الإجهاض القسري في نيجيريا وسؤال العدالة الانجابية

الشركاء: نحو وعي نسوي

تاريخ النشر:

2023

فبراير 2023

قامت السلطات النيجيرية، وعلى رأسها الجيش، بإجبار ما لا يقل عن ١٠ آلاف ناجية من معسكرات بوكو حرام على الإجهاض. على الرغم من بشاعة التقرير الذي نشرته شبكة رويترز في ديسمبر الماضي/) إلا أنه لم يلفت انتباه الصفحات النسوية الناطقة بالعربية. وهو أمر يتعلق بجدلية المركزية المشرقية للقضايا والفوقية في التعامل مع النساء الافريقيات والسوداوات تحديداً والتي تحتاج لوقفة حقيقية ولفتح مساحات نقاش جادة. حيث نلاحظ أن أكثر ردود الفعل التضامنية تكون مع القضايا الغربية والأمريكية بشكل خاص، ونادراً ما تتجاوزها. ورغم وجود مجتمعات وجاليات سوداء/من أصول أفريقية إلا أن التفاعل معها ومع قضاياها او حتى الإطلاع عليها يظل رهينة تسليط الضوء عليها في الاعلام الناطق بالانجليزية، ويتسم التعامل معها بالفوقية التي تشوبها عنصرية شديدة وكسل معرفي حتى في المجال الأكاديمي.

بدأت مأساة النساء والفتيات في نيجيريا مع بداية الألفية، حينما أصبحت الشريعة الإسلامية هي المرجعية في ولايات الشمال ذات الأغلبية المسلمة والأكثر فقراً وأمية أيضاً على الشباب العاطلين المحبطين، تبعاً لسيناريو متكرر لكنه ينجح دائماً تحت لواء الإسلام السياسي. حتى أنه في البداية كان يطلق على ولاية بورنو اسم باكستان أفريقيا وعلى اتباع بوكو حرام اسم ضد التعليم الغربي بلغة الهوسا. توالت منذ ذلك التوقيت الهجمات التي تستهدف بشكل خاص المدنيين من الغالبية المسلمة، وإن كانت لا تستثني الأقلية المسيحية. ولعل أكثر الأحداث التي لفتت انتباه الرأي العام وانتشرت أخبارها في كل وسائل الإعلام هي الحملات المناهضة لتعليم الفتيات والتي وصلت حد اختطافه‍ن.

تشير جملة “بوكو حرام” إلى أن التعليم على الطريقة الغربية حرام بلغة الهوسا ولهذا السبب شن المتطرفون عدة عمليات هجومية استهدفت المدارس والثانويات وراح ضحيتها العديد من أفراد طاقم التدريس والطلبة على حد سواء. وقد رصدت تقارير منظمة العفو الدولية تدمير ما يقارب الألف مدرسة ما بين ٢٠٠٩ و ٢٠١٥, بينما اضطرت ١٥٠٠ أخرى لإغلاق ابوابها، خاصة بعد فرار آلاف المدرسين من المنطقة خوفا من الاغتيال. كانت النتيجة المباشرة حرمان ما لا يقل عن مليون طفل وطفلة من التعليم الأساسي.

خلال الهجمات على القرى والمدارس، كانت الفتيات والنساء يخطفن باعتبارهن غنائم وسبايا للبيع في أسواق النخاسة أو تزويجهن لأفراد بوكو حرام بالتناوب، وكما صرح في ٢٠١٤ ابو بكر شيكاو، زعيم الجماعة حينها، فإن مصير الفتيات الوحيد هو الزواج وليس التعليم. وهو نفس الخطاب الذي يردده الكثير من المسلمين على مواقع التواصل وفي الجلسات العائلية وعلى شاشات الفضائيات ومنابر المساجد والذين لا تمثلهم داعش ولا إسلام بوكو حرام المتطرف طبعا. مثل هذه الأحداث تتكرر، بحذافيرها، كما نتابع في هذه الأثناء ما يحدث في أفغانستان وسط استنكارات صورية غير جادة في التصدي للانتهاكات التي تدفع ثمنها النساء والفئات المضطهدة الأخرى.

يرجح أن عدد النساء والفتيات المخطوفات واللاتي كان بعضهن في طور الطفولة عند اختطافهن، قد تجاوز الألفين في ٢٠١٥ ولا يوجد حصر دقيق أو شامل من قبل الحكومة النيجيرية، بل مجرد إحصائيات تقريبية قامت بها المنظمات الدولية. ما حدث لكل هؤلاء النساء بعدها لا يصعب تخيله، فبالإضافة لشهادات الناجيات، تتقاطع تجارب النيجيريات مع ما عاشته الايزيديات في قبضة داعش والسوريات في المناطق الواقعة تحت حكم الفصائل الإسلامية والجزائريات أيام العشرية السوداء.

