إعادة تأمل الإسلام والديمقراطية الليبرالية:
النساء الإسلاميات في السياسة التركية
عرض: مريم النقر*
يرتكز كتاب يشيم أرات “إعادة تأمل الإسلام والديمقراطية الليبرالية: النساء الإسلاميات في السياسة التركية” على دراسة عن تجربة النساء في حزب رفاه – الرفاهية – الإسلامي التركي. الكتاب من القطع المتوسط ويتكون من 116 صفحة وصادر عن جامعة نيويورك، وتعمل يشيم أرات أستاذة للعلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة بوغازدجشي في اسطنبول. وينقسم الكتاب إلى خمسة فصول، يتناول الأول السياق التركي الذي نشأت فيه تجربة النساء الإسلاميات، ويتحدث الفصل الثاني عن حزب رفاه نفسه وآليات العمل داخله. أما الثالث فيتضمن قصص بعض نساء رفاه مع الحزب و كيفية انضامهن إليه، ويفصل الرابع دور وأنشطة لجان النساء في الحزب. أما الخامس فيتناول نظرة نساء رفاه للإسلام وفهمهن للأحكام المتعلقة بالمرأة المسلمة.
ويعرض الكتاب لكيفية إنشاء لجان السيدات بحزب رفاه عام 1989 بعد ست سنوات من إنشاء الحزب نفسه وإغلاقها مع الحزب في 1998 بقرار من المحكمة الدستورية. وقد استطاعت لجان النساء في خلال ست سنوات فقط من إنشائها ضم مليون سيدة تركية لعضوية الحزب. جذبت تجربة نساء رفاه اهتمام العديد من وسائل الإعلام لتفردها ونجاحها. فالاعتقاد السائد كان دائمًا هو عدم اهتمام النساء بالسياسة، كما أن انتماء نساء رفاه لحزب إسلامي يفترض به تشجيع المرأة على أداء أدوار تقليدية بعيدًا عن الساحة السياسية ويشكل جزءًا من السياق السياسي لدولة علمانية أبرز تميز التجربة.
منذ ألغى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية وأعلن قيام الدولة التركية العلمانية في 1923 والصراع بين الإسلاميين والعلمانيين لم يتوقف. تبنى أتاتورك مشروع تحديث للدولة استلهم القيم والقوانين الغربية في مواجهة القيم والشريعة الإسلامية في دولة يدين معظم سكانها بالإسلام. قام مشروع التحديث التركي على فصل الدين عن الدولة مما أثار اعتراض الإسلاميين لكن لم يلتفت إليهم أحد في ظل نظام سياسي أحادي الحزب استمر حتى 1950. لكن عندما فتح الباب للأحزاب الأخرى أصبحت الفرصة سانحة للإسلاميين للسعي لتطبيق مبادئهم من داخل النظام السياسي. لم يكن حزب رفاه هو الحزب الإسلامي الأول في تركيا حيث سبقه حزبان منذ 1970 كان آخرهما ميللي سيلاميت، ولكن كل منهما أغلق – مثل حزب رفاه نفسه – بدعوى تهديد قيم الدولة العلمانية والليبرالية.
في ظل حالة الاستقطاب القائمة في المجتمع التركي تسعى أرات للاقتراب من تجربة نساء رفاه لدراسة التفاعل بين الدولة العلمانية الليبرالية والإسلام. فالنساء يقعن في قلب المواجهة بينهما حيث يستمد كل منها جزءًا كبيرًا من تعريفه من تحديد أدوار وحقوق ومسئوليات المرأة داخله. هل فعلاً تنتمي نساء حزب رفاه للمعسكر الإسلامي فقط؟ كيف يحددن هوياتهن؟ ما هي الحدود التي كان عليهن مفاوضتها لتحديد هذه الهويات؟ جميعها أسئلة طرحتها «أرات» لتدرس التنوع والثراء الذي صنعه تعايش الإسلام مع العلمانية ولتختبر مدى مرونة الحدود التي تفصل بينهما. ففي تحليلها الأخير ترى «أرات» أن نجاح نساء رفاه تحقق عن طريق تخطيهن للكثير من الحدود مثل الحدود بين السياسي والخاص والحدود بين الديني والعلماني، بينما فشلن عندما عجزن عن تخطي “السقف الزجاجي” الذي فصلهن عن الرجال في حزب رفاه. وقد اعتمدت «أرات» في كتابها على مقابلات شخصية أجرتها مع نساء رفاه وبعض رجال الحزب اختارت فيها معظم النساء عدم ذكر أسمائهن ليتمتعن بحرية أكبر في الحديث.
بشرح الفصل الأول من كتاب «يشيم أرات» السياق الذي نشأت فيه تجربة النساء الإسلاميات في تركيا.
ارتبط مشروع تحديث الجمهورية التركية بتحرير المرأة وزيادة فرصها في التعليم وممارسة السياسة. ففي عام 1926 تم تطبيق القانون المدني بدلاً من القانون الإسلامي مما ترتب عليه إلغاء تعدد الزوجات وحق الرجل في إتمام الطلاق بمفرده، كما تمت مساواة المرأة بالرجل في الميراث وحق الوصاية على الأطفال والشهادة في المحاكم. وبرغم معارضة الإسلاميين لمشروع التحديث وتأثره بالغرب فإن الدولة التركية استمرت في تعليم المرأة ومنحها حق التصويت لأن تحسين مكانتها كان ضامنًا لاستمرار ونجاح مشروع التحديث. ولأن هدف المؤسسين الأوائل للجمهورية كان تكوين دولة حديثة قومية فقد استلهموا التاريخ التركي قبل الدولة العثمانية وبينوا كيف أن التراث التركي القديم الذي أهل تركيا لتصبح قوى عظمى حرص على تمكين المرأة حيث كانت القرارات الرسمية توقع باسم الرجل وزوجته. كذلك فإن تحرير المرأة حافظ على الشكل الديمقراطي لنظام سياسي ظل نظامًا أحادي الحزب حتى 1950.
استفاد الجيل الأول من النساء التركيات – بعد الإصلاحات– من الفرص التي أتاحتها لهن الجمهورية وعملن على الحفاظ عليها. لذا ارتبطن تمامًا بالدولة وأصبح هدفهن ليس فقط تطوير قدراتهن ولكن تحقيق أهداف الدولة الكمالية. وفي ظل هذا التوجه القومي تم إغفال الفروق الفردية بين امرأة وأخرى، كذلك ظلت القيم الأبوية تحكم الحياة العائلية في تركيا برغم اختفائها إلى حد كبير في المجال العام. فكما تم تشجيع المرأة على إكمال تعليمها وشغل تعد وظائف مرموقة تم تشجيعها أيضًا على لعب الأدوار التقليدية، فأنشئت المعاهد التي تعد المرأة لتكون زوجة عصرية تنشئ أبناءها على قيم الجمهورية الجديدة، فحتى في الغرب الذي تم استلهام قيم التحديث منه ظلت المرأة تلعب نفس الأدوار التقليدية.
ولكن المرأة التركية زادت بسرعة من فرصها في الترقي في الحياة العملية بمعزل عن المد النسوي في الغرب. ففي الستينيات مثلاً بلغ عدد خريجات كليات الطب ربع إجمالي الخريجين وفي السبعينيات بلغ عدد المحاميات الخمس على مستوى تركيا والثلث في اسطنبول. لكن ظلت مشاركة المرأة السياسية محدودة، فحتى في الثمانينيات لم تتعد نسبة عضوات البرلمان النسبة التي حققنها عام 1935 عندما أخذت المرأة حق التصويت وهي 4.6%، وذلك بسبب تحيز الرجال ضدهن؛ كما أوضحت النساء العاملات في مجال السياسة. كذلك منعت الدولة النسويات من تكوين أحزاب سياسية، وعرقلت اتحاداتهن المستقلة عن الدولة.
لكن في الثمانينيات بدأ جيل آخر من النسويات في الظهور، جيل تربى في ظل القيم الجديدة ولم يشهد ما قبلها وبالتالي لم يشعر بأنه يدين بحقوقه للدولة الكمالية. بالعكس نظرت النسويات لنموذج تحرير المرأة الذي ترعاه الدولة نظرة نقدية. ترى «أرات» أن الفكر النسوي لعب دورًا كبيرًا في تركيا، ليس فقط لنجاحه في تحسين ظروف المرأة والعمل على تحديث القوانين الخاصة بها في نظام قضائي لم يتغير منذ العشرينيات ولكن أيضًا لأنه ألهم النساء الإسلاميات والمعارضة السياسية بعد انتقاده احتكار الدولة للتحدث باسمهن ككتلة واحدة وليس كأفراد لهن رؤى وطموحات مختلفة. فبرغم اعتماد الدولة التركية العلمانية كمبدأ لبناء دولتها الحديثة، فإنها أهملت القيم الليبرالية حيث إنها لم تحترم فردية الفرد وعملت على تشكيل هوية جماعية للأتراك. لذا رأت زعيمات الحركة النسوية أن الدولة الكمالية حررت المرأة بما يتفق مع حدود مشروعها وبما رأته مناسبًا لهذا المشروع، وبدأن في الحديث عن مشكلاتهن الخاصة وتحريكها للمجال العام. فبالنسبة لهن لم يكن الدفاع عن القيم الفردية نوعًا من الأنانية، بل هو حق أصيل تمكن من خلاله من طرح خطاب تحرري جذري دفع بمواضيع مثل العنف الأسري والتحرش الجنسي والكبت الجنسي للمرأة على الساحة السياسية.
بجانب النسويات العلمانيات ظهرت الإسلاميات اللاتي توقعن من الدولة أن تحترم رغبتهن في ممارسة دينهن كما يفهمنه. وبالطبع جاء موضوع غطاء الرأس على رأس الأجندة السياسية للإسلاميات، حيث رأينه حقًا دستوريًا لهن بموجب المادة 24 من دستور 1982 التي تقر بحق التعبير الديني، والمادة 10 التي تمنع التمييز أمام القانون بسبب اختلاف الدين أو اللغة أو العرق أو النوع. كذلك رأت الإسلاميات أن منعهن من إكمال تعليمهن والالتحاق بالوظائف الحكومية بسبب غطاء الشعر تمييز مزدوج بسبب الدين وبسبب النوع أيضًا حيث إن الرجال الذين يؤمنون بوجوب ارتداء المرأة المسلمة لغطاء شعر يتمتعون بحقوقهم الكاملة في الدراسة والعمل في وظائف الدولة التركية. ويختلف شكل غطاء الرأس الذي تريد الإسلاميات إقراره عن غطاء الشعر التركي التقليدي حيث إن الأخير صغير الحجم لا يغطي الكتفين ويربط بعقدة صغيرة تحت الرقبة تظهر عادة الشعر من الأمام.
