نسوية الخيال الروائي:
كيف تؤثر أفضل الروايات الأمريكية مبيعاً على الحركة من أجل تحقيق المساواة للنساء
عرض: نولة درويش (*)
يتكون هذا الكتاب من 226 صفحة من القطع المتوسط، تبدأ بالشكر، ثم المقدمة، يليها خمسة أبوب، فالخاتمة، وينتهى الكتاب بالهوامش، والبيبلوجرافيا، وملحق. فى مقدمة الكتاب، تشير الكاتبة إلى الهجوم الذى تصاعد خلال ثمانينيات القرن العشرين على النسوية، والذي كان يذهب إلى أن النسوية تنتهى وفى حالة اضمحلال، مع تصوير النسويات باعتبارهن يفتقدن أي أنوثة، ويكرهن الرجال، ولهن طباع متقلبة. وهو ما دفع المؤلفة إلى السعى للتعرف على الصورة التي قدمت بها النسوية من خلال وسائط الثقافة الشعبية، وخاصة من خلال الروايات التي تحقق أعلى المبيعات، باعتبارها وسائط ذات تأثير قوى في تشكيل التصورات العامة. من التهم الموجهة حينذاك للنسوية، نجد وصفها بأنها تتخذ مواقف راديكالية إلى درجة مبالغ فيها، كما ذهب البعض إلى نعت النسويات بالأصوليات الجدد. وهناك من كان يرى أن المرحلة يمكن تسميتها بما بعد النسوية؛ أي أن النسوية أصبحت فعلاً ماضيًا نظرًا للمكاسب التي تحققت للنساء، وبالتالى لم يعد لها دور. غير أن بعض الباحثات النسويات رأين أن تعبير ما بعد النسوية كان يشير أكثر إلى المعاداة للتسوية عنه إلى التعبير عن النجاحات التي تحققت بفضل النضال النسوي. كما رأت البعض أن هناك تراجعًا، ومحاولات لإلقاء اللوم على النسوية التي جعلت النساء يستمتعن بمزيد من المساواة، مما تسبب في توليد عديد من المشاكل الأسرية، والاجتماعية والاقتصادية. وتضيف الكاتبة أن إحدى المشاكل التي برزت هي أن بعضا ممن كن يسمين أنفسهن نسويات، كن بالذات هن اللاتي سعين إلى هدم النسوية؛ وهو الأمر الذي تبرره بتعريف مصطلح النسوية؛ فقد انشطرت الناشطات النسويات خلال الثمانينيات إلى مئات المجموعات التي ركزت على قضايا مختلفة ومتنوعة؛ وكانت لكل مجموعة منها تعريفها الخاص عن النسوية، أي أنه كانت هناك أشكال مختلفة من النسوية. كما تشير إلى أنه في الوقت الذي يتعمق فيه تعدد التيارات النسوية، سواء فيما بين الناشطات أو في الصفوف الأكاديمية، فإن الإدراك الشعبي قد تطور نحو تشكيل صورة أحادية ونمطية للنسوية، وهو ما تسميه دور الإعلام في بناء “نسوية متخيلة”؛ وتشرح لنا أن استعمالها لهذا المصطلح يشير إلى معنيين: فأولا، ترى أن هذه النسوية متخيلة، لأنها مصنوعة فعليا من الخيال، بمعنى أنها جاءت نتيجة لخيال الكاتبة أو الكاتب؛ فبينما قد تحمل بعض النسويات جزءًا من الخصائص المنسوبة إليهن، لا تحمل سوى قليل منهن (أو ربما إياهن) جميع الخصائص التي تلصق بهن؛ كما أن هذا التصور خيالى لأنه ينمو من رحم القصص الخيالية التي تصنع الثقافة الشعبية مثل الروايات، والأفلام، والبرامج التليفزيونية، والمجلات، إلخ. يحمل الباب الأول عنوان “السياسات النسوية والخيال الشعبي”، وهو يقدم الخلفية التاريخية والنظرية اللازمة لتحليل النسوية المتخيلة المشار إليها في الفقرة السابقة. يبدأ هذا الباب بتناول الوثائق النسوية الصادرة في الستينيات والسبعينيات، واستكشاف العلاقة بين النسوية والأدب من خلالها. فقد مثل الأدب أداة سياسية لعديد من الكاتبات والناشرات النسويات المنتميات للموجة الثانية من النسوية، من حيث إنه كان يستطيع أن يساهم في رفع وعى القراء، ونشر المعلومات حول النظريات النسوية، وربما أيضًا إحداث ثورة اجتماعية. وكان من الواضح تمامًا لأولئك النسويات أن الأدب النسوى يجب أن يبقى بين أيدي الناشرات النسويات خوفًا من أن يتم تشويه الأفكار المقدمة. ثم