لم يعد خفيا ما ينتظر النساء في ظل أنظمة تحتكم للشرع الإسلامي وتحمل مسدسا وتحظى، بالإضافة إلى هذا كله، بمناصرة ودعم قطاع لا يستهان به من المجتمعات في المنطقة، بل وبتمويل من حكومات عربية وغربية بحجج متعددة، وتبريرات من بعض المثقفين والحقوقيين بحجة معارضة الأنظمة الحاكمة ومحاربة الإمبريالية واحترام الثقافة المحلية. إذ يبدو جلياً في مقاربة هذه الدوائر لقضايا النساء أنها لا تحاول اقصائها فحسب بل تتعمد طمسها وتقف مع ذات الأنظمة التي تدعي مناهضتها، حيث يتحول المناضل الثوري الأشرس إلى مدافع عن سياسات النظام الذي يقمع النساء بحجة أن هذا جزء من الثقافة الأصلية، أو بتحويل قضايا النساء لاضطهاد طبقي فقط في محاولة لطمس تقاطعات الجنسانية والجندر والعرق في حيوات النساء، كما يعتبر الحديث عن العدالة الجنسية والجندرية مقوضاً لسلطتهموهيمنتهم التي يمارسونها في أحيان كثيرة عبر الاعتداء الجنسي والتحكم في جنسانية النساء وانجابيتهن.

عاشت، وتعيش الفتيات والنساء المخطوفات جحيما من الانتهاكات والاعتداءات الجسدية والجنسية والنفسية المتكررة حيث يتحولن لمجرد أجساد تباع وتشترى وتبدل وتستبدل من فراش هذا لفراش ذاك، عدا متاعب الحمل والولادات المتعاقبة، حيث أن موانع الحمل والاجهاض محرمة شرعاً تحت حكم الجماعات الإسلامية .لطالما كان سبي النساء واغتصابهن يستخدم كوسيلة لإذلال العدو والانتقام منه، ولكن أيضا ً من اجل افراغ شهوات الجنود الذين يبقون طويلاً بعيداً عن بيوتهم والحفاظ على حماستهم من أجل الحصول على أجساد النساء كمكافأة دنيوية قريبة المنال في انتظار الوصول للجنة والتمتع بالحور العين.

تمكنت السلطات النيجيرية من تحرير عدد غير محدد من النساء والفتيات بعد معارك ومواجهات عدة مع جماعة بوكو حرام وأودعتهن القواعد العسكرية والمستشفيات الميدانية المتواجدة في المنطقة. خلال هذه العمليات التي تدعي الحكومة أنها “انقاذية”، انتهكت الناجيات مرة اخرى على يد الجيش واطبائه أحياناًوتعرضت ما لا يقل عن عشرة آلاف امرأة (حسب تقرير وكالة رويترز والذي اعتمد على شهادات ٣٣ ناجية) للإجهاض القسري بتواطؤ وصمت الجميع. قرر رجال السلطة، من ناحية، أن الدولة لا ترغب في وجود أطفال آباؤهم من المتطرفين الذين حملوا السلاح ضدها، ومن ناحية اخرى، إن كل حالات الحمل هذه وصمة عار لرجال العائلة ورجال الوطن الذين فشلوا في حماية نسائهم، وعليه، يجب محو كل ما يشير لما حدث.

تحكي الناجيات من مجزرة الإجهاض القسري أن العديد من النساء والفتيات فقدن حياتهن لأن الحمل كان في شهور متقدمة جدا أو بسبب النزيف او الجرعات غير المناسبة أو ضعف البنية نتيجة لأشهر من الحياة كسبايا وجواري فراش أو لانعدام المتابعة الطبية والتعقيم داخل القواعد العسكرية التي أجريت فيها العمليات. اختلفت التفاصيل التي ذكرتها الشاهدات حول الوسائل التي اتبعها الجيش للإجهاض، ما بين استخدام أدوية على شكل حقن وعمليات جراحية وأقراص اجهاض وأقراص أخرى تسبب النزيف، إلا أن هناك شيئا واحدا فقط اتفق عليه الجميع وهو أن غالبية الاجهاضات تمت دون موافقة النساء والفتيات الحوامل اللواتي كانت أصغرهن لا تتعدى الثانية عشر من عمرها.