ظهرت تفسيرات عديدة لرغبة هؤلاء النساء في ارتداء حجاب الشعر منها: ازدياد نفوذ الإسلاميين والمدارس القرآنية وظهور حزب رفاه على الساحة وما مارسنه من تأثير على الجماهير. كذلك فسره بعض علماء الاجتماع كرد فعل للفهم السطحي لقيم الحداثة. ورأى بعض العلمانيين أن هؤلاء النساء تعرضن نوعًا للاستغلال وغسيل المخ. ونتيجة لذلك بدأت بعض النساء المنتميات للأجيال الأكبر سنًا في تكوين جمعيات نسائية “كمالية” –أي تدافع عن فكر كمال أتاتورك وقيم الجمهورية التركية– وسعين لزيادة فرص تعليم المرأة حيث رأين أن الجهل هو سبب الرغبة في العودة لغطاء الرأس وأن القيم العلمانية التي عززت من حقوقهن في المجتمع مهددة بهذا المد الإسلامي.
على الجانب الآخر فإن مجموعات أخرى من النسويات الأصغر سنًا دافعن عن حق الإسلاميات في ارتداء غطاء الرأس إن رغبن في ذلك. فالزعم أن النساء الإسلاميات قد تم استغلالهن وخداعهن فيه تعزيز لفكرة عدم أهلية المرأة لاتخاذ قراراتها بنفسها وبالتالي يشجع السلطة الأبوية على فرض الوصاية على النساء بشكل أكبر. كذلك رأت النسويات أن عدوهن الحقيقي هو التمييز في الحقوق بين الجنسين وأن ذلك موجود في الإسلام أيضا، لذا فإن واجبهن الحقيقي هو إظهار هذا التمييز وليس مساعدة الدولة على سجن الإسلاميات داخل منازلهن وحرمانهن من فرص الترقي في المجتمع. وبرغم هجوم الإسلاميات – والإسلاميين– على النسويات واتهامهن بتقليد الغرب والسطحية فإن الإسلاميات تأثرن بالتراث النسوي وظل التفاعل موجودًا بين الاتجاهين ليتطور خطاب الإسلاميات عمومًا ويصبح أكثر اعتدالاً واحترامًا لإسهامات النسويات.
وتدرج موقف الدولة من قضية حجاب الشعر وإن اتسم في غالبه بالرفض، حيث اعتبر رمزًا لفلسفة ورؤية للحياة تتعارض مع قيم الجمهورية التركية وتهددها. ففي الثمانينيات وافق مجلس الوزراء على قرار يجبر الموظفات والطالبات بعدم ارتداء غطاء للشعر. وفي عام 1984 وتحت ضغط الأحزاب الإسلامية وافق مجلس التعليم العالي في تركيا على السماح للسيدات بارتداء “بونيه” أي غطاء يغطي الشعر فقط ويربط خلف الرقبة باعتبار أنه رداء عصري. لكن الضغط جاء من العلمانيين هذه المرة ليتم إلغاء القرار، ثم حكمت المحكمة الدستورية في 1989 بعدم دستوريته. وعندما تم تصعيد الموضوع للمفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان حكمت بأحقية الدولة العلمانية في تقييد المارسات الدينية في المجال العام لتسمح بتعايش أصحاب الأديان المختلفة مع بعضهم البعض خاصة في الدول التي تدين أغلبيتها بدين واحد وذلك لحماية الأقليات من التمييز ضدهم. ولكن هذا لم يمنع استمرار الاحتجاجات والمواجهات بين التيار الإسلامي والدولة التركية.
يتناول الفصل الثاني خطاب حزب رفاه للجمهور وتنظيمه الداخلي لتوضيح السياق الذي نشأت فيه لجان المرأة في الحزب
في البداية تحاول «يشيم أرات» البحث في أسباب صعود الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في السياسة التركية ونجاحها في الاقتراب من الناس، وتفسر ذلك بأسباب تعود للثقافة السياسية وأخرى للاقتصاد السياسي. النوع الأول من الأسباب يرجع لفشل الفلسفة الكمالية بعمليتها وعقلانيتها في الوصول لقلوب الأتراك، فمثلاً تستشهد أرات بقول شريف ماردين أن الكمالية عانت من” السطحية ونقص الروابط العضوية مع المجتمع” وهو ما أنشأ فراغًا في حياة الناس سارعت الأحزاب الدينية لتملأه.
أما بالنسبة للأسباب الاقتصادية فتشير «أرات» للهجرة الداخلية من الريف للحضر في تركيا التي بدات في الخمسينيات وتسارعت وتيرتها بمرور السنين. واجه الريفيون صعوبات في التأقلم مع حياة المدن وقيمها الثقافية والاقتصادية، لذا وجدت دعوة الأحزاب الإسلامية مدى لديهم. كذلك تشير أرات للتأثيرات السيئة للعولمة الاقتصادية على قطاعات كبيرة من البشر لصالح قلة من الأغنياء في جميع أنحاء العالم. لكن في تركيا بالذات ارتبط تأثير العولمة بمشروع التغريب التركي مما زاد من نفور الطبقة الدنيا والفئات الدنيا من الطبقة الوسطى من هذا المشروع.
ثم تشرح أرات الخطاب الذي توجه به حزب رفاة للجماهير والذي زادت نسبة التصويت لصالحه من 2/ 7 من نسبة الأصوات عام 1987 إلى 4/ 7 في انتخابات 1995. حافظ حزب رفاه على صيغة “النظرة القومية” التي ورثها من حزب ميللي سيلاميت الإسلامي الذي سبقه على الساحة السياسية، وبدأ رفاه في تعريف نفسه ضد “أحزاب المحاكاة” التي تحاكي الغرب وتتشبه به. فمثلاً أعلن رجال الحزب أنهم حزب “عدالة” يهدف لاستقلال تركيا عن تبعية الغرب والعمل على بناء عالم جديد تستعيد فيه بلادهم مكانتها في مقابل الأحزاب الأخرى التي هي أحزاب “سلطة” تتبع الغرب وتطمس الهوية التركية.
فمن الناحية الاقتصادية دعا حزب رفاه لنظام اقتصادي أكثر عدلاً لا يعمل بنظام الفوائد البنكية والتي رآها الحزب سبب الظلم الواقع على الفئات الفقيرة حيث يزداد الغني س ثراء بينما يزداد الفقير فقرًا. كما أن هذه الفوائد تستخدم في الإنفاق على بذخ الحكومة وفي دعم صادرات وهمية. كذلك نبذ الحزب القيم الاستهلاكية الرأسمالية والتبذير الذي يؤدي لضياع الموارد، ورأى أن الحل لمشاكل البلاد الاقتصادية يكمن في زيادة الإنتاج وتدشين الصناعات الثقيلة لخلق فرص عمل مع وقف سك النقود الذي يزيد من التضخم الاقتصادي.
أما من الناحية السياسية فقد وصف حزب رفاه “أحزاب المحاكاة” بالسعي لخلق دولة تتمثل دور “السجان” أي أنها دولة قامعة تعتمد سياسة المواجهة مع مواطنيها وماضيهم وتاريخهم، في حين أن دولة حزب رفاه ستتمثل دور “النادل” حيث تعي مطالب الناس وتراعي حقوقهم وحريتهم كما تسعى لدمج الدولة والشعب. كذلك توسع الحزب في نقد التوجه الأخلاقي لأحزاب السلطة التي تسمح بعرض أفلام مسيئة على شاشة التليفزيون وتتلقى العديد من القروض من الخارج بحجة دعم السياحة ويتم إنفاق ملايين الدولارات في إنشاء صالات القمار. كما انتقد نشر الصور العارية في الصحف وانتشار الرشوة والفساد.
تطرق برنامج الحزب أيضًا لموضوع الأكراد في تركيا وانتقد تعامل السلطة العنيف معهم واعتبره قائمًا على نظرة عرقية تتجاهل العديد من الروابط بين الأتراك والأكراد. فالأكراد عاشوا وحاربوا جنبًا إلى جنب مع إخوانهم تحت راية الخلافة العثمانية وبالتالي يجب تنمية المناطق التي يعيشون بها. كذلك انتقد الحزب منع الدولة التركية الأكراد من استخدام لغتهم الأم في مدارسهم ووسائل الإعلام الخاصة بهم. ولم يشمل الحزب الأكراد فقط بتوجهه القومي، بل تعهد بقيادة الدول الإسلامية في تحالفات ومنظمات تخدم مصالح الدول الإسلامية في مواجهة الأمم المتحدة وحلف الناتو التي تخدم مصالح الغرب فقط. وأوضح الحزب أن مكان تركيا الطبيعي يجب أن يكون وسط الدول المسلمة وليس الدول المسيحية الأوروبية.
لكن ذلك لم يمنع حزب رفاه من التصويت لرفع الحصانة عن أعضاء حزب الديمقراطية المؤيد للأكراد بعد اتهامهم بالدعوة للانفصال عن الدولة التركية. وعمومًا أثارت رؤية الحزب للديمقراطية جدلاً في الوسط السياسي التركي حيث أظهر الحزب سلوكًا غير ليبرالي نحو الأكراد والغرب والكماليين وغيرهم. كذلك نسب لإرباكان قوله إن الحزب سيصل للسلطة “بالدم أو بدون دم“، كما نسب لأردوغان قوله إن الديمقراطية وسيلة وليست غاية بالنسبة للحزب. مع ذلك فوجود الحزب على الساحة السياسية وسع من نطاق المشاركة السياسية لأنه استطاع الوصول للفئات المهمشة وتوصيل صوتها للبرلمان، کما أن دعوة الحزب لحرية الممارسة الدينية مثلت تحديًا لمفهوم الدولة للعلمانية ولحدود الممارسة الليبرالية داخلها.