يمضى الباب في تناول الجدل الذي دار مع انتقال هذا النوع من الإصدارات إلى عامة الناشرين؛ وفي حين ترى البعض أن الروايات الشعبية قادرة أن تقوم بما يسمى “الفعل الثقافي”، فإن مؤلفة هذا الكتاب تؤمن بأن هذه النوعية من الروايات تكرس للوضع القائم، وأن تأثيرها في المقام النهائي له طابع محافظ. أما الأبواب الأربعة التالية، فهي تركز على روايات وأفلام محددة. الباب الثاني يقدم لنا روايتين للكاتبة مارلين فرنش: “غرفة النساء” (1978) و”القلب الذي ينزف” (1980)، كما يتناول النسخة التليفزيونية للرواية الأولى. تتبني فرنش في رواية “غرفة النساء” أسلوب الاعتراف، مع التركيز على الجوانب الشخصية، والابتعاد عن الأبعاد السياسية. وترى لودرميلك أن هذا الأسلوب الذي يعكس البعد الشخصى ويحط من قدر الفعل السياسي له طابع ممل ويثير الاكتئاب، كما أنه. الرجل باعتباره العدو. أما في حالة الفيلم التليفزيوني المأخوذ من هذه الرواية، فالصورة المقدمة لنا تبدو مختلفة تمامًا، حيث يقدم الرجال والنساء ضحايا بالقدر نفسه، وعلى الرغم من الصراعات الدائرة بين الطرفين، ينتهى الفيلم نهاية سعيدة كما يحدث كثيرًا في الدراما التليفزيونية. بالنسبة للرواية الثانية، فإنها تتبني شكلاً آخر للتصوير الأنثوي، أي الرومانسية؛ وهو ما تعده المؤلفة نوعًا آخر من النسوية المتخيلة حيث يتغلب الحب والرغبة الجنسية مرة أخرى على البعد السياسي. تنتهى لودرميلك إلى أنه رغم تصنيف هذه الأعمال بالنسوية، فإنها ترى أن الأشكال الأدبية التي قدمت بها من شأنها تكريس الأمر الواقع، بمعنى أن الوجوه النسوية الأساسية المقدمة في الروايتين تكره الرجال، وتلقى عليهم اللوم فيما يتعلق بجميع مشاكلهن؛ ونظرًا لأنهن يحملن تلك المشاعر، فإنهن عاجزات عن إقامة علاقات مع الجنس الآخر؛ وهو الأمر الذي قد يفزع القارئات، خاصة الأصغر سنًا اللاتي لا يرغبن في الانضمام لصفوف كارهي الرجال، وغير مستعدات لقضاء حياتهن وحيدات. كما أن الوجوه المقدمة التي تركز على الحياة الخاصة وتبتعد عن العام، والتي تحصر النشاط النسائي في الحديث والتأمل بدلا من القيام بأي عمل عام قد يتسبب في أذي لصاحبته، يكرس فكرة إمكانية التغيير على المستوى الفردي (الطلاق من الزوج، الحصول على عمل..) مع نفى إمكانية التأثير على التغيير الاجتماعي. الباب الثالث يتناول رواية ذائعة الصيت لجون إرفنج بعنوان “العالم وفقًا لجارب” (1979)؛ وهي رواية تبدو ظاهريًا مساندة للأفكار النسوية؛ فهذه الرواية تضع القضايا النسوية في قلب الحبكة الدرامية، وتقدم وجوهًا نسوية متعددة. ونظرًا لأن هذا الكاتب يقدم الوجوه النسوية الأساسية بصورة كاريكاتورية، فإنه بذلك يقضى على تحالفه الظاهرى مع النسوية؛ كما أنه يشير لنا ضمنيًا إلى أن النسوية أمر يجب التخوف منه، ومصدر للتعرض للسخرية. فمن الصور التي يقدمها إرفنج، قيام النسويات بقطع ألسنتهن للاحتجاج على عمليات الاغتصاب؛ وبالتالي، فهو يساهم في تقديم تصور للنسوية يتسم بالتزمت، والصمت، وانعدام الفاعلية. وعليه، فإن صاحب رواية “جارب” يتبنى هو أيضًا “النسوية المتخيلة” مع إبراز صور نمطية للنسويات تتسم جميعها بالطابع السلبي. في الباب الرابع، تقدم لنا المؤلفة رواية جون أبدايك “ساحرات إيستويك” (1984)؛ وتشير إلى أن أبدايك كان قد أعلن في مقابلات إعلامية أنه كان ينوى تقديم تحليل متعاطف مع النسوية. إلا أنه – على غرار إرفنج- اختار هو الآخر تمثيل النسوية من خلال وجه يحمل إشكالية: أي الساحرة الشريرة. ونظرًا لأن فكرة الساحرة الشريرة محاطة بأساطير وتصورات نمطية، تصبح هذه