استخدم أفراد الجيش وأطباؤه الخداع لإرغام النساء على تناول الأدوية والحقن بالادعاء أنها ادوية للوقاية من مرض الملاريا أو فيتامينات لمساعدتهن على استعادة عافيتهن ومن أجل صحة الجنين. كما استخدموا العنف والضرب والتهديد بالسلاح والتقييد لاجبار المتمنعات اللواتي ادركن المغزى من وجودهن في القواعد العسكرية قبل أن يعدن لبيوتهن، على ابتلاع الأقراص أو تخديرهن قبل حقنهن. ولم يتوقف التنكيل عند هذا الحد، فقد ذكرت التقارير والشهادات أن الجنود تلقوا أوامر بقتل الأطفال المتواجدين في معسكرات جماعة بوكو حرام حتى لو كانوا بعمر أيام فقط، للاعتقاد الساري في شمال نيجيريا أن الأبناء يرثون كل شيء من آبائهم حتى التمرد الجهادي.

ظهرت أيضاً في نفس الفترة، شهادات تلقتها منظمة العفو الدولية، تروي تعرض النساء للابتزاز الجنسي في مقابل الطعام والأدوية في المخيمات التي أقامها الجيش النيجيري والميليشيات التي انضمت له لمحاربة جماعة بوكو حرام في شمال البلاد، بعد أن جمعت فيها سكان القرى المهجرة وأجبرت النساء والفتيات على التواجد في أماكن منفصلة عن أفراد عائلاتهن من الرجال. ذكرت الشهادات المختلفة، والتي تجاوز عددها المائتين وخمسين، أن الانتهاكات الجنسية كانت تتم بشكل ممنهج ومنظم مما يشير إلى أن الجميع كانوا يعلمون ويصمتون وهذا يفسر عدم وجود أية تحقيقات داخلية من طرف الجيش في الاتهامات التي طالت أفراده.

جدير بالذكر بأن نيجيريا من الدول التي تمنع الإجهاض الآمن بشكل شبه تام، رغم ارتفاع نسبة اللجوء للإجهاض غير الآمن والتي تعتبر الأعلى في قارة افريقي وهذا بسبب ضغوطات المسلمين من ناحية والكاثوليك من ناحية أخرى، فرغم العداء الايديولوجي بين الطائفتين والذي راح ضحيته الآلاف، إلا انهم يتفقون دوما على قمع النساء ومناهضة أية مبادرة تحمي الحريات الفردية، فيتحد الصليب والهلال فجأة للحفاظ على امتيازاتهم الأبوية. القوانين، كما نعلم، وجدت فقط من أجل منع النساء من التحكم في أجسادهن وجنسانيتهن ووضعهن تحت وصاية الرجال، لكن من الممكن بسهولة تجاوزها وتجاوز رفض النساء للإجهاض، فالسلطة ومؤسساتها، والرجال بشكل عام، دائماً أعلم أكثر بما يناسبنا سواء كانت الأمومة القسرية أو الاجهاض القسري.

عادة ما نركز كنسويات من منطقة شمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا، عند الحديث عن الحقوق والحريات الجسدية والإنجابية على توفير موانع الحمل والتعريف بأنواعها ونطالب بشكلٍ خاص بحرية الإجهاض الآمن والأمومة الاختيارية كرد فعل بديهي، لأن مجتمعاتنا تقدس الأمومة بشكل خاص وترتعب من الإجهاض الآمن وتعتبره تشجيعاً على العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج واقصر طريق يمكن النساء من استعادة السيطرة على أجسادهن عبر التحكم في الإنجاب. رغم هذا، يظل النقاش المحيط بالإجهاض محصوراً في بعض الخطابات النسوية وليس كلها لأن هناك تيارات نسوية ترفض الاجهاض تماماً أو ترفض إتاحته دون شروط لأسباب دينية أو ايديولوجية، وتختزل المطالبات الحقوقية الانجابية في تباعد الولادات وتأخيرها فقط ومناهضة تشويه الاعضاء التناسلية للإناث حفاظاً على سلامة العلاقة الزوجية.