وتلاحظ «أرات» أنه بالرغم من أن برنامج حزب رفاه اعتمد في أساسه على دور المرأة داخل البيت كمعلمة وممارسة للقيم الإسلامية في مواجهة قيم الغرب فإن برنامج الحزب خلا من أي إشارة للمرأة. أي أنه ناقش بعض المشاكل المتعلقة بالأسرة و لم يخاطب المرأة بوصفها امرأة ولكن كجزء من أسرة. ثم ظهر في بيان الحزب الخاص بانتخابات 1991 جزء بعنوان “السيدات، الأمهات” وظهر فيه تقديس الحزب للمرأة كأم وربة أسرة وسعيه لتوفير وظائف لها حتى لو كانت وظائف بنصف دوام.
ولكن بعد انتخابات 1987 ظهرت فكرة الاستعانة بالنساء في الحزب وربما كان أقوى مؤيد للفكرة هو طيب أردوغان وكان وقتها رئيس فرع الحزب في اسطنبول. بالطبع واجهت دعوة ضم المرأة لصفوف الحزب العاملة معارضة من بعض الأعضاء المحافظين الذين رأوا أن مكان المرأة المناسب هو المنزل وبالتالي ليس من الملائم انخراطها في العمل الحزبي. كذلك رأى هذا الفريق أن أصوات النساء ستكون مضمونة إذا ما كسب الحزب أصوات رجاله. ولكن وجهة نظر الفريق الأول كانت أن النساء سيجلبن أصوات رجالهن بجانب أصوات نساء أخريات.
وبدأ بالفعل تفعيل الاقتراح عام 1989 بتدريب أقارب وأصدقاء عضوات الحزب من النساء لإنشاء لجان النساء في الحزب، وأخذ «طيب أردوغان» على عاتقه تدريب النساء بنفسه لكن مع إذعانه لرغبة المعارضين للفكرة في أن يدير أردوغان ظهره للنساء المحجبات في القاعة أثناء إلقاء محاضراته.
بدأت “لجان السيدات” في التكوين والتنظيم وتبعت شكليًا اللجنة المسئولة عن العلاقات العامة بالحزب لأن دستور 1981 كان يمنع الأحزاب السياسية من تكوين فروع خاصة للمرأة داخل أي حزب، ولكن في حقيقة الأمر كان تنظيم “لجان السيدات” من الداخل يماثل تنظيم لجان الحزب الرئيسية ووثيق الصلة بها. وتلفت «أرات» النظر لاختيار كلمة “السيدات/ الهوانم” بدلا من “المرأة” لاسم اللجان حيث إنها تعكس صورة معينة عن المرأة لدى حزب رفاه، كما أنها كانت شائعة الاستعمال في تركيا قبل إقامة الجمهورية. كذلك بيدو أنه قد تم اختيار هذه الكلمة لأنها لائقة و“أكثر تهذيبًا” من “المرأة” في نظر رجال الحزب، مع ذلك أثارت هذه الكلمة تحفظ السيدات العاملات في اللجان فيما بعد لأنها كلمة تشير للنساء في الطبقات الغنية في حين أن أنشطة وشعبية لجان السيدات بحزب رفاه تركزات في الطبقة الدنيا والفئات الدنيا من الطبقة الوسطى. فعلى أرض الواقع ليست كل النساء “هوانم“.
تكونت لجنة النساء في الأقاليم الكبيرة من خمسين عضوة (25 عضوة أساسية ومثلهن عضوات مساعدات)، كون المجلس الإداري للجنة، في حين يتم اختيار تسع منهن لتكوين المجلس التنفيذي المسئول عن تسيير عمل الحزب اليومي وخططه التي يتفق عليها المجلس الإداري. أما لجنة النساء الموجودة في الأقاليم الصغيرة فتكونت من ثلاثين عضوة فقط منهن سبع يؤلفن المجلس التنفيذي. كذلك عين الحزب أحد أعضاء اللجنة الرئيسية المناظرة للجنة النساء في المنطقة مسئولاً عنها حيث يقدم له تقريرًا شهريًا يتضمن ما أنجزته اللجنة، حيث يهدف هذا التقرير لخلق نوع من التنافس بين لجان النساء ومراكمة الخبرات. وحدد الحزب مسئوليات لجان السيدات في عدة نقاط:
– ضمان تفعيل وتأسيس لجان للسيدات بالحزب على مستوى الأقاليم والمناطق.
– تنظيم اجتماعات شهرية استشارية موسعة باشتراك لجان السيدات بالأقاليم والمناطق.
– اقتراح حلول لمشكلات النساء تعكس الرؤية القومية التي يتبناها الحزب.
– تنظيم المؤتمرات والندوات التي تهتم بمناقشة مشاكل النساء بالإضافة لتنظيم المعارض والمسرحيات وعروض الأزياء الموجهة للنساء.
– ضمان زيادة عدد العضوات في الحزب.
– ضمان اشتراك النساء الموهوبات في الخطابة في الدعاية للحزب.
لم يحدد الحزب فقط أهداف لجان السيدات به، بل وجههن لطرق التعامل مع الجمهور أيضًا، حيث حرص الحزب على ترويج صورة ذاتية توافقية ومتصالحة المجتمع لعدة أسباب. فعادة ما ينظر المجتمع التركي لأي حزب إسلامي على أنه ضد الجمهورية والليبرالية، كذلك أراد حزب رفاه ترك انطباع مختلف عن الذي خلفه حزب “ميللي سيلاميت” الإسلامي حيث اتهم أعضاؤه بالسعي للمنفعة الشخصية والإطاحة بالدولة في يد العسكريين. لذا عملت وحدة الدعاية في الحزب على إعطاء أعضاء الحزب العديد من النصائح النفسية الخاصة باجتذاب أنصار الحزب، فالدعاية للحزب يجب:
– أن تتسم بالحب.
– ألا تنفر أو تفرق في المعاملة بين الناس.
– أن تعكس حقيقة الحزب.
– أن تسهل الأشياء ولا تصعبها.
– أن تستخدم لغة سهلة وتبتعد عن الخشونة.
– أن تنشر أخبارًا جيدة ووتتجنب نشر الخوف.
توضح النقاط السابقة مدى التنظيم الداخلي لحزب رفاه والسياق الذي انضمت النساء للعمل فيه. فمنذ البداية حرص الحزب على تنظيم بنيته الداخلية ورأى أن مفتاح التنظيم الجيد هو الإدارة المؤهلة. لذا أوكل الحزب مهام التنظيم الداخلية لأصحاب الأعمال الخاصة والمستقلة حيث إنهم أقدر على توفير وقت للعمل في الحزب. كذلك رأى رجال الحزب أن وحدة المبادئ والقناعات في الحزب كفيلة بخلق مناخ مناسب للعمل، ولكنهم أيضًا آمنوا بضرورة نشر جو من المحبة بين الأعضاء حيث إن الصراعات الداخلية تتسبب في تدهور أداء الحزب ككل. لذلك دعم الحزب داخله صورة وقيم العائلة التي يرعى أفرادها بعضهم بعضًا، وهي صورة مناسبة تمامًا لحزب يتوقع من أعضائه نفس الولاء والتضحيات الموجودة بين أفراد العائلة الواحدة ويعتمد على بنية هرمية محكمة يسعى فيها الصغار لطاعة الكبار والاقتداء بهم.
يتناول الفصل الثالث قصص بعض نساء حزب رفاه وتجربتهن مع الحزب وما انطوت عليه من تضحيات وشعور بالرضا وكذلك حدود يجب عدم تجاوزها.
تحاول «أرات» في هذا الفصل الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بأسباب التحاق نساء ينتمين لأسر علمانية تؤمن بالدولة الكمالية وتلقين تعليمهن في مدارس تلك الدولة بحزب إسلامي كحزب رفاه. فبالنسبة لنظيراتهن غير المحجبات شكلت نساء رفاه لغزًا حيث اعتقدن أن أي امرأة تسعى للانتماء لحزب يفترض أنه يقيد الحريات التي منحتها الدولة العلمانية للمرأة بالتأكيد تفعل ذلك تحت التهديد أو بتأثير الخداع. وتخلص «أرات» إلى ثلاثة نماذج تعبر عن الطرق التي أدت بنساء رفاه للانضمام للحزب، أولها متعلق بالنساء القادمات من خلفيات علمانية ولكن تأثرهن بإحدى الصديقات أو أحد المدرسين في فترات الدراسة أدى إلى اهتمامهن بالدين وارتداء غطاء للرأس، مما قد يبرر إصرار الدولة على حظر ارتداء غطاء للرأس في مؤسساتها التعليمية. وثانيها متعلق بالنساء اللاتي تأثرن بكرم واهتمام الحزب بهن فقررن العمل من أجله. أما ثالثها فمتعلق بالنساء اللاتي تربين في أسر متدينة أو لها علاقة بالأحزاب الإسلامية.
تعتبر قصة “إ. س.” مثالاً للنوع الأول من قصص نساء رفاه، فهي تنتمي لأسرة تعتنق الفكر الكمالي حيث يعمل والدها ضابطًا بالجيش – المؤسسة الأكثر إخلاصًا لإصلاحات كمال أتاتورك. كذلك فإن أفراد أسرتها كانوا أعضاء في حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه كمال أتاتورك نفسه، ومن هنا جاء اهتمامها المبكر بالسياسة. تلقت “إ. س.” تعليمها في مدارس حكومية والتحقت بكلية الحقوق ورأت كيف يتم حرمان زميلاتها المحجبات دخول الامتحانات، فقبل ذلك لم يكن لها صديقات محجبات. تعاطفت “إ. س.” مع زميلاتها وشاركت في احتجاجاتهن السلمية ولم يكن ذلك بدافع نشر ثقافة إسلامية معينة أو تحدي الدولة العلمانية، بل فقط للدفاع عن الحقوق المدنية. وعندما لم تأت الاحتجاجات والمظاهرات بنتيجة قررت “إ. س.” كتابة رسائل لرئيس حزب الشعب الجمهوري، ولكن من الدولة كانت قد قررت تجاهل الموضوع. بالتدريج قررت “إ. س.” ارتداء غطاء للشعر في 1987 وقوبلت بمعارضة شديدة من أهلها.
تخرجت “إ. س.” بعد عام في كلية الحقوق لتجد جميع فرص العمل كمحامية في محاكم الدولة مغلقة أمامها. وبعد عام من التخرج سارعت للزواج من رجل ذي ميول إسلامية للتخلص من اعتراض أسرتها على ملابسها وطريقة حياتها الجديدة، وهي خطوة تكررت في روايات العديد من النساء في الحزب. وبهذا الزواج التحقت “إ. س.” بأسلوب حياة يتوافق مع اختياراتها ولكنها في الوقت نفسه تتبع منظومة هرمية محكمة تحد من استقلالها كامرأة. وفي أحد الأيام التي كانت تشعر فيها بالاغتراب كسيدة تؤهلها إمكاناتها لأكثر من الدور التقليدي لربة المنزل وجدت حزب رفاه يطلب مساعدتها في تنظيم لجنة السيدات في إسطنبول، حيث كان زوجها يعمل بالحزب كما أنهم لم ينسوا دورها كمدافعة مفوهة عن حق النساء في ارتداء غطاء للرأس. وبهذا أصبح الحزب هو وسيلة “إ. س.” الوحيدة لتحقيق الذات والاستفادة من إمكاناتها التي طورها التعليم الذي وفرته لها المؤسسات التعليمية للدولة العلمانية.
تكرر نمط القصة السابقة نفسه في قصص سيدات أخريات من الحزب مع اختلاف بعض التفاصيل. فمثلا قررت “تش. ه. ” تغطية شعرها بعد تأثرها بصديقة لها في كلية الحقوق تنتمي لعائلة تحافظ على المظاهر الدينية في حياتها. ولكن معارضة أسرتها لقرارها وصلت لحد حرق أمها لغطاءات الشعر التي تخفيها “تش. ه.” في حقيبتها لترتديها بعد الخروج من المنزل. وترتب على قرارها ارتداء حجاب للشعر طردها من كلية الحقوق، وسرعان ما تزوجت رجلاً ذا خلفية إسلامية يعمل في مجال الطب البيطري وإن لم يكن قد حصل على وظيفة ثابتة بعد. وبرغم قرار الزوج بمنعها من مغادرة المنزل إلا بصحبته فإن حالة الفقر المدقع التي عانيا منها دفعته لقبول عمل قدمته لها إحدى شبكات الإعانة الإسلامية. وبمرور الوقت حصلت تش. ه.” على عمل بمجلة “الميللي جازيت” التي يقع مكتبها في مواجهة مقر حزب رفاء بأنقرة. أبدت “تش. ه.” استعدادًا ورغبةً في العمل للحزب وساعدها على ذلك الاستقلال النسبي الذي حصلت عليه بعد خروجها للعمل وحصولها على دخل خاص.
تلاحظ «أرات» أن النساء المنتميات في الأصل لعائلات تؤمن بتقاليد الدولة العلمانية قد قررن العمل من أجل حزب رفاه بإرادتهن الحرة دون إجبار من الحزب نفسه. فالإجبار الوحيد فيما تنطوي عليه هذه القرارات وممارسات الدولة التي نبذت مواطناتها اللاتي اخترن ملابس تعبر عن هوية دينية، ومنعتهن من الوظائف العامة ومن إكمال تعليمهن. أي أن الدولة الكمالية عجزت عن جذب هؤلاء النساء لنموذج المواطنة الذي أقرته ولم ترغب في استيعابهن داخلها بفهمهن المختلف لمعنى الدين وحدود الدولة العلمانية. بالتالي دمرت جميع فرصهن في الارتقاء الاجتماعي والمهني بسبب ارتداء غطاء للشعر، وهنا أصبح حزب رفاه هو المتنفس الوحيد لتحقيق الذات ولتطوير المهارات الشخصية وخلق نوع من الاستقلال أحيانًا.
أما قصة “ب. أ.” فتعد مثالاً للنموذج الثاني من تجارب انضمام النساء لحزب رفاه. “ب. أ.” امرأة متزوجة لم تكن لها علاقة بحزب رفاه على الإطلاق قبل مرض زوجها والاضطرار للسفر لألمانيا لاستكمال العلاج. سافر الزوجان الشابان لبلد غريب لا يعرفان لغته وليس لهما فيه صديق أو قريب وبمبلغ غير كبير من المال. ولكن منظمة النظرة القومية التي ترتبط عضويًا بحزب رفاه شملتهم برعايتها حيث يعتبر حزب رفاه الحزب التركي الوحيد الذي له فروع في الخارج تعمل على كسب تعاطف العمال الأتراك في أوروبا. وتروي “ب. أ.” كيف أنها لم تر معاملة إنسانية مثلما رأت عند “هؤلاء الناس“، فقد ساعدوا زوجها على دخول مستشفى ودفع تكاليفه كما واظبوا على زيارته برغم بُعد المستشفى عن مركز المدينة، كما أوجدوا لها شقة هناك. لذا عندما عادت إلى تركيا شعرت بامتنان شديد لهم وعملت على أن تكون واحدة منهم.
أما النموذج الثالث فيتعلق بالنساء المنتميات للعائلات المحافظة التقليدية التي أرسلت بناتها لمدارس الأئمة والخطباء بدلاً من مدارس الدولة العلمانية. هؤلاء البنات غالبًا لم يكملن تعليمهن وبالتالي انضممن للحزب في سن مبكرة حيث اعتبر العمل في الحزب فرصة للانشغال بعمل مشروع. تحكي “م. أ.” أنها لم تذهب للمدرسة بعد إتمامها التعليم الأساسي وإن حضرت دروسًا محلية في القرآن لمدة ست سنين. في عمر الحادية أو الثانية عشرة قررت “م. أ. ” ارتداء “التشرشف” وهو ثوب أسود فضفاض يغطي الجسم كله وليس الرأس فقط، حيث تعلمت في دروس القرآن التي حضرتها أن أتباع الرسول الكريم يجب أن يفرقن أنفسهن عن الآخريات حتى في الملبس، ووافقت أسرتها على اختيارها هذا الثوب.
ولكن “م. أ.” توقفت عن ارتداء “التشرشف” بعد زواجها بناء على طلب زوجها الذي طلب منها ارتداء معطف وغطاء للرأس لأن “التشرشف” يترك انطباعًا سيئًا عند الناس. وبالطبع امتثلت “م. أ.” لأوامر زوجها، خاصة أنها تعلمت في دروسها المحلية أن الإسلام يحتم طاعة الزوج. ولأن الزوج كان يعمل بحزب رفاه فقد وجدت نفسها مدعوة ذات مرة لحضور أحد اجتماعات السيدات بالحزب، ورغم أن نشاط زوجها بالحزب أعطى لمشاركتها عمقًا فإنها طورت انتماءها وعملها في الحزب بعيدًا. عنه. وتؤكد “م. أ.” أن إسهاماتها في الحزب عززت من مكانتها لدى أسرة زوجها.
بعد التعرف على قصص بعض نساء رفاه تسعى «يشيم أرات» لمعرفة طبيعة علاقتهن بالحزب وتجربتهن فيه. ترى أرات أن القصص التي سمعتها من نساء رفاه تعبر عن سعي لتحقيق الذات ولتأكيد هوية مختلفة عن هوية الآباء والأمهات. فمعظم نساء رفاه – خاصة من النموذج الأول– خضن معارك مع عائلاتهن بسبب توجههن الديني مما ميزهن عن العديد من النساء اللاتي تقبلن قيم الآباء والأمهات دون مساءلة. فقد اتبعن طريقًا مختلفًا تمكن فيه من تكوين صداقات وعلاقات اجتماعية مختلفة وتوسيع آفاق فهمهن للدين والدولة، ولكن في الوقت نفسه فإن السياق الذي هربن إليه فرض عليهن حدودًا من نوع آخر. فقد أجمعت النساء اللاتي تحدثت أرات معهن على أن عملهن في الحزب كان من أجل الله، أي أنهن لم يبغين من ورائه أي مكافآت دنيوية أو حزبية، وتذكر أرات هنا ملاحظة تتعلق بعضوات الأحزاب الأخرى حيث صرحن دائمًا أن عملهن كان في خدمة مبادئ أو معتقدات أو أيديولوجيات أو مصالح شخصية أو مدن أو دول.
دائماً ما كانت فكرة العمل من أجل الله دافعًا لتقديم العديد من التضحيات لصالح هذه “القضية” والحزب الذي يخدمها، ولم يختلف الحال كثيرًا في حزب رفاه. لم يكن كل نساء رفاه عاملات لهن دخلهن الخاص بل كانت نسبة كبيرة منهن ربات منزل، ومع ذلك فقد سعين لتوفير المال من أجل الحزب عن طريق إدخار بعض من المصروف الشخصي الذي يعطيه الأزواج لهن أو عن طريق استخدام مواهبهن في الطبخ والخياطة. فمثلاً نشرت مجلة “الميللي جازيت” قصة عن ناشطة فقيرة في الحزب كانت تستيقظ في منتصف الليل لصنع خبز تستفيد من ثمنه في شراء تذكرة تذهب بها لأحد اجتماعات الحزب. هذه القصة وغيرها أكدت وروجت الصورة الذاتية التي كونتها نساء الحزب عن أنفسهن، كما أسست لبعض الأساطير داخل الحزب. فمثلا اعتقدت “تش. ه.” أن الله يحمي أطفالها أثناء غيابها في الحزب حيث روت بثقة كيف أن ابنها سقط في بركة جليدية عندما كان في رعاية عضوات الحزب الأصغر سنا وجاءوها به يرتجف من شدة البرد، ومع ذلك لم يتعرض ابنها حتى للإصابة بالبرد مما زاد من قناعتها برضا الله عن عملها بالحزب.
هذا الدور الذي اختارته نساء رفاه لأنفسهن واقتنعن به كان أساسيًا في إعفاء لجان الحزب الرئيسية من التفكير في كيفية مكافأة النساء على إنجازاتهن وتصعيدهن داخل الحزب. أما بالنسبة للنساء أنفسهن فقد رأين أن الاستغناء عن السعي للمناصب الحزبية وفر عليهن الشعور بالتوتر والضغط النفسي واكتفين بالرضا الناتج عن الشعور بأهميتهن وتأثيرهن داخل دوائر النساء والناتج كذلك عن تعلمهن الكثير من المهارات في الحزب. ولكن ذلك لا يعني أن طريق النساء للمناصب العليا كان مفتوحًا، بل العكس. فعندما طلبت سيبيل إراسلان – الرئيسة الناجحة للجنة السيدات باسطنبول والتي لقبتها الصحافة بالمرأة التي حملت طيب أردوغان لمنصب محافظ الإقليم– من أردوغان مناصب عامة لدائرتها القريبة تم رفض طلبها واتهمت بالتحول لنسوية، حيث ارتبطت النسوية بالسعي لمنافع خاصة في ذهن الحزب، وسرعان ما تم استبدالها ومن معها بكوادر أخرى من النساء الخاضعات للجان الحزب الرئيسية.
جدير بالذكر أنه بعد إغلاق حزب رفاه وسعي كوادره لبناء حزب الفضيلة بدلاً منه لم تتم الاستعانة بنساء حزب رفاه في تكوين لجان السيدات. فقد كان شاغل الحزب الجديد تقديم صورة جديدة تمامًا للحزب بعيدًا عن الوجوه القديمة، لذا استعانوا بنساء جديدات وإن طلبوا منهن استشارة نساء حزب رفاه في تنظيم لجان الحزب الجديد. مع ذلك تشير نساء رفاه إلى أن معظم كوادر حزب رفاه من الرجال تمت الاستعانة بهم في حزب الفضيلة ولم يتم استبعاد إلا عدد قليل منهم، ويعبرن عن شعورهن بالإحباط من معاملتهن بهذه الطريقة وكأن غلق حزب رفاه كان خطأهن.
إذن ارتبط نجاح نساء حزب رفاه بحرصهن على مواقعهن دون التطلع لما فوقها ونجاحهن في تحويل طاقتهن إلى التزام نحو الحزب بقيمه التي وجدنه عليها. لكن تؤكد «أرات» أنه ليس معنى ذلك أن نساء الأحزاب الدينية لايعرفن مصلحتهن جيدًا، لأن هذا الحكم يشي بوصاية وعدم احترام لاختيارات هؤلاء النساء. فقد رأين أنهن يخدمن الله بعملهن في الحزب وأن السعي لمناصب عليا ينم عن أنانية لا مكان لها في هذا السياق. لكن نساء رفاه قمن بالفعل بأدوار غير تقليدية في الحزب تحدت الأنماط القديمة لأدوار المرأة التقليدية ولكن بقدر ما سمح لهن رجال الحزب بذلك وربما احتاج الأمر فقط لوقت وخبرة أكبر تمكنهن من السعي نحو مناصب أعلى دون الشعور بذنب حيال ذلك. لكن هذا الوقت وتراكم الخبرات هو بالضبط ما لم يتح لهن.
يتناول الفصل الرابع الأنشطة المختلفة للجان السيدات بحزب رفاه وآليات عملهن لضم أكبر عدد من أصوات النساء للحزب.
يعتبر الفصل الرابع من أهم فصول كتاب «يشيم أرات» حيث يتعلق بالأساليب التي اتبعتها نساء حزب رفاه في جذب الأخريات للحزب برغم اختلاف خلفياتهن الثقافية وتشككهن في نوايا حزب إسلامي يسعى للسلطة. تعتقد يشيم أرات أن نجاح نساء رفاه يرجع أولاً لإدراكهن أن الحدود الفاصلة بين الشخصي والسياسي وتلك الفاصلة بين الديني والدنيوي ليست حدودًا مصمتة بالعكس هي حدود مسامية منفذة تحتوي على الكثير من مناطق الالتقاء. أما السبب الثاني فيرجع لرهان نساء رفاه على إمكانية جذب النساء للسياسة. ففي دولة لا تتمتع فيها النساء بتمثيل كافٍ في المؤسسات السياسية – برغم علمانية هذه الدولة – لم يهتم الكثير من الأحزاب بتفعيل مشاركة النساء السياسية، ولكن نساء حزب رفاه نجحن في دحض الزعم الخاص بعدم اهتمام النساء بالسياسة، فقط يجب إيجاد المدخل الصحيح لجذب انتباههن.
في البداية تستعرض «أرات» أنشطة لجان السيدات بالحزب وتشرح أنها تعددت واختلفت باختلاف أماكن إقامة هذه الأنشطة. فقد شملت مثلاً تنظيم مؤتمرات وملتقيات وعروض فيديو ومناظرات كما شملت إقامة معارض وعروض أزياء ورحلات وإرسال كروت التهنئة في المناسبات والقيام بزيارات شخصية. فلجان الدعاية والعلاقات الشخصية وتنظيم الحزب هي أهم اللجان الموجودة في التنظيم الإداري لأي لجنة سيدات تابعة لمدينة كبرى في الحزب. وبجانب الاهتمام بشرح أيديولوجية الحزب ومبادئه والحلول التي يقدمها للمشاكل المحلية والقومية والعالمية فإن الحزب عمد إلي تعليم وتثقيف كوادره النسائية عن طريق عقد دورات ومؤتمرات تتناول شتى الموضوعات كحقوق الإنسان والمشاكل السياسية المعاصرة والبيئة والعلاقات العامة وعلم النفس. كذلك اهتم الحزب بتدريب السيدات اللاتي لديهن القدرة على الخطابة.
كانت الصورة التي تسعى نساء رفاه لتمثلها هي صورة “الأم/ المقاتلة” حيث تتحدث الأحاديث النبوية الشريفة والآيات القرآنية عن فضل وتكريم الأم. ولترسيخ هذه الصورة ببعدها النضالي عمدن إلى استلهام نماذج من التاريخ الإسلامي أو من الحروب العثمانية والتركية مثل “نيني هاتون” التي حاربت ضد روسيا عامي 1987 – 1988. في الوقت نفسه تصف “سهيلة كيبابتشيغلو” رئيسة لجان السيدات بالحزب المرأة المسلمة بأنها شريكة للرجل و“لا يجب عليها أن تنظر لنفسها كغسالة أطباق أو مصنع للطبخ أو شخص لرعاية الأطفال. النساء في الإسلام لسن خادمات أزواجهن، بل هن كاتمات الأسرار وصديقات في المعركة. أثناء “العصر الذهبي للإسلام” شاركت النساء في المعارك بجانب أزواجهن وأنجزن أعمالًا مهمة“. ولكن هذا لا يعني أنها متفقة مع النسوية أو مساواة المرأة مع الرجل، فهي ترى أن النساء لسن مساويات تمامًا للرجال – فمثلاً لا يمكن أن تتمتع النساء بنفس حرية الرجال خارج المنزل والتي يتم التسامح بموجبها مع علاقاته خارج إطار الزواج– ولكنهن كذلك لسن في مرتبة ثانية، فالنساء والرجال يكملان بعضهما.
استخدمت رئيسات اللجان صورة “الأم/ المقاتلة” في خطبهن الجماهيرية لنساء الحزب، أي أنهن تبنين – مثل رجال الحزب – خطابًا يعكس حالة مواجهة وتحدٍ للنظام برغم تجنبهن لمثل هذا الخطاب أثناء سعيهن لضم عضوات جديدات للحزب. وتعزي “هاليس تشيفتشي” رئيسة لجنة السيدات بأنقرة سبب تلك “المواجهة” للدولة التي صنعت “قميصا للمواطنة” إذا ما أظهر ذلك القميص الهوية الدينية لأحد المواطنين أو كان واسعًا أو ضيقًا كان معنى هذا العزل من الجيش أو الخروج من المدرسة أو الجامعة. أي أن الدولة هي من صنع هذه الحالة من الصدام التي أجبرت العديد من المواطنين على اختيار إما أن يكونوا مواطنين” أو “مؤمنين“.
مع ذلك حرصت نساء حزب رفاه على تفادي المواجهات وعلى الترويج لصورة متسامحة ومتصالحة مع المجتمع بوجه عام. فمثلاً تعددت أنشطتهن ولم تقتصر على زيارة المستشفيات وضحايا الفيضانات فقط ولكن امتدت لزيارة الوزيرة المسئولة عن المرأة والأسرة – برغم انتمائها للحزب” الديمقراطي الشعبوي“- ولزيارة “جمعية المحاربين القدامى” و“مؤسسة حماية أمهات الشهداء” برغم أن مؤسسها هو حزب “الطريق الحقيقي“. وبوجه عام فقد نساء حزب رفاه في تكوين روابط مع نساء الأحزاب الأخرى في تكوين صورة نجح سعي متسامحة ليس للجان السيدات فقط ولكن لحزب رفاه ككل.
وفي العديد من هذه الملتقيات تحدثت عضوات رفاه عن موضوع غطاء الرأس من خلال سرد تجاربهن الشخصية وكيف تعرضن فيها للتمييز بسببه. وتشير مؤلفة الكتاب لندوة نظمتها لجنة السيدات بمنطقة “ساريير” باسطنبول في اليوم العالمي لحقوق الإنسان استضافت فيها عددًا من الحقوقيين ومحاضرين من الجامعات المختلفة. وتشرح كيف أن حدود المناقشة كانت ضيقة تتناول موضوع غطاء الرأس وضرورة اتباع تعاليم الإسلام للحد من انتهاكات حقوق الإنسان، كما أنهن تحدثن عن انتهاكات حقوق الإنسان في المناطق الإسلامية المنكوبة مثل فلسطين وأفغانستان والشيشان. ولكن تنوع الضيوف في هذه المناسبة سمح بتوسيع حدود المناقشة حيث أثار أحد الضيوف موضوع غلق حزب الديمقراطية المؤيد للأكراد والذي لم يكن ممكنا إلا بتواطؤ حزب رفاه وصمته. ففي نهاية المناقشة وافقت نساء رفاه على أن الدفاع عن حقوق الإنسان يجب أن يشمل الدفاع عن حقوق الآخرين. وتذكر أرات أن معظم من التقت بهن من قيادات الحزب النسائية عبرن عن عدم ارتياح لموقف حزب رفاه من غلق الحزب الكردي، ومع ذلك فقليلات جدًا هن من أدن موقف الحزب بشكل صريح، أي أن نساء اللجان كن يستشعرن ضرورة أن تتوافق مواقفهن مع مواقف الحزب أولاً قبل أن يصرحن بتأييدهن لقضايا حقوق الإنسان.
أما عن طرق جذب الأصوات النسائية وتوسيع الدوائر الانتخابية للحزب فقد اتبعت رئيسات لجان السيدات بحزب رفاه طرقًا منظمة للوصول للنساء وربات البيوت في تركيا منها الزيارات الشخصية وحفلات الشاي وحتى “البحث الموسع“. فمثلا تروي “إ. س.” كيف كانت العضوات المسئولات عن منطقة ما يقمن بدراستها جيدًا لمعرفة السيدات ذوات الشعبية والتأثير في هذه المنطقة، ثم يقمن بزيارتهن للتعرف عليهن وتكوين الصداقات. وبعد توطيد الصداقة الجديدة تطلب نساء رفاه من السيدة إقامة حفل شاي بسيط تدعو صديقاتها ليتم التعرف عليهن لتتوالى الزيارات بين سيدات رفاه وسيدات المنطقة. وعندما يأتي الدور على إحدى نساء رفاه لاستضافة السيدات في منزلها يبدأ الحديث عن الحزب وأهدافه. اهتمت نساء رفاه بإقامة روابط وصلات شخصية نساء مناطقهن الانتخابية مع بدلاً من إثارة حفيظتهن بخطابات سياسية مباشرة. تذكر إحدى رئيسات اللجان باسطنبول أن هؤلاء النسوة انضممن للحزب بسبب رئيسات اللجان وليس من أجل إرباكان زعيم الحزب.
كذلك اتبعت نساء رفاه طريقة “البحث الموسع” في المناطق الجديدة عليهن وهي آلية تقضي بزيارة جميع البيوت في المنطقة واحدًا بعد آخر. على سبيل المثال تشرح إحدى رئيسات لجنة “كاديكوي” كيف أنهن تحدين نساء حزب آخر للحصول على أصوات في جزء من “كاديكوي” وهي منطقة مهمة وعلمانية يعتبر من الصعب جدًا حصول حزب إسلامي فيها على أصوات. من أجل ذلك أعدت عضوات رفاه خرائط مفصلة للمنطقة توضح أحياءها وبيوتها ليقمن بزيارتها. كانت الزيارات تتم بالنهار أثناء وجود الزوج بالعمل، فتذهب خمس أو ست سيدات بمن فيهن رئيسة اللجنة بنفسها لبناية السكن وتبدأ اثنتان منهن من الدور الأرضي، واثنتان من الدور العلوي وتتولى الرئيسة باقي الأدوار. وبرغم أن الأمر لم يخل من مرات تعرضن فيها لغلق الأبواب في وجوههن أو مطاردة الرجال لهن بالكلاب خارج حدود المنزل لكن دائما ما كانت هناك سيدات لديهن الوقت والرغبة للاستماع لهن.
تبدأ ممثلة حزب رفاه بتعريف نفسها ثم سؤال ربة المنزل عن رأيها في حزب رفاه وما إذا كانت تفكر في الانضمام له، فإذا كانت الإجابة بالنفي تسألها عن الأسباب وعن الأشياء التي لا تعجبها في الحزب ومقترحاتها لتحسينها. ثم تطلب منها أن تدرج اسمها في قائمتها وعندما ترفض ربة المنزل أو تسأل عن السبب تشرح ممثلة رفاه كيف أن ذلك مهم لثلاثة أسباب: أولها معرفة حجم الأصوات التي من الممكن أن يحصل عليها الحزب في انتخابات قريبة، وثانيها رغبة الحزب في إقامة روابط عضوية مع منتخبيه، وثالثها وأهمها بالنسبة لربة المنزل رغبة الحزب في تقديم المساعدة المادية أو المعنوية في أي وقت تحتاج فيه الأسرة إلى هذه المساعدة، سواء كان ولادة أو وفاة أو زفافًا أو مساعدة في تجهيز عروس للزواج أو حتى في ظرف تحتاج فيه ربة المنزل لمن يرعى أطفالها. أي أنها جميعًا خدمات تنتمي للحيز الخاص للمرأة وعادة ما توفرها النساء لبعضهن البعض من باب التعاون والتضامن.
وبعد هذه الزيارات كانت عضوات رفاه يولين اهتمامًا خاصًا بالنساء اللاتي أبدين ميلاً للانضمام للحزب، فيحددن معهن مواعيد تقوم فيها عضوة أو عضوتان بزيارة شخصية للسيدة المراد ضمها للحزب وتتحدث معها عنه أثناء تناول الشاي أو القهوة. كذلك سعت نساء رفاه للاقتراب من الأسر التركية عن طريق تقديم خدمات أخرى تخدم أيضًا السياسة العامة للحزب. فمع سياسة الدولة في عزل الدين بعيدًا عن الحياة العامة حافظ الأتراك على العديد من المظاهر الدينية في حياتهم الشخصية بوصفها نوعًا من التقاليد مثل إحياء ليلة المولد النبوي الشريف وقراءة القرآن في الجنازات أو قراءة سورة ياسين. ولكن تنظيم مثل هذه المناسبات لم يكن سهلاً على عائلات ابتعدت عن الممارسات الدينية اليومية، لذا وجدت لجان السيدات في هذه المناسبات فرصة سانحة للتدخل وإثبات اهتمامهن بمشاغل وهموم الناس اليومية، كذلك هي فرصة للتدخل للحفاظ على عادات دينية مهددة بالاختفاء في ظل الدولة العلمانية.
ولكن سيدات حزب رفاه فهمن جيدًا ضرورة توسيع دائرة المتعاطفات معهن ولذا لم يكتفين فقط بمد نشاطهن للمناسبات الدينية بل امتدت لتلك الدنيوية اليومية أيضًا. فمثلاً في المناطق التي تحتفى أكثر بالمناسبات غير الدينية كرأس السنة أو عيد الأم نظمت لجان السيدات أجندة الأنشطة والفعاليات بحيث تراعي هذه المناسبات. كذلك استفادت نساء رفاه من الزيارات الأسبوعية أو نصف الشهرية أو الشهرية التي تقوم فيها واحدة من النساء باستقبال جاراتها وصديقاتها في منزلها، وهو تقليد تركي تقوم به نساء الطبقة المتوسطة في المدن. وبمرور الوقت تحولت هذه الأيام التقليدية إلى ما يعرف “بأيام الذهب” حيث تأثرت بقيم مجتمع الاستهلاك وأصبحت النساء يجمعن النقود من بعضهن البعض لشراء عملة ذهبية تهدي لواحدة منهن في كل مرة بشكل دوري، مما خلق رأس مال محلي تحت تصرفهن. حرصت نساء رفاه على حضور مثل هذه اللقاءات للاستفادة من شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتيحها ولفتح منافذ بين المجالين الخاص والسياسي العام، حيث ناقشن مواضيع متعلقة بغلاء الأسعار والتضخم وجميع ما تتأثر به ربة المنزل ويمكن تغييره عن طريق السياسة.
وتعتبر حملة نساء رفاه لحظر الدعارة بمنطقة البحر الأسود مثالاً على ذلك. فبعد تفكك الاتحاد السوفيتي نزح عدد كبير من النساء الروسيات لمنطقة البحر الأسود واحترفن الدعارة مما أدى لتعرض العديد من الزوجات لهجر أزواجهن لقضاء الوقت مع النساء الروسيات في ظل مجتمع يتسامح مع علاقات الرجال الغرامية خارج نطاق الزواج. وعندما شعرت نساء المنطقة بالتهديد قامت لجنة سيدات رفاه المسئولة عن المنطقة بتنظيم حملة جمع توقيعات على بيان يطالب البرلمانيين بحظر الدعارة في المنطقة. وبالفعل خرجت النساء للمشاركة في اجتماعات سياسية لتفعيل الحملة حاملات لافتات للاعتراض على الوضع الحالي وتنبيه أعضاء البرلمان لأهمية ما يحدث في المنطقة. ولذلك تبرز أهمية هذه الحملة في نجاح نساء حزب رفاه في ترجمة هموم النساء الخاصة لفعل سياسي يخرج للشارع ويسعى لإقرار أوضاع أفضل، وبالفعل انعكس هذا النجاح في ذهاب أصوات المنطقة لحزب رفاه في الانتخابات التالية.
كذلك تنوعت الخطابات التي توجهت بها لجان السيدات للنساء بتنوع المناطق التركية. فمثلاً في المناطق الفقيرة على أطراف إسطنبول التي يسكنها النازحون من الريف للحضر تركز خطاب حزب رفاه على نقص الخدمات في هذه المناطق وضرورة تحسين البنية التحتية وبناء المدارس والمستشفيات. أما في المناطق المستقرة أو “الأغنى” تبنى الحزب خطابًا أخلاقيًا بعد بحظر الدعارة والخمور ويحذر من تأثير تقليد الغرب على الثقافة القومية، وفي منطقة متأثرة بالغرب تهتم بالموضة ويسكنها الفئات العليا من الطبقة المتوسطة مثل “كاديبوستان” قامت لجنة السيدات المسئولة عن المنطقة بإقامة عرض أزياء خاص بالأزياء الإسلامية في مكان شهير بها. فقد قدرن أنها وسيلة لجذب نساء هذه المنطقة ولو من باب الفضول، وهناك قد تستمع واحدة أو اثنتان من هؤلاء النساء لبعض الكلمات عن الحزب.
لم يكن الاختلاف والتنوع من نصيب الخطابات السياسية والفعاليات فقط ولكن ظهر أيضًا في اللغة المستخدمة وحتى طريقة اختيار الملابس. فمثلاً عندما تذهب ممثلة للحزب لحضور حفل عيد الأم في ضاحية متأثرة بالفكر الكمالي مثل “تشانكايا” تتحدث مع نسائها بألفاظ تركية وتتجنب استعمال مفردات عربية. لذا تحيي سيدات المنطقة قائلة “يوم سعيد” بدلا من “السلام عليكم“، كما ترتدي بذلة طويلة شبيهة بالبذلات التي ترتديها نساء المنطقة وغطاء رأس أصغر حجمًا بدلاً من الأزياء التقليدية مثل المعاطف الطويلة أو “التشرشف” الذي يعطي انطباعًا بالتخلف والرجعية بالنسبة لسكان هذه المنطقة، وتذكر “أرات” أن نساء رفاه لم ترين في ذلك نفاقا بل هو مراعاة لتنوع المجتمع التركي واختلاف اهتماماته واحتياجاته من منطقة لأخرى. كذلك خضع اختلاف حجم أنشطة اللجان من إقليم لآخر لعامل ثانٍ هو حرية حركة المرأة التي تسمح بها ثقافة هذه المناطق. ففي المناطق الشرقية مثلا لم يكن مسموحًا للنساء بمغادرة المنزل إلا بصحبة أزواجهن، ولا أن يحضرن الاجتماعات والندوات اختلاف إلا بإذن منهم بعكس المناطق الغربية التي شهدت انفتاحًا ونشاطًا أكبر حيث تحمد “م. ه.” الله على عدم وجود مثل هذه العوائق في إسطنبول.
وتلاحظ “أرات” بعض المفارقات، أولها مثلا أنه ربما يكون أحد أسباب هذه الحالة من الانفتاح التي تشهدها اسطنبول وغيرها من مدن تركيا الغربية – والتي تحمد “م. ه.” الله عليها– هو تأثر هذه المدن بقيم وثقافة الغرب الأوروبي أكثر من المدن الشرقية. كذلك تذكر أرات كيف أن حزب رفاه استطاع بالفعل اجتذاب أصوات عدد كبير من النساء ولكنها تتساءل في الوقت نفسه عن مدى قدرته على تحقيق مطالب هؤلاء النساء في ظل حرصه على عدم تصعيد النساء لمناصب قيادية أو دوائر صنع القرار في الحزب. مع ذلك فإن تحريك النساء من حيزهن الشخصي إلى مجال السياسة العام يعتبر إنجازًا للجان السيدات بالحزب. كما أنه ربما كان خطوة أولى تقوم بعدها النساء بتوسيع حدود مشاركتهن على الساحة السياسية لتحقيق مصالحهن، فمن المستحيل أن يحافظ أي حزب على أصوات فئات مجتمعية – نساءً أو رجالاً – دون الالتفات لمطالبها.
يتناول الفصل الخامس نظرة نساء رفاه للإسلام وكيفية فهمهن لأحكامه الخاصة بالمرأة ومدى تأثير ذلك على رأيهن في الدولة.
الأسئلة التي تشغل يشيم أرات في الفصل الخامس تتعلق بكيفية فهم نساء رفاه للإسلام ومدى استعدادهن لتطبيق نظام إسلامي في تركيا. فكما ذكر سابقًا لا تستطيع العديد من النساء التركيات فهم تبني نساء رفاه لأيديولوجية تحد من حريتهن وحقوقهن، ولكن ما هي المبادئ التي يعتنقها هؤلاء النساء؟ وهل فعلا تبرر أن ينظر إليهن على أنهن “الآخر” الذي يجب القلق من تهديده؟ هل فعلاً لا تؤمن نساء رفاه بالقيم الليبرالية للدولة؟
تحاول أرات معرفة إجابات هذه الأسئلة من مقابلاتها مع نساء رفاه لمعرفة ماذا يمثل الإسلام لهن وكذلك لفهم كيف يمكن أن يتعايش الإسلام مع الليبرالية الموجودة في المجتمع التركي، حيث يأتي تفرد تجربة رفاه من انتهاء معظمهن لخلفيات علمانية وليبرالية قبل دخولهن حزب رفاه.
تذكر “أرات” أنه في المقابلات التي عقدتها مع نساء رفاه أبدين جميعًا رغبة في الدفاع عن أنفسهن ضد تشويه الدولة، فالصورة التي ترسمها الدولة لهن غير حقيقية وتصفهن بالرجعية والتخلف. فمثلاً عاتبت “ب. ه.” أرات نفسها عندما حادثتها تليفونيا لتحديد موعد زيارة للتعرف عليها قائلة إنها سيدة تركية عادية وأن نساء رفاه لم يأتين من المريخ، فهن ينتمين لنفس الثقافة ويشاهدن الأفلام نفسها ويذهبن للأماكن نفسها ويأكلن الطعام نفسه. كذلك روت “د. ن.” لأرات عن انبهار خطيبة ابنها عند زيارة منزل صديقة لها من نساء رفاه، فقد ظنت أن حماتها استثناء وأن جميع نساء رفاه الأخريات رجعيات وغير عصريات، ولكنها فوجئت بهن يرتدين ملابس تتماشى مع الموضة ويضعن مساحيق تجميل ويصبغن شعورهن كما أنهن متعلمات ومثقفات. روت “د. ن.” هذه القصة لتدلل لأرات على عصرية نساء رفاه ولكن أرات تلاحظ أن معايير “د. ن.” للعصرية والحداثة أي “الموضة والماكياج والتعليم” جميعها مستقاة من معايير الثقافة الغربية وإن لم تذكر “د. ن.” ذلك.
عند سؤالهن عن أحكام الإسلام الخاصة بالمرأة ومدى فهمن لها وجدت أرات نتيجة مدهشة. فنساء رفاه لم يجمعن على فهم واحد لهذه التعاليم، فبعضهن رأى أن أحكام الإسلام المتعلقة بالمرأة لم تفهم بشكل سليم، في حين رأت أخريات أن هذه الأحكام غير موجودة أصلاً. كذلك لاحظت أرات أن عددًا منهن لم يبد اهتمامًا كبيرًا بهذه الأسئلة. بدأت أرات بالسؤال عن تقسيم العمل التقليدي داخل الأسرة المسلمة أي أن تتولى النساء مسئولية المنزل بينما يعمل الرجال خارج المنزل للإنفاق على الأسرة. أجابت الكثيرات منهن أن التقسيم حقيقي وموجود وإن لم يعن ذلك أنه غير عادل. فلكل من الزوج والزوجة دور مختلف يكمل دور الآخر ولا يقل أهمية عنه. وعندما ذكرتهن أرات أن نظرة المجتمع لقيمة عمل الرجل خارج المنزل تختلف عن نظرته لقيمة عمل المرأة داخله كانت الإجابة أن العملين متساويان أمام الله.
عند سؤال “ب. ه.” عن تشجيع الإسلام لتقسيم العمل التقليدي داخل وخارج المنزل بين المرأة والرجل أكدت ذلك ودافعت عنه بشدة. “ب. ه.” حاصلة على ماجستير ودكتوراة في اللغة والأدب التركي وترى أن تولي زوجها مسئولية الإنفاق على الأسرة أعطاها حرية العمل في مجال السياسة دون القلق حيال المال. فهي لا تجد مانعًا في أن تكوي له قميصًا عندما يشاء أو أن تناوله كوب ماء في حين أنه المسئول عن كل مشتريات الأسرة من مواد غذائية وبقالة ويعطيها مصروفًا أسبوعيًا يزيده إذا أراد ذلك. في الأعياد يأخذها والأبناء لمركز تسوق إسلامي ويتركهم يختارون ما يريدون من ملابس، أما إذا أرادت شيئًا خاصًا فتطلبه منه. لا يوافق زوج “ب. ه.” في الحال بل يلومها أو يخبرها عن أهمية النقود أولاً. ولكنه في النهاية يحضر لها ما تريد ولا تمانع هي أن تتأخر طلباتها أو تأتيها بشكل غير مباشر عن طريق الزوج.
في الوقت نفسه ترى “ب. ه.” أنه من حقها كامرأة متعلمة ومثقفة أن تحقق ذاتها خارج المنزل في المجال العام، ما دامت ترعى زوجها وشئون منزلها. وعندما يعترض أبناؤها على ذلك تخبرهم أنه بالتعليم الذي حصلت عليه لا تستطيع أن تكتفي بدور ربة المنزل. أثارت أرات نقطة تفيد أن اعتماد الزوجة على زوجها ماليًا قد يعطيه الفرصة للتحكم في حريتها خارج حدود المنزل وكان رد “ب. ه.” أن الرجل المسلم بحق يجب ألا يفعل ذلك وبالتالي فالموضوع غير مطروح بالنسبة لها. كذلك سألتها أرات إن كانت تعتقد أن عدم اشتراك النساء في عملية صنع القرار بحزب رفاه يرجع في جزء منه لقلة مواردهن الاقتصادية – وهي ملاحظة أبداها أحد رجال رفاه الذين حاورتهم أرات – فأجابت أنه بالفعل ربما يكون سببًا. ولكنها في المجمل دافعت عن تقسيم العمل التقليدي بين الزوجة والزوج لكن مع تأكيد حقها في تحقيق ذاتها في المجال العام خارج المنزل.
“س. أ.” كان لها رأي مختلف، حيث ترى أن الإسلام لم يحدد أدوارًا محددة للنساء والرجال. تعمل “س. أ.” كطبيبة أسنان في عيادة مشتركة مع زميل لها، ودخلها أكبر من دخل زوجها الحاصل على شهادة جامعية في الإدارة العامة ويعمل في بلدية إسطنبول التي يديرها حزب رفاه. تذكر “س. أ.” أن زوجها يساعدها في رعاية أطفالهما عندما تضطر لقضاء ساعات طويلة في الحزب. ترى “س. أ.” أن النساء يتم استغلالهن باسم الإسلام وكمثال على ذلك قالت إن زميلها في العيادة لا يترك زوجته تعمل خارج المنزل برغم أنه هو نفسه يعمل مع امرأة مسلمة. ولكن ذلك ليس خطأ الإسلام من وجهة نظرها بل خطأ النساء اللاتي يقبلن باستغلال الآخرين لهن وأن كل امرأة مسئولة عن الدفاع عن حقوقها ضد استغلال من النقاط. الآخرين. وتلاحظ أرات أن منطق “س. أ.” يشترك مع أفكار النسويات العلمانيات في العديد من النقاط.
أما “ج. س.” فتمثل نموذجًا مختلفًا اهتم بمعرفة وفهم الدين الإسلامي، حيث تنتمي لعائلة متدينة محافظة اهتم فيها الأب بتثقيف بناته إسلاميًا ولكنها تلقت تعليمها في مدارس الدولة وتعمل محامية. أولا تؤكد “ج. س.” أنها مؤمنة لذا فهي ليست تحتاج لتبريرات لأحكام الإسلام، لكنها أجابت عن أسئلة أرات الخاصة بتعاليم الإسلام. ترى “ج. س.” أن تخوف البعض من الإسلام سببه أن الآيات تنتزع من سياقها الصحيح وبالتالي تفقد معناها. فالدين الإسلامي يركز على الأسرة كوحدة للمجتمع وليس المرأة، وذلك يفسر لماذا يعادل نصيب الرجل في الميراث ضعف نصيب المرأة. فالرجل مسئول عن الإنفاق على الأسرة والمرأة التي تأخذ نصف نصيب أخيها يأخذ زوجها ضعف نصيب أخته، وبالتالي فنصيب الأسرتين يصبح متعادلاً في النهاية. كذلك ترى “ج. س.” أن عدم اضطرار المرأة للخروج من المنزل لإعالة الأسرة جعل من المناسب أن تستأنس بامرأة أخرى مثلها في الشهادة أمام المحاكم. لكن “ج. س.” أكدت في الوقت نفسه حقها كامرأة متعلمة في الاستقلال وتحقيق الذات خارج حدود المنزل، وهو ما تراه أرات تأكيدًا لقيمة استقلال الفرد في مواجهة قيم الأسرة ولكنه أيضًا مثال لتفاعل منظومتين مختلفتين من القيم مع بعضهما البعض، وعمومًا لم تهتم “ج. س.” بالتناقض الظاهري بينهما ورأت أن كلاً منها تثري الأخرى.
لكن معظم النساء اللاتي حاورتهن أرات لم يبدين مثل هذا الاهتمام بمعرفة الدين الإسلامي وأحكامه، من فقط تمتعن بإيمان قوي به وإن تضاءلت معرفتهن به. فالإسلام الحقيقي بالنسبة لهن كان يطبق في العصر الذهبي للإسلام أما الآن فلا توجد دولة تقدم نموذجًا حقيقيًا له. فالله هو خالق الإنسان ولا يمكن أن يتسم بالظلم، بالتالي فإذا أحل الله أكثر من زوجة كان لذلك سبب وجيه. وإذا تضررت النساء نفسيًا من هذا الوضع فمعنى ذلك أنه طبق بشكل خاطئ. كذلك رأى عدد منهن أن الأوضاع في الأيام الأولى للإسلام تختلف عن الأوضاع الحالية وبالتالي يجب مراعاة ذلك عند تفسير أحكام القرآن. وبرغم اختلاف نساء رفاه حول العديد من أحكام الإسلام الخاصة بالمرأة لكنهن أجمعن على أن غطاء الرأس فرض يجب المحافظة عليه.
غطاء الرأس موضوع مركزي بالنسبة لنساء رفاه وغالبًا ما كان السبب الرئيسي في انضمامهن للحزب سواء للدفاع عن الحق في ارتدائه أو الاحتجاج على التمييز ضدهن بسببه. تعي نساء رفاه أن الدولة تحظر غطاء الرأس لأنه يحمل العديد من الدلالات السياسية لكنهن ترفض هذا الادعاء. فبالنسبة لهن هو أمر شخصي يعبر عن حب الله يجب ألا تخاف الدولة من “قطعة صغيرة من القماش“، فما المعايير التي تستطيع بها الدولة أن تقيس ما إذا كان حجاب الشعر سياسيًا أم غير سياسي؟ كذلك ترى نساء رفاه أن غطاء الرأس لا يمكن أن يهدد ليبرالية الدولة. مع ذلك عبرت إحداهن أن تخوف العلمانيين من الدولة الإسلامية سببه أنها ستوقف الفساد. إذن فهي تدرك أن للإسلام دلالات سياسية مع ذلك ترفض الاعتراف بوجود الدلالات نفسها لغطاء الرأس.
ترى “أرات” أن مطالبة نساء رفاه بالاعتراف بغطاء الرأس تضعهن في مأزق وإن لم يدركن ذلك أو لم يعترفن به. فالإسلام ينظم العلاقات الشخصية ويتضمن أحكامًا خاصة بالطلاق والزواج والزنى والعديد من القضايا. فكما أن غطاء الرأس هو أمر من أوامر الله التي يجب الاعتراف بها داخل الدولة يرى العديد من المسلمين أن تعدد الزوجات وحق الزوج في إتمام الطلاق بشكل منفرد مثلاً أحكام معمول بها في الدول المسلمة ويجب إقرارها أيضًا. لكن نساء رفاه رفضن ربط غطاء الرأس بقضايا أخرى.
ترى “أرات” أن فهم هؤلاء النساء للإسلام جاء في إطار تجربة فريدة هي التجربة التركية. فتنوع فهم نساء رفاه للإسلام وعدم تخوفهن من بعض أحكامه لعدم اضطرارهن للعيش في ظل هذه الأحكام من قبل بحكم نشأتهن في بيئة علمانية تضمن إلى حد كبير المساواة في الحقوق بين المرأة والرجل. مثلاً تشير أرات إلى أن غضب النساء من “حظر غطاء الرأس” كان بسبب أنه يحرمهن من فرص التعليم وليس من حق ممارسة الدين بحرية، فواحدة منهن فقط هي التي ذكرت حث الرسول الكريم على طلب العلم. و تعزي ذلك لتمثلهن قيم ثقافة تساوي بين المرأة والرجل في حق التعليم. أي أنه بالنسبة لهن فإن الجمهورية الإسلامية ما هي إلا جمهورية علمانية أخلاقية.
فنساء رفاه لا يرين في غطاء الرأس تهديدًا للدولة الليبرالية لأن فهمهن للإسلام جاء في إطار هذه القيم الليبرالية التي تحترم مبدأ العدل وتحافظ عليه. وبرغم اعتقاد بعض نساء رفاه أن رجال الحزب يفهمون وضع المرأة في الإسلام بنفس الطريقة فإن أرات غير مقتنعة بذلك. فإذا رفضوا دخولهن دوائر صنع القرار في الحزب ما الذي سيدفعهم للأخذ بمشورتهن في إدارة الدولة؟ إذن غاب عن نساء رفاه أن الفارق الكبير بين الدولة الدينية والدولة العلمانية هو أن الأخيرة تسعى لجذب رضا الجمهور في حين أن الأولى تفترض سلطة دينية عليا لسعيها لتطبيق عدالة الله. مع ذلك ترى أرات في ضوء هذه المقابلات أن نظرة النساء لغطاء الرأس بمعزل عن السياسة تستدعي توسيع حدود ممارسة الأفراد للدين في حياتهن الشخصية لأن في ذلك تعزيز لديمقراطية الدولة العلمانية وزيادة لفرص المشاركة السياسية بها.
عرضت “يشيم آرات” في كتابها تجربة نساء حزب رفاه كنموذج فريد لتفاعل الإسلام والدولة العلمانية الليبرالية، وشرحت كيف أن نشأة نساء رفاه في مجتمع يضمن المساواة بين الرجل والمرأة شكل فهمهن وتفسيرهن للدين الإسلامي. كذلك أوضحت كيف أن رغبتهن في ممارسة الدين الإسلامي كما يفهمنه هي ما دفعتهن لتحدى الحدود التي تسمح هذه الدولة التركية بممارسة الحريات الدينية داخلها، كما أن هذا الهدف ساعدهن في جذب عدد كبير من النساء غير المسيسات إلى ساحة السياسة عن طريق الذهاب إليهن في منازلهن وجلساتهن والتحدث إليهن عن المشاكل التي يواجهنها والحلول المقترحة لها. أي أن نساء رفاه لم يزدن من عدد عضوات الحزب بالتحدث عن أيديولوجية دينية بل بمناقشة همومهن ومشاكلهن الدنيوية اليومية بدلاً من تبني خطابات فوقية عن قضايا لا تمت لهن بصلة. كذلك استفادت نساء رفاه من التقاليد المجتمعية التركية مثل “أيام الذهب” والزيارات الأسبوعية في الترويج لحزبهن السياسي وإقناع النساء بإمكانية توصيل أصواتهن للدوائر العليا مما يعني تشجيعهن على المشاركة في النظام السياسي الحديث.
وقد نجحت “آرات” في رسم ملامح تجربة نساء حزب رفاه ونجاحهن في عبور الحدود بين الشخصي والسياسي، وبين الديني والعلماني، وبين التقليدي والحديث، لكنها لا تغفل حقيقة عدم وصولهن لمناصب عليا في حزب رفاه. فرغم أن النجاح السياسي ساعدهن في تعزيز استقلاليتهن داخل المنزل فإن الممارسات الأبوية ظلت كما هي خارجه. كذلك تناولت آرات الأحزاب العلمانية التركية بالنقد حيث إنها ماثلت الأحزاب الإسلامية في عدم تشجيع دخول المرأة لدوائر صنع القرار فيها، ولكنها ترى أن التفسير التقليدي للإسلام يبرر هذه الممارسات في حين أن الأحزاب العلمانية تعترف بقصورها في هذه الناحية.
قدمت يشيم آرات كتابًا ممتعًا يتسم بوضوح الفكرة والأسلوب ويوازن بين عرض آلیات وقواعد عمل حزب رفاه ولجان النساء فيه وبين تقديم البعد الإنساني المتمثل في قصص العضوات ورؤيتهن للعالم. كما أنه دراسة مهمة تقدم العديد من الأفكار لتسييس وتفعيل مشاركة الفئات غير المسيسة في المجتمعات المختلفة. كذلك قدمت المؤلفة من خلال قصص نساء رفاه نقدًا لنموذج الدولة العلمانية القائم في تركيا حيث رأت أن الدولة التركية فشلت مرتين: الأولى في إقناع نسبة غير قليلة من مواطنيها بنموذج المواطنة وتفسير الإسلام الذي تتبناه، والأخرى عند تدميرها فرص هؤلاء المواطنين في الترقي وسعيها لإقصائهم. كذلك بينت آرات أن الإسلام الذي تعتنقه معظم النساء الإسلاميات في تركيا متأثر جدًا بالسياق العلماني للدولة التركية وبالتالي هو لا يمثل تهديدًا للدولة العلمانية وقيمها الليبرالية. ففي نهاية المطاف تعتبر تجربة نساء رفاه حوارًا ثقافيًا بين الليبرالية والإسلام يمكن البناء عليها لإثراء الطرفين وتوسيع نطاق الممارسة الديمقراطية في تركيا.
*معيدة بقسم اللغة الإنجليزية، جامعة القاهرة.
Yesim Arat. Rethinking Islam and Liberal Democracy: Islamist Women in Turkish Politics. New York: State university of New York Press, 2005.