الرواية منغمسة فيما تسميه جابرييل شواب “نمط صناعة الساحرات” ومع ذلك، تعبر الذي يستعمل للتحكم في سلطة النساء. وعلى الرغم من النوايا المعلنة لأبدايك، فإن هؤلاء الساحرات يظهرن مرة أخرى بلا قوة، وغير مسيسات، ومفتقدات للفعالية. ومن اللافت للانتباه أن الفيلم المأخوذ من هذه الرواية يقدم صورة أكثر إيجابية للنسوية المتخيلة مقارنة بالكتاب؛ فهو يعلى من قيم التآخي بين النساء، ويمنحهن قدرًا من السلطة الفعلية؛ غير أنه لا يشير في أي مكان إلى أن النساء يستعملن هذه السلطة من أجل إحداث التغيير الاجتماعي. ومع ذلك، تعبر الباحثة عن استغرابها العميق من الطابع الأكثر تقدمًا للفيلم مقارنة بالرواية، حيث إن نادرًا ما تناقش صناعة السينما في هوليوود قضايا ذات طابع ثوري؛ وهو ما يشرحه الناقد السينمائي روبين وود بقوله: “في أفلام هوليوود لا توجد “حركة نسائية”، حتى في أكثر الأفلام تقدمية؛ فهناك فقط نساء كأفراد يشعرن بالقمع على المستوى الشخصي. لم يؤد قط الاهتمام المتقطع لهوليوود بالقضايا الاجتماعية إلى إنتاج أفلام ذات طابع ثورى جذري.. فلا بد أن يصاحب عرض مشكلة اجتماعية بطريقة واضحة بحيث يمكن حلها في إطار النظام القائم، أي الرأسمالية الأبوية”. وأخيرًا، تستنتج لودرميلك أن النسويات المتخيلات عند أبدايك لا يختلفن عن الصور التي يقدمها الكاتبان السابقان، من حيث إن حياتهن الجنسية تسيطر عليهن، وتتخطى الجوانب السياسية؛ ولكن الفرق هنا هو أن النسويات المتخيلات يتخلين عن العمل السياسي من أجل إقامة علاقات مع الجنس الآخر، مع الانتهاء إلى الدخول في أشكال من الزواج شديد التقليدية. يتناول الباب الخامس رواية أتوود (1986) التي تنتقد- من خلال الشكل الأدبى واللغة المختارة – نظريات النسويات الفرنسيات اللاتي يرون أن بعض أشكال الكتابة الإبداعية قادرة على كسر النظام الاجتماعي وإحداث التغيير في المجتمع. فالرواية تشير إلى أن تلك النظريات لا تستند إلى ممارسات عملية وأنها غير قادرة فعليا على تحويل المجتمع. وعلى الرغم من أن أتوود تعلم جيدا أن هناك نسويات تلك النظريات، وأن السياسات النسوية قادرة على اتخاذ مسارات متعددة، تتساءل الباحثة كم شخص من بين المليون قارئ الذين اشتروا الكتاب على علم بهذا الموضوع؛ ونظرًا لأن معظم القراء يجهلون ذلك، فإن معظمهم أيضًا سيتخيل أن جميع النسويات يتبنين هذه الفكرة. كما تتضمن الرواية نقدًا للفلسفات الثقافية النسوية، وترى أن النسوية الثقافية تؤذى النساء أكثر من مساعدتهن. وهنا تقوم هذه الانتقادات بخلق نسوية متخيلة تتسم بغياب الفاعلية، والعجز عن النهوض بحياة النساء بأي شكل من الأشكال. أما الفيلم المستمد من الرواية، فهو – على غرار ما حدث مع فيلم “جارب”- نجح في تجنب أي إشارات واضحة للنسوية؛ وبالتالي، جاء خاليًا من الانتقادات التي وجدناها في الرواية، وهو أمر إيجابي في حد ذاته. في خاتمة هذا الكتاب “نحو التسعينيات: النسوية المتخيلة والسياسات النسوية”، تستنتج الباحثة أن النسوية المتخيلة في الروايات والكتب المقدمة في الأبواب السابقة تقدم صورة أحادية ونمطية خلافًا للنضال النسوي الذي كثيرًا ما يتسم بالتعدد والتنوع، وصولاً أحيانًا إلى الاختلاف. ويمثل الموقف من الجنس بعدًا آخر للنسوية المتخيلة، حيث يبدو التناقض بين الخيارات السياسية لهؤلاء النساء والدخول في علاقات مع الجنس الآخر، مع التأرجح ما بين الاستمتاع بالعلاقات الجنسية والشعور بالذنب المترتب على هذا الاستمتاع. ومع هذا، لا تبدو العلاقات المثلية بديلاً مطروحًا بإلحاح في تلك الروايات. كما تظهر لنا عديد من الوجوه المطروحة على هيئة ضحايا، ليس من قبل الرجال فقط، بل أيضًا ضحايا لأجسادهن التي تتسبب لهن في عذاب لا ينتهي، وصولاً إلى العبء الثقيل للإنجاب. ومن السمات اللافتة للانتباه في النسوية المتخيلة إنها تقدم على هيئة حركة صامتة. وبالتالي، ليس غريبًا أن نجد النسوية المتخيلة معدومة الفاعلية، حيث لا تقوم الوجوه المتضمنة في الروايات المذكورة بتقديم أي شيء، بمعنى أنهن غير فاعلات. ثم تنتقل لودر ميلك إلى ظاهرة النسوية الجديدة في التسعينيات حيث تستعرض عدد من الكتب التي أثارت جدلاً إعلاميًا. وتقول إن هذه الكتب تحمل بعض القسمات المشتركة رغم اختلاف مجالات اهتمامها، فكثيرًا ما تبدأ بفرضية أن الأمريكيات – خاصة الشابات – لا يرغبن في حمل لقب نسوية، ليس بسبب التصورات التي تولدها الأنماط الإعلامية أو أي مشاكل اجتماعية أو بنيوية أخرى، ولكن تعود هذه الفرضية إلى التغيير الحادث في فكر الموجة الثانية للنسوية منذ بدايتها. وهن يرفضن النظريات النسوية والممارسات السياسية التي تشير إلى أن مشاكل النساء تعود إلى البنية الاجتماعية، أو أن جميع المؤسسات – من الدولة إلى الأسرة- تساهم في استمرار الهيمنة الذكورية؛ وإنما يرون أن جميع المشاكل ذات طبيعة شخصية، ويمكن حلها من خلال الإصلاح القانوني والتغيير الفردي. كما تبدأ هذه الكتابات في تقسيم النسوية ما بين نسوية “جيدة”. ونسوية “سيئة”، حيث تحمل هذه الأخيرة جميع معالم النسوية المتخيلة، فهن، على سبيل المثال يضعن في خانة النسوية الجيدة تعبير “نسوية الإنصاف”، بينما يقع تعبير “نسوية النوع” في الخانة السيئة. وترى الباحثة أنه من خلال تقديم نموذجين فقط من النسوية، تتناسى هؤلاء الكاتبات التنوع الكبير الموجود في صفوف النسوية. بعد ذلك، تعرض لنا الباحثة مجموعة أخرى من الكاتبات اللاتي سمين أنفسهن بالموجة الثالثة ونشرن عددًا من الكتب خلال التسعينيات وفي بدايات القرن الجديد. وعلى الرغم من أن تلك الكتب قد تناولت عديدًا من القضايا المتنوعة من وجهات نظر مختلفة، فإنها تقتسم بعض السمات المشتركة هي الأخرى. فهن لا يرفضن مباشرة الموجة الثانية للنسوية، بل إن معظمهن ينظرن إلى أنفسهن كامتداد لها، متبنيات بعض أفكارها، ومكيفات بعضها الآخر، ورافضات للبعض الثالث. ومع ذلك، فإنهن يركزن هنا أيضًا على العمل الفردي، خلافًا لتركيز الموجة الثانية على أهمية العمل الجماعي. وهو ما يمكن تفسيره أو إسناده إلى معالم عصر العولمة التي تتسم بتعميق النزعات الفردية، والتوجه نحو اختيار وتفضيل الحلول الفردية. هذا الكتاب يطرح عديدًا من القضايا المهمة، خاصة فيما يتعلق بتأثير الخيال الروائي على تشكيل النظريات والتصورات، أي الدخول في المجال العملي، ونسف الجهود النسوية الراديكالية من خلال طرق ملتوية، قد لا يعيها كثيرون، ولكنها تساهم في تشكيل وعيهم. واللافت للانتباه أن أغلبية الأعمال المذكورة في هذا الكتاب تعود إلى نساء، وهو ما يتطلب إعادة التفكير في كيفية التأثير على الإبداع النسائي نفسه، وفي تشجيع مزيد من الإبداع النسوى البديل. وأخيرًا، يطرح علينا الكتاب إشكالية هيمنة النزعات الفردية، وإزاحة التركيز على التحرك الجماعي، على الرغم من أن التغيير الفعلى لا يمكن أن يرتكز على عمليات إصلاح جزئية هنا أو هناك، خاصة عندما يتعلق الأمر بالوعي الجمعي وبقضايا تتسم بكثير من التعقيد مثل قضايا النساء وسط مجتمعات ذكورية.الهوامش
(*) Kim A. Loudermilk, Fictional Feminism: How American Bestsellers Affect the Movement for Women’s Equality. New York & London: Routledge, 2004..