من الملاحظ أن المطالبات بالحق في الإجهاض هي الأكثر حضوراً في مساحات النقاش النسوية في منطقتنا، لكن هذا لا يعني عدم وجود فئات محرومة من الحق في الأمومة و/أو الإنجاب يتم تهميشها وإقصاؤها حتى من هذه المطالبات نفسها. ورغم وجود نساء عديدات لجأن لإنهاء الحمل عن سابق رغبة ووعي ودون أدنى تفكير أو تردد، إلا أن هناك العديد من النساء أيضاً ممن تخلين عن الحمل اضطراراً بسبب أحوالهن الاقتصادية أو الاجتماعية التي لا تسمح باستقبال طفل. قد يكون السبب، مثلا، الفقر أو عدم توفر الموارد المالية اللازمة للولادة التي تحترم الأم والطفل معاً بعيداً عن الاستغلال الرأسمالي، أو مراكز الرعاية التي تتكفل بالأطفال في أوقات العمل، أو مثلاً الانتماء لفئة تتعرض لمنع الحمل القسري أو التعقيم لأسباب عرقية أو بسبب القدرات الجسدية أو العقلية المختلفة والتي تسلب منها أهليتها. هناك أيضاً النساء الراغبات في الأمومة دون زواج واللواتي يتراجعن بسبب الوصم والخوف من القتل وبسبب الإصرار على نسب الطفل لأب لن يكون موجوداً أو غير راغب في الأبوة. والنساء المثليات أيضاً والعابرات. يحق لكل هؤلاء النسوة المطالبة بأمومة آمنة وأن يحظى أطفالهن بالعناية اللازمة والاعتراف بهم وبحقهم في الوجود كما هم، دون شروط ولا تبريرات، تماماً مثلما لا تحتاج الرغبة في إنهاء الحمل لشروط ولا مبررات، بل فقط لكونها أجسادنا ولكوننا المتحكمات الوحيدات فيها. من أجل هذا كله، علينا أن نطالب بالعدالة الإنجابية وليس فقط بالحقوق الإنجابية.

ظهر مفهوم العدالة الانجابية والذي صاغته مجموعة SisterSong وعرفته بكونه “حق الإنسان في الحفاظ على الاستقلال الجسدي والتحكم في الانجابية من خلال عدم إنجاب الأطفال، و/أو إنجاب الأطفال وتنشئتهم في بيئة آمنة ومستدامة” . مثله مثل العديد من المفاهيم التقاطعية وتلك التي تعنى بمن هم على الهامش، ظهر مفهوم العدالة الانجابية من واقع معاناة النساء والنسويات السود اللواتي طالما أقصين من النضال من أجل الحقوق الإنجابية والذي تلخص، مثلما يحدث اليوم في منطقتنا، حول الحق في الاجهاض الذي يخص النساء صاحبات الامتيازات فقط، كون الأخريات غير مرحب بأمومتهن من الأساس ويتم دفعهن لتقليل الإنجاب او منعه تماماً بحجج مختلفة تتشابه كثيراً وتتطابق أحياناً مع حجج النسويات البيض في السبعينات، بل وأخطر من ذلك، تستمد مبرراتها من اليوجينية النازية بشكل مباشر والتي أسفرت عن تعقيم قسري لما يزيد عن ٤٠٠ ألف شخص ما بين ١٩٣٣ و ١٩٤٥ وتعقيم النساء السود والمهاجرات بعد ذلك، بالإضافة إلى قتل الأطفال ذوي القدرات المحدودة والمصابين بأمراض مزمنة.

قضية الإجهاض القسري في نيجيريا وقصص تاريخ التعقيم القسري للنساء السود والنساء الأصلانيات والرقابة المفروضة على جنسانية وأجساد العاملات المنزليات المستقدمات في دول منطقتنا بإلاضافة إلى انتشار الخطاب الذي يلوم النساء الفقيرات واللاجئات على الإنجاب، يضعنا في موقف حاسم تجاه خطاباتنا، فنحن مطالبات بتبني مفهوم العدالة الإنجابية كأساس لنضالاتنا لكن أيضًا كأداة لمواجهة أي تعدي أو استغلال لأجساد النساء، سواء بفرض خيارات إنجابية عليهن أو بمنعهن منها. وحدنا من نضع السياسات والخيارات اللازمة حول أجسادنا، ونحن مطالبات بالنضال لأجل أن تكون هذه الخيارات محمية سياسياً واقتصادياً بحيث يصبح الإجهاض الآمن مثل الإنجاب الآمن حقاً أساسيًا و مشروعا من حقوق الإنسان لا يقبل الجدال أو التقييد مهما تغير شكل و توجه السلطة الحاكمة و ليقتصر رأي المؤسسات الدينية على قناعات الأفراد وحدهم و لا يتعداه ليفرض وصايته على أجساد النساء كملكية عامة.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات