعلم فى الأزهر الشريف، ولكن هؤلاء جميعا، ويسبقهم فى ذلك عامة الناس لم يفلتوا من مظالم الإدارة العثمانية وعسفها فى جباية الضرائب ناهيك عن تجاوزات العسكر ونهبهم للأسواق والمنازل بين الفينة والأخرى .
وقد تركت هذه التغيرات بصماتها على واقع المرأة فى مصر على أساس من الازدواجية المثيرة فهناك الانقسام بين المرأة فى الريف وقرينتها فى الحضر، وأيضا التباعد بين المصريات وذوات الأرومة التركية بل وهناك ذلك التمايز الحاد بين نساء البرجوازية المصرية فى المدن وعامة نساء الشعب فيها، وقد فرضت هذه الازدواجية معايير متباينة فيما يتعلق بعمل المرأة، وطبيعة مجالات هذا العمل، بل إنها أثرت حتى على مجرد خروج النساء للطرقات .
ويكفى أن نقتطف هنا بعضا مما جاء فى كتاب علماء الحملة الفرنسية وصف مصر عن تنوع العادات والتقاليد فى البلاد، إذ يقرر هؤلاء أنه يوجد فى مصر شأنها فى ذلك شأن بقية بلدان الشرق خليط مضطرب من العادات والتقاليد تعود إلى أصول متنوعة وتنتج عن أسباب كثيرة . وهل كان يمكن للأمر أن يكون على نحو آخر فى بلد يمكن القول بأن كافة الأمم قد اختلطت فيه ؟“.
وحسبما لاحظ الأوربيون فإن النساء بمصر خلال العصر العثمانى كن يتوزعن بين طبقتين من السيدات طبقة ترفل فى الثراء ويؤدى الغنى بها إلى رخاوة نسائها فيقضين حياتهن بأكملها داخل مباهج ومسرات الحريم وطبقة أخرى قدرت على نسائها حياة نشيطة مليئة بالعمل .
ولكن ذلك لا ينبغى أن يحملنا على الاعتقاد بأن كل سيدات الطبقة الأولى لم يعرفن أى نوع من العمل أو لم يكن لهن تأثير على الحياة الاجتماعية.
فقد لاحظ إدوارد لين فى كتابة عن المصريين المحدثين أن النساء فى الثلث الأول من القرن التاسع عشر كن يقضين ساعات فراغهن فى أشغال الإبرة خاصة تطريز المناديل وأغطية الرأس بواسطة المنسج وذلك باستخدام الألوان الحريرية والذهبية . وكانت المصريات بعد ذلك يملأن حقائبهن بالمناديل المطرزة ويصطحبن الدلالات إلى الأسواق وداخل الحريم فى البيوت المجاورة لبيع أشغالهن اليدوية ، وتقضى النساء نهارا بكاملة ينتقلن من حريم إلى آخر.
ورغم أن ذلك النشاط عائد فى جزء منه إلى انتشار المدارس، وقتذاك، التى تعلم الفتيات أشغال الإبرة والتطريز حتى أن المعلمة كانت تزور منازل الأغنياء تعلم بناتهن هذه الأشغال رغم ذلك فإن المعروف أن العناية بأشغال الإبرة والتطريز تعود إلى فترات سابقة وخاصة فى العصر المملوكى إذ رأينا آنفاً عمة المؤرخ الشهير السيوطى تقوم بتعليم بنات جيرانها هذه الأشغال التى عدت من المهارات الرئيسية لنساء البيوت.
وظل ذلك التقليد مرعيا فى القرن التاسع عشر حيث يشير كلوت بك فى كتابه لمحة عامة إلى مصر إلى أن النساء فى القاهرة كن يحاولن بعض الأعمال كالتطريز والنسيج والوشى بالإضافة إلى مزاولتهن الخدمة البيتية بحذافيرها.
بيد أنه ينبغى أن نسارع إلى توضيح أن ذلك كان قصرا، على الأرجح، على نساء الطبقة العليا من أبناء مصر أما السيدات التركيات، أو الجوارى اللاتى تزوجن بأمراء وبكوات المماليك فقد كان لهن شأن أخر فى عالم الأعمال والنفوذ حيث اشتهرت بعضهن وعرفت فى كتب المؤرخين بأنهن من أصحاب الثروات.
ولعل أكثرهن شهرة وتأثيراً فى حوادث التاريخ زوجتا مراد ، وهما نفيسة البيضا أو المرادية والست الجليلة خاتون.
أما الأولى فأصلها جارية روسية ، ولذا عرفت بالبيضا ، وقد ظهر أسمها عندما شيدت سبيل للماء باسمها لازال باقيا داخل باب زويلة بالقاهرة ثم توارد ذكرها فى كتاب الجبرتى الشهير عجائب الآثار فى التراجم والأخبار أثناء احتلال جيوش بونابرت الفرنسية لمصر فى نهاية القرن الثامن عشر (1798 – 1801 م).
ذلك أن نساء المماليك كن يلجأن إليها ويلوذون بها عندما تطاردهن القوات الفرنسية بحثا عما لديهن من مخبئات المماليك الفارين إلى الصعيد أو تطلب منهن دفع نصيبهن من الفرد والغرامات التى كانت تفرض على سكان القاهرة من وقت لآخر. ومن جهتها كانت السلطات الفرنسية تعامل السيدة نفيسة المرادية كما لو كانت ملتزمة بتحصيل ما على نساء الأمراء من غرامات ومصالحات.
ومن أمثلة ذلك أنه عقب دخول الفرنسيسإلى القاهرة فى عام 1213 هـ ( 1798 م) نادى المحتلون على نساء الأمراء بالأمان وأنهن يسكن بيوتهن ، وإذا كان لديهن شئ من متاع أزواجهن يظهرنه للقوات الفرنسية لتتسلمه كغنيمة حرب، فإن لم يكن عندهن شئ من متاع أزواجهن يصالحن على أنفسهن ويأمن فى دورهن وعندئذ ظهرت الست نفيسة المرادية، زوجة مراد بيك وصالحت عن نفسها واتباعها من نساء الأمراء والكشاف بمبلغ قدره مائة وعشرون آلف ريال فرانسا أى من ريالات الفضة النمساوية، وأخذت فى تحصيل ذلك من نفسها وغيرها.
وقد ترجم الجبرتى لزوجة مراد الأولى وهى الست جليلة خاتون فذكر أنها فى الأصل كانت سرية على بيك بلوط قبان الكبير وكانت محظيته التى بنى لها الدار العظيمة على بركة الازبكية بدرب عبد الحق والساقية والطاحون بجانبها فلما مات على بيك وتقلد مراد بيك الإمارة تزوج بها وعمرت طويلا مع العز والسيادة والكلمة النافذة وأكثر نساء الأمراء من جواريها ..”
وخلال فترة الاحتلال الفرنسى وبعد صلح مراد بيك معهم عامل قادة الحملة الست خاتون بكل الاحترام فرتبوا لها من ديوانهم فى كل شهر مائة ألف نصف فضة وأصبحت شفاعتها عندهم مقبولة ولا ترد . وقد تركت هى الأخرى بعض المنشآت الخيرية إلى جانب سبيل ضرتها نفسية مثل الخان الجديد والصهريج داخل باب زويلة .
وبصفة عامة كانت لنساء الطبقة العليا رغما عن حياتهن الخاملة فى الحريم سطوة على الأزواج كما لاحظ ذلك علماء الحملة الفرنسية ويكفى أن نشير هنا إلى ما أورده الجبرتى فى ترجمته للشيخ عبد الله الشرقاوى شيخ الجامع الأزهر والذى بدأ فقيراً ثم اتسعت عليه الدنيا وزاد طمعه فيها واشترى دار ابن بيرة بظاهر الأزهر وهى دار واسعة من مساكن الأمراء الأقدمين وزوجته بنت الشيخ على الزعفرانى هى التى تدبر أمره وتحرز كل ما يأتيه ويجمعه ولا يروح ولا يغدو إلا عن أمرها ومشورتها وهى أم ولده سيدى على .. وكانت قبل زواجه بها فى قلة من العيش فلما كثرت عليه الدنيا اشترت الأملاك والعقار والحمامات والحوانيت بما يغل إيراده مبلغا فى كل شهر له صورة..” .
ومهما يكن من أمر فقد استمرت النساء فى القاهرة على دين أسلافهن فى الخروج إلى الطرقات سواء للشراء من الأسواق أو للذهاب إلى الحمامات أو حتى لزيارة المفترجات والمنتزهات، ومشاهدة الموالد والمواكب وما إلى ذلك من الاحتفالات الشعبية.
ولكن طبيعة العصر العثمانى أضفت على حركة النساء فى الطرقات ملامح خاصة، ولا سيما بسبب اضطراب حبل الأمن فى كثير من الأحيان نتيجة للنزاعات والمشاحنات الدائمة بين طوائف الجند العثمانى من ناحية ولجؤ هؤلاء فى حالات تأخر الحكومة عن دفع رواتبهم، وما أكثرها ، إلى نهب الناس بالأسواق والطرقات من ناحية أخرى ذلك فضلاً عن خروج بعض الجنود عن السلوك القويم وخطفهم للنساء من الطرقات. وكان من شأن هذه الحوادث الحد من خروج النساء بل وكانت السلطات تلجأ فى بعض الأحيان إلى المناداة بمنع خروجهن من البيوت.
ومن هذه الحوادث ما جرى أثناء الاحتفال بشم النسيم فى رجب سنة 1135 هـ عندما خرج الناس على عادتهم لاستنشاق النسيم فى نواحى الخلاء، وخرج سرب من النساء إلى ناحية الازبكية وذهب منهن طائفة إلى غيط الاعجام تجاه قنطرة الدكة (شارع الجمهورية حاليا) فحضر إليهن جماعة من صغار المماليك وبأيديهم السيوف وهم سكارى وهجموا عليهن وأخذوا ثيابهن وما عليهن من الحلى والحلل وبعد ذهابهم بما نهبوا جاء الخفراء وأوده باشه القنطرة فأخذوا ما بقى وكملوا بقية النهب.
وتصادف أن النساء المنهوبات كن من الأكابر ولذلك كانت المسروقات رفيعة القدر وقد أوردها الجبرتى حصرا وهى حزام جوهر وبشت جوهر قالوا أن الحزام قيمته تسعة أكياس والبشت خمسة أكياس ومن جملة من كانوا هناك آمنة الجنكية (راقصة) وصحبتها امرأة من الأكابر فعروهما واخذوا ما عليهما وكان لها ولد صغير وعلى رأسه طاقية عليها جواهر وبنادقة وزوجا أساور جوهر وخلخال ذهب بندقى قديم وزنه أربعمائة مثقال ومن جملة ما أخذوا لباس شبيكة من الحرير الأصفر والقصب الأصفر وفى كل عين من الشبكة لؤلؤة شريط مخيش والدكة كذلك وأخذوا أزرهن وفرجياتهن (عباءات)، وأرسلن بيوتهن فأتين بثياب يستترن بها وذهبن وكانت هذه الحادثة من أشنع الحوادث.. “
وفى اليوم التالى بدأت السلطات التحقيق فى هذا الحادث بناء على بلاغ (عرضحال ) إلى الباشا الذى أعطى فرمانا ( أمر ) إلى آغات الينكجرية ( مدير أمن العاصمة ) على أنه يتوجه وصحبته الوالى وأوده باشة البوابة لأوده باشا مركز القنطرة وهو الذى أرسل السراجين والحمارة فقبضوا على الخفراء والأوده باشة وسئلوا فانكروا ، فجلس الأوده باشة فى بابة والخفراء فى العرقانة (الحبس الاحتياطى بالقلعة) وأمر الباشا الوالى بعقابهم فلما رأوا آلة العذاب أقروا أن ذلك من فعل الأوده باشه فأخذوا منه مالا كثيرا ونفوه إلى أبى قير شرقى الإسكندرية.
اما ما أسفرت عنه الواقعة فكان قرار الوالى والأغا بمنع النساء من الذهاب إلى الغيطان بعد اليوم ولا يركبن الحمير!!
ويبدو أن الحال فى العصر العثمانى قد استقر على منع النساء من الخروج إذا ما وقعت حوادث مشابهة من طوائف العسكر التى كانت تفرض سطوتها بقوة السلاح على سكان العاصمة فتتعدى على النساء تارة أو تسرق سلع التجار تارات آخرى .
ففى العشرين من جمادى الأخرة سنة 1200 هـ استمرت المناداة على النساء فى عدم خروجهن إلى الأسواق وسبب ذلك وقوع عدة حوادث منها أن بعض النساءلعبت على العسكر وأخذت ثيابه وأمثال ذلك ووقوع كارثة كبرى عندما فتشت الشرطة بيت يوسف بك سكن حمامجى أوغلى ووجدت فيه نحو سبعين امرأة مقتولة ومدفونة بالاسطبلات ” .
ولكن الأمر بمنع خروج النساء سرعان ما تم الغاؤه وسومحت النساء فى الخروج لتضرر المحترفات وتعطل المهن التى يمارسنها مثل البلانات والدايات وبياعات الغزل والقطن والكتان ” .
ولكن عاد النداء فى شهر شوال من نفس العام بمنع النساء من النزول فى مراكب الخليج والأزبكية وبركة الرطلى وكانت هذه الأماكن من متنزهات القاهرة التى يقصدها الناس للغناء واللهو عقب دخول مياه الفيضان اليها، وغالبا ما كان يصحب مثل هذه الاحتفالات الصاخبة ليلا بعض الحوادث بسبب سكر العسكر وخطفهم للنساء . وفى يوم الخميس السابع من رجب سنة 1201 هـ حاولت السلطات تنظيم أمر الملابس التى تسير بها النساء فى الطرقات، فنودى على النساء أنهن اذا خرجن لحاجة يخرجن فى كمالهن ولا يلبسن الحبرات الصندل ولا الافرنجى ولا يربطن على رؤوسهن العمائم المعروفة بالقازدغلية ” . ويظهر أن هذه الأزياء كانت تستلفت نظر المارة لخروجها عن مألوف زى النساء فى تلك الفترة.
أما العمائم القازدغلية فهى من مبتدعات نساء أمراء على بيك القازدغلى (الكبير) وذلك أنهن يربطن الشاشات الملونة المعروفة بالمدورات، ويجعلنها شبه الكعك وبمثلها على جباهن مفقوصات بطريقة معلومة لهن وصار لهن نساء يتولين صناعة ذلك بأجرة على قدر مقام صاحبتها، ومنهن من تعطى الصانعة لذلك دينارا أو أكثر أو أقل .. “.
وقد راجت هذه الصيحة فى القاهرة مما أوغر صدور أمراء المماليك من غير القازدغلية فصدر الأمر بمنع لبس هذه العمائم بعد أن كانت تتزين بهاجميع النساء حتى الجوارى السود “.
ويجب الاشارة هنا إلى أن طائفة المستحفظان المسئولة عن أمن العاصمة لم تستطع فى حالات كثيرة أن تكبح جماح العسكريين وتمنعهم من التعرض للنساء فى الطرقات الأمر الذى كان يدفع الأهالى بعد أن يكونوا قد استنفذوا صبرهم أن يتصدوا للعسكر بأنفسهم .
وكان حى بولاق التجارى الشهير فى طليعة الأحياء التى تصدت للعسكريين وربما لا يفوقهم فى هذا الأمر سوى أبناء حى الحسينية الذين كانو على جانب من السطوة والبطش لوجود المذبح فى هذه الجهة من القاهرة حتى أن طوائف العسكر كانت تتجنب المرور فى أزقته .
ومن أشهر حادثات بولاق ما جرى فى جمادى الأول عام 1202 هـ من وقوع معركة بين أهل بولاق وبين العسكر بسبب افسادهم وتعديهم وفسقهم مع النساء وأذية السوقة وأصحاب الحوانيت وخطفهم الأشياء بدون ثمن ” . وقد حاول أهل بولاق أن يتوجهوا إلى الباشا بالقلعة ليشكوا له مما يفعله العسكر فعلم عسكر القليونجية ذلك واجتمعوا بأسلحتهم وحضروا إليهم وقاتلوهم فانهزم العسكر وولوا الأدبار وعندئذ نزل الأغا وتلافى الأمر وأخذ بخاطر العامة وسكن الفتنة ” .
وقد حاول محمد على باشا أن يضع حدا للفوضى التى كان يسببها العسكر فى الأسواق فأقدم فى شهر شوال سنة 1216 هـ على كتابة أوامر ألصقت بالشوارع ومفارق الطرق كان من ضمنها ألا يمر أحد من العسكر بعد الغروب فى شوارع العاصمة، وأعقب ذلك بإعدام محمد أغا الوالى ( مدير الأمن )وسليم أغا المحتسب فارتجف العسكر والتجار من سوء العاقبة، وقام المحتسب الجديد بتسعير الخبز واللحم والسمن والخضراوات وجميع السلع الغذائية وأكثر حضرة الباشا وعظماء أتباعه من التجسس وتبديل الشكل والملبوس والمرور والمشى فى الأزقة والأسواق حتى أخافوا الناس ” .
وعلى الرغم من أن الأسعار عادت للزيادة بعد وقت قصير إلا أن النتيجة الأساسية لهذه الإجراءات كما لخصها الجبرتى أن العسكر توقفوا عن الأذية ولزموا الأدب ومشى كل أحد فى طريقه وأدبه ومشت النساء كعادتهن فى الأسواق لقضاء أشغالهن فلم يتعرض لهن أحد من العسكر كما كانوا يفعلون .
الا أن الأمر لم يعدم من وقوع بعض الحوادث المتفرقة، ومن ذلك إلقاء القبض فى الرابع من ذى الحجة سنة 1217 هـ على شخص عسكرى عند باب الخرق ( باب الخلق ) وقد قام أغات التبديل ( قائد الشرطة السرية ) بقتله بسبب أنه كان يقف عند باب داره بحارة عابدين هو ورفيقان له ويخطفون من يمر بهم من النساء فى النهار إلى أن قبض عليه وهرب رفيقاه ” .
ومهما يكن من أمر هذه الحوادث ومدى تكرارها فى العصر العثمانى، فان الشواهد التاريخية تؤكد على أن المرأة تمتعت بحرية التنقل فى الطرقات وخاصة إذا ما قورن وضعها فى ذلك بأوضاع قريناتها فى بلدان الشرق الاسلامى الأخرى .
ولقد ساهمت النساء فى شتى مظاهر الحياة الاجتماعية السائدة بالبلاد حتى فيما يتصل منها بالمجاذيب الذين كانو من معالم الحياة فى مصر العثمانية سواء بالريف أو بالحضر .
ومن القصص المعروفة تلك التى رواها الجبرتى ضمن سرده لأحداث شهر رجب من عام 1200 هـ، حيث تعلقت امرأة برجل يقال له الشيخ على البكرى مشهور ومعتقد عند العوام وهو رجل طويل حليق اللحية يمشى عريانا وأحيانا يلبس قميصا وطاقية ويمشى حافيا فصارت هذه المرأة تمشى خلفه أينما توجه وهى بازارها وتخلط فى ألفاظها وتدخل معه إلى البيوت وتطلع الحريمات واعتقدها النساء وهادوها بالدراهم والملابس وأشاعوا أن الشيخ لحظها وجذبها وصارت من الأولياء “.
وعند هذا الحد من القصة كان الأمر عاديا ومقبولا، إلى أن حدث تحول سريع فى مسار الأحداث وذلك بعد أن ارتقت المرأة فى درجات الجذب وثقلت عليها الشربة فكشفت وجهها ولبست ملابس كالرجال ولازمت الشيخ أينما توجه ويتبعها الأطفال والصغار وصاروا يخطفون أشياء من الأسواق ويصير لهم فى مرورهم ضجة عظيمة وإذا جلس الشيخ فى مكان وقف الجميع وازدحم الناس للفرجة عليه وتصعد المرأة على دكان أو علوة وتتكلم بفاحش القول ساعة بالعربى ومرة بالتركى ورغم ما سببه هذا التصاعد فى الأحداث من ضيق واضرار بأهل الأسواق، إلا أن اعتقاد الناس فى صلاح حال مثل هؤلاء المجاذيب ورضا الله عنهم وإلا لتركهم بعقولهم ليعانوا ما يكابده المصريون من مظالم المماليك والأتراك، إلا أن اعتقاد الناس فى ذلك حال دون اتخاذ أى موقف معاد لحركة الشيخ وتابعته الشيخة ، حتى ان الناس كانوا ينصتون إلى تخليقاتها ويقبلون يدها ويتبركون بها وبعضهم يضحك ومنهم من يقول الله، الله ، وبعضهم يقول دستور يا أسيادى وبعضهم يقول لا تعترض بشىء ” .
ولكن الطامة الكبرى وقعت عندما مر الشيخ فى بعض الأوقات على مثل هذه الصورة والضجة ودخلوا من باب بيت القاضى الذى من ناحية بين القصرين وبتلك العطفة سكن بعض الأجناد يقال له جعفر كاشففقبض على الشيخ وأدخله إلى داره ومعه المرأة وباقى المجاذيب، فأجلسه وأحضر له شيئاً يأكله وطرد الناس عنه وأدخل المرأة والمجاذيب إلى الحبس وأطلق الشيخ لحال سبيله واخرج المرأة والمجاذيب فضربهم وعزرهم ثم أرسل المرأة إلى المارستان وربطها عند المجانين وأطلق باقى المجاذيب بعد أن استغاثوا وتابوا ولبسوا ثيابهم وطارت الشربة من رؤوسهم وأصبح الناس يتحدثون بقصتهم ..”.
وظلت المرأة فى البيمارستان مع المجانين إلى أن وقعت الحوادث ولعل الجبرتى يقصد بذلك دخول بونابرت إلى مصر فى عام 1213 هـ، فخرجت وصارت شيخة على انفرادها ويعتقدها الناس وجمعت لهما الجمعيات وموالد وأشباه ذلك ..” .
أما على البكرى فقد مات سنة 1207 هـ ودفن بجامع الشرايبى بالأزبكية بالقرب من الرويعى وصار له مولد سنوى بعد أن عمل له أخوه مقصورة ومقاما وواظب عنده بالمقرئين والمداحين وأرباب الأشاير والمنشدين بذكر كراماته وأوصافه فى قصائدهم ومدحهم ونحو ذلك ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجهوهم على شباكه وأعتابه ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه فى أعبابهم وجيوبهم .” وعندما تعطل أمر هذا المولد فى عام دخول الفرنسيين إلى مصر (1213 هـ) أصدرت سلطات الاحتلال ترخيصاً للاحتفال به فى العام التالى مباشرة لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهى وفعل المحرمات ” . والحقيقة أن فترة الحملة الفرنسية تميزت بتمتع النساء بحريات أكبر حتى غصت بهم الطرقات آناء الليل وأطراف النهار وكان ذلك مثار انتقاد واسع فى كتابات المعاصرين، إذ عدوا ذلك من مظاهر تبرج النساء التى شجع عليها الفرنسيون بانشاء أماكن اللهو كالمسارح والمتنزهات التى انتشرت حول بركة الأزبكية، مثل أبنية شيدوها على هيئة مخصوصة منتزهه يجتمع بها النساء والرجال للهو والخلاعة فى أوقات مخصوصة وجعلوا على كل من يدخل إليه قدرا مخصوصا يدفعه أو يكون مأذونا وبيده ورقة أى تصريح او تذكرة على الأرجح .
وقد أرجع الجبرتى ذلك إلى محاكاة المصريات للفرنسيات اللاتى قدمن مع حملة بونابرت، ذلك أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون فى الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميرى والمزرقشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل.. ” ولكن ذلك لا يعنى أن عامة النساء كن على وفاق مع الاحتلال الفرنسى، فذلك كان حال البعض ممن اعتبرهم الجبرتى من الأسافل والفواحش ، إذ تصدت النساء تصدوا بمفردهن لمحاولات الجيش الفرنسى هدم مقابر الأزبكية بعد أن أصدروا الأمر بمنع الدفن فيها لقربها من الأحياء السكنية، فما أن شاع الخبر فى شهر ربيع الثانى سنة 1213 هـ بأن الفرنسيين قد شرعوا فى هدم التراكيب المبنية على المقابر بتربة الأزبكية وتمهيدها بالأرض حتى خرجت النساء فى مظاهرات صاخبةوأكثرهم الساكنات بحارات المدابغ وباب اللوق وكوم الشيخ سلامة والفوالة والمناصرة وقنطرة الأمير حسين وقلعة الكلاب إلى أن صاروا كالجراد المنتشر.. ” وأطلقت المتظاهرات صيحات الغضب والاحتجاج وصار لهم صياح وضجيج ووقفوا عند مقر أقامة صارى عسكر ( بونابرت) مرددات الهتافات وعندئذ نزل المترجمون واعتذروا بأن القائد الفرنسى لا علم له وأنه كان أمر فقط بمنع الدفن، فرجعوا إلى أماكنهم ورفع الهدم عنهم “.
ومما يدل على مكانة المرأة فى المجتمع المصرى آنذاك أن السلطات كانت تبتز أسرهن ما استطاعت إلى ذلك سبيلا إذا ما اتصل أمر بهن ولو كان الموت الذى له حرمته لدى المصريين كافة.
فعندما وقع فى شعبان عام 1219 هـ ربع بجوار حمام المصبغة جهة حى الكحكيين, وانهارت جدران هذا الربع على الحمام تهدم ايوان المسلخ، حيث تخلع ملابس قصاد الحمام، وتصادف أن اليوم كان مخصصا للنساء فمات به من النساء والأطفال والبنات ثلاثة عشر، وخرج الأحياء من داخله وهن عرايا ينفضن غبرات الأتربة والموت“. وعندما حضر الأغا والوالى (الشرطة) لم يكتفيا بنهب ما وجدوه من متاع النساء بل منعوا من رفع جثث القتلى إلا بعد دفع جعل مالى واضطرت الأسر إلى دفع هذه المبالغ لدفن جثث الضحايا إلى أن أمر الباشا بالتماس من القاضى بمنع تحصيل الدراهم التى فرضها الأغا والوالى.
وقد أشار الرحالة المسلمون الذين زاروا مصر فى هذه الفترة إلى أن حرمة النساء كانت تراعى بشدة من قبل التجار الذين عرفوا لدى المحتسب ورجال الشرطة بحرصهم على احترام الزبائن من النساء ولعل هذا الاحترام هو الذى حدا ببعض مزيفى العملة إلى الاعتماد على نسائهن فى ترويج الزيوف بالأسواق . وكان ذلك فى عصر محمد على وبالتحديد فى أواخر شهر ذى الحجة سنة 1224 هـ.
ففى هذه الأيام ذهبت امرأة إلى حيث كانت تعرض الغلال فى أسواق مفتوحة تعرف أنذاك بالعرصة، وكانت فى منطقة باب الشعرية ودفعت فى ثمنها قروشا، فلما ذهبت شرع التجار فى توريدها للصيارفة الذين اكتشفوا زيفها. ولأن التجار لم يعمدوا إلى الكشف عن النقود فى حضور المرأة لظنهم بها الخير، فقد عادت السيدة بعد أيام فاشترت الغلة ودفعت الثمن قروشا أيضا، فذهب البائع معها فى هذه المرة إلى الصيرفى فوجدها مزيفة كالسابقة فعلموا أنها الغريمة فقال لها الصيرفى من أين لك هذا فقالت من زوجى فقبضوا عليها وأتوا بها إلى الأغا فسألها الأغا عن زوجها فقالت هو عطار بسوق الأزهر فأخذها الأغا وحضر بها إلى بيت الشيخ الشرقاوى بعد العشاء وأحضروا زوجها وسألوه فقال انى أخذتها من فلان تابع الشيخ الشرقاوى فانفعل الشيخ وقال أن يكون هو ابنى فأنا برىْ منه ..”
وسارت القضية بعد ذلك على النحو المعتاد إذ أقر زوج المرأة بمعرفته لعدة أشخاص يزيفون النقود ومنهم بعض مجاورى الأزهر وبالفعل تم إلقاء القبض عليهم ومعهم العدد والآلات وعددها ستة عشر عدة وكسرت العدد وأتلفت ولكن بعد أن طالت الحادثة سمعة مجاورى الأزهر وبالغت حكومة محمد على فى الأمر لرغبتها فى كسر شوكة الأزهريين، حتى أن كل من أشترى شيئا ودفع الثمن للبائع قروشا ذهب بها إلى الصيرفى لربما تكون أزهرية ..”.
ونأتى الأن إلى أهم المهن والحرف التى اشتغلت بها النساء فى مصر العثمانية، ويحسن أن نفصل بين طبقتى النساء فى تلك الفترة فنتحدث عن مهن نساء الطبقة الثرية أولا ثم نثنى بعامة الشعب.
الملتزمــات:
اعتمدت الدولة العثمانية فى إدارة شئون الأراضى الزراعية بمصر على نظام الالتزام، ووفق هذا النظام كان هناك أشخاص يلتزمون بدفع ما على هذه الأراضى من ضرائب على أن يقوموا بعد ذلك بجمعها من الفلاحين نظير هامش ربح كان يتسع دوما بقدر تراخى قبضة الدولة وانتشار الفساد بين العسكر وموظفى الدواوين.
ويكاد الاتفاق أن يكون تاما بين المؤرخين على أن نظام التزام الأراضى هو الذى جلب البلاء للفلاح ووصم الحكم العثمانى بالجور والظلم لأنه طبق بطريقة مخالفة لقانون سليمان نامه الذى سن فى عهد السلطان سليمان الأول أو سليمان القانونى. فلقد اشترطت بنود هذا القانون على ملتزمى الأراضى المصرية بذل كل عناية من أجل نجاح الزراعة ووفرة المحصول وعدم التصدى للفلاحين بالأذى . ولقد أوجب نظام الالتزام تقسيم القرية الواحدة إلى 24 قيراطا ( حصة ) لا علاقة لها بقراريط الفدادين المعروفة فقد يصل قيراط الالتزام فى بعض القرى إلى عدة عشرات من الأفدنة.
وكان الروزنامجى يسلم كل ملتزم تقسيطا يذكر فيه مال الميرى الواجب سداده واسم القرية أو القرى الملتزمة وعدد قراريطها ومساحة هذه القراريط. كما كان يسلم الملتزم تمكينا ينص على ضرورة رعاية أرض الالتزام وأن يكون متسامحا مع الفلاحين وألا يظلم أحدا منهم ثم يشفع هذين المستندين بنميقة وهى وريقة لا يعدو حجمها راحة اليد فيها أمر إلى الفلاحين بأنهم صاروا من الآن فصاعدا فى حوزة الملتزم فعليهم الطاعة ودفع المال الميرى المطلوب منهم.
ورغم ذلك كله فقد دأب الملتزمون على تحصيل الضرائب مضاعفة من الفلاحين لزيادة أرباحهم ولمواجهة الضرائب المتزايدة التى كانت تفرض على الأراضى الزراعية بصورة عشوائية وشديدة العسف.
وقد أتاح هذا النظام الذى حل مكان نظام الإقطاع الحربى الذى تسيد إدارة الأراضى الزراعية فى عصر سلاطين المماليك، أتاح دخول المرأة مرة أخرى إلى دائرة إدارة الاقتصاد الزراعى بعد طول حرمان نتيجة لتحول مصر إلى نظام الإقطاع الحربى منذ النصف الثانى من عمر الدولة الفاطمية.
وكانت الريادة بالطبع لنساء بكوات المماليك والعسكريين من طوائف الجند العثمانى وجلهن من غير المصريات كالشركسيات والروسيات، وما لبثت المصريات أن لحقت بهن وغالبا ما كن زوجات أو بنات لكبار التجار أو العلماء والأشراف بل وجدنا فى نميقة تخص قرية دورى بنى سويف مؤرخة بعام1213 هـ (أثناء الاحتلال الفرنسى) ما يفيد بأن زوجات بعض الحرفيين كن يعملن فى التزام الأراضى الزراعية فهذه النميقة التى تطلب من الفلاحين الدخول فى طاعة الملتزم تخص زوجة الحاج نصار وهو حلاق يقطن بحارة ضلع السمكة بالقلعة، وقد التزمت قيراط وقد أشارت دفاتر الالتزام المعروفة باسم سجلات اسقاطات القرى إلى الملتزمات من النساء باسم الخواتين وهى جمع تكسير عربى لكلمة خاتون التركية ومعناها السيدة. وكانت المرأة تدخل مزاد الالتزام مثلها فى ذلك مثل الرجال من العسكريين والمدنيين، وتفوز فى المزايدة وتسجل أسمها فى دفاتر الروزنامة وتعين المستخدمين اللازمين لها من القائمقام الذى ينوب عنها أثناء غيابها عن الأرض إلى الخولى والكلاف والسقا، وتحاسبهم جميعا وتزور أرض الالتزام وتهدد هذا وتنهر ذاك وتشهد بنفسها ضرب الفلاحين الذين يماطلون فى دفع الضرائب وتتسلم الأموال فتأخذ نصيبها وتعطى الدولة المال المقرر عليها فى الالتزام وتأخذ بعد ذلك المخالصات التى تثبت خلو ذمتها من أى حق للروزنامة.
وظلت النساء يعملن فى نظام الالتزام، وكان من أهم المهن فى مصر وأكثرها ربحية إلى أن قام محمد على بإلغاء هذا النظام فى عام 1814م مع وعد، لم ينجز بتعويض الملتزمين، وكان هدف محمد على باشا هو تدمير الطبقة التى تسيطر على الريف المصرى ليدير هو عبر أعوانه هذا القطاع الذى احتكر الباشا كل شئ فيه من توريد للحبوب وتسعير وتسويق للمحاصيل.
ويسجل التاريخ أن الملتزماتوحدهن تصدوا لمحاولات محمد على لسرقة حقوقهن التى وعد بسدادها وذلك فى مرات عدة بينما اختفى الملتزمون من ساحة الفعل والتصدى.
ففى السادس من ذى القعدة سنة 1217 هـ اجتمع الكثير من النساء بالجامع الأزهر وصاحوا بالمشايخ وأبطلوا دروسهم واجتمعوا بقبلته ثم ركبوا إلى الباشا فوعدهم بخير حتى ينظر وكانت تلك حجته الدائمة أنه يدقق فى الدفاتر القديمة ليعرف الحق ويؤديه إلى أصحابه.
وظلت النساء تتابع حركتها فى كل يوم، فيحضرن إلى الأزهر ويعطلن الدروس ثم يركبن إلى الباشا وإزاء هذا الإصرار أضطر الباشا إلى أن يأمر بصرف مستحقات آخر سنة معجلة، إلا أنه أيضاً لم يصرف لهن جميعا إلا ما قل.
وعاد محمد على فى الأول من شعبان عام 1220 هـ فأصدر أمره برفع حصص الالتزام التى على النساء وأمر بكتابة قوائم بها لعرضها فى المزاد ليتخلص من مقاومتهن لخططه الاحتكارية ولكنه أجبر على التراجع فى قراره بعد أن اضطرت الملتزمات إلى دفع المصالحات (رشوة).
ورغم كل هذا التعنت من قبل الباشا تجاه الملتزمات، فقد استغل محمد على مناسبة قدوم زوجته أم أولاده إلى مصر ليجبرهن على استقبال السيدة الأولى، لاذلالهن من ناحية ولاظهار مدى سطوته فى البلاد من ناحية أخرى وحسبما يذكر الجبرتى فإنه فى 14 ربيع ثانى عام 1224 هـ نبهوا على جميع النساء الخوندات وكل من لها أسم فى الالتزام أن يركبن بأسرهن ويذهبن إلى ملاقاة امرأة الباشا ببولاق وذلك صبح يوم الأربعاء واعتذرت السيدة نفيسة المرادية بأنها مريضة ولا تقدر على الحركة والخروج فلم يقبلوا لها عذرا فلما كان صبح يوم الأربعاء أجتمع السواد الأعظم من النساء بساحل بولاق على الحمارة المكارية وهم أزيد من خمسمائة مكارى حتى ركبت زوجة الباشا وساروا معها إلى الأزبكية وضربوا لوصولها بمصر عدة مدافع كثيرة من القلعة والأزبكية“.
ومع ذلك لم يتزعزع محمد على عن موقفة قيد أنملة وظل يماطل الملتزمين، حتى مات من وافاه الأجل المحتوم، وزهد من أعيته الحيل فى مال التزام كان دفعه عزيزا على الباشا، ولم يبق فى الساحة سوى الملتزمات اللاتى لم يفقدن الأمل على مبدأ ما ضاع حق وراءه مطالب، وكانت آخر مظاهراتهن المشهودة فى ربيع الأول عام 1229 هـ وبالتحديد فى اليوم الخامس منه عندما حضر جمع كثير من النساء الملتزمات إلى الجامع الأزهر وصرخوا فى وجوه الفقهاء وأبطلوا الدروس وبددوا محافظهم وأوراقهم وأرزاقهم فتفرقوا وذهبوا إلى دورهم وظلت النساء بالأزهر إلى ما بعد صلاة العصر وقد انضم إليهم الكثير من عامة الناس وزاد الهرج والمرج وعلا صوت الهتاف، وأيقن رجال الباشا أن مصيبة سوف تحدث لو ترك للملتزمات الحبل على عواهنه فأرسلوا بعض رجال محمد على ليقول لهم حسب الجبرتى كلاما كذب سكن به حدتهم فانفض الجمع وذهب النساء وهن يقلن نأتى فى كل يوم على هذا المنوال حتى يفرجوا لنا عن حصصنا ومعايشنا وأرزاقنا..”.
ولكنها كانت المرة الأخيرة. ذلك أن محمد على باشا كان قد عقد العزم على تصفية نظام الالتزام بينما كان الناس فى ظنهم وغفلتهم يعتقدون أن فى الاناء بقية أو أنهم يدفعون الرزية وما علموا أن البساط قد انطوى وكل قد ضل وأضل وغوى ومال عن الصراط واتبع الهوى وكلب الجور قد كشر أنيابه وعوى ولم يجد له طاردا ولا معارضا ولامعاندا..”.
المهم أن نائب الباشا ( الكتخدا) أرسل فى طلب بعض مشايخ الأزهر وسألهم عن خبر هذه الجمعية فى الأزهر ولم يعتد بما قالوه عن أن سبب اجتماع الملتزمات هو ما بلغهن عن قطع معاشهم وراح يكيل الاتهامات للمشايخ بأنهم هم الذين يحرضون الملتزمات وطلب الاغا مدير أمن العاصمةوسأله أن يتحرى عن هؤلاء النساء وبيوتهن فقال له على الأغا وما علمى ومن يميزهن وغالبهن وأكثرهن نساء العساكر ولا قدرة على منعهن..”.
ولا نعرف على وجة الدقة ما هية الإجراءات التى لجأ إليها محمد على لمنع خروج الملتزمات مرة أخرى فى مظاهرات إلى الأزهر ولكنها لم تكن من أصناف المساعى الحميدة على وجه اليقين!!
ومعنى لك أن النساء شكلن جزءا من نظام الالتزام فى الريف فساهمن بذلك فى رسم ملامح صورة النخبة المدنية فى تلك الفترة والتى لم يكن ليسبقها إلى الأصطفاف على مدارج تقاسم الثروة سوى بكوات المماليك وأغوات طوائف الجند العثمانى. وقبل أن نغادر أثرياء الريف، أو بالأخرى طبقة الأثرياء على حساب الريف المصرى، يجدر بنا أن نلقى نظرة على أوضاع المرأة العاملة فى الريف خلال الفترة العثمانية.
ولعل أول ما يستحق التقييد هنا ما اتفق عليه المؤرخون والرحالة الأجانب حول استمرار الريفيات فى الاشتغال بنفس الحرف والمهن التى طالما قامت بها المصريات فى الريف منذ فجر التاريخ .
فإلى جانب المساعدة فى أعمال الحقل، أو ما يعرف بالزراعة البحته كانت النساء حسبما لا حظ الإنجليزى وليم إدوارد لين يعملن فى غزل القطن أو الصوف . كذلك تتولى بعض النساء فى المناطق الريفية أعمال المتاجر وبيع الخبز والخضار فيساهمن قدر مساهمة أزواجهن بل وأكثر فى إعالة عائلاتهن“.
وقد ترك لنا المستشرق إيبرز لوحة رائعة تمثل فلاحة مصرية وهى تبيع ما صنعته بنفسها من أوان فخارية متعددة الألوان والأصناف.
وقد لفت علماء الحملة الفرنسية النظر إلى الدور الحيوى الذى لعبته نساء الريف فى مجال تربية الدواجن والتى كانت بمثابة الغذاء الرئيسى للمصريين فى ظل ارتفاع أسعار اللحوم وضآلة دخل عامة الناس سواء فى المناطق الحضرية أو الأرياف.
فقد كانت النساء تجمع بيض الدجاج فى فترات معينة من العام وتذهب به إلى معامل التفريخ الصناعى والتى تعد ابتكارا مصريا ويعرف الواحد منها بأسم معمل الفروج، وكل منها كان يتألف من عدد من الأفران يتراوح بين أربعة أفران وثلاثين فرناً وتصطف هذه الأفران على الدوام فى صفين متوازيين ويفصل بين الصفين دهليز ضيق ويستخدم أصحاب هذه الأفران روث البهائم المخلوط بالقش الجله لا يقاد نار الأفران الهادئة وفق نظام خاص لتوفير ظروف تدفئة صناعية مماثلة تقريبا لتلك التى توفرها الدجاجة وقت رقودها على البيض لأفراخه.
وقد لاحظ كل من روزبيير مهندس المناجم وروبية الصيدلى وكلاهما من علماء الحملة الفرنسية أن الفترة التى تفتح فيها المعامل فى مصر العليا (الصعيد) تبدأ من أول شهر فبراير بينما تتأخر معامل الفروج فى مصر السفلى ( الوجه البحرى) لتبدأ عملها فى أوائل شهر مارس.
ويستخدم كل معمل فى الحضنة الأولى من3-4 الآف بيضة ولا تتجاوز عدد المرات أربع حضنات وذلك لتجنب قيظ الصيف الشديد والذى يمكن أن يودى بحياة الأفراخ. ويلتزم أصحاب الأفران عادة بأعادة عدد من الكتاكيت يعادل ثلثى عدد البيض الذى تم تسليمه على الأقل بينما لا يحصل أصحاب البيض المورد إلا على 50 % من عدده فى صورة كتاكيت، إذ يحسم الباقى نظير أجرة المعمل. وكانت النساء هن الزبائن الأساسيون لمعامل الفروج، إذ يتولين تربية الكتاكيت فى دورهن على بقايا فضلات الطعام وبعض حشائش الأرض والخضروات ويكفى أن القول المأثور حسبة برما قد ربط بين بلدة برما (بالغربية) باعتبارها المهد الأول لهذا الابتكار منذ القدم ( حسبما أشار إلى ذلك الفاطميون) وبين امرأة كانت تحمل محصولها من بيض الدجاج الذى اشترته من جيرانها فى عملية استثمارية إلى أن اصطدمت بأحدهم وتحطمت سلة البيض بأكملها وتتصل الحسبة (حسبة برما) بالطريقة المعقدة التى كانت تحسب بها السيدة الأمية ثمن البيض وعدده وعدد الكتاكيت التى كان من المتوقع أفراخها من هذا العدد وثمن كل كتكوت.
وتدين مصر إبان عصورها القديمة والوسطى ببعض رخائها لعادة النساء فى تربية الطيور بالمنزل ليس فقط لأنها كانت تحقق اكتفاء ذاتيا لأسرتها من هذه الطيور ولكن أيضا لقيامها بسد احتياجات المدن والحواضر فى أرجاء البلاد إذا كانت النساء تتولى أيضا تجارة هذه الطيور . وقد لاحظ الإغريق ومن بعدهم الرحالة العرب والأجانب الذين توافدوا على مصر أن عامة الشعب المصرى يفضل أكل الطيور عن لحوم الحيوانات.
ويكفى أن نشير هنا إلى أن تخلى النساء عن هذه المهنة الأزلية فى ظل موجة التحديث فى القرن العشرين قد أدت إلى اندثار معامل الفروج التقليدية واضطرت مصر إلى استيراد الدواجن من الخارج ثم البطاريات الحديثة وما يلزمها من معدات وأعلاف وأدوية الأمر الذى أدى لارتفاع أسعار الدواجن من ناحية وتفشى جملة من الأمراض الخطيرة بين المصريين بسبب الاعتماد على الهرمونات فى تغذية الدواجن المنتجة فى هذه البطاريات.
والخلاصة هنا أن الريفيات حافظن على تقاليد أسلافهن الراسخة ولم يغادرن ذات المهن أو الحرف التى مارستها المصريات فى العصور القديمة، فيما عدا انتاج الخمور بحكم تحريمها فى الشريعة الإسلامية وأن ظلت هذه المهنة فى الأرياف مهنة نسائية بالدرجة الأولى وقد مارستها بشكل رئيسى القبطيات إلى جانب المسلمات أيضا رغما عن تحريمها.
وقد أشار لين إلى مهنة جديدة عرفها الريف المصرى فى ثلاثينات القرن التاسع عشر، ويعود السبب فى ظهورها إلى تطبيق نظام التجنيد فى عصر محمد على. فمن المعروف أن محمد على فى محاولاته لتكوين جيش لدولته من غير عناصر الترك والألبان التى اشتهرت باثارتها للشغب وميلها للانقلاب على الولاة، بدأ أولا بتجنيد السودان وتدريبهم وخاصة فى القلاع القريبة من أسوان مثل طابية القطانين وغيرها، ولكن موت هؤلاء بأعداد كبيرة لتفشى الأمراض بينهم لعدم كفاية الرعاية الصحية أو لاختلاف المناخ حسبما اعتقد محمد على، ألجأ الباشا الطموح إلى الاعتماد على المصريين .
ونظرا لتفشى الأمية فى الريف المصرى فقد كان المجندون من هذا القطاع يكلفون بالأعمال اليدوية الاعتيادية والشاقة فيما اعتبر فى بعض الحالات نوع من السخرة، إضافة إلى انه لم تكن هناك مدة محددة لفترة التجنيدة أو نظام ثابت للأجازات أو حتى رواتب منتظمة تكفل كرامة الجندى ناهيك عن رداءة الطعام وقلته وتتابع حملات محمد على فى الشام وتركيا وأوربا وشبة الجزيرة العربية. ونظرا لذلك كله، بالإضافة إلى ارتباط الفلاح المصرى الشديد بأرضه، فقد كانت نظرة الريف المصرى إلى التجنيد أو الجهادية لها ما يبررها من المرارة والاحساس بضياع المجند إلى الأبد، وزاد فى الطنبور نغمة أن الإرسال إلى الجهادية كان إحدى العقوبات المقررة لبعض الجرائم فى عهد محمد على إذا ما كان مرتكب الجريمة فى سن التجنيد. ومن أمثلة ذلك المادة الخامسة عشر من قانون المنتجات التى قضت بأن من يقوم من العربان باخفاء أحد الفلاحين فإنه يعاقب بالإرسال إلى الجهادية إذا كان شابا أما إذا كان كبير السن يرسل إلى الليمان سته أشهر.
ولما كانت سلامة البدن من الشروط الجوهرية للالتحاق بالجهادية فقد شاعت فى أرجاء مصر عادة أعطاب المطلوبين للتجنيد باحداث عاهة أو أكثر فى جسده للافلات من الجهادية، وكانت هناك ثلاث عاهات ذائعة وهى: كسر سن قطع أصبع فقأ عين. ولسبب غير معروف احترفت بعض النساء مهنة احداث العاهات للراغبين فى الفرار من التجنيد الاجبارى، فكانت العجائز وإخريات غيرهن أقل سنا تجوب القرى لا تمام هذه العمليات على الصبية والملفت للنظر أن الواحدة منهن لم تكن لتمارس عملها هذا فى قريتهاوبين أهلها ولكنها تعمد إلى قرى أخرى مجاورة، وفى ذلك بالطبع حكمة لا تخفى على ذوى الفطن، فبالإضافة إلى الحفاظ على العلاقات الاجتماعية والإنسانية داخل القرية، فإن شهرة واحدة بهذه المهنة واستقرارها للقيام بها فى مكان محدد كان من شأنه أن تطاردها السلطات وتلقى القبض عليها بكل السهولة. ويكاد الاتفاق أن يكون تاما بين من عاينوا الريف المصرى فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على أن النساء فى الريف لم يتمتعن بمباهج البطالة التى لم تخلق لهن، إذ كن يذهبن إلى الحقول حيث يقتسمن مع أزواجهن العمل أو يساهمن على الأقل فى جعل عمل أزواجهن أقل مشقة وقد سجل علماء الحملة الفرنسية ملاحظة إضافية ترتبط بهذا النشاط وهى تتصل بالفوراق الجسدية بين السيدات الميسورات وبين النساء العاملات فى الريف، إذ كانت الأخيرة تتمتع بكل الخصائص الجسدية التى تنتج عن مثل هذا العمل المنتظم فأجسامهن قوية عارية من الشحوم وحركاتهن سهلة وخطوهن ميسور فى حين أن خطوات السيدات الميسورات ثقيلة متعثرة، وعلى الرغم من بساطة ملابسهن فإن لديهم الرغبة فى أن يتميزن وسط رفيقاتهن وذلك بالتزين ببعض الحلى المتواضعة، فيحطن أصابعهن بخواتم عريضة كما يفعل السايس ويزين خصلات شعرهن ببعض قطع النقود“.

العاملات فى المدن:
تكاد الملاحظات التى سجلها المؤرخون والرحالة عن عمل النساء فى المدن أن تكون قصراً على مدينة القاهرة، فقد كانت وحدها مقصد الرحالة الأجانب بمثل ما كانت موطن المؤرخين وموضع عنايتهم . ويسود الغموض فى تلك المساحة التى تبين علاقة النساء العاملات بالطوائف الحرفية أو نقابات الحرف بمفهومنا الحديث. فمن المعروف أن السلطات العثمانية طورت من نظام طوائف الحرف الذى كان معروفاً فى العصر المملوكى وما سبقه أيضاً من فترات تاريخية، بحيث أصبحت هذه الطوائف تشكل حلقة وسيطة بين المواطنين فى القاهرة وبين جهات الإدارة المختلفة.
وتعزز هذا الطابع الإدارى لنظام الطوائف بفعل التركز الجغرافى لكل طائفة تقريبا من هذه الطوائف فى حارات سكنية بعينها، لطالما اشتهرت بأسمائهم مثل حارة السقائين وحارة النجارين .. إلخ.
وكان من شأن هذه الطبيعة الجغرافية الخاصة أن تسهل مراقبة السلطات للطوائف والاستعانة بها وقتما شاءت فى تنفيذ الأعمال العمومية مثلما كانت تتيح للمسئولين عن هذه الطوائف، كنقيب الطائفة وشيخها الاشراف الدقيق والمباشر على الالتزام باداب هذه المهن ومواصفات الإنتاج ومراقبة الأسعار أيضا.
ولم تكن الطوائف أو الأصناف تخضع لاشراف جهة حكومية واحدة، ولكن من المعروف أن أغا الأنكشارية وهو رئيس الشرطة بالقاهرة كان يشرف على معظم هذه الطوائف بينما تخضع بعض الطوائف لإشراف أغا فرقة العزبان ( حراس القلعة) أو المحتسب وكان لهذا الأخير حق الأشراف الخاص على المواد الغذائية التى تباع فى الأسواق، وثمة حرف لا ترتبط طوائفها بأى من هؤلاء الرؤساء وهى تشكل طوائف هامشية مثل طائفة الراقصات.
والحقيقة المؤكدة أن أعداد النساء العاملات فى القاهرة كانت كبيرة على الرغم من غموض علاقاتهن بطوائف الحرف إلا فيما يتصل بعدد محدود من هذه الطوائف سنأتى إلى ذكرها لاحقاً.
وقد أشار كتاب وصف مصر إلى أن عمال اليومية بمدينة القاهرة يقدر عددهم بنحو 115 ألف، وهم يقسمون إلى ثلاث طبقات الأولى منها وهى أكثر بؤسا وتضم حوالى 10 الآف شخص يمتهنون أعملا ثانوية ولا يصلون إلا على أجر بالغ التواضع يفى بالكاد معيشتهم حوالى (15 بارة فى اليوم) ولذلك فإن نساء هؤلاء العمال كن يعملن دوما فى أعمال أخرى أقل كسبا تدر على الواحدة منهن ما بين 4-5 بارات يوميا حتى يساهمن فى أعمال أسرهن ورغم ذلك فقد كان هؤلاء البؤساء لا يأكلون اللحم على الاطلاق“.
ولا حظ الرحالة الانجليزى إدوارد لين أن الرجل الفقير فى هذه الطبقة يعمد إلى الزواج من إمرأتين أو أكثر وينبغى أن تؤمن كل واحدة منهما أو منهن معيشتها بنفسها تقريبا بمزاولتها عملا أو حرفة ما “.
وهناك أيضا نساء أصحاب الحرف، وقد كان هؤلاء وأسرهم يقيمون عادة فى الوكالات والرباع، وهى منشأت معمارية أعتاد الأمراء والسلاطين تشييدها ووقف ريع إيجاراتها على الانفاق على المساجد والمدارس وغير ذلك من جهات البر، وهى تتألف من بناء مشيد على ثلاثة أو أربعة طوابق وبوسطه فناء أوسط مكشوف، وتخصص الطوابق الأرضية للحوانيت أو الورش الصغيرة التى يعمل بها الحرفيون بينما يقيم هؤلاء مع أسرهم فى الطوابق العلوية التى قسمت على هيئة حجرات أوقاعات تسكن فى كل واحدة منها أسرة مع عائلها.
وعلى الرغم من أن نساء الحرفيين كن اسعد حالا من سواهن من زوجات عمال اليومية حيث كانت ترتدى الواحدة منهن قميصا أسود للزينة وقميصين أو ثلاثة بقية الأيام إلا أنهن كن يعملن فى غزل ونسيج القطن ويعود عليهن هذا العمل بأجر متواضع. ولدينا فى وثائق المحاكم الشرعية العثمانية ما يشير إلى أن الكثرة الغالبة منهن كن يعملن فى أنشطة تتصل بحرف الأزواج نظير أجر لا علاقة له بما يحصلن عليه من نفقات المنزل المعتادة.
وعلى الرغم من أن النساء فى هذه الحالة الأخيرة كن يتقاضين فى أغلب الأحوال أجراً يقل بدرجة أو بأخرى عن أجور الرجال إلا أن جشع بعض الأزواج كان يدفعهم فى أحيان كثيرة إلى التقاعس عن أداء هذا الأجر أو التراخى فى دفعه وكان من حق المرأة فى هذه الحالة أن تلجأ إلى ساحة القضاء طلباً لحقوقها، ويغلب على الظن أن النساء كن يلجأن إلى هذا الإجراء فى غمار احتدام الخلافات الزوجية او نتيجة لطول زمن الغبن فى حقها.
ومن أمثلة ذلك ما سجلته الحجة 64 فى السجل رقم (624) بمحكمة باب الشعرية وتاريخها العاشر من ربيع الثانى عام 1085 هـ من قيام السيدة مباركة بنت على بن حسن بالادعاء على زوجها المحترم حسن بن على البطاينى بأنها أشتغلت له فى تدوير القطن وغزله وتحويله فى كل يوم رطل قطن، وأن أجرة هذا العمل اليومى ربع نصف فضة ولما كان الزوج قد تغافل عن دفع أجرها لمدة ست سنوات تنتهى قبل رفع الدعوى بعشرة أيام، فقد طالبت السيدة مباركة زوجها بدفع ما تجمد لديه من أجر وهو مبلغ ثمانية عشر قرشا، فلما أمتنع مثلث أمام القاضى لمطالبته بأجورها المتأخرة.
وتشير وقائع هذه الدعوى إلى أن القاضى وجه سؤالا إلى الزوج المدعى عليه عن مدى صدق دعوى زوجته، فقال أنه كان يدفع لها أجرتها يوما بيوم، فأنكرت مباركة ذلك وطلبت منه أن يبرهن على ذلك فقال الزوج أنه لابينه له تشهد بذلك ، وطبقا للإجراءات المعتادة فى هذه الدعاوى فقد التمس من القاضى أن يحلفها الحلف الشرعى على صحة ما أدعت به فحلفت الحلف الشرعى على أنها لم تحصل على أى شئ من أجرتها” . وبهذا القسم تكون الدعوى قد ثبتت بحق الزوج ومن ثم فقد طلب منه القاضى أن يؤدى الثمانية عشر قرشا لزوجته فلم يدفع، وخيرت الزوجة كما هو الحال فى مثل هذه القضايا بين إمهاله أمدا للدفع أو القاء القبض عليه لحين الوفاء فاختارت اعتقاله على ذلك ولم يجد القاضى بداً من حبس المتهم، ولم يكن بوسع كاتب المحكمة إلا أن يسجل فى نهاية هذه القضية الدعاء المعتاد لمن هم فى مثل موقع المحترم حسن بن على البطاينى، وهو فرج الله عنه وعن كل مكروب من المسلمين“.
وثمة قضية مشابهة فى ملابساتها وردت فى وثائق هذه المحكمة، وفيها وكلت فاطمة والدها رمضان بن محمد الحرايرى فى اقامة الدعوى ضد زوجها محرم بن بدر الحايكلأنه تغافل لمدة ثلاث سنوات عن دفع أجرتها فى تدوير وغزل القطن وهى نصف نصف فضة يومياً، وهو ما يعنى أن متجمد أجرتها يصل إلى ثمانية عشر قرشا. ولكن الأمر فى هذه الدعوى سار بطريقة مختلفة تماما عمار رأيناه فى القضية السابقة، ذلك أن القاضى التزم فى هذه الحالة بتطبيق القاعدة القانونية والشرعية المعروفة وهى أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر فطلب من والد الزوجة وممثلها فى الادعاء أن يحضر بينة تشهد له على صدق دعواه، فلم يستطيع رمضان بن محمد الحرايرىأن يقيم هذه البينة ومن ثم فقد سأل توجيه اليمين إلى الزوج محرم بن بدر الحايك، فأقسم الأخير بأنه لاحق لزوجتة لديه، وعندئذ أصدر القاضى حكمه بألاوجه لإقامة الدعوى وأمر المدعى بألا يتعرض ثانية للمدعى عليه بهذا الخصوص.
وعلى الرغم من حقيقة ان النساء فى القاهرة العثمانية قد عملن، وخاصة المنتميات للطبقات تحت المتوسطة، فى العديد من الحرف إلا أنهن فى الغالب الأعم لم ينتمين إلى أى من طوائف الحرف نظرا لقيامهن بالعمل داخل المنازل ولكن ذلك لايعنى أن كل أصحاب الحرف من النساء كن مقطوعات الصلة بالتنظيمات النقابية، فعلى أقل تقدير كانت هناك اثنتان من الطوائف الحرفية التى تضم بداخلها رجالا ونساء يعملون بها وان كنا نجهل طبيعة العلاقة التى تربط بين الجنسين داخل كل حرفة منهما، وليس ثمة شك فى أن شيخ الطائفة ونقيبها كانا يشرفان على عمل نساء الطائفة مثلما هو الحال مع الرجال المنضوين تحت لوائها.
والطائفة الأولى هى طائفة الحماميةوهى تضم العاملين فى خدمة الحمامات العامة بالقاهرة والتى وصل عددها فى بداية الثلث الثانى من القرن التاسع عشر إلى سبعة عشرة حماما.
ومن المعروف أن الحمامات العامة لم تكن قصراً على الرجال، بل كان بعضها يخصص للنساء وربما استخدم الحمام الواحد للرجال فى الفترة السابقة على صلاة الظهر بينما تخصص الفترة التالية للنساء، وكانت هناك حمامات تفرد للنساء فى يوم معين من الأسبوع وغالبا ما اشتهرت هذه الحمامات باسم اليوم المخصص للنساء مثل حمام التلات (الثلاثاء)، وربما شيد الحمام من قسمين أحدهما للرجال والثانى للنساء كما كان الحال فى حمام الملاطيلى على سبيل المثال.
وعندما يكون الحمام العمومى مخصصا للنساء توضع على مدخله ستارة مزركشة أو قطعة صغيرة من السجاد لتكون حسب اصطلاح القاهريين بمثابة لافتة تقول دون افصاح ممنوع اقتراب الرجال“.
وقبل دخول النساء إلى الحمام بساعة يتم تغيير الهيئة الوظيفية العاملة بداخل الحمام، فيخرج الرجال وتدخل النساء بينما يظل العاملون خارج الحمام على حالهم وفى المقدمة منهم الزبالالذى يقوم بجمع القمامة من البيوت والدور المحيطة بالحمام لاستخدامها فى تأجيج نيران المستوقد لغلى مياه المراجل والوقادالذى يتولى ليس فقط تشتغيل المستوقد بل ووضع قدورالفول المدمس والترمس لانضاجها فى رماد الفرن وذلك من أجل زيادة أرباح الحمام.
ويمكن اجمال العاملات فى حمامات النساء فى صاحبات الوظائف التالية:-
1- المعلمة:- وهى المسئولة عن ادارة الحمام اثناء استخدام النساء له وتتخذ لها مقعدا فى مدخل الحمام حتى تستطيع أن تستقبل الزبائنوتودعهن بعد الحصول على أجرة الحمام والتى كانت غير محددة إذ كانت تتراوح بين قرش وأربعة قروش حسب أريحية وثراء المستحمات.
2- الناطورة:- وهى أشبه بحارسة البوابة وتكاد مهمتها أن تنحصر فى الجلوس عند مسلخ الحمام، أى المكان الذى تسلخ فيه المستحمات ملابسهن، ويعرف المسلخ أحيانا بحجرة الحرارة الأولى نظراً للدفء الذى يميزها عن خارج الحمام بحكم قربها من بيوت الحرارةالداخلية، وهو بمثابة مكان الانتظار الذى لابد أن يمر به المستحم سواء عند دخوله أو خروجه. وقد جرت العادة بأن المستحمين يضعون ملابسهم التى خلعوها فى منشفة كبيرة بعد أن تصر على هيئة بقجة وتودع كأمانة لدى الناطور، فى حمام الرجال والناطورة فى حمام النساء. وينبغى لصاحبة هذه الوظيفة أن تكون على درجة كبيرة من اليقظة لحماية الملابس من خطر السرقة ولحفظ حرمة المستحمات من دخول الرجال أو الأطفال فجأة إلى الحمام وقبل ذلك وبعده فان صفة الأمانة تبقى أهم الصفات التى ينبغى أن تتوفر للناطورة.
وقد حدث ذات مرة أن خالفت واحدة منهن آداب المهنة واختلست لنفسها بعضاً من ثياب إحدى المستحمات، ويبدو أنها كانت على درجة من الثراء، ولذا لم يتردد صاحب الشرطة أو أغا المستحفظان المنوط به تقليديا مراقبة أصحاب الطوائف الحرفية، فى أن يوقع بها أشد العقوبة لتكون عبرة لمن يعتبر، وأن كان قد بلغ به الشطط حدا لا يمكن قبوله، فبدلا من أن يقيم عليها حد السرقة ( قطع اليد) أو يعزرها بالضرب والتجريس قام الأغا بشنق الناطورة على باب زويلة، وكان ذلك فى الخامس والعشرين من شهر ذى الحجة عام 1216 هـ.
3- الليوانجية: وهى تساعد المستحمات عند دخولهن إلى الليوان ( بيت الحرارة حيث المياه الساخنة) وتناولهن المناشف أو المآزر التى تلف حول الجزء الأسفل من الجسم أو الرأس، وغالبا ما تكون الليوانجية فتاة صغيرة السن.
4- المكيساتية: وهى أهم العاملات داخل الحمام على الأطلاق، وتقوم باستقبال المستحمات داخل بيت الحرارة، حيث تتمدد الواحدة منهن عند أحد أحواض المياه الساخنة وتقوم المكيساتية بتدليك مفاصلها بطقطقتها، وهى فى ذلك تقوم بطقطقة كل مفصل فى الجسد، إذ يلوى الجسد فى أتجاهين مختلفين مما يجعل الخرزات تطق فى العمود الفقرى ولا تنسى المكيساتية الرقبة التى ينبغى أن تطق مرتين فيلوى الرأس فى كل اتجاهاته، كذلك تحرك المكيساتية الأذنين حتى يطق كما تلوى الأطراف بعنف ظاهر ولكن بمهارة كبيرة.
والهدف الأساسى من عملية التدليك تليين المفاصل، ثم تقوم المكيساتية بتدليك جسد المستحمة وتفرك أخمص قدميها بمقشطة من الطين المحروق وهى فى ذلك تستعمل نوعين من المقاشط، المقشطة الأولى نفيذة وخشنة يكون سطحها مرسوما بخطوط عديدة وأما الثانية فمن الطين المصقول غير المسامى، ويجعل سطح المقشطة خشنا أصطناعيا. وتوضع المقشطة التى تستخدمها النساء عادة فى كيس حريرة مزخرف رقيق. والمقشطة الخشنة ضرورة لابد منها للنساء اللاتى لا يرتدين الجوارب، والمقشطة الأخرى مخصصة للمواضع الأكثر حساسية وهى تستخدم لفرك الأطراف وجعل الجلد أكثر نعومة.
تلى عملية القشط عملية فرك جسد المستحمة بكيس صوفى وغير خشن، ولذا عرفت السيدة التى تقوم بهذا العمل الفنى باسم المكيساتية وقد تستخدم أحيانا قشر الرمان عوضا عن هذه الأكياس الصوفية ، وتحصل المكيساتية نظير عملها ذلك على أعطية (بقشيش) حتى ولو لم تطلب ذلك ( من نصف قرش إلى قرش كامل).
5- الماشطة: وتحل صاحبة هذه الوظيفة مكان الحلاق فى حمام الرجال وهى التى تقوم بتجميل شعر ووجه المستحمة.
6- البلانة: وهى التى تقوم بنزع الشعر الزائد من أجسام النساء المستحمات إذا ما رغبن فى ذلك، ولذلك لم تكن فى كل الحمامات بلانات وقد يحدث فى أحيان كثيرة أن تصطحب السيدات معهن بلانة خاصة إلى الحمام وغالبا ما يكون ذلك فى غمار الاستعداد لإحدى حفلات الزواج، حيث تقوم أسرة العروس باستئجار الحمام بكامله فى اليوم السابق مباشرة على إتمام الزفاف. وتعمل البلانات أيضا فى البيوت وقد تستخدم بسبب ذلك كجاسوس أو عين لرجال الدولة وقد وشت بلانة مثلا فى عام 1149 هـ لرجال الباشا بمكان أختفاء الأمير محمد بيك بن اسماعيل بيك الدفتردار فألقوا القبض عليه وقتلوه.
أما الطائفة الحرفية الثانية التى ضمت النساء إلى جانب الرجال فهى طائفة الشحاتين. ولاعجب فقد كان سؤال الناس (التسول) مهنة معترف بها داخل مجتمعات العصور الوسطى إلى الحد الذى حمل مؤلف وفقيه شهير فى العصر المملوكى وهو القاضى تاج الدين السبكى أن يضمن كتابه معيد النعم ومبيد النقم فصلا خاصا عما يجب على السائل ( الشحاذ) أن يلتزم به من آداب المهنة وما لا يجب عليه فعله مثل كشف عاهات الجسد أو أن يجلس خارج المسجد والناس تصلى داخله أو أن يقول لوجه الله فلسلأنه لا يسؤل بوجه الله إلا الجنة “.
وقد أصبح للشحاتين تنظيمهم النقابى منذ العصر العثمانى على أقل تقدير، ويبدو واضحا مما أورده الجبرتى فى مواضع مختلفة من تاريخه أنه لم تكن هناك تفرقة بين أبناء طائفة الشحاتين على اساس الجنس، وانما كانت هناك اعتبارات جغرافية صارمة، حيث لم يكن القائمون على أمر الطائفة ليسمحوا للذين انتسبوا إلى حى أو خط بعينه أن يمارسوا السؤال فى حى آخر لما فى ذلك من الإضرار بالعاملين فيه.
وقد لعبت طائفة الشحاتين أدواراً هامة فى تاريخ القاهرة العثمانية بفضل ترابطهم المهنىوخاصة عند ارتفاع أسعار الغلال نتيجة لأنخفاض فيضان النيل ولجؤ التجار وكبار الأمراء إلى احتكار المواد الغذائية، فقد كان الشحاتون يتصدرون المظاهرات وأعمال العنف ضد المحتكرين وقد يصل بهم الأمر إلى حد رجم المسئولين الحكوميين من كبار الأغوات عند نزولهم من القلعة أو حتى نهب المخازن والحواصل التى تخزن بها الغلال.
ومن أمثلة ذلك ما قاموا به فى منتصف المحرم سنة 1107 هـ، عندما اجتمع الفقراء والشحاذون رجالا ونساء وصبيان وطلعوا إلى القلعة ووقفوا بحوش الديوان (أمام قصر الباشا) وصاحوا من الجوع فلم يجبهم أحد، فرجموا بالأحجار فركب الوالى (مدير الأمن ) وطردهم فنزلوا إلى الرميلة (ميدان القلعة حاليا) ونهبوا حواصل الغلة التى بها ووكالة القمح وحاصل كتخدا الباشا (نائبه ) وكان ملآنا بالشعير والفول ..”.
وكانت هذه الحادثة سببا فى عزل على باشا من ولاية مصر، وتم تعيين إبراهيم بك أبى شنب فى قائمقام أى أنه يقوم بوظائف الباشا المعزول إلى حين حضور باشا جديد من القسطنطينية.
وإبراهيم بك هذا كان الشخص الوحيد المؤهل لحفظ النظام العام وتهدئة ثورة الشحاتين، إذ كان حفياً بهم ومن كبار المحسنين إليهم ولذلك فقد هدأت الأمور واستقامت على الرغم من ارتفاع الأسعار وندرة الغلال.
وقد توفى إبراهيم بك أو شنب فى عام 1132 هـ عن اثنين وتسعين عاما فى الطاعون الذى اجتاح البلاد فى هذه السنة . ويذكر الجبرتى أن إبراهيم بك عندما سافر على رأس الجند المتوجه لفتح جزيرة كريت فى غرة المحرم سنة 1104 هـ خرج فى موكبه يتقدم العسكر وخرج أمامه شيخ الشحاتين وجملة من طوائفة لأنة كان محسناً لهم ويعرفهم بالواحد وكان إذا أعطى بعضهم نصفا فى جهة ولاقاه فى طريقه من جهة أخرى يقول له أخذت نصيبك فى المحل الفلانى ..” ولعل هذه الرواية تؤكد فى جانب منها أن الشحاتين كانت لهم قواعد جغرافية محددة، الأمر الذى يسر للأمير أبى شنب أن يعرف الشحاتين فى كل منطقة يمر بها موكبه اليومى.
وقد انتهز الشحاتون فرصة عودة المحسن الكبير من فتح كريت فى شهر ذى الحجة من نفس العام، لاظهار مدى اعترافهم بفضله فما أن علموا أنه قد غادر ميناء الإسكندرية متوجها إلى القاهرة حتى شرعوا فى جمع الأموال من أنفسهم واشتروا حصان أزرق وعملوا له سرجا مفرقا ورختا وركابا مطليا وعباء زركش ورشمة كلفة ذلك اثنان وعشرون ألف فضة“.
وعندما وصل إبراهيم بك إلى منطقة الحلى على مشارف القاهرة قدم الشحاتون الحصان إليه فقبله منهم ونزل عن فرسه وركب حصان الشحاتين إلى داره حيث ذهبت إليه الأمراء والأعيان وسلموا عليه وهنوه بالسلامة.
وقد قابل أبو شنب صنيع طائفة الشحاتين بما اعتادوا عليه من كرمه، فخلع على شيخ الشحاتين ونقيبه كل واحد جوخة( جبة من الجوخ) ولكل فقير ( شحات) جبة وطاقية وشملة .
أما نساء طائفة الشحاتين فقد نالت كل واحدة منهن قميص وملاية فيومىوهو ما يؤكد أن النساء كن جزءا أصيلاً ومعترف به فى هذه الطائفة المهنية . ولم يكتف إبراهيم بك بذلك بل أغدق عليهم مالا كثيرا ومد لهم سماطا ( وليمة ) كبيرة ليأكلوا من طعامه.
ومن الثابت تاريخياً أ، طائفة الشحاتين، رجالا ونساء لعبت دور هاماً فى مقاومة غش دار ضرب النقود للعملات الفضية المعروفة بأسم نصف فضة وقد كانت عملة الأحسان الرئيسية، وكان من شأن تخفيض عيار الفضة فيها وزيادة نسبة النحاس فى مكوناتها الإضرار بالشحاتين حيث كانت تنخفض القوة الشرائية للأنصاف الفضية بشدة فضلاً عن تعرض الانصاف للصدأ عندما يقوم الشحاتون باكتنازها نظراً لكثرة ما بها من معدن النحاس.
وفضلا عن انتماء النساء لطائفتى الحمامية والشحاتين ، فقد كانت السلطات العثمانية تجبى بعض الضرائب والرسوم من النساء اللاتى يعملن فى حرف تتصل جميعها بالطريق العام مثل مهنة البهلوانية أو المشى على الحبل ومهنة الغناء أيضا، ورغم عدم انتمائهن لطوائف حرفية كانأمين الخردة يجبى منهن الرسوم المقررة على نشاطهن وكان صاحب هذه الوظيفة من أفراد الفرقة العسكرية المعروفة بأسم عزبان وبالطبع فقد كان أفراد هذه الفرقة يساعدونه فى جباية هذه الرسوم. وهناك عدة حرف ومهن أخرى اشتغلت بها النساء خلال العصر العثمانى ومن أصحاب هذه الحرف:-
أ‌مهن الميلاد والوفاة :- على بوابة الحياة كانت هناك دوما امراة، إلى جانب الأم، تستقبل كل مولود آت إلى الحياة الدنيا، وعند نقطة التلاقى بين الحياة الفانية وخلود الحياة الآخرة غالبا ما تكون هناك امرأة أيضا، تلك هى الحقيقة التى لا يستطيع أحد الجدال فيها خلال العصور الوسطى بمصر، ففى الاستقبال والوادع كانت المرأة حاضرة وبقوة من خلال جملة من المهن المرتبطة بهذين الحديثين الحتميين فى حياة كل إنسان، جليل أو حقير، صغير أو كبير.
1- الدايات والمرضعات:- يكاد الاتفاق أن يكون تاما بين المصادر التاريخية وكتب الرحالة الأجانب على أن القابلات أو الدايات هن وحدهن اللاتى كن يعملن فى التوليد أو على حد تعبير علماء الحملة الفرنسية أصحاب الحوادث السعيدةوكانت القابلات فى كل حى معروفات تماماً لأهله، ومهما حدث من اضطرابات فى شوارع القاهرة لم يكن لأحد أن يعترض القابلات أثناء توجمهن لأداء مهتمهن الإنسانية، وكان من السهولة بمكان أن تصل السلطات المحلية إلى الدايات أو القابلات فى كل حى نظراً لمعرفة السكان بهن ولعل ذلك هو الذى سهل مثلا لسلطات الاحتلال الفرنسى فى عام 1215 هـ أن تحصر وبدقة النساء القوابلفى إطار محاولتها ضبط الأحوال الطبية فى القاهرة.
ويظهر أنه لم تكن هناك طائفة حرفية خاصة بالقابلات حيث لم تشر المصادر التاريخية إلى أى نوع من التنظيم لعملهن أو حتى لضرائب فرضت عليهن ، أما مراقبتهن فيبدو أنها كانت متصلة بالمحتسب لضرورات الشرعية. ويغلب على الظن أن مهنة القبالة كانت تنتقل بالتوارث من الأم إلى ابنتها كما فى سائر الحرف والمهن آنذالك، ولم نسمع عن أى محاولة لتأهيل القابلات طبياً إلا فى عهد محمد على باشا.
فقد أشار كلوت بك فى كتابة لمحة عامة إلى مصرإلى أنه نظراً لإصرار المصريين، كغيرهم من الأمم الشرقية على عدم السماح للرجال بتوليد النساء ومعارضتهم حتى لكشف الحكماء عليهن، كان من الضرورى تأهيل النساء للقيام بهذا العمل وفقاً للأصول الطبية الحديثة، وانتهز كلوت بك فرصة نقل المدرسة الطبية من أبى زعبل إلى قصر العينى بالقاهرة فى عام 1253 هـ، وقام بتحويل مدرسة أبى زعبل لتكون المدرسة المحروسة لتعلم فن الولادةوبعد طول عنت من الإدارة المحلية نجح كلوت بك فى إفتتاح المدرسة واستقبال الطالبات خاصة بعد أن صدرت الأوامر بضرورة حصول القابلات على ترخيص يخول لهن ممارسة هذه المهنة.
وأضيفت إلى المدرسة فيما بعد مستشفى للنساء ومدرسة للقابلات ( المساعدات ) وكانت التليمذات وقتئذ تعدن المرضى فى نفس الأوقات التى يتلقين فيها الدروس وأصبحت النساء اللاتى تعلمن هذا الفن تعلمن النساء الأخريات.
2- المرضعات :- كانت كل امرأة هى مرضعة أولادها، ولكن إذا ما شاءت الإرادة الإلهية ألا تهيئ الكمية الكافية من اللبن لإرضاع مولودها الجديد، أو حدثت وفاة للأم أثناء أو بعد الولادة، كان على الأسرة أن تطلب معونة سيدة أخرى وهى المرضعة “.
ومن الطريف أن هذه المرضعة ما أن تدخل أحد البيوت حتى تعامل باعتبارها من أهل هذا البيت على الرغم من أنها تتقاضى أجراً وتتناول تغذية معتبرة نظير عملها، فهى تكسب صفة العضو المنتسب فى هذه الأسرة وهو ما يمنحها حقوقا أبدية فى عواطف الأبوين وفى عواطف الرضع أيضا، بالإضافة إلى حقيقة أن أولادها صاروا أخوة بالرضاعة، لأطفال هذا البيت.
3- الغاسلات والندابات: الغاسلة، او المغسلة حسبما يطلق عليها عامة المصريين هى السيدة التى تقوم بتغسيل المتوفيات وتكفينهن قبل أجراء عملية الدفن، وكانت صاحبة هذه الوظيفة تلقى عناية خاصة من جانب المحتسب فى الأوقات التى تجتاح فيها الأوبئة الفتاكة مصر، إذ يشتد الطلب عليهن لكثرة حالات الوفاة، وبالطبع فلم يكن يسمح للغاسلات إلا بغسل المتوفيات ، أما الرجال فهناك من يقوم بأمرهم وهو الغاسل أو المغسل.
وقد عنيت الكتب الفقهية وتلك المعنية بأمور الحسبة أيضا بالحديث عما يجب توافر من صفات أخلاقية فى المغسل والغاسلة وكيفية أداء عملهم وخاصة صب الماء وتنظيف بدن المتوفى واستخدام الطيب والماء الساخن والمناشف .. الخ .
اما الندابات، وهن من أصحاب المهن المرتبطة بالغسل والدفن ، فقد كن يمارسن عملهن سواء كان المتوفى أمراة أو رجل، فهن وحدهن المتفردات بهذه المهنة ، وقريب من عملهن ، دون الاستغناء عن أداء الندابات، عدد من الرجال العميان، كانوا يتقدمون الجنازات وبأيديهم عصى ويسيرون فى ثلاث صفوف بواقع ستة رجال فى كل صف وهم متشابكو الأيدى وينشدون بنغمة وقورة ومهيبة صيغة العقيدة الإسلامية أو شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله ويكررون ذلك حتى يصل نعش الميت إلى القبر.
وبعد هؤلاء العميان تأتى الندابات فى صف أو صفين، بحسب يسار الميت، وقد ارتدين ثيابا زرقاء (مصبوغة بالنيلة ) وطويلة وحجابا أبيض وهن يسبقن مباشرة الجثة المحمولة على أكتاف أربعة من الرجال.
ولا يخالجنا الشك فى أن مهنة الندابات تعود إلى التقاليد المصرية القديمة، إذ تطالعنا فى نقوش المعابد المصرية القديمة مناظر تمثل الرائدات الأول لهذه المهنة وقد نشرن شعورهن حزنا على الميت، وليس أدل على ذلك من أن هذه المهنة تكاد لا توجد فى بلد آخر من بلدان الشرق الإسلامى بالإضافة إلى أنها كانت تمتد بنشاطها المعروف بين كل المصريين سواء من المسلمين أو الأقباط ولربما كان الأقباط أكثر حرصا عليها بل واليهود أيضاً، حسبما يستفاد من بعض وقائع العصر الفاطمى حينما منع الحاكم بأمر الله النواح خلف الجنائز وعاقب بعض اليهود لمخالفتهم أوامراه ظنا منهم أن هذه الأوامر قد صدرت بحق المسلمين وحدهم.
وعلى الرغم من المحاولات التى بذلها العلماء والفقهاء لمقاومة النواح خلف الجنائز بأعتباره ليس من صحيح الإيمان إلا أن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح تماما كما كان الحال مع النساء لزيارة المقابر والإقامة عندها فى الأعياد والمواسم.
وقد لاحظ المهتمون بالتراث الشعبى المصرى أن المراثى والعديد الذى كانت تردده الندابات خلف الجنائز قريب الشبه ، بل وربما كان ترجمة حرفية، لما كانت تقوله النائحات فى مصر القديمة، من أقوال دونت على بعض المقابر.
وقد عنى علماء الحملة الفرنسية بالحديث عن الندابات، ووصفهن كتاب وصف مصر بأنهن نساء من الشعب مدربات منذ زمن طويل على العويل وتصنع صرخات اليأس وقد حافظن على رواج حرفتهن على الرغم من إدانة المتنورين لها.
وتلجأ النساء، نساء المتوفى الى الاستعانة بالندابات، وخاصة زوجة الواحد من الكبار عندما تخشى أنها لن تستطيع أن تسكب وحدها على المرحوم قدرا كافيا من الدمع أو ربما عندما تجد أن مهمة الانتحاب لمدة طويلة بلا إنقطاع تفوق طاقتها، وعندها تستدعى الندابات ليقمن بممارسة عملهن أولا خلف جنازة المتوفى ، ثم يذهبن بعد ذلك إلى منزله حيث يقمن فى حجرة منه مع نساء أهل الميت، وتتراوح مدة اقامتهن بين الساعة الواحدة والأيام الثلاثة بحسب حاجة العائلة لاظهار مدى الحزن أمام الجيران.
وتحمل كل ندابة معها طارا خشبيا كالذى تستعمله الراقصات الشعبيات ولكنه بدون القطع المعدنية الرنانة الطنانة المعلقة إلى طوق الطار المعروف، ويضربن مجتمعات طاراتهن ويصرخن مرددات عليه (يا حسرة عليه ياحسرة عليه) بين كل مدح للمتوفى وهن يمتدحن كرمه وشخصيته اللبقة المحببة وكل شئ من مناقبه (إن كانت له مناقب ) بل ويمتدحن عمامته، وهن بهذا العمل المتقن يستدعين دموع أهل الميت وصرخاتهن حتى يظهروا أمام الجيران بمظهر الحزن اللائق بمكانة المتوفى لدى عائلته والمجتمع على حد سواء حتى لا ينطبق عليه المثل الشعبى الذى يرى أن الكلب وحده هو الذى لا يستحق البكاء خلفه، إذ يقول المصريون فى مأثوراتهم أقوالا من قبيل الجنازة حارة والميت كلب وأهو كلب ومات .
بالمهن الاجتماعية والفنية: وتندرج تحت هذه النوعية من المهن عدة حرف أو مهن تمارسها النساء دون غيرهم من أبناء المجتمع مثل وسيطات الزواج ( الخاطبات) والعوالم والراقصات اللاتى يحيين حفلات الزواج وما شابه ذلك من المناسبات الاجتماعية وقارئات البخت (الحظ).
1- الخاطبة والدلالة: فى مجتمع العصور الوسطى ، حيث لم تكن هناك منتديات أو مناسبات يلتقى فيها الرجال مع النساء، وحيث كانت المنازل تنقسم بصراحة إلى سلاملك يرتاده الرجال وحراملك لا يجوز للغرباء من الرجال اقتحامه، كانت الخاطبة تلعب دورا محوريا فى عقد الزيجات، فالرجال كانون يوكلون إليها أمر انتقاء العروس المناسبة، وقد تعهد بعض الأسر للخاطبة بالبحث عن زوج مناسب لإحدى بناتها.
ومن أجل تقنين دخول الخاطبة إلى البيوت فقد كانت تلعب غالبا دور الدلالة التى تبيع الحلى والثياب والاحذية والطرف المتصلة بالتجميل الكحل والعطور.. الخ ..” . للنساء فتمر على الدور لبيع ما تحمله من سلعة ولعرض خدماتها بوصفها خاطبة أيضاً ولا شك أن عمل الخاطبة فى الدلالة كان يسهل لها دخول المنازل والبقاء فيها لمدة تتناسب مع رغبتها فى الحصول على تقارير وافية عن المرشحات للزواج.
ولا جدال فى أن الخاطبات لجأن إلى انتحال مهنة الدلالة نتيجة لأن بعض البيوت المحافظة كانت تأنف من دخول الخاطبة عندها لما فى ذلك من شبهة السعى لترويج البنات وطلب الأزواج لهن، وأيضا لتوفير السرية والكتمان لمشاريع الزواج المستقلبية حفاظاً على سمعة البنات وحظوظهن فى فرص الزواج.
وعندما يعمد الرجل الى توكيل خاطبة لمساعدته فى انتقاء العروس المناسبة، تقدم له تقريرها عن المرشحات بشكل سرى، وبدرجات متفاوته من الدقة ، فقد تصف له الفتاة الأولى على أنها كالغزال مليحة الوجه أنيقة الملبس شابة والفتاة الثانية بأنها حسنة المعارف ميسورة الحال وهكذا دواليك. وتبالغ الخاطبة أحيانا فى وصف محاسن العريس وغناه، فهى قد تقول للفتاة عن أى شاب بسيط يكاد لا يملك شيئاً من حطام الدنيا ولا تعرف شيئاً عن ميوله يا ابنتى أن الرجل الراغب بالزواج منك حلو الشمائل أنيق المظهر أمرد ( صغير السن ) يملك المال الكثير أنيق الهندام محب للكياسة، واللباقة ولكنه لا يستطيع التمتع بهذا النعيم وحده ويرغب بك شريكة لحياته، كما أنه سيؤمن لك عيشة رغدة بكل ما أوتى من مال وهو ملازم لبيته وسيقضى كل وقته معك يدللك ويحبك..”. وإذا ما أفلحت المساعى الحميدة للخاطبة وأعجب الرجل بالتقرير المرفوع إليه يقدم للخاطبة هدية ويرسلها من جديد إلى أهل الزوجة المرشحة للاقتران ويحملها رغباته الخاصة لتنقلها إلى أهل العروس .
ولا ينتهى دور الخاطبة عند حد تزوج الطرفين وابرام عقد الزواج وإنما تحضر بنفسها حفل الزواج حيث تكون، ولو ليوم واحد موضع تقدير واحتفاء الأهل والأقارب، فضلا عن أن فى حضورها نوع من الدعاية المنطقية لعملها ونجاحاته المتتالية.
وحسبما يقول أدوارد لين فى وصفه لحفلات الزواج بمنازل الأغنياء فقد كانت تجتمع الخاطبة أو الخاطبات وداية العائلة والبلانة ومربية العروس بعد يوم أو يومين من إبرام عقد الزواج وتحصل كل واحدة منهن على قطعة من الذهب وشال من الكشمير أو على قماش من الحرير المقلم من ذات القماش إضافة إلى اليلك والشنتيان ( أى كسوة كاملة فاخرة) وتضع الواحدة منهن هذا الشال على كتفها إلأيسر وتربط حافاته على الجانب الأيمن ثم يركبن جميعا الحمير بصحبته رجلين أو أكثر يمشيان أمامهم يضربون الطبلة وينقرون على الدف حتى منازل أصحاب العروس لدعوة النساء لأصطحاب العروس إلى الحمام والمشاركة فى الحفلة التى تقام بهذه المناسبة.
2- الراقصات والعوالم: ثمة خلط فى كتابات الرحالة الأجانب الذين قصدوا مصر فى الفترة العثمانية بين العوالم والراقصات وقد امتد هذا الخلط إلى الأبحاث الحديثة التى تناولت حياة وأسهامات هاتين الفئتين فى الحياة الاجتماعية.
والعوالم هن حسب علماء الحملة الفرنسية، مغنيات مصر المفضلات وقد أشار لين إلى أن البعض منهن فى القاهرة جديرات بأن يخلع عليهن لقب النساء المتعلمات لاتمامهن بعض الانجازات الأدبية حيث كن يحفظن الشعر وبعضهن اشتهرن بوصفهن شاعرات مرتجلات وتنتسب العوالم عادة إلى الطبقات الشعبية وكانت العوالم تقوم باحياء الحفلات التى تقام فى حريم الواحد من الأغنياء وقد يغنين فى صحن الدار أو فى الطقيسة ( المغنى ) وهو عبارة عن حجرة صغيرة مرتفعة مجاورة للحراملك فيعزلن بحجاب من خشب الخرط (المشربيات) ويغنين من وراء هذا الحجاب أو فى أى مكان آخر مناسب يحجبهن عن أنظار سيد المنزل فى حالة وجوده داخل الحريم بين نسائه.
وتنتقل النساء فى حال اقتصر الحفل على الرجال الى فناء الدار أو حجرة سفلية فتسمعن أغنيات العوالم اللواتى يجلسن عادة عند حافة نافذة جناح الحريم فتحجبهن المشربيات.
وتحصل العوالم الشهيرات على أجور كبيرة بالإضافة للنقوط ، وهو المال الذى تجمعة العالمة من ضيوف الحفلة على سبيل الهدية تقديرا للأعجاب بها.
ويذكر أدوارد لين أن احدهن جمعت مثلا من ضيوف حفلة أقيمت فى منزل تاجر اكثر من خمسين جنيها عام 1834 علما بأن أحداً من الضيوف لم يكن من أصحاب الثروات الكبيرة.
وقد يبلغ أعجاب بعض السامعين بغناء عالمة محترفة مبلغا كبيرا يدفعهم إلى أن يغدقون عليها فى ذروة انشراحهم وطربهم أموالا كان بامكانهم تجنب تبديدها. وتصحب العالمة الغنية فرقة خاصة من العوالم العازفات للموسيقى وقد امتدح بعض الأجانب مهارتهن فى العزف معتبرا أنهن أكثر مهارة من الآلآتية الرجال واعترف بأنه طرب لغنائهن أكثر من عزف الآلآتية بل وأكثر من أية موسيقى أدخلت البهجة إلى نفس.
وإن لم يكن بذلك هو رأى كل الاجانب ، فقد ذكر أحد علماء الحملة الفرنسية ان صوت هؤلاء العوالم منفر وغير مقبول وأنه ينبغى لمن يسمعهن أن يكون مصريا حتى يجد فى صوتهن بعض الطرب .
وكان كبار رجال الدولة يلجأون إلى العوالم لإحياء الأفراح فى دروهم ، بل وكانوا يعتبرون العوالم من بين أرباب الطوائف الذين كانوا يستدعون للسير فى موكب الزفاف.
فقد أشار الجبرتى إلى الزفاف الذى نظمه محمد أغأ البارودى لابنة سيده إسماعيل بك القازدغلى عند زواجها بخازنداره فى عام 1205 هـ فقال أن البارودى عمل زفة بهية لم يسبق نظيرها ومشى جميع أرباب الحرف وأرباب الصنائع مع كل طائفة عربة وفيها هيئة صناعتهم ومن يشتغل فيها مثل القهوجى بآلته وكانونه والحلوانى والفطاطرى والحباك والقزاز بنوله حتى مبيض النحاس والحيطان والمعاجينى وبياعى البز وأرباب الملاهى والنساء المغانى، وغيرهم كل طائفة فى عربة.
وكان أمين الخردة من طائفة عزبان يحصل من العوالم الرسوم والضرائب المفروضة على نشاطهن ولكنه لم يكن ليغالى فى تحديد هذه المبالغ نظرا للعلاقات المصلحية المتبادلة بين العوالم وكبار القوم، وقد كان هؤلاء على استعداد دائم لحمايتهن من شطط أمين الخردة طمعاً فى خدمات العوالم التى لا يستغنى عنها كل وجيه فى المجتمع المصرى آنذاك.
وينبغى أن نشير الى أن العوالم لم يكن جميعا على درجة واحدة من المهارة أو الشهرة، فقد كانت هناك فئة من العوالم أدنى مرتبة وكن يرقصن ويغنين فى الحريم على سبيل التسلية لنساء المنازل مقابل أجور زهيدة ونأتى الأن الى الراقصات وهن على أنواع ، فبالإضافة إلى الراقصات من المصريات كانت هناك فئة الغوازى وهن يمارسن نوعا من الرقص المبتذل فى المقاهى وفى الطرقات العامة، وإجمالاً كانت الراقصات من مختلف الأصناف يؤدين الضرائب العامة لصاحب وظيفة الأودده باشئ، بوصفه المراقب للمقاهى والخمامير وهى الأماكن التى كانت تستضيف الراقصات العموميات.
أما الراقصات فكن يمارسن الرقص فى الميادين العامة ، تماما كالحواة والمشعوذين مقابل قطع نقدية صغيرة يحصلون عليها، اختياريا، من جمهور المشاهدين وقد يستدعى بعض هؤلاء للرقص والغناء داخل البيوت وخاصة فى أيام شهر رمضان حيث يجتمع رب الأسرة مع نسائها لمشاهدة فنون الرقص حصة من الليل دون انكار منه لما فى رقصهن من معان شهوانية وأباحية فاضحة.
وتجدر الأشارة إلى أن سمعة الراقصات الأخلاقية كانت دون سمعة العوالم، ولذلك فإن المجتمع القاهرى كان يتخذ ضدهن مواقف قد تذهب إلى حد العنت فى بعض الحالات ومن أمثلة ذلك ما أشيع عن امرأة رقاصة قال الجبرتى أنها كانت تأتى خادم القائد الفرنسى ديوى أو دلوى بأشكالها ومن هن على طريقتها فيجتمعوا فى قهوة بخط الرميلة ميدان القلعةليلاً ونهاراً وهى ترقص لهم وتبيتهم فى البيت ويصبحون على حالهم ، وأن هذه المرأة أغرت القائد الفرنسى، عبر خادمه بأن يهاجم تجار الغلال ويصادرهم، فاشتكى أحد أمراء المماليك للقيادة الفرنسية من أفعال دلوى فتم حبسه بالقلعة وعندئذ قام الأمير المملوكى ذو الفقاربأعتقال الخادم والراقصة ، فقتل الأول وشنق الثانية وترك جثتهما على شباك سبيل نفيسة البيضاء القريب باب زويلة.
3- قارئات البخت: ومعظم أصحاب هذه الحرف من الغجريات، ويراهن الناس فى شوارع القاهرة فى لباس لا يختلف فى شئ عن أزياء عامة نساء الطبقات الدنيا من الثوب الى الطرحة ويمشين سافرات الوجه وقد حملن معهن كيسا من جلد الغزال فيه عدة الشغل وعند مرورهن ينادين بطريقة منغمة أكشف البخت وأبين زين أبين أو يقلن أكشف الحاضر والغائب“.
أما عدة شغل قارئات البخت فتقتصر على عدد من الأصداف وقطع الزجاج الملون وبعض قطع النقود المبعثرة بينها فيرمين الأصداف ويستخلصن تكهناتهن من ترتيب هذه الأصداف وتمثل الصدفة الكبيرة الشخص الذي ستكشف العرافة بخته وكانت الغجريات أيضا تمارس عملية الوشم (الدق) بالإضافة إلى ختن البنات وهن فى هذه الحالة ينادين بقولهن ندق ونطاهر“.
ولا يتبقى فى نهاية المطاف سوى أن نشير إلى حرفة أو مهنة البغاء التى كانت منتشرة فى القاهرة العثمانية رغما عن معارضة المجتمع لها وتنديد رجال الدين والشريعة ليس فقط بالمنخرطات فيها بل وبأمراء الدولة ورجال الحكم الذين كانوا يحمون أفعال الرذيلة ويحصلون منها مالاً وفيرا .
ويخضع البغاء فى مصر العثمانية لنوع من التنظيم النقابى الشبيه بما رأيناه فى حالة ضامنة المغانى خلال العصر المملوكى، فكانت لطائفة العاهرات حتى عام 1834 روؤس يهيمنون عليها وأنظمة خاصة تسير على منوالها، كما كانت تدفع ضرائب ورسوم منتظمة لصالح الوالى ، أى مدير أمن العاصمة والمقدمين الذين يعملون بخدمته وقد أورد الجبرتى فى سرده لحوادث عام 1143هـ ما يفيد أن عوائد الوالى ورجاله من ضرائب الدعارة، كانت تتجاوز الخمسين ألف نصف فضة شهريا .
ولم يكن الوالى ليسمح لأحد بأن يمارس الدعارة بعيدا عن إشرافه أو عن المواضع المخصصة لذلك حتى أنه فى صفر عام 1219 هـ أمر بشنق رجل على شباك السبيل بمنطقة باب الشعرية لأن أهل حارته شكوا منه لأنه يتعاطى القيادة ويجمع بين الرجال والنساء“.
أما المواضع التى أشتهرت فى القاهرة بإيوائها لأنشطة البغاء فقد كانت تعرف بمواقف الخواطئ وأحياناً بالخمامير والبوظ ذلك أن تناول الخمور وشراب البوظة المسكر كان من بين الأنشطة المرتبطة بالدعارة.
وكانت هذه المواضع تتركز أساسا فى كل من حى بولاق وباب اللوق وحى طولون ومصر القديمة، ولكن هذه القواعد الجغرافية كانت تخرق فى حالات كثيرة.
وقد ذكر الجبرتى فى كتابة عجائب الأثار فى التراجم والأخبار أن رجال الشرطة قاموا فى المحرم من عام 1225 هـ بإخراج طائفة من القوادين والنساء الفواحش سكنوا بحارة الأزهر واجتمعوا فى أهله حتى أن أكابر الدولة وعساكرهم بل وأهل البلد والسوقة جعلوا سمرهم وديدنهم ذكر الأزهر وأهله ونسبوا له كل رذيلة وقبيحة ويقولون نرى كل موبقة تظهر منه ومن أهله..”.
كما كانت بنات الخطأ أو الخواطئ ينتقلن بنشاطهن المشبوه الى حيث توجد مجتمعات الرجال وخاصة معسكرات الجند وخيامهم وقد يحدث ذلك حتى فى شهر رمضان مثلما جرى فى هذا الشهر الكريم من عام 1229 هـ عندما قصد خيام العسكر خارج القاهرة الجم الكثير من النساء الخواطئ والبغايا ونصبوا لها خياما وأخصاصا وانضم إليهم بياعى البوظة والعرقى والحشاشون والغوازى والرقصاون..”.
وقد سجل كتاب وصف مصر أنه على الرغم من ان البغاء جريمة دينية فإنه لم تفرض عقوبات زمنية على تلك اللاتى يمارسنه، أما الاضطراب الذى تحدثه النسوة اللاتى يعشن هذه الحياة الدنسة فهو من اختصاص الشرطة، وقدر علماء الحملة الفرنسية أن عدد هؤلاء التعيسات فى القاهرة كبيرة وكذا فى كثير من مدن مصر.
وكما أسلفنا فإن الوالى كان يحصل على الخواطئ فى القاهرة ضرائب ورسوم أما فى المدن الأخرى وريف مصر فكن أفراد طائفة العزب هم الذين يحصلون على هذه الضرائب.
ومن الطريف أن الضرائب المفروضة على الأراضي الزراعية كانت تتضمن أحيانا رسما صغيرا يعرف بأسم نائب غيبةوهو رسم مقرر لأولئك النفر من العسكريين الذين يقومون بحماية أخصاص البغايا المقامة على حدود القرى فى الريف المصرى.
ولا نعرف فى تاريخ مصر العثمانية سوى محاولة وحيدة لوقف هذه المهنة وقد قام بها الوالى عبد الله باشا الكبورلى فى عام 1143 هـ ، وكان حسب الجبرتى إنساناً خيراً صالحا منقاداً إلى الشريعة وقد قام هذا الوالى بإبطال المنكرات والخمامير ومواقف الخواطئ والبوظ من بولاق وباب اللوق وطولون ومصر القديمة.
ومن أجل ضمان الاستمرار فى تنفيذ هذه القرارات أحضر الباشا الوالى ورجاله وأخذ توقيعاتهم على حجة شرعية لعن فيها كل من تسبب فى العودة إلى ممارسة البغاء، وذلك بعد أن عوضهم عن دخلهم المترتب من تحصيل ضرائبها بمال من كشوفيات الباشاوات وكان مقداره كيس ( 25 ألف صنف فضة ) فى كل شهر.
ولكن هذه المحاولة لم يقيض لها النجاح لأبعد من فترة ولاية عبد الله باشا، إذ سرعان ما عاد الأمر إلى ما كان عليا سابقا، وبقيت مهنة الدعارة سارية ومعترف بها من قبل الدولة حتى عام 1834م، أى فى عهد محمد على الذى سبق أن حول ضرائبها إلى خزينة الدولة مباشرة فى إطار سياسته الاحتكارية المعروفة.
واستجابة لمطالب المستنيرين فى البلاد ورجال الشريعة وأيضا لنصائح المستشارين الأجانب من أمثال كلوت بك قررت الحكومة فى مطلع يونيو عام 1834 م منع الدعارة ورقص الفتيات ( الغوازى) فى الميادين، وكانت هؤلاء من محترفات البغاء، وتوعد القرار المرأة المخالفة لهذا القانون بأنها ستجلد خمسين جلدة للانتهاك الأول، وإذا تكررت الانتهاكات يحكم عليها بالأشغال الشاقة لسنة أو أكثر وأما الرجل فيجلد بالعصا على أخمص قدمية عند ارتكابة مثل هذه الأعمال المشينة.
ولتحطيم التنظيم النقابى للخواطئ أمر محمد على بنفى رئيسات هذه الطائفة (المعلمات) إلى صعيد مصر وبالتحديد إلى كل من قوص وإسنا حيث وضعن تحت رقابة مشددة فى هذه الأجزاء التى كانت التقاليد العربية والروح الإسلامية ما زالت حية فيها.
ولكن هذه الأجراءات كما يقرر ذلك كلوت بك لم تحل دون استمرار عدد كبير من النساء العموميات فى ارتكاب هذه الأفعال المؤثمة إلا أنهن يزاولن حرفتهن الساقطة الدنيئة سرا لاجهرا كما كان من قبل ..”.
وهذه المحاولة التى بذلها بصدق محمد على ذهبت هى الأخرى أدراج الرياح بعد عدة سنوات، إذ عادت الحكومة، ربما تحت تأثير سلطات الأحتلال البريطانى، إلى الاعتراف بالبغاء ووضع القوانين أو بالأخرى اللوائح التى تنظمه بما من ذلك منح التراخيص للبغايا بعد توقيع الكشف الطبى الدورى عليهن.
ومن المضحكات المبكيات أن الرجل الذى اقترن أسمه بقرار محمد على بمنح الدعارة فى مصر وهو كلوت بك قد قرن أسمه أيضا بأهم مواضع ممارسة الرذية طوال النصف الأول من القرن العشرين. ولسبب لا ندركه تركز نشاط البغايا فى المنطقة القريبة من ميدان العتبه الخضراء وبالتحديد فى شارع رئيسى كانت السلطات قد أطلقت عليه أسم كلوت بك تقديرا لجهوده فى تحديث الخدمات الصحية بالبلاد، وكأنها أحدى سخريات القدر أو ربما أحدى مكائد أهل هذه الحرفة الموسومة بأنها أقدم مهنة فى التاريخ ، الذين شاءوا أن ينتقموا من المحرض الأول على إلغاء البغاء من مصر، بأن يقرنوا بين أسم كلوت بك وبين البغاء .
وقد ظل حى كلوت بك مرتعا لأهل الرذيلة إلى أن صدر القانون بتجريم البغاء فى نهاية الأربعينات من القرن العشرين ومهما يكن من أمر، فقد كانت محترفات البغاء على صنفين رئيسيين الأول منهما يضم المصريات وقد اعتبرت فى مجملهن ضحايا حالات الطلاق المتكرر فى البلاد دون ضابط أو رابط حيث أن طلاق الواحدة منهن إذا ما كانت دون عائل يقوم بأمرها كان من الدوافع الرئيسية لدخولهن إلى دائرة ممارسة الرذيلة.
أما الصنف الثانى فيضم خليطا من الأجانب، كالروميات والشركسيات والروسيات، بالإضافة إلى الغوازى الذين طالما أدعوا انتسابهم إلى أسرة البرامكة البغدادية الشهيرة رغما أنهن من طائفة الغجر المعروفة.
ونظراً لأن الغوازى كن يعرضن فنون الرقص فى الميادين العامة باعتبار ذلك من مقدمات ولوازم ممارسة البغاء فقد كان من الطبيعى أن يلفتوا أنظار الزوار من الأجانب وقد دون هؤلاء بدورهم سواء أكانوا من الرحالة العابرين أو المستشرقين الراغبين فى دراسة أحوال الشرق الإسلامى ملاحظات ضافية عن حياة الغوازى وتقاليدهن.
ويمكن أن نستخلص من هذه الكتابات أن الغوازى كن يرقصن سافرات الوجه فى الشوارع العامة فيسلين حتى الرعاع من القوم ولا يتسم رقصهن بأدنى لباقة أو أناقة وهن يبدأن الرقص بشئ من الذوق ولكنهن ما يلبثن أن يحولنه إلى استعراض راقص فيغزلن اللواحظ ويضربن الصناجات وتتزين هؤلاء الراقصات بحلى مختلفة ويرسمن اللواحظ بالكحل ورؤوس أصابعهن وراحات أيديهن واقدامهن بالحناء وفقا لعادة نساء الطبقتين المتوسطة والغنية ويرافقهن عادة موسيقيون من نفس قبيلتهم يعزفون على الكمان والربابة والطار والطبلة (الدربوكة) والمزمار، وتحمل الطار عادة أمراة عجوز.
وترقص الغوازى فى باحات المنازل أو الشوارع وأمام الأبواب فى بعض المناسبات الاحتفالية التى تتم داخل الحريم كالاحتفال بولادة طفل أو زواج ولا يرحب بهن قط فى حريم حسن السمعة، ويدفع لهن للترفيه عن الرجال فى منزل أحد الفاسقين المنحرفين وفى هذه الحالة الأخيرة يكتفى بعضهن بارتداء الشنتيان قطعة من الملابس الداخلية طويلة حتى الركبتين) والتوب الرقيق كالشاش فيفتحنه نصف فتحة ويخمدن أخر جذوات العفة فى نفوسهن فيحملن كؤوس المدام وأصناف أخرى من المشروبات الروحية.. “.
وحسب أدوارد لين فإن الغوازى هن أكثر المحظيات المصريات خلاعة وتهتكا ورغم أن لغتهم العادية لا تختلف عن لغة باقى المصريات إلا أنهن يعتمدن أحيانا بعض الكلمات الخاصة بهن حتى لايفهم الغرباء حديثهن وتتواجد العديدات منهن فى كل مدينة مصرية فيسكن فى قسم من الحى مخصص لبنات الهوى ولا تعدو منازلهن عن كونها أكواخ بسيطة أو سقائف مؤقته يأوين إليها أو هى مجرد خيام ينصبنها فهن فى حل وترحال دائمين من مدينة إلى أخرى وقد يستقر بعضهن فى منازل فسيحة، فيمتلكن الجوارى (السود ) مما يؤدى إلى زيادة دخلهن من الدعارة.
وتحضر لغوازى كل الاحتفالات الدينية الكبرى بل وقد يرافق بعضهن قافلة الحجاج إلى مكة، وتعمد الغوازى إلى إضافة مفاتن أخرى إلى مفاتنهن فيغنين على طريقة العوالم ، ويقلدهن أيضا فى أزياتهن.
أما غوازى الطبقة الدنيا فترتدى زى بنات الهوى المنتميات إلى الطبقة عينها ومنهن من يضفن ثوبا شفافا كالشاش فوق قميصهن والشنتيان وطرحة من الكريب أو الموسلين ويتزين بالحلى والعقود والأساور والخلاخل ويتدلى صف من القطع الذهبية فوق جبهاتهن ويثبتن حلقة معدنية إلى أنوفهن ويعشقن تحديد عيونهن بالكحل والحناء.
وتميز الغوازى أنفسهن عن الطبقات الأخرى فيمتنعن عن الزواج برجال ليسوا من أبناء قبيلتهن، وتربى كل الغوازى على القيام بأعمال تقوم على الفساد والرشوة ولا ينشأن كلهن راقصات ولاتكاد غالبيتهن تتزوج حتى يبدأن مهنة الفساد والرشوة ويكون الزوج تابعا لزوجته ، فهو خادمها وقوادها وعازفها الخاص أن كانت راقصة. وقد تنذر الغازية نفسها أحيانا للتوبة فتقترن بعربى محترم لا يلحق به خزى أو عار من ارتباطه هذا كما ترحب الغوازى بالفلاح الأكثر فقرا إن كان باستطاعته دفع مبلغ ولوزهيد من المال، فعبر مثل هذه الزيجات كان باستطاعة الغوازى التخلص من الإطار الفاسد الذى يحتضن أنشطة المنتمين لهذه الفئة
.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات