رسم الحدود: الفلسفة والنسوية(*)
يحتل كتاب «رسم الحدود: تعريف النساء عبر العمل النسوى» لمؤلفته كريسيدا هييز (۲۰۰۰)» موقعه عند نقطة تتقاطع فيها النظرية النسوية بخبرات النساء الشخصية ممثلة في مجالات النشاط النسوى والتنظيم السياسي. ويستكشف الكتاب الذات النسوية في سياق السياسة والفلسفة، وتجد المؤلفة نفسها باعتبارها ناشطة سياسية في حالة تشتت بين رغبتها في العمل السياسي الراديكالي على أرض الواقع وبين نزعتها الفكرية الفلسفية التي تحملها إلى عالم التساؤلات النظرية والأفكار المجردة. وتسعى المؤلفة في الكتاب إلى خلق علاقة بين الفكر الفلسفي والواقع الاجتماعي، حيث تتناول مجموعة من القضايا الجدلية في الفكر الفلسفي النسـوى والتي تدور حول قضايا منهجية تتناول «النزعة الجوهـرية» essentialism. وتسعى المؤلفة من خلال هذا الكتاب إلى عرض تأثير الفلسفة على القضايا النسوية، وهو تأثير جعل المؤلفة تميل نحو التجريد.
ويبدو أن وعى المؤلفة بخصوصية الخبرة والموقع يعبر عن نفسه منذ بداية الكتاب حين تحدد المؤلفة موقعها باعتبارها تحمل علامات لهويات متعددة: امرأة ومهاجـرة وفيلسوفة ومدرسة راديكالية واشتراكية وشابة تتمتع بقدر من سلطة، مما يجعلها مستهدفة ممن يرغبون في الحفاظ على سلطاتهم وسيادتهـم فيسعون إلى نفى وتهميش بل وتهشيم جوانب من هويتها. وإذا كان الفكر الفلسفي هو فكر يقوم على قيمة النموذج البحت، فإن المؤلفة بوعيها بموقعها خارج إطار النموذج والمنطق البحت تظل تتساءل عما يجذبها إلى تأمل قضية الفكر البحت رغم رفضها المنهجي لذلك الإطار.
وتشير المؤلفة في كتابها إلى انجذاب الفلاسفة من أمثال فيتجنشتاين Wittgenstein إلى قضايا المنطق البحث وسعيه للوصول إلى «المفاهيم العليا» الخالصة التي لا تتطلب أمثلة، فتقارن كريسيدا هييز بين منهجه الفكري وبين مفهوم «النزعة الجوهرية المنهجية» methodological essentialism في النظرية النسوية. وترى المؤلفة أن كثيرًا من جوانب الفكر الفلسفي النسوى يبدو في صراع مع الرغبة في التوصل إلى تحديد لجوهر «النساء»، حيث حاولت الفيلسوفات النسويات تبسيط الظاهرة المعقدة والتوصل إلى أشكالها المبسطة، بما يعنيه ذلك من محو للملامح المحددة لصالح التجريد. وهكذا تلتقى «النزعة الجوهرية» في الفكر النسـوى مع التعميم الذي يمحو الخصوصية طبقًا لفيتجنشتاين، حيث تعتمد كريسيدا هييز على منهج فيتجنشتاين النقدى للنزعة الجوهرية، وتنطلق به من حدود الفكر الفلسفي إلى الفكر النسوى.
ويجمع الكتاب بين إطارين هما النظرية والممارسة من واقع خبرات المؤلفة، حيث يتتبع الكتاب مناهج البحث النظري من ناحية والعمل المنظم في مواجهة العنف الجنسي من ناحية أخرى. وتشير المولفة إلى أن البحث النظري هو في حد ذاته منهج استعانت به النسويات للكشف عن جوانب من حياة النساء يخفيها النظام الأبوى السائد، وافتقاد المنهج النسوي في ذات الوقت إلى مناهج معرفية وأدوات عملية في دراسة أوجه الاختلاف بين النساء أنفسهن، بكل تركيباتها وتعقيداتها.
ويقع الكتاب في خمسة فصول بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة، يتناول الفصلان الأولان قضايا نظرية تدور حول النظرية النسوية والبحث النسوى. ويأتي الفصل الثالث بمنهج بحثى تقترحه المؤلفة، يجمع بين فكر الفيلسوف فيتجنشتاين والفكر النسوي في صورة منهج فلسفى نسوى. وفي الفصلين الأخيرين تنتقل المؤلفة كريسيدا هييز إلى حيز البحث والعمل النسوي، حيث تتفاعل في الفصل الرابع كارول جيليجان باعتبارها باحثة نسوية، ثم تنتقل في الفصل الخامس إلى الناشطة النسوية كاترين ماكينون وخبراتها في مجال النظرية القانونية ومناهضة العنف الجنسي ضد النساء.
ويدور الفصل الأول حول مفهومی «النزعة الجوهرية» و «ضد الجوهرية» essentialism and antiessentialism في النظرية النسوية، فتوضح كريسيدا هييز أن «الجوهرية» مفهوم يحمل في معناه العام علامات ومؤشرات حول كون الهويات السياسية هويات «ثابتة» و «مجردة» و «عامة». وتتطرق المؤلفة إلى أربعة سياقات لمفهوم الجوهرية، ممثلة في «الجوهرية الميتافيزيقية» و «الجوهرية البيولوجية» و «الجوهرية اللغوية» و «الجوهرية المنهجية»، وتمثل تلك الأخيرة تحديًا سياسيًا للنظرية النسوية الغربية المعاصرة. وتوضح المؤلفة أن الفكر النسوى ينظر إلى النزعة الجوهرية على أنها تعميم غير دقيق، بل وتعيب المؤلفة على كثير من النسويات استخدامهن مصطلح «الجوهرية» في حد ذاته للتعميم باعتباره خاصية سلبية فحسب دون الاستعانة به للتقييم النقدي الدقيق.
وفيما يتعلق بالجوهرية الميتافيزيقية، وما تحمله من إيحاء بوجود بنية داخلية مشتركة وجوهـر يربط الأفراد المنتمين إلى نوع أو فصيلة واحدة رغم اختلاف في التفاصيل والخصائص المادية، إلا أن المؤلفة تشير إلى صعوبة البحث عن الجوهر الميتافيزيقي للأشياء. ثم تتساءل حول العلاقة بين الجوهرية والنسوية، فتطرح التساؤلات التالية: «هل يوجد جوهر ميتافيزيقى للجندر ؟»، و «هل يوجد جوهر واحد مشترك بين كل النساء ؟» وتكشف المؤلفة عن أن تاريخ الفلسفة السياسية والاجتماعية الغربي يجيب على تلك الأسئلة بالإيجاب، في حين ينفي الفكر النسوى وحدة الجوهر، بل ويعتبر الاعتقاد في وجود اختلافات جوهرية بين الرجال والنساء ضـربًا من ضروب التمييز الجنسي sexism. أما الجوهرية البيولوجية فتتشابه مع الجوهرية الميتافيزيقية من حيث اعتمادها على حقائق ومسلمات ثابتة دون أخذ طبيعتها الاجتماعية في الاعتبار، فيتم تبعًا لذلك وضع مجموعة من الأفراد ضمن قالب واحد اعتمادًا على اشتراكهـم في بعض الخصائص التشريحية والجسدية. وترى النظرية النسوية أن الرؤية الطبية والتشريحية للأنوثة استعانت بمقولات الجوهرية البيولوجية لتبرير التمييز ضد النساء.
أما الجوهرية اللغوية فتشير إلى الاعتقاد بأن تعريف مصطلح ما يحدد معالم كل ما ينضم تحت لوائه، ومن هنا تتساءل النسويات في إطار فلسفة اللغة حول «إلام تشير كلمة نساء ؟» و «هل يمكن وضع مجموعة من الشروط الجامعة والمانعة للنساء ؟» و «هل يجب على النساء أن تجمعهن خصائص مشتركة لمجرد أنه يطلق عليهن مصطلح نساء ؟» و «هل يتعين على الكلمة أن تشير إلى مجموعة محددة من الأفراد ؟». وترى كريسيدا هييز أن مصطلح النساء يشير إلى مجموعة من البشر تربطهـم مظاهر الأنوثة المبنية اجتماعيًا: التنشئة الاجتماعية والتعرض للقهر الأبوى والخبرة الجماعية للنساء، إلا أنه يوجد أفراد ينتمون إلى جنس النساء دون أن تنطبق عليهم كافة الشروط. ومن هنا تأتى اللغة (ممثلة في كلمة «نساء» على سبيل المثال) فتمحو الاختلافات بين الأفراد المنتمين إلى جنس النساء، ولذا يتعين التعامل مع مصطلح «النساء» باعتباره صيغة لغوية تتطلب إعادة تحديد مستمر لمعناه. ثم تنتقل المؤلفة إلى الجوهرية المنهجية باعتبارهـا تتبدى في مناهج بحث الفلسفة أو العلوم الاجتماعية وغيرها حين يتـم افتراض أهمية عنصر تحليلي ما وتميزه على غيره. وتكشف المؤلفة عن مناهج البحث التي تعتمد على عنصر تحليلي واحد وثابت ثم تؤدى إلى فرض وحدة زائفة، من خلال إلقاء الضوء على النقاشات المنهجية الدائرة في النظرية النسوية حول كتابة التاريخ وتجارب النساء.
وتنتقـل المؤلفة في الفصل الثاني إلى مناقشة المنهج النسوى والتعميم فيما يتعلق بالنساء، فتتناول كريسيدا هييز كلاً من النزعة الجوهرية وضد الجوهرية لتؤكد في النهاية وجود مساحة بين تلك الثنائية، وهي مساحـة جديرة بالبحث والتأمل. وحين تتأمل في مفهوم «الذاتية» subjectivity تشير إلى ميل النزعة المضادة للجوهرية إلى رفض كافة التعميمات والتشكيك في المقولات الخاصة بذاتية النساء وأصالتهن. وتصنيف المؤلفة أن السعي نحو تحديد «هوية المرأة» تعبيرًا عن مجموعة من النساء يتحول إلى تكتيك استبعادي يعمل على استثار فئة من النساء– ممن يتمتعن بسلطة على الخطاب النسوي– بصياغة الهوية النسائية في صورة خبراتهن وهوياتهن، مع استبعاد فئات أخرى من تلك الصياغة. وهكذا يصبح التعميم الزائف أحيانًا وسيلة للاستبعاد، مثله في ذلك مثل التمييز الجنسي.
وتتناول المؤلفة نظرية الفيلسوفة إليزابيث سبيلمان ضد الجوهرية، حيث تؤكد أن أوجه التشابه والاختلاف بين النساء إنما هي نتاج للسياقات السياسية التي تظهر فيها هذه الاختلافات والتشابهات، وهكذا تتبنى إليزابيث سبيلمان موقفًا قائمًا على النسبية نظرًا لتباين خبرات القهر بين النساء. ويحرص منهج إليزابيث سبيلمان التحليلي على إلقاء الضوء على ضرورة الاهتمام بالسياق وعلاقات القوى التي تجعل النسويات البيض من الطبقة الوسطى أكثر ميلاً إلى التعميم عن غيرهن من المهمشات.
وفي نفس الوقت تشير المؤلفة إلى نسويات يعارضن موقف إليزابيث سيلمان ومنهجها ضد الجوهري، ففي الوقت الذي تسعى فيه سبيلمان إلى ترسيخ التعددية بدلاً من الهيمنة الأحادية للمعارضة خوفًا من قيام النزعة ضد الجوهرية بتفتيت مفهوم الجندر، إلا أن كريسيدا هييز تعود فتؤكد أن معارضة «ضد الجوهرية» لا تعنى بالضرورة تبنى موقف «جوهری»، حيث إن «ضد الجوهرية» لا تساوى «الجوهرية». كما أن اتخاذ موقف صارم ضد الجوهرية إنما يتحول في حد ذاته إلى موقف «جوهری» غیر موضوعی.
وتخلص المؤلفة إلى أن كل المنظرات النسويات اللاتي يربطن بين النظرية والعمل النسوى يجدن أنفسهن ملتزمات بقدر من التعميم حول النساء من خلال تحديد أوجه شبه وملامح مشتركة بين النساء، فيعود البعض يتعامل معها ويستخدمها باعتبارها علامات متعددة للقهر أو ملامح لهويات أصيلة. وهكذا تصل المؤلفة إلى رؤية بشأن الجوهرية وضد الجوهرية، لا باعتبارهما موقفين على طرفي النقيض، وإنما تراهما مصطلحين يعبران عن مواقف متعددة تحتل مواقع متنوعة.
وحين تنتقل المؤلفة في الفصل الثالث إلى طرح بعض القضايا الفلسفية بصوت نسوى، فإنما تستعين هنا بالفيلسوف فيتجنشتاين في نقده للجوهرية والقائم على منطق «انظر وتأمل». وتتفق المؤلفة معه في أن المعنى يتشكل من خلال اللغة وليس سابقًا على اللغة، وهكذا يتحدد معنى كلمة «امرأة» تبعًا لاستخدامها. وتحاول المؤلفة في هذا الفصل نسج فلسفة فيتجنشتاين في نسيج مناهج النقد النسوى، وترى أنه على الرغم من عدم كون فيتجنشتاين مفكرًا متبنيًا لقضايا النساء، إلا أن فلسفته ضد الجوهرية والواردة تحديدًا في كتابه «قضايا فلسفية» تصلح كأداة فلسفية فعالة لغويًا ومنهجيًا في الفكر النسوى ضد الجوهري، حيث يرى أن الجوهرية هي ظاهرة لغوية إذ تفرض اللغة «جوهرًا» لكل شيء من خلال تسميته.
وتتفق كريسيدا هييز مع فيتجنشتاين من حيث أنه بدلاً من التعامل مع اللغة باعتبارها تكشف عن حقائق العالم، فإن الأدعى هو دراسة الاستخدامات اللغوية للمفردات. فبدلاً من افتراض وجود سمات «نسائية» تشترك فيها كل النساء لمجرد أنهن يسمين «نساء»، فإن الأوقع هو تأمل تطبيقات مصطلح «نساء»، مع كسر حدود المصطلح بحيث يتجاوز النماذج السائدة ويتيح المجال ليشمل الفئات المتنوعة التي يمكن أن تندرج تحت مسمى وترى المؤلفة أن النسوية المبنية على منطق فيتجنشتاين تشير إلى الموقع الذي تحت مسمى «نساء». وترى المؤلفة أن النسوية المبنية على نتطق فيتجنشتاين تشير إلى الموقع الذي نختاره لرسم حدود مفهوم «النساء» باعتبار رسم الحدود يمثل فعلاً سياسيًا، حيث يصبح حتى معنى «النساء» مصدر سلطة للنساء، ويصير حق التحديد والتغيير والتعديل وسيلة لإعادة صياغة مفاهيم الجنس والجندر والخروج من ثنائية الرجل والمرأة.
كما تستعين كريسيدا هييز بمنهج فيتجنشتاين الفلسفي ضد الجوهرية من حيث مدى فائدته للنسوية، وتستعين بمفهوم «التشابه العائلي» لديه لاستيعاب أوجه الشبه والاختلاف بين النساء، مع التأكيد على الجوانب المشتركة بين النساء وإتاحة المجال في ذات الوقت للتميز والتنوع والاختلاف في الملامح والمعالم والتفاصيل، بعيدًا عن التعميم المطلق من ناحية والتفتيت والتشتيت من ناحية أخرى كما تستعين المؤلفة أيضًا بمفهوم «رسم الحدود» الواعي حيث يمنح أداة لتحديد إطار مرن يمنع في نفس الوقت التشرذم والتفكك الذي قد تسببه بعض أشكال ضد الجوهرية.
ويأتي الفصل الرابع فتربط فيه المؤلفة بين البحث النسوى والمنهج، منطلقة من مقولة فيتجنشتاین «انظر وتأمل» حين تتناول بالنقد منهج كارول جيليجان في البحث النسوى. فعلى الرغم من وعى كارول جيليجان بالجدل الدائر حول الجوهرية في الفكر والتحليل النسوى، ورغم سعيها الواعي لتوخي الموضوعية، إلا أن عملها يتهم بالجوهرية المنهجية نظرًا لاستخدامها تعميمات زائفة لمفهوم المرأة والمراهقة في كتابها «بصوت مختلف» دون إشارة إلى الأصول العرقية للفتيات أو طبقاتهـن الاجتماعية، وهو جانب التفتت إليه في كتابها الثاني «بين الصوت والصمت»، إلا أنها تجاهلت علامات اختلاف أخرى بين المراهقات، كالميول الجنسية على سبيل المثال.
ومن الناحية المنهجية أيضًا تشير المؤلفة إلى أن كارول جيليجان تعتمد على مقابلات أجرتها مع هؤلاء النساء والفتيات، وتوحي بأنها تعكس في كتابها أصواتًا أصيلة حقيقية، وهـو ادعاء يمثل في حد ذاته منطقًا جوهريًا يوحي بوجود أصالة وحقيقة مبنية على تعميم زائف. وهكذا فرغم تبنى جيليجان موقفًا ضد جوهري، واستعانتها بمنهج بحثي ضد جوهري قائم على التعددية والاختلاف، إلا أنها تنتهى إلى تعميمات أقرب إلى الجوهرية. وهكذا تكشف كريسيدا هييز من خلال كتابات جيليجـان عن نموذج للبحث النسوي الذي تتطلب منهجيته النسوية ضد الجوهرية تجنب التعميم وترك المجال رحبًا لمزيد من أوجه الاختلاف وعلاقات القوى.
وفي الفصل الخامس والأخير تنتقل المؤلفة بين النظرية النسوية والممارسة متخذة من كاترين ماكينـون مثالاً للعمل النسوي، فتشير إلى العلاقة المتضاربة بين النظرية والممارسة، حيث كثيرًا ما تعجز النظرية عن الإرشاد والتوجيه عند الممارسة والتطبيق. وتقدم المؤلفة مثال مفهوم «بناء التحالفات» في النظرية النسوية السياسية ضد الجوهرية، مشيرة إلى أنه عند تطبيقها على أرض الواقع تبرز مجموعة من الأسئلة بلا إجابات نظرية. وتتناول تحديدًا خبرة المنظمات النسائية ضد العنف الجنسي، وتبني موقفها الفكري على نموذج فيتجنشتاين المطروح سابقًا والقائم على مبادئ «الشبه العائلي» الذي يتيح مجال التعميم بين النساء رغم اختلافاتهن، ومنهج «أنظر وتأمل» حيث تعتمد ماكينون على خبرات النساء في البحث النسـوى. وتوضح المؤلفـة أن كاثرين ماكينون تعمم خبرة النساء في ظل ثقافة جنسية قائمة على السيادة والخضوع، كما تتهمها بالنزعة الجوهرية في نظريتها حول العنف الجنسى ضد النساء نظرًا لاستخدامها لمصطلح «النساء» بشكل تعمیمی.
ومن القضايا الجدلية التي تتناولها المؤلفة في سياق حديثها عن العمل النسوي هي المسألة المتعلقة بموقع الرجال المناصرين للنساء في المنظمات النسوية، واستبعادهم على سبيل المثال من منظمات مناهضة العنف الجنسي ضد النساء، مع استعانة بعض الرجال بالتوجه ضد الجوهرى للتأكيد على شرعية مشاركتهم في المشروعات النسوية. إلا أن الخبرة العملية توضح أن الاعتماد على منظومة علاقات القوى بين الجنسين بالنسبة للعنف الجنسي مبنية على فرضية أن القهر واقع من الرجال على النساء. إلا أن العنف الجنسى لا يقتصر فقط على خضوع النساء للقهر، وإنما قد يتضمن كذلك خضوع الرجال للقهر من قبل رجال آخرين في إطار العلاقات المثالية.
ويقود ذلك النموذج المؤلفة إلى التفكير في الحدود الفاصلة بين النسوية والانفصالية وضد الجوهرية، فترى أن إدماج الرجال في بعض أوجه العمل النسـوى مثل الرد على الخط الساخن الخاص بمنظمة مناهضة العنف الجنسي ضد النساء إنما يمثل تطبيقًا لمفاهيم ضد الجوهرية تطبيقًا مطلقًا دون الأخذ في الاعتبار خصوصية الخبرة والسياق والاجتماعي. فالمرأة التي تلجأ للشكوى من تعرضها للعنف الجنسي من رجل تكون أبعد ما تكون عن القدرة على البوح أمام رجل.
وحين تتناول المؤلفة مفهوم «النساء» فهي تتطرق إلى قضايا التراتبية والتمثيل واتخاذ القرار. وتتخذ من الجمعية الوطنية لدراسات المرأة في أمريكا (NWSA) نموذجًا لما تتصف به من تعددية وتنوع، ومع ذلك تثير عديدًا من التساؤلات: 1) كيف يمكن للمنظمات أن تضمن تمثيل كافة الهويات والخبرات والمصالح، في الوقت الذي تحاول فيه الحفاظ على منظور يقدم أهدافًا مشتركة ؟ ٢) كيف يمكن لهياكل التمثيل ضد الجوهرية أن تتفاعل مع وجهات نظر النظرية النسوية الفوضوية بشأن تقليص التراتبية إلى أقصى حد ؟ 3) هل يمثل نظام المجموعات الصغيرة وسيلة لتمثيل مجموعات ذات مصالح مختلفة، أم أنه مجرد نظام يضمن فرصة أكبر لتمثيل الفئات المقهورة ؟ 4) مدى استجابة المنظمات للضغط الخارجي والحاجة لتغيير أولوياتها بل وبعـض أهدافها لإتاحة الفرصة أمام انضمام أعضاء جدد مختلفين ؟
ففي حالة الجمعية الوطنية لدراسات المرأة كان السؤال حول ما إذا كانت المنظمة تتوجه لتحقيق أولويات الأكاديميات أم الناشطات، مع ضمان اتساع قاعدة العضوية فيها لتضم فئات مهنية على سبيل المثال. وترى المؤلفة أن كل منظمة نسائية إنما تؤسسها مجموعة من النساء لدعم مشروعات محددة، ويصعب أن تتحول مجموعة نسائية ما إلى كيان يمثل كافة النساء. وبالنسبة للجمعية الوطنية لدراسات المرأة فموقعها محدد باعتبارها منظمة نسائية تستهدف المشاريع الأكاديمية للنساء، وبالتالي فلا يتعين عليها أن تتكيف لتضم نساء من الناشطات السياسيات، وإنما يتعين على الناشطات تأسيس منظمات مستقلة خاصة بهن لدعم مشروعاتهن.
وختامًا فإنه لابد من الإشارة إلى أن كتاب كريسيدا هييز يمثل إضافة في المجال النسوى ومجال الفكر الفلسفي، حيث تخلق مساحة تضم النسوية والفلسفة وتعيد بذلك رسم حدود كل منهما. وتكمن أهمية هذا الكتاب في قيام مؤلفته بتطوير فلسفة نسوية فيتجـنشتاينيـة، تكشف عن مدى استيعاب بل واستعانة النسوية بأطر فكرية فلسفية واجتماعية وسياسية وتاريخية وغيرها، وخلق مساحة ثرية عبر تخصصية. ومن المبهر في هذا الكتاب سلاسة العرض المنطقى المبنى على وضوح الرؤية، حيث تنتقل بنا المؤلفة من الإطار النظري إلى الخبرة العملية– من النظرية النسوية والفلسفة إلى تجارب بحثية وممارسات عملية على أرض الواقع، رابطة بين هذا وذاك منهجيًا من خلال بللورة منهج فلسفی– نسوى جديد. ويتبنى الكتاب وصاحبته موقفًا ضد جوهري في محاولة لتقديم في فهم فلسفى للواقع، وطرح بدائل لعالم أفضل. وإذا كان الكتاب ينتقل بين النظرية والتطبيق، وبين المقولات والخبرات، إلا أنه رغم عدم وقوفه عند تفاصيل الخبرة الطبقية أو الأوضاع الهامشية، لا يدعى التعميم، وإنما يؤكد على أن الفضاءات الخاصة بالممارسة النسوية (من منظمات نسوية) بل والفضاءات الفكرية النسوية (من مناهج بحث نسوی) تحتل مساحة مفتوحة الحدود، ففي وعيها بآثار السلطة الأبوية تتأمل أيضًا علاقات القوى داخلها هي نفسها بما ورثته من النظام الأبوى. والقراءة المتأنية للكتاب بمنطق «انظر وتأمل» إنما يدفعنا نحـو رسم حدود لفضـاءات المقاومة النسوية، تتجاوز حدود العام والخاص، خالقة مساحة مرنة ترسم حدودها لتحقيق أهداف سياسية، لا للتعميم وإنما كاختيار استراتیجی.
هـالة كمال: مدرسة بكلية الآداب– جامعة القاهرة، عضوة مؤسسة بمؤسسة المرأة والذاكرة، وباحثة مهتمة بدراسات الجندر.