الصعوبات التي يواجها الآباء عند المشاركة في رعاية الأبناء(*)
يقول «کارل» عامل بالمرافق 34 عاماً
“العمل ضرورة ولكن قضاء الوقت مع عائلتي يعني لي الكثير، فأنا لا أتصور حالي لو لم تكن لدى عائلة ولذلك أقول المال ليس وحده مقياس الغنى. فعندما أنظر إلى ابنتي أشعر أن «عائلتي هي كل شيء».
نتيجة للحالة الاقتصادية وتعنت رؤساء العمل أصبحت وظيفة الوقت الكامل حتمية لا غنى عنها وبالتالي أصبح تواجد الآباء المستديم بالمنزل من الأشياء المستحيلـة بالنسبة لمعظم الرجال. أما الوظائف التي يتمكن من خلالها الشخص من العمل لنصف الوقت فقط، فهي قليلة وخاصة في المهن التي يهيمن عليها الرجال. يشكو «أرثر»، عامل بالوقاية الصحية متزوج ويخطط لإنجاب طفل:
” لو كانت الحالة المادية تسمح لفضلت أن أقضى وقتًا أطول مع طفلى. هذا أكثر أهمية بالنسبة لى، فأنا أفضل أن أعمل ٢٥ ساعة أو أربعة أيام في الأسبوع وأن أقضى ثلاثة أيام مع عائلتي ولكن معظم الوظائف لا تتيح ذلك.
ولكن حتى لو أتيحت فرصة العمل لنصف الوقت فعادة ما يحتاج الآباء لراتب وظيفية الوقت الكامـل. «لو»، عامل بالصرف الصحي، اختار أن يعمل ليلاً حتى يتمكن من قضاء النهار مع طفلته الصغيرة ولم يقبل براتب أو مزايا أقل:
لو توافر المال لفضلت البقاء بالمنزل. فأنا أفضل أن أقضى الوقت مع طفلتي ذات الثلاث سنوات. ولكن معنى ألا أعمل أن يقل الدخل وأصبح غير قادر على تلبية احتياجات أسرتي. أما إذا عرض على نفس الراتب مقابل ساعات أقل من العمل فمن الغباء أن لا أقبل بذلك.
ويقول «دین» سائق بهيئة النقل العـام مؤيدًا، أن التزاماته المادية لا يمكن أن تأتى خلف التزاماته التربوية:
نحن دائمًا ننتهى إلى نفس الشيء: أنا أود أن أقضي وقتًا أطول مع أطفالي ولكن ما فائدة الوقت لو لم يكن لدى المال. لو أجد وظيفة لنصف الوقت، مع ضمان المال الكافي، يكون ذلك حلاً رائعًا.
بما أنه كان على الآباء الذين يرغبون في المشاركة في رعاية وتربية أطفالهـم القيام بالاختيار الصعب بين المال والوقت، فكان عليهم، مثل الأمهات، أن يضيفوا الاهتمام بالأطفال إلى مهام العمل لوقت كامل في نفس الوقت الذي يرفض رؤساء العمل، بشكل عام النظر إلى مسئوليات الآباء والأمهات، على حد سواء كحاجة أو حق شرعی (1). فنادراً ما ينظر إلى إجازة رعاية الأطفال كحق شرعي للآباء رغم الاعتراف بها رسميًا. يود كثير من الآباء أن يأخذوا إجازات من العمل ولكنهم عادة ما يخشون فقدان وظائفهم (2). وبالرغم من أن رؤساء العمل يعتبرون المرض عذراً مقبولاً، فهم لا ينظرون لرعاية الأطفال نفس النظرة والرسالة التي تصل العاملين من جراء ذلك أن المرض لا يمكن تجنبـه أما الأبوة أو الأمومة فهما شيء إرادي– أي دلالة على عدم الالتزام بالعمل. وعلى ذلك فإن أسلوب الحياة الحديثة يجعل الأبوة شيء يعرض مستقبل الرجل العملي للخطر، وبالتالي فإن اختياره للأبوة يعد بنفس خطورة اختيار المرأة للأمومة وهو الخطر الأكثر شيوعًا. أما عن «جوان» وهو محلل اقتصادی، فهو يعرف جيدًا أنه لا يمكن أن يتأخر عن عمله أكثر من بضعة أيام أو أسبوع على الأكثر وإلا يعرض وظيفته للخطر. ويقول عن إجازة رعاية الأطفال:
رغم أننى غير معترض عليها كحل إلا أنها حل غير واقعي، فمن الصعب أن أطلب من رئيسي في العمل أن أتغيب في أي وقت. عادة ما يكون على القيام بمهام معينة في مدة محددة. فسأخاطر بوظيفتي إذا ما تركت عملي لمدة شهرين أو ثلاثة.
ولأن كثيراً من أصحاب العمل لا يمنحون الموظفين حق اختيار تنظيم عملهم بطريقتـهـم الخاصة على مدى اليـوم أو حسب طبيعة العمل، فكثير من الآباء يفضلون العمل الحر أو الأعمال التي يمكن مباشرتها من المنزل لضمان المزيد من المرونة والتحكم في تنظيم الوقت. كما تمنى «كريج»، وهو راقص سابق وموظف حاليًا، أن يوفق بين العمل ورعاية الأطفال من خلال أداء العمل بالمنزل:
أفضل ألا أكون مقيدًا بجدول أعمـال مشحون من التاسعة صباحًا وحتى الخامسة يوميًا. كم أود أن أقوم بالاستشارات بالمنزل حيث أستطيع أن أكون بالقرب من عائلتي طوال اليوم. وعند الحاجة أنحى عملي جانبًا وأقوم بدور الأب.
ولكن حتى هذا الاختيار لا يسنح للكثيرين الذين يجب عليهـم إيجاد الوقت لرعاية أطفالهم إلى جانب القيام بأعمالهم (3).
وتعوق طريقة تنظيم الحياة الأسرية تحقيق المساواة الكاملة، فمازالت عملية تربية الأطفال لا ترى كإنجاز بل وتعزل من يقوم بها ولا تجلب له التقدير، وهذا ما أدى إلى هروب كثير من النساء وقلل من دافع الرجال لتكوين أسرة. كما أوضح «راسل»، وهو محام وأب لطفلين، أن تربية الأطفال لا تنال التقدير الذي يناله العمل:
أشعر أن حياتي ستكون بلا معنى إذا لم أقم بأي عمل منتج، وهذا لا يعني أن تربية الأطفال ليست عملاً منتجًا، ولكنني لا يمكن أن أقوم بذلك طوال الوقت بالرغم من حبى لأطفالي، فلا يمكنني أن أقضي كل وقتى معهم.
وتربية الأطفال لا تلقى التقدير الكافي بل ولا تحس قيمتها على الإطلاق في بعض الأحيان. فبعكس المرتب أو اللقب الذي يحمله الموظف، فإن الوقت الذي يخصصه الآباء لرعاية الأطفال أو النتائج التي يحققونها قليلاً ما تكافئ. ولذلك فنجد قليلاً من الآباء أمثال «مايك» على إستعداد للقيام بهذه المهمة:
لن يدرك أحدكم الوقت والمجهود الذي أبذله مع عائلتي. وكثيراً ما يستهزأ الناس بما أقوم به ولن يرضى أحد عما أبذله من جهد ووقت إلا أنا لأننى أعرف ما كنت أسعى للوصول إليه.
إن القوى التي تدفع النساء خارج المنزل أكثر بكثير من تلك التي تدفع الرجال خارجه. وحيث إن الوظائف العامة تفوق مثيلاتها الخاصة في القوة والمكانة الاجتماعية، فإن ذلك يدفع الرجال لرفض تولى الأعباء الأسرية كما يدفع النساء للعمل. وكذلك الحال مع ما يدفع النساء إلى إقتحام الوظائف التي يهيمن عليها الرجال ويجعل الرجال أقل إقبالاً على تلك التي تهيمن عليها النساء وبالإضافة إلى ذلك، فإن دخول النساء في تلك المهن التي يهيمن عليها الرجال يعرضهن للتحامل والتفرقة، فإن مشاركة الأب في تربية الأطفال مع زوجته أو توليه المسئولية بشكل أكبر تصمه في عالم يهيمن عليه النساء(4). ويحاول روجر تجنب السؤال الملح عن حياة أطفاله الذين يتولى هو تربيتهم:
لقد أصبحت أكثر انطوائية لأنني سئمت من شرح موقفي بالمنزل– ما لا يستطيع الأطفال استيعابه هو لماذا يعيش كل الأطفال مع أمهاتهم ويعيش أطفالي مع أبيهم ؟
كل هذه المعوقات أدت إلى رفض الكثير من الآباء، مثـل الأمهات البقاء بالمنزل لرعاية الأطفال. حتى ولو أن خروج النساء لكسب العيش وبقاء الرجـال بالمنزل لرعاية الأطفال بـدا حلاً اقتصاديًا، فإنه لم يبد حـلاً مقبولاً، فمثلاً «روبن»، وهو سمسار بالبورصة، لم يقبل أن يكون هو من يعتنى بالأطفال وخاصة أن ضعف آماله العملية لم يجعله في موقف يسمح له باحتمال أن يوصم بوصمة عار لكونه «رجل منزل». وبالرغم من تقاضيه راتبًا أقل بكثير من زوجته، فإنه اعتبر مجرد التفكير في البقاء بالمنزل لتولى المهام الأسرية «إهانة» قائلاً «أنا لا أشعر بالأمان في ترك العمل والقيام بدور «رجل المنزل».
بالطبع يرفض الآباء الذين يشتركون في تربية الأطفال ذلك التمييز الذي يواجهونه ويسعون دائمًا إلى أن يعاملوا بنفس الجدية التي تعامل بها الأمهات. ولكن ما جعل معركتهم عسيـرة هو الشك السائد في قدرة الرجال على رعاية الأطفال. فيشكو «إريني» قائلاً:
أنا أؤمن بأن لي الحق في تربية أطفالي مثل زوجتي رغم التفرقة التي أواجهها من هؤلاء الذين يفترضون ويسلمون بأن الأم هي من ترعى الأطفال أمثال أطباء الأطفال، فهم يرفضون التحدث إلا مع زوجتي ويتجاهلونني حين ألفت نظرهم إلى أننى أيضًا أشارك في الاعتناء بطفلتي وكذلك في دار الحضانة، فهم دائمًا ينظرون إلى وكأنهم يتساءلون عن سبب حضوري مثل هذه اللقاءات وكأن الأمر لا يعنيني.
وعلى ذلك فإن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والمعتقدات السائدة هي ما جعلت مشاركة الأب في تربية الأطفال شيئًا صعبًا. فقد قلل انعدام المساندة سواء الخارجية أو الداخلية من، بل وقمع، رغبة كثير من الرجال، حتى من كان لديهم الحماس، للمشاركة في تربية الأطفال. ولولا وجود هذه الحواجز لتحمس كثير من الرجال لتربية الأطفال واختاروا القيام بالمهام التي يقل إقبال النساء عليها حاليًا، كما تمنى “إرني” أن يتمتع بما لدى الأمهات اللاتي لا يعملن من اختيارات:
«فأنا لست من النوع الذي لديه مطامع أو أهداف وظيفية. لو لم يكن العمل ضرورة، لما اخترته. لكنى أفضل العمل التطوعي كالعمل في دار حضانة أو في مدرسة ابنتى. فكم أحب أن أخرج في رحلات مثل الأمهات اللاتي لا تعملن وأكون أكثر إيجابية ولكني لا أستطيع القيام بذلك.
وتكمن المشكلة في أنه في الوقت الذي يقل فيها الدعم الذي تتلقاه الأمهات اللاتي لا تعملن، فإنه لا توجد زيادة في دعم مشاركة الآباء أو قيامهم وحدهم بتربية الأطفال حتى يوقف انعدام التوازن المتزايد بين احتياجات الأطفال ومصادر دخل الأسرة. فكان على الآباء الاعتماد على المساعدة مدفوعة الأجر أو على الأقرباء أو حتى على الزوجات اللاتي يتحملن أعباء كثيرة بالفعل، حتى ولو لم يرغبن بذلك.
وأدت كل هذه المعوقات إلى زيادة العبء على الأمهات وجعلت من الآباء أبطالاً في أي مما يقومون به للمشاركة في تربية الأطفال. وتساعد المقارنة بالآخرين الكثير من الرجال على التخلص من شكوى النساء وتعوق أي فرصة للتغيير. كما يوضح “إرني“:
ترى زوجتي أحيانًا أني لا أقوم بما يكفى، ولأنني أشعر بالعكس تمامًا وبأني أقوم بأكثر مما يجب على، فدائمًا ما أدعوها أن تسأل صديقاتها عما يفعله أزواجهن.
وبالتالي فكان على الآباء الذين يريدون تحقيق المساواه في المشاركة في تربية الأطفال مواجهة كل هذه الحواجز الدفينة. لقد أخمد الهيكل الاجتماعي سواء كان في العمل أو في المنزل حماس الكثير من الرجال للمشاركة الفعالة في رعاية الأسرة. وأدت قلة فرص الاختيار أمام الرجال إلى قلة الخيارات أما زوجاتهم، أو مطلقاتهم، أو حتى شركائهم.ولنا أن تخيل عدد الرجال الذين كانوا سيساندون الأمهات بالمشاركة الفعالة في تربية الأطفال لو تم التخلص من مثل هذه المعوقات أو بالأحرى استبدالها بالدعـم الإيجابي لمشاركة الآباء في رعاية الأسرة.
رغم أن المساواة الكاملة لم تتحقق بعد، إلا أن الآباء خطوا بالفعل خطوات واسعة في الطريق إليها. وقاموا ذلك دون إجبار من أحد ولم يفعلوه من أجـل منفعة الطرف الآخر، ولكنهم رأوا أن المقابل، ولو أنه غير معلن، مفيد. فمن المحتمل أن تكون الأبوة في حد ذاتها بالرغم من كل ذلك هي العائد– بما تمنحه من سعادة داخلية وإحساس قوي بالانتصار. كما يوضح «ريك»: فعلاقتي القوية بأولادي تجعلني سعيدًا وإحساسي بأن نجاحهم في المدرسة يرجع لوجودي بجانبهم وهم أصغر سنًا تزيد من هذا الإحساس. فعادة ما يكون هناك كثير من التفاعلات حتى يصل الآباء بأبنائهم إلى نهاية الطريق لأن يكونوا أطفالاً أصحاء يمتلئون بالحيوية.
وتزداد هذه المشاعر أهمية عندما يتعذر وجود طرق أخرى لإثبات الذات. فكم تمني «تود»، وهو عامل بناء تعذر عليه تحقيق حلمه بأن يكون ممثلاً، أن يوجه مواهبه لتربية ابنته بدلاً من وظيفته:
إذا كان حساب الإنسان في الآخرة على ما أنعم عليه به خالقه شيء حتمى، فأنا أود أن يكون لي تأثير حقيقي في حياة طفلتي الصغيرة.
إذا كان الأطفال مصدر الفخر لهؤلاء الذين لم تتحقق طموحاتهم في العمل، فإن المسألة ليست جينات متوارثة أو لقبًا عائليًا يمنحونه لهم. فإن ما يمنحه الآباء لأبنائهم من مشاعر ووقت هو الأكثر أهمية. «فكارل» الذي فضل أن يعمل في إصلاح المرافق حتى يستطيع رعاية ابنته عند عودتها من المدرسة، يرى أن «استثماره» الحقيقي هو ما تحققه ابنته من إنجازات وما تكتسبه من مهارات:
يثنى الناس دائمًا على ابنتى وأنا أيضًا أحظى بهذا الثناء، فأطفالنا هم جزء منا، نعلمهم أشياء مختلفة ونساعدهم على النمو حتى يستطيعوا تحقيق شيء. وفي النهاية هم انعكاس لنا.
وإذا ما منحت تربية الأطفال الرجال مجالاً آخر لإثبات ذاتهم في هذا العصر الذي تقل فيه فرص العمل بسبب الركود الاقتصادي، فإن الآباء الناجحون اقتصاديًا يستفيدوا أيضًا من المشاركة في رعاية الأطفال حيث إنها تحقق التوازن في حياتهم، التي بغير ذلك تقتصر على العمل فقط. واتخذ «شارلز»، وهو محامٍ وأب لطفل، من رعايته لطفله عذراً لكي يقلل من أعباء العمل:
فأنا أعمل ساعات أقل حيث إننى أتولى مهام أخرى، ولكنى أرى ذلك أفضل فأنا لا أريد كل ذلك العناء في العمل.
وتساعـد مشاركة الآباء في تربية الأطفال أيضًا على الاستقرار في عصر تكثر فيه حالات الطلاق، وحتى من يحظون بالسعادة الزوجية من الآباء يرون أن أبناءهم حجر الأساس للاستقرار في عالم متقلب، يرونهم الرباط الوحيد الذي لا يمكن قطعه فيرى «فجوان» الذي قامت والدته بتربيته بمفردها، أن أولاده وليست زوجته هم السبيل الوحيد لرباط عاطفی دائم ويقول «ماذا يحدث لو أردنا أنا وزوجتي الانفصال بعد مدة طويلة من الزواج ؟ ولذلك أفضل أن يكون لدى أطفال».
وتساعد مشاركة الآباء في رعاية الأطفال أيضًا على إيجاد نوع من الدعم العاطفى بخلق رابط بين الزوج والزوجة. فنادرًا ما ترفض الأمهات مشاركة الآباء في العلاقات الجديدة التي تنشأ مع مولد طفل. ويتعجب «تيموثى» الذي يعمل بمستودع للقمامة في المدينة، من شكوى الآباء الذين لا يشتركون في تربية ورعاية الأطفال، عند مولد طفل جديد قائلاً:
هناك كتب كثيرة عن استياء الآباء من اعتناء الزوجة بالطفل أكثر منهم ولكني أراه نوع من الهوس فأنا أرعى طفلي مثلما تفعل زوجتي تمامًا.
وتساعد المشاركة في العناية بطفل جديد في تقليل إحساس الأمهات بالعبء والوحدة خلال فترة حرجة، تعتبر نقطة تحول في حياتهم الزوجية (5). كما تمنى كارلوس أن مشاركته في رعاية الأطفال تمنع الروح العدائية التي يمكن أن يحدثها عدم المساواة:
أعتقد أن رعاية الأطفال عبء لا يمكن لأحد الطرفين القيام به وحده. وإلا يحرق هذا الطرف. ويؤدي فقدان التجاوب بيني وبين زوجتي في النهاية إلى أن أكرهها وأكره أطفالي، فالطريقة الوحيدة لتجنب ذلك هي المشاركة في المسئولية.
وحيث إنه قد توصـل الآباء إلى أن نجاح أي علاقة يعتمد على قدرة كل طرف على تلبية احتياجات الطرف الآخر، فإن هدم أي طرف لأحلام الآخر، بالامتناع عن المشاركة ماهو إلا انتصار زائف يؤدى إلى الاندحار. ويكبد الرجل عدم اشتراكه في رعاية الأسرة عناء يفوق ما تفرضه المشاركة من أعباء. ويوضح «کارل» سعادته بعدم اتباعه لأسلوب والديه قائلاً:
والداي يتبعان المدرسة القديمة. فأبى لم يلمس طبقًا قط، ولكنني أحب ما أفعله أكثر. فالطريقة القديمة ستؤدى إلى استياء ورفض المرأة في النهاية لأنها ستشعر أنها لم تتمكن من القيام بشيء خاص بها. أما زوجتي فلن تشعر بذلك لأنى منحتها حريتها. فهي تعمل ولم يكن عليها الوقوف حافية القدمين في المطبخ وهي حامل. لقد فعلت ما يجب على القيام به. وأنا أعتقد أنه على المدى الطويل سيظهر أثر ذلك فلو لم أفعل ذلك لتركتني زوجتي.
وبذلك تمنح مشاركة الآباء في الأعباء الأسرية طريقتين للتكيف مع المخاطر التي يواجهها الزواج في هذا العصر الذي يشيع فيه الطلاق بشكل عام فهي تعتبر مصدراً آخر للمساندة العاطفية في حالة عدم نجاح الرباط الزوجي. وأيضًا ساعدت على بناء علاقة لا يشوبها الحقد بالتخفيف من استياء الزوجات. في الحقيقة، هناك أدلة كثيرة على أن العلاقات التي تبنى على المساواة تفيد الزوجات والأزواج. لقد أوضحت إحدى التقارير أن الزوجات اللاتي يشاركن أزواجهن في الأعباء المنزلية، يعانين من معدلات اكتئاب أقل من اللاتي لا يشاركهن أزواجهن. وأوضح تقرير آخر أنه كلما زادت مشاركة الزوج في الأعباء المنزلية قلت احتمالات مطالبة الزوجة بالطلاق(6).
ولن يكون الإشباع العاطفى والسعادة الزوجية هما فقط العائد. ولكن بموافقتهم على المشاركة في الأعباء المنزلية، هم أيضًا يشاركون في الأعباء الاقتصادية. فدخل المرأة يساعد الرجل على تخفيف عبء العمل لساعات طويلة أو البحث عن وظيفـة إضافية “فويزلي” مثلاً يفضل قضاء الوقت بالمنزل على الالتزام بقضاء ساعات أكثر في العمل:
لقد منحت سيندي حرية البقاء بالمنزل دون عمل. ولكن ذلك يعني أن أبحث عن وظيفة إضافية أو أن أعمل ساعات إضافية، فهي تعلم أننى يمكن أن أقوم بذلك لكنها لا تريد حيث إننا نتمكن من قضاء وقت أطول بهذه الطريقة.
أيدت الأبحاث على المتزوجين والمطلقين رأي الآباء في أن مشاركتهم في الأعباء المنزلية تفيد الأطفال سواء على المدى القصير أو الطويل(7) فيقول «لاری»:
بما أن طفلتنا تقضى مع كلينا وقتًا طويلاً، فهي لا تعتمد على أحد منا بالتحديد. فبالنسبة لها والدتها ووالدها شيء واحد. وأحيانًا أكون أنا الأم. فإنه من المفيد أحيانًا أن نتبادل الأدوار فهي لا تجرى لإحدانا بل لكلينا.
وودوا لو أن أبنائهم وبناتهم استطاعوا أن يحذوا حذوهم ليكتشفوا منهجًا أكثر مرونة لبناء حياتهم. وقال «إرنى» إن مشاركته خلقت جوًا أسريًا أفضل لابنته:
مشاركتي تعتبر نموذجًا جيدًا لابنتى فهي تراني أطبخ وأحاول أن أعلمها أن تخبز وهو شيء لطيف أن تتعلم كيف تخبز عن أبيها. فأنا آمل أن تعرف ابنتى أن الحياة مشاركة. وليست أدوارًا محددة مقصورة على كل من الرجل والمرأة.
وتمنى «إرني» أيضًا، مؤيدًا علماء النفس الذين يزعمون أن البنات مثل الأولاد يحتجن لأبيهن، أن مشاركته تساعد ابنته على الاعتماد على النفس. فالبنات والأولاد يتوحدون بشكل ما مع الأبوين. والبنات يتطلعـن لآبائهن مثـل أمهاتهن كنموذج للحياة(8).
تربية ابنتى لها الأولوية في حياتي. فأنا أحاول أن أعدها لمواجهة الحياة. وأن أعرضها لمختلف الأشياء حتى تستطيع أن تجد ما تود تحقيقه. اتمنى أن تجد عملاً تحبه بحق وتسعى للنجاح فيه.
وقد توصل هؤلاء الرجال أيضًا إلى أن أبناءهم يستفيدون من مشاركتهم الفعالة في الحياة الأسرية. وذلك يتفق مع نتائج الأبحاث التي أثبتت أن أبناء الآباء الذين يشاركون في رعاية الأطفال هم أكثر قدرة على التعاطف(9). ويعلق «ويلزى» قائلاً: إن أولادي يشعرون بالقرب من كلينـا، فربما عندما يتزوجـون يشاركون هـم أيضًا في الشئون الأسرية.
وكما أنشأ هؤلاء الآباء عائلات على نمط مخالف لما نشأوا هم فيه، فلا يمكن لأحد أن يتكهن بالحياة الأسرية التي سيعيشها هؤلاء الأطفال في المستقبل. فلا يمكن أن يؤكد أو يضمن اعتقاد الآباء في أهمية ومميزات المشاركة في الأعباء المنزلية أن يفعل الأبناء نفس الشيء، ولكنه يضمن أن يقـوى عندهم الإحساس بأهمية المساواة في بناء أي أسرة، وعلى ذلك فإن زيادة عدد الآباء الذين يشاركون مشاركة فعالة في الحياة الأسرية سيساعد الكثيرين على تقبل فكرة المساواة.
وبالرغم من ذلك يعتمد اتجاه الرجال لتحقيق مثل هذه المساواة على قدرتهم على تخطى العقبات التي تواجه أي رغبة في التغيير وعلى قدرتهم على مقاومة الضغوط الاجتماعية للخضوع للأعراف السائدة. فهؤلاء الآباء الذين حققوا المساواة كانت لديهم الرغبة واستطاعوا بالفعل مواجهة والتغلب على التوقعات والقيود الاجتماعية ورفض طرق الماضي. وهناك أسباب قوية تدعو إلى الاعتقاد بأن آراء واختيارات هؤلاء الرجال تعكس اتجاهًا سائدًا بين كثير من الأمريكيين الذين يسعون إلى مرونة أكثر وأعباء أقل في العمل. وهناك ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنهم حتى على استعداد أن يتخلوا عن بعض الكسب المادي في مقابل قضاء بعض الوقت مع عائلتهم. وقد ثبت في دراسة أجرتها مجلة «تايم» أن نسبة 56 ٪ من الرجال قبلوا أن يضحوا بربع راتبهم «لكي يقضوا وقتًا أطول ونسبة 45 ٪ أعربوا عن رفضهم أى ترقية يمكن أن تقلل عدد الساعات التي يقضونها مع عائلاتهم (۱۰). ويعكس «کارل» هذا الاتجاه قائلاً:
إنه لمن العيب ألا يشعر الآخرون بما أشعر به. فأنا أفضل البقاء بالمنزل على العمل لساعات إضافية التي يتقاتل الناس عليها. فهم دائمًا يسألوننى «هل أنت غنى؟» وإجابتي تكون دائمًا لا، فيحتاج الشخص إلى مبلغ معين فقط لكي يعيش. فلو حدث أن صدمتك سيارة في الطريق. لا قدر الله لانتهى كل شيء فلا أريد أن ألوم نفسي «لماذا لم أقض وقتًا أطول مع عائلتي؟». هذا لن يحدث لي. فبإمكان المرء أن يتحكم في مثل هذه الأشياء.
وبالتركيز على مزايا هذا الاختيار وتجاهل عيوبه يستطيع الرجال التغلب على الحواجز الاجتماعية والفكرية التي تعوق تحقيق المساواة في تحمل الأعباء الأسرية. فبالنظر إلى التضحيات والمكاسب تحدث «لاری» عن المجموعة قائلاً: « لقد تخليت عن بعض الأشياء بالطبع، ولكن التغير في أسلوب حياتي كان أفضل بنسبة 80 أو 90 ٪ ».
وبالرغم من قلة عددهم، فيوضح الآباء الذين يؤمنون بالمساواة كيف يمكن للرجال أن يكتشفوا ويكتسبوا مهارات تربية الأطفال ويجدوا سعادة في تطبيقها. وكان على هؤلاء الذين وجدوا دعمًا لما آمنوا به من مساواة أن يقوموا باختيارات طارئة تمامًا كما فعل هؤلاء الذين لم يجدوه. وفي كلتا الحالتين كان من الممكن أن تؤدى الظروف المختلفة إلى نتائج مختلفة. فليس من العجب أن يجد «ريك» طريقه النادر وغير المتوقع بمحض الصدفة:
أنا دائمًا متحفظ جدًا في أسلوب حياتي. وفكرة الزواج والإنجاب تتماشى مع هذا التحفظ. أما فكرة المشاركة في العمل وفي الأعباء الأسرية فهذا بعيد كل البعد عنه. لم أناقش زوجتي في الأمر. ولكني أشعر أن النتيجة كانت وليدة الصدفة ولقد أكدت التجربة ذلك.
ولكن الصدفة هي مجرد تعبير آخر للقول بأن اختياره كان بناءً على فرص غير معتادة وغير متوقعة. وقد ثبت مدى أهمية مشاركة الآباء في تربية الأطفال ورعاية شئون الأسرة رغم قلة الدعم ورغم المعوقات والعراقيل التي يواجهها الرجال. ولكي يتحقق ما يتمناه كثير من الرجال الذين يرغبون في المشاركة وتحقيق المساواة فلابد أن تتوافر، لعدد أكبر منهم تلك الظروف غير العادية التي ساعدت القليل الذين استطاعوا بالفعل تحقيقها.
رانيا الشباسـى: مدرسة مساعدة بقسم اللغة الإنجليزية.
(*) من؛ كتاب «أرض ليست للرجال: الالتزامات المتغيرة للرجال تجاه العائلة والعمل» تأليف كاثلين جيرسون (الناشر) بيزك بوكس، منشق من هاربر كولنز وشركاه وأعيد الطبع بتصريح من بيزك بوكس، أحد أعضاء برسیس بوکر، ل. ل. سی ۱۹۹۳، ص ٢٤٧–٢٥٥.
1– انظر كارول لوسن «يومئ الطفل: لماذا أبي في العمل ؟» مجلـة نيويورك تايمز (16 مايو) ۱۹۹۱، ص، ج ۱، ج ۸. ويعد الحكم بأحقية الأسرة لإجازة رعاية الأطفال الذي أصبح قانونًا سنة 1993، خطوة أولى مهمة، ولكن هناك حاجة إلى المزيد لكي يستطيع الرجال اختيار، بإرادة حرة، المساواة في رعاية الأطفال.
2- جوزيف هـ. بليك: « عمل الأزواج المدفوع الأجر، وأدوارهم الأسرية: اتجاهات البحث الحالية » دراسة في تشابك الأدوار الاجتماعية: العمل والأسرة 3 (۱۹۸۳)، ص ٢٥١–٣٣٣.
3- باربرا ج. ريسمان، ماكسين ب. أتكنسـون: « الجنس في العلاقات الخاصة: نحو نظرية جدلية بنيوية»، بحث مقدم إلى المجلس القومي عن نظرية العلاقات الأسرية، البناء، ورشة مناهج البحث (نوفمبر) سياتل، واشنطن. ويرى ريسمان وأتكنسون أن: الالتزامات الاقتصادية تجبر الآباء (النسويين الجدد) على عدم ترك وظائفهم وإن لم تكن الأفضل، وينتظر منهم العمل بجدية بغض النظر عن مدى مشاركتهم في رعاية وتربية الأطفال. فهم عندما يقومون برعاية أطفالهم ينالوا الثناء من أصدقائهم وأفراد عائلتهم وزوجاتهم بصفتهـم آباء رائعين، عصريين، يشاركون في تحمل المسئولية»، ص 15، 16.
4- هال ستراوس، «من يخاف الطبيعة» مجلة الصحة الأمريكية (يناير– فبراير ۱۹۸۹) ص ۷۰–۷۱ وكتاب «رجال ونساء الهيئة» تأليف روزابيث م. كانتـر، الناشر بازيك بوكس، نيويورك 1977 ومقالة براين أي. روبنسن المسماه « رجال يهتمون بالصغار: صورة جانبية » في كتاب « الأدوار المتغيرة للرجال في الأسرة » من تحرير روبرت أ. لويس ومارفن ب. ساسمن، مطبعة هاورث، نيويورك 1986، ص 151-161. ويواجه الرجل الذي يصبح المسئول الأول في الأسرة نفس المشاكل التي تواجهها المديرات من النساء اللاتي كان عليهم التأقلم على كونهـم «رموزًا». يناقش «ستراوس» العزلة الاجتماعية ووصمة العار التي يوصم بها «رجل المنزل». وأما «كانتر» فيحلل كيف كانت أولى مديرات الهيئة رموزًا. ويقرر «روبنسن» 1986 أن من يقوم من الرجال برعاية الأطفال في دور الحضانة أو برامج الرعاية اليومية عليهم تحمل العار والتفرقة من أصحاب العمل وزملائهم وحتى من الآباء.
5- أنظر أليس أ. روسي، « التحول إلى الأبوة»، مجلة «الزواج والأسرة » ٣٠ (١٩٦٠) ص ٢٦–٣٩.
6– جوان هيوبر وجلينا سبيتز ( تنضيد الجنس: الأطفال، الأعمال المنزلية والوظائف) (الناشر) المطبعة الأكاديمية، نيويورك 1983. وكاثرن أي، روس، جون میروسکی وجوان هوبر ( تقسيم العمل والمشاركة فيه وما بينهما: أشكال الزواج وما يتعرض له من إحباط )، الجريدة الاجتماعية الاجتماعية الأمريكية 48 (6 ديسمبر 1983) ص 809-823، وانظر مقالة « المشاركة المتزايدة للآباء في رعاية الأبناء وتأثيرها على الأباء والأمهات » (۱۹۸۷) بقلم مايكل أي. لامب وجوزيف هـ. بليك وجيمس أ. ليفن، في كتاب « إعادة تقييم الأبوة: ملاحظات جديدة على الآباء والأسرة الحديثة» من تحرير شارلز لويس ومارجريت أو براين (الناشر) سي أ. مطبوعات ساج، نيوبري بارك و « الوردية الثانية: الآباء العاملون والثورة في المنزل » تأليف أرلى أر. هوش شايلد وآن ماتشونج (الناشر) فايكينج، نيويورك، 1989.
۷– انظر فرانـك أف. فيرستنـبرج، جر. أس.، فيليب مورجن وبول د. أليسن: ( مشاركة الآباء وراحة الأطفال بعد انتهاء الزواج ) الجريدة الاجتماعية الأمريكية ٥٢ (5، ۱۹۸۷) ص 695-701 وشيرلي أم. هـ. هانسون: « علاقة الأب والابن بعيدًا عن كرامر ضـد كرامر » (1986) في كتاب « أدوار الرجال المتغيرة في الأسرة» من تحرير روبرت أ. لويس ومارفن ب. ساسمن (الناشر) مطبعة هـاورث، نيويورك وكتاب « دور الأب في تطور الطفل » من تحرير مايكل أي. لامب (الناشر) ويلي نيويورك 1976، ومقاله «تولى الأباء حضانة الأبناء والتطور الاجتماعي للأبناء والبنات» مجلة الموضوعات الاجتماعية (٣٢) ص ١١٢–١٢٥ ومقالة «التطور الاجتماعي وتفاعل الآباء والأبناء في الأسر التي يتولى الأب فيها الحضانة أو تلك التي تحل فيها زوجة الأب محل الأم » (۱۹۸۲) بقلم ج. دبليو. سانتروك و أر. أ. وارشاك و ج. ل. اليوت في كتاب « العائلات غير التقليدية: تطور الأبوه والطفولة » من مايكل أي. لامب (الناشر) لوورنس أرلباون، هيلسايد، ن. ج.، ص ٢٨٩-3١٤.
8- فيكتوريا سيكوندا: النسـاء وآبائهن: التأثير الجنسي والعاطفى للرجل الأول في حياتك (الناشر) مطبعة ديلاكورت، نيويورك ١٩٩٢.
9- ومقالة « اكتشافات مدهشة عن نمو التعاطف عند الأطفال » بقلم دانييل جولمان في مجلة « نيويورك تايمز » (١٠ يوليو ١٩٩٠) ص، ج ۱.
۱۰– تجده في مقالة « إلى الخلف نحو أسرة ما بعد الحداثة » (۱۹۹۱) بقلم جوديث ستاسی في كتاب « أمريكا في نهاية القرن » من تحرير ألن وولف (الناشر) مطبعة جامعة كاليفورنيا، بيركلي ولوس أنجلوس. وأنظر أيضًا «الأباء العاملون: ما تفرضه أدوارهم من ضغوط، وقت العمل، والأفضلية لعمل أقل « بقلم فيليه موون، دونا أى. دامبستر ماكليين في مجلة «الزواج والأسرة» 49 (3) ۱۹۸۷ ص ٥٧٩–٥٩٠ وكتاب «عمال السيارات والحلم الأمريكي»، تأليف الى شينوى (الناشر) دار راندوم للنشر، نيويورك 1955. إذ توصل «شينوى» إلى أن أحلام عمال السيارات في الخمسينيات كانت: التقاعد، الميراث الكبير أو القيام بمشاريع خاصة كبديل للعمل غير المثمر بالمصانع. فإن تضاؤل الوظائف الصناعية المربحة، والآمنة خلال العقد الأخير أدى إلى إحياء حلمهم بالاستقلال عن طريق العمل الحر.