رحلة التحليل النفسي لمريضة بسرطان الثدي

تاريخ النشر:

2016

اعداد بواسطة:

رحلة التحليل النفسي

لمريضة بسرطان الثدي*

يعتقد النظام الطبي في التبت أن جذور المرض تعود إلى الجهل، أو الرغبة أو الكراهيةوطالما يسود التوازن بين هذه الأمور يبقى الجسد صحيا. (الدالاي لاما)

على مدى عدد من السنوات انصب اهتمامي على دور العلاقة بين النفس والجسد في الحالة النفس تحليلية وأرغب الآن في البحث في الدور الذي يمكن للمحللين النفسيين أن يقوموا به في دراسة أشكال القلق الواعية والتخيلات اللاواعية لدى مرضی سرطان الثدي. كما أرغب كذلك في مناقشة الدرجة التي يمكن بها للعلاج النفسي أن يدعم نجاح الرعاية الطبية والنفسية التي يتلقاها مريض سرطان الثدي.

تستند خبرتي في هذا المجال إلى العمل مع عدد من مريضات سرطان الثدي اللاتي جئن إلى طلبًا للعلاج النفسي، ومن بينهن ثلاثة كن يتلقين تحليلاً نفسيًا كاملاً لعدد من السنوات. من الملاحظ أنه، ورغم ارتفاع نسبة الأشخاص من السكان الذين يعانون من السرطان، إلا أن عددًا قليلاً نسبيًا من مريضات السرطان يلجأن إلى طلب المساعدة في مجالي التحليل النفسي أو الطب النفسي. وقد يعكس ذلك رفضًا من قبل مرضى السرطان للحصول على العلاج النفسي التحليلي. أما هؤلاء اللاتي جئن إليّ فقد كن في العادة مدفوعات بقراءتهن لكتبي ومقالاتي الخاصة بالموضوعات النفس جسدية (وإن كانت تلك لم تتناول السرطان على وجه الخصوص، بل إن هذا المقال هو في واقع الأمر أول دراسة لي تتناول موضوع السرطان في سياق التحليل النفسي). إن العلاج المصاحب ببعض التشويه والذي يفرضه سرطان الثدي (كالعلاج بالإشعاع أو العلاج الكيمائي أو عمليات استئصال الصدر، أو عمليات إعادة بناء الصدر) يؤدي دائمًا تقريبًا إلى درجة عالية من المعاناة النفسية لدى النساء المصابات به. فالمرأة قد تشعر بفقدان لإحساسها بتكاملها الجسدي واختلال في صورتها لذاتها كما في شعورها بهويتها الذاتية. كما قد تشعر أيضًا باختلاط في مشاعرها تجاه هويتها الجنسية. فمع فقدان الثدي يتكون إحساس بأن الرمز الأساسي للأنوثة قد تم تدميره. فقد عبرت واحدة من مرضاي عن ذلك، بعد أن تم استئصال ثديها ورحمها، بقولها: “أنا لم اعد امرأة حقيقية. هل ما زلت شخصا؟وبالإضافة إلى الخوف من إمكانية الموت تكون هناك أيضًا مشاعر مختلطة فيما يتعلق بالآخرين إضافة إلى مشاعر القلق إزاء العلاقات الجنسية وعلاقات الحب.

وبالتالي فإنه إضافة إلى اختلال الشعور بالهوية الذاتية فإن المريضة كثيرًا ما تشعر بأن حياتها الجنسية مهددة، وأن فقدان ثديها سوف يكون له تأثيرات حتمية على علاقتها بزوجها أو حبيبها وأن ذلك قد يؤثر على الرغبة الجنسية سواء تلك الخاصة بها أو بشريكها. كذلك فإن المخاوف وأشكال الكبت المحيطة بالعلاقات الجنسية وعلاقات الحب التي كانت المريضة تشعر بها في الماضي تميل إلى الظهور إلى السطح مرة أخرى بعد عملية استئصال الثدي. كما أنه من المتوقع والمفهوم أن يشعر الزوج أيضًا بدرجة عالية من القلق حين يواجه بمرض وتشوه زوجته. وفي نفس الوقت يلوح شبح الموت بالنسبة له أيضًا. هذه العوامل مجتمعة قد تؤثر سلبًا على المتعة الجنسية للطرفين. كذلك فإن فقدان الثدي يثير أشكالاً أخرى من الفقدان في الماضي كالانفصال والهجران والموت وألم الحداد. أما عمليات إعادة بناء الثدي صناعيًا فعلى حين أنها تجنب المريضة هلع ما تصفه بعض المريضات بـذلك الثقبفي أجسادهن إلا أنها لا تمحو التشوه الذي حدث.

وبالإضافة إلى كل ما سبق فإن الشفاء لا يكون أبدًا مؤكدًا حيث أنه لم يتم حتى الآن اكتشاف سبب مقنع للإصابة بمرض السرطان. وبالتالي فان المريضة المصابة لا يمكن أن تطمئن أبدًا إلى أنه قد تم القضاء على السبب“. بل أن الطبيب المعالج للسرطان لا يمكن له أن يؤكد أن المرض لن يعود ثانية. أما الثدي الذي تم استئصاله فهو يبقى بالنسبة للمريضة بمثابة الثمن الذي كان عليها أن تدفعه للحصول على ما يسمى بالشفاء. وأحيانًا تبدي المريضات استعدادهن لاستئصال أعضاء أخرى (كالرحم والمبايض) من باب الوقاية كما لو كانت تلك الأعضاء هي الأخرى قرابين تقدمها المريضة لكيان مقدس رهيب.

حين تكون المريضة أمّا شابة تؤدي إصابتها بسرطان الثدي إلى تعقيد حياتها الأسرية، حيث يصاب أطفالها بالقلق والفزع خوفًا على حياة أمهم. والأم بدورها، ومن باب حرصها على تجنيب إثارة المخاوف لدى أطفالها، كثيرًا ما تحاول أن تخفي مخاوفها وألمها عن أطفالها.

ومن الجوانب المهمة في التحليل النفسي لمريضات سرطان الثدي هو كشف طبيعة ارتباطهن بأمهاتهن والتي كثيرًا ما عكست علاقات شديدة الاضطراب. وحيث أن السرطان كثيرًا ما ينظر إليه وكأنه عدو كالموت داخل جسد الإنسان فإنه كثيرًا ما یساوی بینه و بين أم داخليةخيالية تهاجم ابنتها من الداخل.

بعض الأطباء المعالجين للسرطان من ذوي الخبرة والمهارة، ورغم معرفتهم الكاملة بما تعانيه مريضاتهم من ألم جسدي ورغم قدرتهم على التعامل الجيد مع المشكلات الطبية والجراحية التي تحتاج إلى حلول، إلا أن مريضاتهم رأين أنهم بدوا وكأنهم على غير واعين نسبيًا بالألم النفسي الشديد الذي كن يشعرن به. مع ذلك فهناك أطباء آخرون يبدون اهتمامًا بالتعاون مع معالجي التحليل النفسي العاملين مع مريضات سرطان الثدي. ولا يملك المحلل النفسي، بطبيعة الحال، أن يشفي مريضة سرطان الثدي لكنه يستطيع، من خلال البحث والتعبير بالكلمات عن طبيعة الإسقاطات التي يصبح السرطان مركزًا لها ومن خلال الانتباه إلى الميل اللاشعوري لدي مريضات سرطان الثدي للاستسلام للموت، يستطيع أن يساعد المريضة جسديًا ونفسيًا، مما يزيد من فرصتها في الحياة.

هنا تأتي إلى ذهني كلمات هارولد سيرلز حين كان يتحدث إلى مجموعة من المحللين النفسيين في باريس حول العلاج النفسي لمرضى السرطان. فقد اقترح سيرلز أن المعالج قد يصبح الشخص الوحيد في حياة المريض الذي يجرؤ على تجاوز الحصار الذي يعزل المريض عن عالم البشر ويجعله يشعر بأنه ليس إنسانًا.”

 

اتصلت بي سوريل ليبرمان منذ عدة سنوات وقالت لي إنها قد زارتني مرتين منذ ست سنوات وأنني قد وجهتها لمقابلة محلل نفسي ذكر حيث أننا قد توصلنا نحن الاثنتين إلى أنها قد تشعر بمزيد من الراحة في التحدث مع رجل في ضوء ما بدا أنها علاقة شديدة التعقيد بينها وبين والدتها. وقد قالت لي عبر الهاتف أنها قد انتهت من التحليل النفسي ولكنها في حالة من القلق الشديد. وقد أصرت على أنها أصبحت الآن في حاجة إلى أن تراني. وقد تذكرتها جيدًا واستدعيت انطباعي عن امرأة شابة ذكية تعاني من انشغالات توهم المرض تكاد أن تصل إلى درجة الذهانية. وإذ كنت استمع إليها ووهي تتوسل موعدًا معي أدركت أنني أشعر بشعور مبهم بالذنب لأنني لم أقبل أن أكون معالجتها من ست سنوات مضت. وقد أكون تأثرت أيضًا بكونها قد احتفظت لي بصورة القادرة على مساعدتها خلال كل تلك السنوات.

في الأسبوع التالي فتحت باب غرفة الانتظار لأجد امرأة في الأربعينات، شديدة النحافة. كانت المرأة تتميز بالأناقة وترتدي بذلة جيدة التفصيل. لاحظت أن شعرها جميل، أسود ومموج، مما فاجأني بعض الشيء لأنني كنت أتذكرها في شكل مختلف. فيما يلي عرضًا ملخصًا لمقابلتنا.

سل.ل.: حين جئت إليك أول مرة كنت خائفة من أن أمرض. هل تتذكرين؟ لقد أرسلتني إلى الدكتور أ. الذي كان طيبًا معي جدًا وساعدني كثيرًا في الكثير من مشاكلي الزوجية. لكن غالبية الجلسات كانت تدور حول فزعي المستمر من المرض. فقد أجريت فحوصًا للسل والزهري والإيدز والكثير من الفحوصات لمختلف أشكال السرطان. لم يكن لدي أي سبب يجعلني أعتقد أنني قد أصبت بأي من تلك الأمراض وقد كانت نتائج كل تلك الفحوصات، بالطبع، سلبية. ومع مرور السنين قال لي الدكتور أ. إنه يعتقد أن قناعتي بأنني مصابة بالسرطان هي مجرد خيال استخدمه لأؤذي نفسي. وقد انتقل الدكتور أ. الآن إلى مارسيليا وبالتالي اتفقنا على أن ننهي العمل معًا؛ لكنه نصحني بأن أستمر واقترح على أنه قد يكون من المفيد أن استمر مع امرأة.

مرت لحظة صمت، رمقتني خلالها سوريل بما بدا وكأنه نظرة إدانة قبل أن تستطرد.

س.ل.: على أية حال. الخبر السيئ حاليًا هو أنني أعاني فعليًا من مرض السرطان! إنه سرطان الثدي من النوع الخبيث جدًا. وبعد علاجات لا نهاية لها بالإشعاع، قرروا همأخيرًا أن يستأصلوا ثديي الأيمن – ومع ذلك فالسرطان لازال ينتشر. لقد أخذت جرعات ضخمة من العلاج الكيمائي منذ ذلك الحين لمنع المزيد من انتشار المرض. إن أثر ذلك علي غير محتمل. لا أستطيع أن أواجه نفسي حين أنظر إلى نفسي في المرأة في كل صباح.

امتلأت عيون سوريل بالدموع وهي ترفع الشعر الأسود المموج والمستعار ببطء لتكشف سقوطًا كاملاً لشعرها. لقد شعرت أنا نفسي بأنني على وشك البكاء حين حاولت أن أتخيل ما تمر به سوریل، ليس فقط فيما يخص مواجهة الخوف من الموت وإنما أيضًا أن تواجه انعكاس صورتها في المرآة كل صباح وقد فقدت أحد ثدييها ودون أن يكون في رأسها خصلة شعر واحدة.

س.ل.: في خلال شهرين سوف يكون علي أن أدخل إلى غرفة معقمة لمدة ثلاث أسابيع لحين يقومون بإزالة نخاعي وتعقيمه. إنني مذعورة من تلك العملية أكثر مما كنت مذعورة من عملية استئصال الثدي. كم أتمنى أن ينتهي كل ذلك!

لقد بدت لي تلك الأمنية وكأنها تمني بالموت وبدأت أشعر بالخوف عليها.

ج.م.: أن ينتهي كل ذلك – بمعنى؟

س.ل.: سوف أموت في كل الأحوال، أليس كذلك؟

ج.م.: الجميع سوف يموتون لكن يبدو لي وكأنك استسلمت للموت.

س.ل.: إنها فكرة تلك الغرفة المعقمة، حيث لن يتمكن الناس من الحديث إلى سوى من خلال جدران زجاجية، التي أجدها مرعبة بشدة. لا أستطيع أن أفكر في ذلك. قد أموت قبل أن يحدث ذلك.

لقد تأثرت جدًا بقصة سوريل لكنني في الوقت نفسه كنت مندهشة من أنها كانت تبدي قليلاً ما التصميم على الصراع من أجل حياتها، رغم أنها كانت تبدو شديدة التوتر. سألتها عن نوع المساعدة التي تريدها مني فقالت: “إنها تلك الغرفة المعقمة، لا أستطيع أن أواجه ذلك.” ثم توقفت فجأة ثم قالت: “هل تعتقدين أنت أنني سوف أموت؟“. فقلت لها إنني لا أستطيع أن أتنبأ بحدوث ذلك.

س.ل.: لكنني كنت اعرف دائمًا أنني سوف أموت بالسرطان. أترين، لقد كنت أفكر في ذلك الأمر لأكثر من ٢٥ عامًا. لقد كنت في حالة رعب من أن أموت بالسرطان لدرجة أنه كان لابد وأن يحدث.

ج.م. : كونك كنت دائمًا تخافين أن تموتي بالسرطان قد لا يكون له علاقة تذكر بمرضك الحالي.

س.ل.: ألا تعتقدين أنني قد تسببت فيه؟

ج.م.: هذه طريقة غيبية جدًا في التفكير في الأشياء، أن نعتقد أن كل ما تتخيله سوف يتحقق. س.ل.: لماذا كنت إذا مقتنعة بشدة أنني سوف أموت بهذه الطريقة؟ (فترة صمت طويلة) أنني قلقة بشأن أبنائيكيف سيتمكنون من الاستمرار بدوني.

ج.م.: إنك تتحدثين كما لو كنت قد قررت أنك سوف تموتين فعليًا بهذا السرطان. ماذا قال لك الأطباء؟

س.ل.: إنني أترك كل شيء لقرار الدكتور د. هو مصرّ على أنه قد أحرز نجاحًا كبيرًا في عمليات تعقيم النخاع.

مرة أخرى كانت تتكلم كما لو كانت كافة الأمور خارج سيطرتها. كما لو كان عليها أن تتقبل موتها بالسرطان كقدر لا مفر منه. مرة أخرى شعرت بفورة من القلق الشديد على سوريل وكما لو كان الوقت المتبقي لي قليلاً جدًا، قررت أن أفعل ما في وسعي كي أساعدها.

بنهاية لقائنا الأول سألتني سوريل ما إذا كان بإمكانها أن تراني يوميًا. وقد شرحت لها إنني سوف أحاول تنظيم أربع جلسات أسبوعيًا بشكل منتظم خلال الشهر التالي وأعطيتها موعدين للأسبوع التالي.

س.ل.: لقد ارتحت كثيرًا لأنك سوف تتمكنين من رؤيتي لكن ماذا سوف أفعل بدون مساعدتك أثناء الأسابيع الثلاثة في تلك الغرفة المعقمة؟

ج.م.: (أجبتها بهدوء) سوف نستكمل جلساتنا عبر الهاتف.

س.ل.: إن هذا يغير كل شيء.

أثناء المقابلتين التاليتين تعرفت على بعض من خلفية سوريل. فقد ولدت في فيينا كإينة لأسرة يهودية ميسورة هربت من النمسا أثناء الهولوكوست واستقرت في فرنسا. وقد قام على تربية سوريل وأختها الأصغر منها بعامين وأخيها الأصغر بأربع سنوات فريق من الخادماتعلى حد تعبيرها. “كانت أمي تستيقظ متأخرة في كل يوم. وكان علينا أن نصطف أمامها وتتمنى لها صباحًا سعيدًا. وحين تقوم من سريرها كانت أمي دائمًا منشغلة بالمناسبات الاجتماعية كما كانت شديدة الانشغال بمظهرها. لم تحضر لنا يومًا وجبة ولم تشاركنا يومًا وجبة في المنزل. أما بالنسبة لوالدي فكان لا يفكر سوى في أعماله، حتى وهو في المنزل، كان دائمًا مختبئًا وراء الجرائد.”

علقت بأنها لابد وأنها كانت تشعر بالوحدة وتفتقد إلى دعم الوالدين. فأجابت: “أعتقد أنها لم تكن حياة أسرية سعيدة لكنني لم أحتج عليها – وإن كان قد يكون لذلك علاقة بكوني قد تزوجت في سن صغيرة.”

في الجلسة التالية حكت لي سوريل عن زواجها الأول، حين كانت في السابعة عشر من عمرها حين تزوجت من رجل يبدو أنه كان عنيفًا معها، جسديًا ولفظيًا. لم ترحب أسرتها باختيار سوريل لزوجها وإن كان أي من الوالدين لم يحاول أن يقنعها بالعدول عن الزواج أو يحاول أن يبحث في الأسباب وراء زواجها المفاجئ. فيما يلي عرض ملخص لتلك الجلسة:

س.ل.: مايكل تزوجني فقط من أجل المال. لقد اكتشفت ذلك فيما بعد. خلال الأسابيع الأول من زواجنا فاجأني بقوله: “يجب أن أخبرك بأنك سوف تموتين بالسرطان، تمامًا مثل والدتي.” وبالطبع فقد صدقته فورًا. لقد كنت أعرف دومًا أن الموت قريب جدًا، لكنني لم أكن أعرف كيف سأموت. وقد قام هو بتسمية الأمر بالنسبة لي!

وجدت سوريل الشجاعة لأن تترك هذا الرجل بعد خمس سنوات من التعاسة، وبعد عدة سنوات تزوجت من ستانلي ليبرمان، الرجل المناسبالذي وافقت عليه الأسرة من كل الجوانب. كان ستانلي رجل أعمال ناجح ويدير مشروعًا وطنيًا هامًا في فرنسا. لكنه، مثل والدها، كان نادرًا ما يكون موجودًا. أضافت سوريل، أنه رغم كونهما زوجين مسالمين ومتحضرين إلا أن ستانلي بدا وكأنه غير واع بوجودها كإنسان على الأقل حتى تم تشخيص إصابتها بمرض السرطان. وأضافت، وكأنها فكرة طرأت عليها فجأة، أن ستانلي كان يعاني من عجز جنسي شبه كامل. وقد أنجب الزوجان طفلين وتحاول سوريل أن تكون أمًا أفضل مما كانت عليه أمها. ومع ذلك فقد قالت بشكل عابر أنها لم ترضع أيًا من أطفالها لأن الفكرة كانت تثير لديها مشاعر الاشمئزاز.

كذلك عرفت في تلك المقابلات الأولى أن سوريل كانت تعاني من كثير من أشكال رهاب (phobia) القذارة والميكروبات إضافة إلى أنواع متعددة من رهاب الطعام (بل أن هناك كثيرًا من أنواع الطعام العادية لم تتذوقها في حياتها أبدًا). كذلك فإنها تشعر بالغثيان بعد تناولها لأي طعام، وأنها تفرغ ما في جوفها بعد كل وجبة تأكلها تقريبًا، وأنها تفعل ذلك منذ كانت طفلة صغيرة.

العنصر المقلق الآخر هو أنه رغم حصولها على درجة جامعية في الفنون، إلا أن سوريل لم تشعر أبدًا بالحاجة إلى أن تشتبك مع أي عمل مهني وذلك رغم استمتاعها الشديد بقراءة الكتب التعليمية التي تتناول تخصصها. وباستثناء اهتمامها بطفليها وإدارة منزلها بكفاءة فإن انشغالها بالموت بدا وكأنه يحتل الجزء الأكبر من أفكارها. وإضافة إلى خوفها من الموت فإن مجموع الأعراض النفسجسدية التي كانت تعاني منها سوريل (القيء الدوري، فقدان الشهية للطعام، رهاب الطعام، طقوس النظافة ذات الطابع القهري، ردود الفعل الجسدية أكثر منها النفسية لتصوراتها عن القذارة والمرض والمواد السامة الخ.) جعلني راغبة في أن أفهم المزيد عن عالمها الخيالي وعن أية علاقة بينه وبين تصوراتها عن تاريخها مع مرض السرطان. كذلك، فإن انشغالها بالموت جعلني راغبة في مساعدتها وتمنيت أن أتمكن من جذبها إلى اختيار الحياة.

في الجلسات القليلة السابقة على عملية زرع النخاع التي كانت تهابها، تمكننا من الكشف عن ذكرى إرسالها وحيدة إلى عيادة في سويسرا، حين كانت في الثالثة من عمرها، لكي يزداد وزنها“. لقد تذكرت الوحدة الرهيبة التي شعرت بها في ذلك الوقت وهي في بلد غريب يتحدث فيه الناس لغة غريبة عنها. قلت لها إن شعورها عندئذ لابد وأنه كان مشابهًا لمن تم احتجازه في بيئة معقمة، دون أن يكون لديه القدرة في التواصل مع العالم الخارجي سوى من خلال جدار زجاجي“. إن ربطي ما بين تلك الذكري وبين التوقعات المخيفة من الغرفة المعقمة كان له تأثير شديد في تخفيف ذعر سوريل من عملية زرع النخاع.

مع اقتراب وقت دخولها إلى عيادة السرطان تصرفت بأسلوب لا أنتهجه في العادة. فقد شجعتها على أن تخطط لأفضل السبل لتحضير نفسها لثلاثة أسابيع من العزلة في زنزانتها الزجاجية، بما يعنيه ذلك من اختيار الكتب والأوراق والأقلام والموسيقى وغيرها، التي يمكن أن تأخذها معها. كنت أتصرف وكأني أم لطفل في المدرسة. بل كنت أتصرف بنفس الطريقة تقريبًا التي كنت أستخدمها في مساعدة أبنائي في التحضير للذهاب إلى معسكر في الاجازة“. وقد لاحظت أيضًا أن سوريل كانت أقل قدرة من أبنائي على رعاية نفسها، وتأملت في حقيقة أن والدتها تبدو وكأنها كانت غير قادرة على إظهار هذا النوع من الاهتمام بسعادة سوريل. ونتيجة لجهود سوريل المشتركة مع جهودي أصبح من الممكن التعامل مع خوفها الشديد من الغرفة المعقمة، وحين تركت عيادتي إلى عيادة المستشفى قالت: “إذا – لن يرى أحدنا الآخر لفترة ثلاث أسابيعهل يمكنني – هل يمكنني أن أعطيك قبلة؟فقمت باحتضانها وقبلتني هي على كل من وجنتي وهي تقول :”أشكرك“.

أثناء تواجدها في عيادة السرطان استمرت جلساتي مع سوريل من خلال الهاتف، وكنت أدون أحلامها وأفكارها وخيالاتها بدقة كما اقترحت عليها. أحد الأفكار الهامة التي برزت في هذه الفترة هي أن سوريل استطاعت، لأول مرة، أن تعبر عن قناعتها بأنها كانت طفلة غير مرغوب فيها وأنها كانت، حتى وهي طفلة صغيرة، تفعل ما في وسعها كي لا تلفت إليها الانتباه، خوفًا مما فسرته على أنه رغبة أمها في موتها. قلت لها: “بمعنى آخر، لقد اعتقدت أنه يمكنك البقاءشرط ألا تعيشيبشكل حقيقي.” ردت قائلة: “نعم، هكذا بالضبط! حين كنت طفلة صغيرة حاولت دائمًا ألا يلحظني أحد؛ كنت شديدة الحرص على ألا أتحدث بصوت عالٍ أو ألا أتصرف بشكل يفيض بالحيوية.” علقت: “إذا فالتعقيمبدأ من وقت مبكر جدا؟من هذه النقطة بدأنا معًا في دراسة أسلوب سوريل في كبت أي مشاعر إيجابية أو أي تعبير عن شهواتها الجنسية. قالت: “كنت أشعر أنه من الخطأ أن أشعر بأي حيوية زائدة نحو أي شيء“.

في الشهور التالية حدثتني سوريل عن عدد من الأحلام تكشف مضمونًا جنسيًا مثليًا، مما سمح لي أن أوضح لها أنها تمثلت في الأم التي تستمد منها تأكيدًا على قيمتها ليس فقط كإنسانة وإنما أيضًا كامرأة. في أحد الجلسات بدت سوريل وكأنها غير راغبة في مغادرة غرفة الاستشارة، ثم قالت: “أريد أن أقول لك أنني أحبك. لم يسبق لي في حياتي أن قلت أحبك لأي إنسان.” وفي جلسة اليوم التالي أشارت سوريل إلى كلماتها قبل أن تغادر الجلسة السابقة وعبرت عن قلقها من أن تكون قد عبرت عن بعض المشاعر الجنسية من جانبها. تمكنا عندئذ من مناقشة العلاقة وكذلك الفروق ما بين المشاعر الجنسية ومشاعر الحب. واستطردت سوريل تقول إنه لم يسبق لها أن شعرت بالرغبة الجنسية مصحوبة بمشاعر الحب تجاه أي شخص، سواء كان رجلاً أو امرأة. لكنها لاحظت أن الأحلام التي قمنا بتحليلها أثناء الأسابيع التي أمضتها في القفص المعقم، حين فسرت لها رغباتها كطفلة صغيرة في امتلاك مضمون أسرار أمها/ معالجتها الجنسية لتصبح امرأة – أن تلك الأحلام قد مكنتها من اكتشاف أنه من المسموح به أن تشعر بمشاعر الحب دون أن تخشى الرفض أو الخيالات الجنسية المصاحبة لها. وأصبح من الواضح، عندئذ، أن سوريل قد فشلت في التعامل مع الجنسية المثلية الأولية التي تستشعرها كل طفلة صغيرة نحو أمها. على العكس من ذلك لقد شعرت بالرفض وعدم الحب من قبل أمها كما شعرت بالتجاهل الكامل من قبل والدها.

الموضوع الثاني المهيمن على السنة الأولى من رحلتنا التحليلية كان اقتناع سوريل بأنها هي ذاتها قد تسببتفي السرطان الذي أصيبت به ومن ثم وجب عليها أن تتقبل ما يحمله من معنى ودلالة على الموت. وقد تمكنت من أن أوضح لها أنه يبدو وكأنها تتعامل مع مرض السرطان ليس باعتباره مرضًا وإنما باعتباره قدرًا لا تملك السيطرة عليه. وفي أحد المرات قالت: “لكن ذلك صحيح تمامًا. أنا لست مريضة بالسرطان. أنا هي السرطان!”

إن حديثها التفصيلي، عن قناعتها بكونها غير مرغوب فيها ويتحملها لمشاعر الذنب لكونها حية، سمح لي بأن أقترح عليها أنها تعتقد بأنه كان يجب عليها أن تموت لكنها بدلاً من ذلك استمرت في الحياة ولذلك فهي تشعر وكأنها ارتكبت جريمة. وقد لست فيها هذه الفكرة وترًا حساسًا حيث تذكرت أنها خلال سنوات طفولتها كانت تشعر بمشاعر عميقة من ذنب إزاء جريمة غير معروفة لها.1

مع استمرار عملنا معًا بدأت سوريل في تجميع عديد من الذكريات حيث كانت تشعر بضرورة أن تقضي على أية فكرة أو شعور أو نشاط قد يكشف عن رغبة خاطئة في أن تحيا أو أن تشعر أنها تستمتع بالحياة. ومن خلال تمثلها الموتكانت سوريل تتمنى أن تنكيف مع ما كانت تشعر بأنه متوقع منها. لقد خلقت، باستخدام مصطلح وينيكوت (Winnicott 1958) “ذاتا مزيفةكاملة التكوين دون أن تدرك أنها لم تشعر يومًا بأنها حقيقية تمامًا. بحلول نهاية عامنا الأول من العمل معًا كانت سوريل دائمًا تنبهر لدى اكتشافها بأنها لا تدرك ماهيتها بالضبط أو ما ترغب فيه حقيقة لنفسها وأن مغامرتها المستمرة في التحليل النفسي يجب أن توجه من أجل اكتشاف هويتها الحقيقية.

س.ل.: تقول أمي أنها قد أرضعتني من ثديها طبقًا للقواعد: فقد كانت المربية تأتي بالطفلفي الساعة المحددة ثم تأخذه بعيدًا حين ينتهي وقت الرضاعة.

لقد تذكرت في تلك اللحظة تأكيد وينيكوت (Winnicott 1971) أثناء محاضراته العامة المتعددة في لندن، إن الاحتياج الأول للطفل حديث الولادة ليس الطعام وإنما أن يتم إطعامه بواسطة شخص يرغب في إطعامه. تذكرت سوريل أنها وأختها كانا يتناولان طعامهما مع مربية اتسمت بالقسوة والجمود.

س.ل.: رغم أنني كنت أشعر بالغثيان من الطعام المفترض أنه صحي الذي كان يقدم لنا إلا أنني لم أكن أجرؤ على القيء في وجود المربية. كان علي أن أختبئ لكي أتمكن من فعل ذلك. ولكن في يوم إجازة المربية كانت أمي تأخذنا بشكل منتظم إلى المقهى لكي نتناول الطعام وكنت أفرغ ما في جوفي بعدها مباشرة في كل مرة.

بعد ذلك، حين وصلت سوريل إلى سن دخول المدرسة سمح لها بأن تتناول طعامها مع الطباخة. كانت الأوامر تقول إنه على سوريل أن تأكل طبقًا من العصيدة وبيضة مسلوقة في كل صباح قبل أن تترك المنزل إلى المدرسة. تتذكر سوريل أن الطباخةكانت امرأة دافئة ومحبة. ورغم أن سوريل لم تكن تستمتع بتناول ذلك الإفطار الممل إلا أنها كانت تنتظر تلك اللحظات الحميمة والدافئة مع الطباخة. وفي خلال تلك السنوات توقف القيء، لكن فقدانها الشهية للطعام والشعور الدائم بالغثيان في معدتها والقيء أيضًا عادت كلها مرة أخرى حين تركت الطباخة المنزل.

حين أوضحت لسوريل أنه يبدو كون فقدانها للشهية وقيئها الدوري تعبيرًا جسديًا عن رغبة نفسية في رفض أي شيء مرتبط بصورة أمها التي كانت ترفض وجودها ذاته، بدأت سوريل تدريجيًا في التعبير عن فكرة أن أمها كانت دائمًا ذات تأثير سام عليها طوال فترة حياتها، وأن ذلك هو السبب وراء قلة تناولها للطعام وشعورها بضرورة أن تتقيأ أي طعام تمكنت من تناوله. وفي سياق تناولنا لتصورها عن الأم كمادة سامةتوقف تقيؤها الذي كان مستمرًا إلى ذلك الوقت.

في الشهور التالية بدأت سوريل تدرك أنها لم تسمح لنفسها أبدًا أن تتخيل أي شيء غير حقيقي، على حد تعبيرها. وبمعنى آخر فقد كان عالمها الخيالي إلى جانب حياتها العاطفية الخيالية شديد المحدودية. وفي محاولة لاختراق الصدفة التي كانت سوريل تحيط بها مشاعرها، وخلق مساحة لعب لمشاعرها وخيالاتها، سألتها ذات يوم ما إذا كان مقدورها تخيل صورة للسرطان الذي أصيبت به، بمعني شكله ولونه وحركته. وقد فاجأتني بقولها: أستطيع أن أراه! فهو ينهض كساحرة سوداء ثم (ومدت يديها أمامها وكأنها تدفع عن نفسها صورة خطيرة)، آه! إنها تجري في كل مكان كصمغ أسود سام.” سألتها: “هل تستطيعين رسمه؟” “لا. لا أستطيع أن أرسمه لكنني قد أستطيع أن أكتب عما أتخيله.” وأضافت: “أتدرين، إنني أملك كومبيوتر لكنني لم ألمسه قط. لم أكن أعرف فيما أستخدمه.” وقد أصررت على أن تتعلم كيفية استخدامه وعلى أن تحاول كتابة أي أفكار قد تطرأ على ذهنها.

بناء على تلك الصورة للساحرة السوداء وشعور سوريل بالفزع من تلك الصورة كشفنا عن مزيد من الخيالات التي أدت بنا إلى التأكد من أن وراء مظهرها الخارجي المتكيف كانت سوريل، الطفلة الصغيرة، تشعر بالغضب إضافة إلى الاكتئاب الشديد. لقد تنازلت، منذ الطفولة تقريبًا، عن فكرة أن الحياة يمكن أن تكون ممتعة؛ ومن ثم فإن أي أمر مشوب بالرغبة، أي استمتاع تلقائي بالحياة كان لابد وأن يمحى. لقد تحمست سوريل للغاية بمحاولاتنا أن نعبر بالكلمات عن مشاعر طفولتها المبكرة وأصبحت مدركة بشكل دقيق لمحاولاتها الدائمة أن تجمدمشاعرها. فالمشاعر الوحيدة المسموح بها كانت مشاعر الفزع في الشغالها الدائم بالموت. وقد صاغت ذلك قائلة: “لم أكن أدرك أنني أريد الحياة. لقد توجهت كل طاقتي إلى تجنب الموت. “

في واحدة من محاولاتي تشجيع سوريل على استثمار حياتها فيما له معنى سألتها عن سبب افتقاد منزلها الكبير في باريس لأي مساحة عملخاصة بها. بعدها بدأت في إعادة ترتيب المنزل لكل تخلق مثل تلك المساحة ومن ثم قالت لزوجها وأبنائها ألا يقتحموا عليها خصوصيتها دون استئذان حيث أنها بحاجة إلى الوقت لكي تفكر.”

بعد ذلك بأسابيع وأثناء الإجازة الصيفية أرسلت لي سوريل عبر الفاكس المذكرات التي كانت تكتبها على الكومبيوتر. وهي أوراق تعكس لب عملنا التحليلي في العام الأول.

فيما يلي حكاية سوريل عن طفولتها المبكرة وقد أعادت فهمها وبناءها. وقد أخترت بعض الفقرات من بين الصفحات الكثيرة التي أرسلتها لي لتوضيح عملية التحليل النفسي الجارية. (هنا يجب أن أضيف أنني انشر تلك السطور بموافقة سوريل.)

كنت طفلة صغيرة للغاية، أرقد في سريري، وأعاني، آه، كثيرًا! لم يكن أحد يريد هذه الطفلة الصغيرة التي تبكي وتبكي طوال الوقت. “نحن لا نريدككانوا يقولون، نحن لا ننظر إليك؛ فقط سوف نتركك تعانين. نحن لا نحبك، لكننا نطعمك لأننا محترمون“. أما عن الحب، فلا يوجد حب لهذه الطفلة الصغيرة. لم ينظر أحد في عيون تلك الطفلة أو يحاول التقاط نظرتها. لقد تحولت عيون هذه الطفلة إلى ثقوب خالية وبالتالي فقد تحول الخوف إلى كتلة سوداء تخترق كل واحدة من مسام الطفلة الصغيرة. هذه الكتلة السوداء كانت دائمًا هناك، لم تترك الطفلة ولو للحظة واحدة. فقط كانت طفلة سيئة وكان يجب عقابها.

حين كانت تتعلم السير، لاحظوا أن للطفلة السيئة عضو (limb) غريب (ج.م. ملحوظة: لقد أخطأت سوريل في كتابة كلمة عرج“limp) ) وقد تمكننا تحليل ذلك بعدها بأسابيع بأنه يشير إلى تصورها بأن أمها كانت ستتقبلها أكثر لو أنها كانت صبيًا). فقد وضعت تلك الطفلة الصغيرة في الجبس في هذا السن الصغير. مسكينة تلك الطفلة الصغيرة – فهي لن تتمكن من الحركة الآن. لكن الطفلة مقتنعة بأنها تستحق العقاب ومنذ تلك اللحظة أصبحت تخاف أن تتحرك. إنها ترغب في أن تعاقب لكنها في نفس الوقت تريد للجميع أن يلاحظوا ذلك العرج الذي لا يوجد له سبب طبي.

إنها تشعر بأنها تعيسة وخائفة تمامًا، والكتلة السوداء موجودة طوال الوقت. إنها كتلة سوداء من الخوف لا تتركها أبدًا وتشلها تمامًا. الآن أصبح على الفتاة الصغيرة أن تقاوم الموت المحيط بها من كل جانب. وإذا لم تأخذ حذرها فسوف تموت. ما من أحد يرعاها. فقط تلك الكتلة السوداء.

إنها حتى تخاف أن تأكل لأن الطعام يأتي من العدو، ثم يصبح الطعام هو العدو. إنها تقيء الطعام كله لأنه مسموم. إنها وحيدة تمامًا بحيث يجب عليها أن تراعي نفسها، لكن الأطفال لا يعرفون كيف يفعلون ذلك. إنهم فقط ينتظرون الألم، والتعاسة، والخوف من أن يهبوا. إن كل ذلك هو بعض من الكتلة السوداء التي تغزو كل سنتيمتر من جسد الطفلة. وبالتدريج تتحول تلك الكتلة إلى سرطان، إلا أن الطفلة لا تعرف له اسمًا. لم يعلمها أحد يومًا كيف تثق في مشاعرها وكل ما تستطيع أن تفعله هو أن تستمر في السباحة في ثقب أسود تغزوه كتلة سوداء. الطفلة تعاني ألمًا شديدًا، شديدًا. “الطفلة تتعلم أن تحبو ثم تصبح قناة صغيرة وما زالت معزولة وخائفة من كل ما يحيط بها. ثم يصبح لديها أخت رضيعة، أخت جميلة وباسمة وسمينة تأسر قلب الجميع. الآن تفقد الفتاة الصغيرة المساحة الصغيرة التي كانت لديها – فتمرض وتصبح أنحف فأنحف. ورغم كونها صغيرة جدًا فإنهم يرسلونها إلى ذلك المكان البشع، البشع، بعيدًا عن محيط أسرتها. مكان سخيف ومعقم في سويسرا.

ثم يزداد الخوف الأسود قوة – مثل القطران وتصبح له حياته الخاصة. الصمغ الأسود يغزو كل واحدة من مسام جسد الفتاة الصغيرة وعقلها. الرضيعة المذعورة تبدلت من الخارج، أصبحت طفلة صغيرة، ثم طفلة كبيرة ثم امرأة ثم أُمّا لكنها في داخلها ما زالت هي ذاتها الرضيعة الصغيرة. سوريل وقد غزاها الصمغ الأسود؛ إنها لا تثق بأحد وما من أحد يستطيع مساعدتهاسوريل تصرخ ثم تغرق في النوم. لا أحد، لا أحد يريدها، فقط تلك الكتلة السوداء التي امتصت خوفها وفزعها بالكامل لكنها إلى الآن لا تحمل اسمًا“.

أثناء إجازة الصيف سمحت لسوريل أن تستمر في الجلسات عبر الهاتف بالقدر الذي سمحت به ظروف كل منا. بعد عودتها أمضينا عديدًا من الجلسات نبحث في كيفية خبرتها بكيانها الجسدي وفي أحد الأيام قلت لها:

ج.م.: إنك تتحدثين عن نفسك كما لو كنت ذهنًا بدون جسد.

س.ل.: أعلم أن لدي جسد لكنني لم أمتلكه فعليًا في يوم ما – بل إنني أدرك أنني فعلت ما في وسعي كي أنسى وجوده.

ج.م. : يبدو أنه يمكن امتلاك جسد فقط بشرط أن يعاني وأن يهددك بالموت من السرطان. (وحيث أن سوريل استمرت في الحديث كما لو كانت غير مسئولة تمامًا عن الاهتمام بمرضها بالسرطان، فقد أضفت، هل تملكين هذا السرطان أم أنه مملوك لشخص آخر ؟“)

س.ل.: (بعد صمت طويل) من الغريب أن أسمعك تقولين ذلك. أنا لست مصابة بالسرطان. أنا هو السرطان. مثلما قلتي ذات مرة، لطالما اعتبرت إصابتي بالسرطان قدرًا، وليس مرضًا. ج.م.: ومع ذلك فقد كنت طفلة قوية ذات رغبة قوية في البقاء.

س.ل.: هذا غريب، فأنا لم أفكر في نفسي يومًا على أنني قادرة على البقاء، فقط خارجة عن المألوف تستحق الموت.

بعد تلك الجلسة بقليل جاءت إلى سوريل بالمذكرات التالية، تحمل العنوان التالي.

لسنوات كثيرة كنت أنا السرطان. فذلك هو الاسم الذي أطلقته على خوفي. حين كنت طفلة كنت خائفة فحسب؛ لقد ولدت خائفة وطوال حياتي لم أتوقف أبدًا عن الشعور بالخوف. خائفة من ماذا؟ من الموت. بدا الموت محتملاً في أي لحظة لأنني كنت أحمله بداخلي فقط أنا كنت أراه لكنني كنت واثقة من أنه موجودلقد أمضيت كل يوم من حياتي أصارع الموت لأنه لم يكن مقترضًا لي أن أعيش. لقد استهلكت مصارعة الموت كل كطاقتي وكل إرادتي في الحياة، صراع دائم ضد السم المتغلغل تمامًا أمي، سرطاني.

سرطاني هو أمي. إنها تأكلني حية وتبث سمها في جسدي كلهإن مصارعة الموت كانت هي محاولتي أن أتخلص من قبضتها؛ لم تكن يومًا معي ومع ذلك فقد تمكنت من إيذائي بشدة لكونها لم تكن موجودة حين كنت في أشد الحاجة إلى أم. لقد أصبحت هي السم المطلق، مخيف لكنه غير مرئي. يجب أن أستأصل هذا السرطانالأم من نفسي وجسدي، من ذهني وروحي.

حين تزوجت للمرة الأولى، تزوجت ولي أمر سرطاني آخر؛ لقد لعنني وسمى فزعي. إنني لم أستحق ما هو أفضل من السرطان. (لاحظت للتو أنني كتبت أنا لا أستحقبدلاً من أنا لم أستحق“. لكنني أشعر الآن بأنني لا أستحق السرطان من الآن فصاعدًا).

لابد وأنني كنت، عند الولادة، طفلة قوية ذات رغبات قوية تحولت فيما بعد إلى معركة مع الموت. منذ كنت رضيعة ومجبورة على إنكار وقتل دوافعي، بدأت فعليًا في قتل نفسي. لقد غزاني الموت ولم يتركني يومًا حتى الآن. الآن لم أعد في حاجة إلى الموت. إن علاجي سوف ينجح ! أنا لست مرضًا. بل لدي مرض ويمكن للموت أن يتركني الآن لأنني أطلق سراح الموت.

ومع ذلك فما زال هناك الكثير مما يجب علي عمله مع الاختيار (تشويس choice) (آه، إنها زلة لسان فرويدية فقد أردت أن أقول Joyce جويس) لقد منحتني جويس الفرصة لاختيار الحياة. بدونها ما كنت لأتمكن من اجتياز هذه المعاناة الرهيبة وأن أصل إلى الأبواب المغلقة التي يمكن أن تفتح الآن ببطء وبالتدريج.

قبل أن أعرض مقتطفات إضافية من قصة سوريل كما روتها، اسمحوا لي أن أحكي باختصار عن مسار عامنا الثاني من العمل سويًا. عند هذه النقطة بدا وكان العلاج الكيمائي الجديد قد قضى على خطر انتشار السرطان إلى الثدي الآخر وأعضاء الجسد الأخرى. ومع ذلك فقد بدأ يظهر بعض الطفح الجلدي السرطاني في أماكن استئصال الثدي التي تعرضت للإشعاع مما أثر فزعي وفزع سوريل. وقد دفع ذلك سوريل إلى تذكر أنها كانت تعتقد أنها قذرة ومثيرة للاشمئزاز لأن أمها لم تكن تلمسها أبدًا.

لقد أمدنا تحليل تلك الأفكار دلالة جديدة للكثير من المخاوف الرهابية والقهرية بشأن القذارة أو تناول ما كانت تسميه طعامًا ملوثاأو غير صحي“. كما أن ظهور تلك السرطانات الجلدية الصغيرة قد أغرقها مرة أخرى في تلك الحالة الاكتئابية المستسلمة للموت. وفي أثناء عطلة نهاية الأسبوع أرسلت لي عبر الفاكس بتلك الصفحات:

طوال حياتي كنت أشعر بالذنب وأنني شديدة القذارة (تسيطر علي تلك الفكرة التي تدور حول قذارتي أو قذارة منزلي). لقد كانت أمي، حتى وأنا طفلة، تشعرني بقذارة جسدي وبأنني غير مرغوبة – وأنني تلك الطفلة التي يجب الحفاظ على مسافة منها. “لم أسمح لنفسي يومًا أن أمتلك جسدي. لقد كان دائمًا بغيضًا، غير محبوب وغير متناسق والأسوأ من ذلك أن جسدي كان دائمًا محفوفًا بالمخاطر لأنه لم يكن أنا، بل كان عدوًا. كان علي أن أتجنب بكافة السبل أن أنتبه إليه وأنا أشعر بالصمغ الأسود المقزز بداخله…. لقد ماتت سوريل حين كانت بعد طفلة صغيرة ومنذ اللحظة التي ماتت فيها لم تعد قادرة على أن تشعر بأي شيء ما عدا الخوف واليأس. لقد عاشت في بلد خرب مليء بالموتى. ومنذ تلك اللحظة فقدت كل أمل في إمكانية أن يكون لها حق الحياة.

لكي يتمكن الطفل/ة من أن يكون صورة لذاته فإنه يحتاج إلى صورة شخص بالغ يتمثله وهو بعد رضيع؛ إن أحدًا لم يعطني يومًا تلك الصورة وبالتالي فإنني لم أكن يومًا صورة عن نفسي. أنا غاضبة جدًا: كيف أمكنهم أن يدمروني بهذا الشكل؟ لابد وأنني كنت غاضبة طوال حياتي لكن ذلك لم يكن مسموحًا. لقد حولت الطفلة اليائسة ذلك الغضب نحو نفسها لأنها شعرت بكثير من الذنب لأنها اختارت البقاء على الموت.

إنني خائفة وأشعر أن الخوف القديم يغزوني مرة أخرى. هل سيقتلني هذا الموت الخفي بداخلي؟ إنني لا أراه لكنني أشعر به يبكي من خلال جسدي. إنني أريد بشدة أن أحيا. هل سيصبح ذلك ممكنا؟

لقد عدت لتوي من مقابلة جويس وقد اتخذت قرارًا شديد الأهمية – إن أحدًا لن يمس الطفلة سوريل بعد الآن. وكما قالت جويس، لقد أصبحت على استعداد الآن لأن أكون الأم الجيدة لنفسي لذلك الجزء الرضيع في نفسي. “

بسبب قرار سوريل الذي اكتشفته حديثًا بأن ترعي الطفلة بداخلها تمكننا أخيرًا من تناول ذلك الجزء من سوريل الذي كان متواطئًا مع مرضها ومستعدًا للاستسلام للموت وكان ذلك هو الواقع الوحيد المقبول. مع استمرار الجلسات عرفت لأول مرة أن سوريل كانت، منذ بلوغها سن السابعة عشر، تعتصر وتقرص على ثدييها إلى أن ينزفا؛ كانت تريد أن ترى ما إذا كان بهما أي أورام أو إفرازات غير طبيعية. لأول مرة في حياتها بدأت تتساءل عن الدافع وراء تلك النوبات وسمحت لي، لأول مرة أيضًا، أن أكتشف قدر ذلك العدوان الجسدي. حتى تلك اللحظة كنت أعتقد أنها كانت تقوم بالكشف الدوري المعتاد على ثدييها لاكتشاف سرطان الثدي. وقد لفت انتباه سوريل إلى رغبتها، التي لم تعترف بها، في أن تشوه جسدها طوال فترة حياتها البالغة.

س.ل.: إن ذلك اكتشاف هائل بالنسبة لي أيضًا! لقد كنت أعتبر ذلك أمرًا مفروغًا منه طوال الوقت. والآن يجب أن أسأل نفسي لماذا كنت سعيدة حين تم استئصال رحمي حيث كنت أشعر أن ذلك ضرورة جالبة للحظ. إنني لم أشعر بأقل قدر من القلق أو الحزن على استئصال رحمي.

ج.م.: تشويه آخر كنت ترغبين فيه؟

س.ل.: نعم. إنني لم أفكر أصلاً في الاحتمال الآخر. أنه نفس النمط حين كنت أعذب ثديي.

ج.م. : ما الذي تحاولين أن تتخلصي منه؟

س.ل.: لطالما كرهت كل ما يبدو أنثويًا في جسدي. كان يجب علي أن أكون شديدة النحافة. إن أقل استدارة كانت بشعة في نظري. وفي نفس الوقت كنت دائمًا حسنة المظهرلا أقصد شديدة الأناقة أو التبرجلكنني كنت دائمًا أنيقة المظهر. ملابسي عالية الجودة لكنها دائمًا تخفي أكثر مما تظهر. حين كنت أخرج في المساء كنت أرتدي بذلة مع قميص من الحرير.

ج.م.: كنت إذًا تزيلين أو تهاجمينأي علامة أنوثة ظاهرة؟

س.ل.: أرى الآن أنني كنت مصرة على تدمير كل ما يرمز إلى الأنوثة – الدورة الشهرية، الولادة، الجنسكل ذلك كان يجب مهاجمته.

لقد ذكرتني تلك الملحوظة بما تقوله النساء اللاتي يسعين إلى تغيير جنسهن البيولوجي، لكنني لم أعبر عن تلك الفكرة لسوريل.

ج.م.: ماذا تعتقدين كان مخيفًا في الأنوثة إلى هذه الدرجة؟

س.ل.: لقد كنت دومًا أخجل من كوني فتاة. أعتقد أنني لم أقبل ذلك يومًا. لقد بدأت في استخدام المساحيق بعد سنوات طويلة مقارنة بباقي الفتيات. ولسنوات طويلة كنت أرفض أن استخدم حاملة الثدي (برهة صمت). ما علاقة ذلك بالسرطان الذي أصبت به؟

ج.م.: هل السرطان أسلوب آخر للهجوم على كونك امرأة؟

س.ل.: نعم ما الذي كنت أحاول أن أخفيه؟

ج.م.: وعن من؟

س.ل.: آه! أبي. لقد كنت دائمًا أشعر بالقلق والخجل في وجوده. أعتقد أنني كنت أخاف انجذابه إلىكنت شديدة الحرج من أن أكون معه بمفردي. كنت أنجبت ابني وكنت أشعر بالخجل لأنه يعلم الآن أن معني هذا أنني أمارس الجنسأنه قد يلحظ أنني امرأة.

ج.م.: هل كان من الأفضل لو كنت صبيًا؟

س.ل.: لست أدري – إنه لم يكن مهتمًا بأخي أيضًا. لكنني في كل الأحوال لا أعلم سببًا لخجلي الشديد. لقد كان أقل الآباء ملاطفة. لقد كنت دائمًا شديدة الاهتمام بالجنس، على الأقل في الكتب.

ج.م.: يجوز أنك كنت أكثر خوفًا من اهتمامك الجنسي بوالدك عن اهتمامه هو الجنسي بك؟

س.ل.: لم أكن مهتمة بأن تكون لي علاقات جنسية. كنت فقط مهتمة بأن أقرأ عن العلاقات الجنسية. الرجال في حد ذاتهم كانوا يخيفونني – كما لو كنت أخاف من تدميري بواسطة العنف الذكوري.

ج.م.: هل كانت لديك خيالات كتلك حول العلاقة الجنسية لوالديك؟

س.ل.: في كل الأحوال، ما كان أبي ليسيء جنسيًا لبناته. فقد كان ملتزمًا جدًا بالقانون، ويهوديًا جدًا بحيث لا يمكن أن يفكر في مثل هذه الأشياء. ثم أنه، كلما فكرت في الأمر، لم يمارس أبدًا العنف الجسدي. كان يمارس العنف اللفظي نعم! مثل الرعد. (فترة صمت طويلة) لقد كنت دائمًا أرفض التفكير في وجود والديّ معًا في سرير واحد.

ج.م.: هل يجوز أنك كنت تخافين تصور خيالات عنيفة أثناء ممارستهما للحب؟

س.ل.: مثل ماذا؟

ج.م.: حسنًا، إنك كنت تتذكرين عنف والدك وقد ذكرت لي مرارًا أن والدتك كانت تبدو ضعيفة في الصباح وتعبة لدرجة عدم الخروج من السرير. ربما كنت تشعرين بأنها تعرضت لهجوم عنيف من والدك؟

س.ل.: المؤكد أنني ما كنت لأسمح لنفسي بتخيل مثل تلك الأمور. حين أفكر في ثلاثتنا جميعنا لديه مشاكل خاصة بهوياتنا الجنسية. لكن هذا ليس كافيًا لتفسير سبب اعتدائي على جسدي بهذه القسوة.

ج.م.: هي يجوز أنك كنت تعتدين على جسد شخص آخر من خلال الاعتداء على جسدك؟

س.ل.: نعم! جسد أمي! كنت أريد أن أكون مختلفة عنها في كل شيء.

ج.م.: كنت تريدين الاعتداء على ثدييها؟

س.ل.: نعم طبعًا! لقد أرضعتني السموم – مع كل جرعة أعطتني إياها بلامبالاة أو كراهية. من يدري؟

ج.م.: وتدمير رحمها؟

س.ل.: آه، الرضع الآخرون؟ لابد وأنني كنت أكره جسدهاولم أتمنّ يومًا أن أشبهها في أي شيء. أمي تميل إلى الاستدارة وجسدها يميل إلى الامتلاء. إنني أفضل الموت على أن أبدو مثلها: كل أشيائي يجب أن تنسجم فيما بينها، يجب أن تكون شديدة التحديد، حازمة – مثل الولد الصغير.

لقد دفعت تفسيراتي بسوريل إلى أن تلخص تلك الجلسات كما يلي:

س.ل.: ما معنى أنني قمت بالاعتداء على جسدي بهذا الشكل (ثديي الأيسر الذي يمثل القلب)؟ لقد كانت محاولة مني أن أعتصر أمي خارجه. الثدي يعني الأم والأم بالنسبة لي كانت أمرًا خبيثًا. أنا واثقة من أن هذا المرض كان لابد وأن يحدث. لقد كان بالنسبة لي الطريقة الوحيدة لأتعرف على السم وأتعامل معه. وحيث أنه لا يوجد طريق مختصر في التحليل النفسي، كان عليّ أن أعيش مرة أخرى خلال كل ذلك الألم والتعاسة والمعاناة التي لونت حياتي كلها بالسواد. كان لابد وأن أرى شكل هذا السم بداخلي لكي أتعامل معه وكي أتمكن في النهاية من أن أقضي عليه وأن اطرده خارجي.

ليس من باب المصادفة أن يكون مرضي غريبًا بهذه الدرجة إنها الحقيقة النفسية وقد تحولت إلى حقيقة واقعية. لقد كنت بحاجة إلى هذا الاكتئاب البشع الأخير كي أتمكن من تحطيم السرطان.

أسجل في ذهني أن سوريل ليست بعد مستعدة لتكتشف نفسها كقاتلة للطفلة الرضيعة. قد يكون ذلك بسبب رغبتها في حماية الطفلة بداخلها والتي أصبحت عنصرًا شديد الأهمية في تلك المرحلة من تحليلها.

س.ل.: هذا يأتي بي إلى الجزء الأهم من تحليلي النفسي. إنني أعلم الآن، بداخلي، إنني كنت أنتظر هذا السرطان وأنني كنت أرغب فيه! أنني أدرك ذلك تمامًا كما لو كان جزءًا من ماضيي أخبرني أحدهم به. لقد كان انتمائي إلى الموت واقعًا لاشك فيه بالنسبة ليواقعًا انتقل إلى من خلال والدتي ومن ثم لم يكن هناك مجال للشك فيه. منذ لحظة ولادتي سلمتني إلى كل ما هو ضد الحياة. وبعد فترة وجيزة لم يعد هناك شيء متبقي من الطفلة الصغيرة المليئة بالحياةفقط دمية مريضة، مصابة بالسرطان اسمها سوريل. لقد تقبلت السرطان بأن أصبحت أنا السرطان. لكنني أيضًا مقتنعة بأنني لم أعد أحتاج إلى السرطان. إن تلك صورة مريضة للغاية عن الإنسان، خلقها عقل مريض.

كل خلية في جسدي تسعى وترغب في أن تستيقظ، لكن هل أتمكن من الاستماع إليها؟ إنني أحتاج الآن لأن أصبح امرأة وأن أستمتع بكل جوانب كوني امرأة. وقبل كل شيء، أريد أن أحيا.

سوريل تكتشف ذاتهاوتأخذ مقاليد حياتها بين يديها.

أثناء عطلة نهاية الأسبوع أرسلت لي سوريل تلك المذكرات عبر الفاكس:

لم أكن يومًا موجودة بشكل حقيقي، ومن ثم فإنني لم أعش حقيقة حتى الآن. لا يمكن لأي إنسان أن يشعر بأنه يحيا إذا كان يشعر بفقدان تام للهوية.

لم أجرؤ يومًا على أن تكون لي ذات، أن أكون أنا. لقد قبلت فقط طبقًا للنمط القديم جدًافكرة أنه من غير المسوح لي باتخاذ القرار إذا كان لي أن أعيش.

لكن أمرًا شديد الأهمية يحدث في جسدي الآن وعلي أن أنصت إلى الرسالة. يجب أن أجد نفسي، ويجب أن استعيد الثقة في إمكانية شفائي.

في الفترة الأخيرة تعلمت أمرًا شديد الأهمية: يجب فصل الحقيقة النفسية عن الحقيقية الواقعية. أدرك الآن أنه بدون الفصل بين هاتين الحقيقين سوف يكون من المستحيل اتخاذ قرارات على أساس واقعي وقابل للتنفيذ؛ فحين يتحكم الخوف والصدمة النفسية يصبحان هما الحقيقة الوحيدة المفهومة، الحقيقية الوحيدة المقبولة.

حين أفكر في عدد السنوات التي حملت فيها تلك الأم القاتلة في داخلي، في عالمي الداخلي، وكيف انصعت لكل أوامرها، أدرك أنني قد سمحت لها أن تدمرني بكامل موافقتي!

رغم أنني تعلمت الكثير في تحليلي الأول إلا أنني في نفس الوقت رفضت أن أقبل هذه المساعدة التحليلية – لم أكن مستعدة للتخلي عن الحقيقة النفسية بداخلي ومن ثم أطلق سراح معاناتي. الشيء الوحيد الذي عرفته طوال عمري هو المعاناة ولم أكن أتصور إمكانية العيش بدونه. حين لم أكن أعاني لم أكن أشعر بأنني أعيش هذا ما تصورت أنه معنى الحياة ليس الواقع الحقيقي، وإنما فقط الواقع النفسي الخاص بي، مليء بالرعب والوحوش والسرطان. أشعر وكأنني لم أعش حياتي وإنما كأني كنت محكومة بقوة رهيبة جذبتني من شعري عبر الحياة. إن قيئي وإسهالي كانا بمثابة الدموع التي لم أذرفها قط. لماذا لم أكن من قبل مستعدة للتخلص من ذلك السم الأسود الرهيب؟

لقد تعلمت أن أعيش في الثلاثة شهور الأخيرة فقط. قبل ذلك كانت حياتي مجرد معركة من أجل البقاء تدربت عليها مثل الجندي الجيد. لماذا أحتاج إلى تعذيب نفسي مرة أخرى؟ ما هو الأمر الذي لا أريد أن أراه؟

أعلم جيدًا أنه لا يوجد طريق مختصر في التحليل النفسي – يجب أن أعيش مرة أخرى عبر كل ألم خبرته من قبل لكي أشفى منه.

المؤلم هو أنه يجب عليّ اليوم فك رموز الرسالة التي يرسلها جسدي. ماذا سوف تقول لنا؟ لقد بدأت للتو أدرك اكتئابي ومدى عمقه.

لقد حاولت أن أتقيا مشاعر التعاسة ومعها كل من وضع تلك المشاعر بداخليمشاعر لم أكن تعلمت بعد كيفية التعبير عنها بالكلمات.

لقد كشفت لي جويس اليوم أنني أستخدم القلق لأغطي على مشاعر الاكتئاب غير المحتملةإننا نقيد مشاعرنا الاكتئابية باستخدام كافة السبل لإخفائهاإن قلقنا، رغم كونه شديد التدمير، إلا أنه آلية قوية لإخفاء ما هو غير محتملإذا أردنا أن نصبح بشرًا أحرار يجب أن نمزق الستار الذي يخفينا عن مشاعرنا الحقيقية وأن نتواجه وجهًا لوجه مع آلام ومعاناة طفولتناوبدلاً من فعل ذلك فقد حولت نفسي إلى قطعة من الحجر. لكن الإنسان لا يمكن أن يبقى حجرًا، حيث أن المشاعر السلبية والرغبات المكبوتة والمحجوزة في النفس الداخلية تملك قدرة انفجارية قوية بحيث لا يمكن تجاهلها لفترة أطول. إذا لم ننصت لكلماتنا الداخلية فسوف نختنق بها.

جويس، أعتقد أنك أصبحت أهم شخص في حياتي، أولاً لأنني أحبك، ولكن ثانيًا لأنك الشخص الوحيد الذي يعطيني شعورًا قويًا بالواقع. لم يكن في حياتي من قبل أي واقع حقيقي؛ كان كل شيء غريبًا تمامًا، وغير منسجمأو ميت. لم أتمكن أبدًا من قبل أن أعيش في الواقع، كما لو كنت لا أدرك نفسي، لا أرى نفسي ومعها باقي العالم.

ما زال أمامي الكثير لأتعلمه. أريد أن أتمكن من أن أنظر إلى العالم بعيون مفتوحة وبقوة مجهزة لذلك. إنني أدرك ماضيَّ فهل سأدرك مستقبلي؟

إن المشاعر غير المرتبطة بشعورنا الداخلي بالهوية ليست مشاعرنا، وإنما هي فقط أشباح لمشاعر هؤلاء الذين تحكموا فينا حين كنا أطفالاً. حين يولد الإنسان في عالم من الصمغ الأسود السام ثم يلقى به فيه فإنه يتحول إلى بيئة سامة. الهوية كانت مستحيلة – حتى الآن كنت ملكًا لأمي، التي جعلت مني شخصية منبوذة عاطفيًا. “

بعد تلك الجلسات الكاشفة شعرت بأنه يمكننا أن نقترب من تصور سوريل لطبيعة حياة والديها الداخلية. تصورت أنه قد يمكننا التخفيف بعض الشيء من كراهيتها واحتقارها لوالديها ومن ثم توفير بعض من طاقتها النفسية لنفسها. قلت لها إنها لم تقل لي يومًا أي شيء عن حياة والديها السابقة. وعرفت للمرة الأولى أن أسرة والدتها قد قتلت عن بكرة أبيها في معسكرات النازي وأن والدها فقد أخاه الأصغر واستمر في الشعور بذنب البقاء لأنه لم يساند أخاه الأصغر. بعدها تمكننا من إعادة تشكيل بعض من محاولات والديها للتعامل مع تلك المأساة.

س.ل.: لكنهم ينكران الأمر برمته. لقد تحدثا عنه مرة أو مرتين لكنهما منذ ذلك الوقت يتصرفان كما لو أنه لم يحدث أبدًا.

ج.م. : لكنك قد تحملين كل هؤلاء الموتى بداخلك أيضًا؟

س.ل.: أنا واثقة من أن ذلك حقيقي – أعتقد أيضًا أنني كنت دائمًا أشعر بالذنب بسبب هذا الأمر، كما لو كنت أعيش الحداد نيابة عن والدي. أمي لا تفعل شيئًا سوى الانتقال من مناسبة اجتماعية إلى أخرى؛ هذا هو كل ما تفكر فيه.

ج.م.: هل تعتقدين أن تلك قد تكون طريقتها في الهروب من الألم؟

س.ل.: آه! يجوز. أنا لم أفكر في هذا الأمر من قبل أبدًا.

بعد عدة جلسات تالية تمكنت سوريل من أن تقول: “أتعرفين، إنني أنتقد أمي كثيرًا، لكنني لا أكرهها. هي بالأساس امرأة طيبة وصالحة. لكن لم تسنح لها الفرصة يومًا لأن تنضج – وقد كانت غير قادرة على أن تكون أُمّا. لكن، لماذا لم تتمكن من النظر إلينا؟اقترحت أنها قد تكون خافت من نقل رسائل الموت إلى أبنائها وقد تكون شعرت أنه من الأفضل أن تترك أبناءها بين أيدي المربية. “نعم، هي في كثير من الأمور مثل طفلة صغيرة. كما أنها جاءت من أسرة بولندية فقيرة – لم تكن هناك مربية وقد ناضلت أمها طوال حياتها من أجل رعاية أسرتها.”

من هنا بدأت سوريل تدرك أن الواقع النفسي لوالديها كان هو الآخر مليء بالمآسي والموت. وبدأت، وقد يكون للمرة الأولى، تغفر لهما تقصيرهما. كما حاولت أن ترى حجم مسئوليتها هي نفسها عن عالمها النفسي الداخلي وأن تدرك أنها تمسكت بتصورها عن الأم السيئة والأب المهمل أكثر مما افترضت أن حياتها الداخلية قد تكون تحت سيطرتها هي ذاتها.

في الجلسة التالية بدأت سوريل تدرك أنها هي ذاتها مسئولة ولو جزئيًا عن تحويل نفسها إلى ما أطلقت عليه اسم موديل الترزيوعن الحفاظ على الهوة بين واقعها النفسي والواقع الخارجي وبين النفس والجسد.

س.ل.: كنت لا أحد.

ج.م.: لا أحد؟

س.ل.: بالضبط. لم أكن أحدًا بالمعنى الحقيقي. كان علي أن أبدو بالمظهر المناسب كي لا يرى أحد الاضطراب الأسود بداخلي وكان جسدي وذهني منفصلين تمامًا أحدهما عن الآخر. ما كان لأحد أن يكتشف أنني لم أكن موجودة، أنه لم يكن هناك جسد وأنه لم يكن هناك أحد بداخلي. فقط الشكل السطحي. وبالتالي فإن الآخرين لم يكونوا موجودين في الواقع أيضًا. صحيح أنني كنت دائمًا أفعل أشياء طيبة وأضع الآخرين في الاعتبار ولكن ذلك لم يكن من باب اهتمامي بهم؛ كنت فقط مهتمة بالصورة التي أبدو عليها في عيونهم. لم أفكر يومًا أنهم قد يحملون مشاعر أو احتياجات خاصة بهم. ما زلت حتى الآن أفعل ما أعتقد أنه الشيء الصواب، سواء كنت أشعر به أم لا.

ج.م.: صورتك عن نفسك الزائفة؟

س.ل.: بالضبط.

أثناء إجازة نهاية الأسبوع أرسلت لي سوريل فاكسًا بالتأملات التالية:

إن قطع الحبل السري هو أمر ضروري لكي نحرر أنفسنا من أرواح الناس الذين تحكموا فينا حين كنا في أكثر الأحوال ضعفًاوإلا فليس علينا أن نتوقع أن نعرف أنفسنا وأن نمتلك الشخص الحقيقي بداخلنا. يجب أن نتقبل الغضب والألم المصاحبين للبحث في ماضيناإن تلك هي الوسيلة الوحيدة لكي نتمكن من فتح بوابة المستقبل الذي يستحق أن نعيشه. نحن لا نعلم مستقبلنا – نحن لا نعلم قدرنا أو مداه الزمني.

لكننا إذا لم نتعلم أن تقبل ألمنا ومعاناتنا التي استمرت طوال حياتنا، إذا لم نتوقف لننظر في تلك المشاعر ولنجد الكلمات التي تعبر عنها لكي نداويها من خلال الاستماع إليها، فإنه لن يكون هناك مستقبل. بل سوف يصبح محكومًا علينا أن نستمر كأشباح، موتى أحياء على أرض محروقة، حيث لا يتحكم الفرح والسعادة ولا الرغبة والحسية وإنما فقط الهلع والفزع الصارخين. إننا نخشى حقيقة خيالنا حيث نحتفظ بجهنم خاصةفي دراما الهولوكوست يرقص الممثلون على نغم كتبناه بأيديناوبحفاظنا على هذا الكابوس فإننا نقضي على قدرتنا على الحياة. حين يحكم الهول والفزع والقلق لا يبقى هناك مساحة لكي ندرك أن العالم يمتد إلى ما وراء جدران ذلك السجن“.

في الجلسة التالية قالت سوريل:

س.ل.: إذًا، ما هو هذا المرض الغريب الذي أعاني منه؟ من الآن فصاعدًا يجب أن يعيش عقلي وجسدي في انسجام فيما بينهما. من الهام جدًا بالنسبة لي أن أصبح شخصًا في حد ذاته، أن أمتلك جسدي وأن أتخذ قراراتي بنفسي. أنا لا أنتمي سوى لنفسي. ولا يمكن أن يكون أحد غيري مسئولاً عنيحتى لو مت بسبب هذا السرطان، على الأقل سوف أكون قد عشت!

استمر تواصلنا أنا وسوريل عبر الفاكس أثناء إجازة الصيف ثم وصلتني الرسالة التالية:

لقد عاد الطفح الجلدي مرة أخرى ورأسي يصرخ من الألم. السرطان سوف يقتلني ومصيري الوحيد المؤكد هو الموت…. لقد كنت دائمًا مخترقة بالموت وكان الموت هو القوة الوحيدة التي أبقتني على قيد الحياة…. لم تصلني يومًا أية رسالة من والدي سوى تلك التي تحمل الكوارث والأذى والفوضى…. إن هذا الارتباط المرضي مع الموت كان هو علاقتي الوحيدة الثابتة، الرفيق الذي كان يمكنني الاعتماد عليه كلما احتجت إلى ذلك والذي لم يخذلني يومًا…. كيف إذا يمكنني أن أطلق سراح الألم والموت؟.. إن أحدًا من أسرتي لم يحاول أبدًا أن يعرفني أو أن يحبني لمجرد كوني أنا. ليس من الغريب أنني منشغلة بالموت إلى هذه الدرجةلقد ولدت بواسطة شخصين توفيا قبل هذا الفعل بسنوات.”

لقد أصابتني نبرة سوريل في الفاكسات الأخيرة القليلة بكثير من القلق. لقد اتصلت بها هاتفيًا واتفقنا على موعد للقاء في العيادة في باريس. ثم، ولدى عودتي من الإجازة بعد ذلك ببضعة أيام، علمت، بفائق الأسى، أن سوريل قد توفيت قبلها بيومين. وجاء دوري لأعاني ألم الشعور بذنب البقاء.

*Joyce McDougall, “The Psychoanalytic Voyage of a Breast-Cancer Patient”. The Annual of Psychoanalysis: Psychoanalysis and Women, ed. Jerome A. Winer, James William Anderson, and Christine C. Kieffer, Vol. XXXII, 9-28.

1. هذا الجانب من معاناة سوريل النفسية ذكرني بأعمال بييرا أولاجنير بشأن العوامل التي تساهم في الهيكل النفسي للذهان وقناعة الفرد بأنه عاش رغم رغبة الأهل، الواعية أو غير الواعية، بنفي وجود الطفل. وتشير بيبرا أولاجنير (Piera Aulagnier 2001) إلى تلك الخبرة على أنها جريمة أن نولد“. إن مفهومي عن المرضية النفسجسدية وثيق الصلة بالذهان، وذلك رغم قلة العلامات الظاهرة للتشابه بين الهيكلين.

Aulagnier, P. (2001). The Violence of Interpretation: From Pictogram to Statement. London: Brunner- Routledge.

Winnicott, D.W. (1958). Collected Papers: Through Pediatrics to Psychoanalysis. London: Tavistock.

….. (1971). Playing and Reality. London: Tavistock.

اصدارات متعلقة

الاتجار بالاطفال
مرصد الاختطاف 2017-2018
مرصد وقائع الانتحار في مصر
استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم