استعادة سايكي1
تأملات في السيرة الحياتية والتاريخ2
كنت دائمًا أكثر انجذابًا نحو التحليل النفسي عنـه نحو علم النفس الأكاديمي. حين بدأت دراستي المتخصصة في علم النفس الإكلينيكي بعد أن أمضيت سنوات دراستي الجامعية في دراسة الأدب، تعاملت مع شعوري بالصدمة الحضارية بقراءة فرويد إلى جانب تشيكوف وإبسن في محاولة لإيجاد تناول أكثر عمقًا وتعقيدًا للخبرة الإنسانية عما وجدته في المقالات التي كلفنا بها في الدوريات التي كان يقترض أن ننشر فيها أبحاثنا. بعد إتمامي لدرجتي العلمية هربت. أمضيت أيامًا كثيرة مع أبنائي كجزء من تجمع دولي للأمهات المقيمات في سكن الطالبات المتزوجات؛ كما التحقت بمجموعة للرقص الحديث في أحد مراكز الفنون في تجمع الأمريكان الأفارقة في كليفلاند حيث قت أيضًا بالمساهمة في تسجيل الناخبين. لقد كنت أعيش في عوالم بعيدة تمامًا عن عالم علم النفس الأكاديمي. حين انتقلنا إلى شيكاغو لمدة عام قمت بتدريس جزء من فصل علم الاجتماع الثاني الشهير في جامعة شيكاغو وهو الجزء الخاص بمدخل العلوم الاجتماعية الحديثة، وهو ما ذكرني بأسباب انجذابي للعلوم الإنسانية.
لكن الحافز وراء عودتي بشكل خاص إلى علم النفس جاء نتيجة للفرصة التي سمحت لي بالتدريس مع إريك إريكسون في الدورة التي كان يدرسها في جامعة هارفارد حول دورة حياة الإنسان. لقد ألهمتني طريقة إريكسون في رؤية الأمور. لقد جمع حس الفنان لديه بين عين وأذن الإكلينيكي مع إدراك شديد الحساسية للتداخل بين السيرة الحياتية والتاريخ. “لا يمكن أن تتناول الحياة خارج سياق التاريخ” هكذا كان يقول وقد حملت تلك الجملة معي وإذ أتأملها بأثر رجعي أجد أنها كانت إحدى بذور عملي اللاحق.
حين قمت بعد ذلك بالتدريس مع لورانس كولبرج في مادة الاختيار الأخلاقي والسياسي وساعدته في أبحاثه، تأثرت بإصراره على أهمية الحديث عن القيم في العلوم الإنسانية بعد الهولوكوست. لقد ساهمت نظرية كولبرج عن الارتقاء الأخلاقي في بلورة وتوضيح الأعراف والقيم وراء نظريات الارتقاء النفسي في ذلك الوقت: فكرة الانفصالية وإضفاء الامتياز على الاستقلالية الفردية. لقد ساهم تركيزه على المعضلات الافتراضية أكثر مما على المعضلات الواقعية، ساهم في شحذ وعيـي بالتباين بين الافتراضات التي كانت في ذلك الوقت تحكم المناهج البحثية وبين واقع حياة البشر. من هنا فقد بدأت مع مجموعة من الطلبة الخريجين في البحث في ارتقاء الهوية والارتقاء الأخلاقي في مواقف حقيقية من الصراع والاختيار.
لقد بدأت الدراسة مع الرجال، مع طلاب جامعة هارفارد الذين كانوا بصدد التجنيد في حرب فيتنام. بعد ذلك، حين قام الرئيس نيكسون بوقف التجنيد وبعد أن أصدرت المحكمة العليا حكمها بإباحة الإجهاض في قضية روي ضد وايد، استمرت الدراسة مع النساء اللاتي كن حوامل ويفكرن في الإجهاض. عند الاستماع إلى النساء، وبالذات الاستماع إلى صوت “الأنا“، صوت الذات التي تبرز في المقدمة استجابة لسؤال: “ماذا أفعل؟” وكذلك إلى صوت الرغبة “ماذا أرغب في أن افعل؟” وإلى استخدام اللغة الأخلاقية “ماذا يجب عليّ أن أفعل؟ ما هو الفعل الصواب أو الخطأ، الجيد أو السيي؟“، التقطت طريقة في الحديث عن الذات والأخلاقيات لم تتناسب مع تصنيفات الفكر السائدة في علم النفس والفلسفة. وقد وصلت وقتها إلى إدراك مفاجئ بل ومذهل بالنسبة لي في ذلك الوقت بأن إدراج حياة النساء في التاريخ هو فعل مخل، فقد يبدل ذلك من وصف السيرة الحياتية والتاريخ من خلال إلقاء الضوء على أوجه الترابط حيث كان الانفصال هو المفترض.
في كتابي بصوت مختلف (Gilligan 1982) كتبت أوضح كيف أن إدراج صوت النسـاء يـبـدل مـن صـوت النظرية النفسية كما تناولت بالبحث أحـد معضلات ارتقاء النساء الناجمة عن التعارض بين الأنانية وإنكار الذات. حين أعطت المحكمة العليا النساء صوتًا فاصلاً وأباحت حق النساء في الاختيار بشأن الاستمرار أو إجهاض حملهن فإن ذلك قد دفع بالنساء إلى التساؤل بشأن أخلاقية إنكار الذات. فما كان يبدو أنه خلاصة الفضيلة النسائية تحول فجأة إلى إشكالية أخلاقية: تنازل عن الصوت ومحاولة للتملص من المسئولية والعلاقة. كنت أقول للنساء: “إذا كان من الجيد أن تكن متفاعلات مع البشر ومتعاطفات مع همومهم، لماذا يصبح الأمر أنانيًـا إذا ضـمنتن أنفسكن في ذلك؟” وكانت النساء تقول لي: “هذا سؤال جيد!”
لقد كان الزمن هو زمن الحركة النسائية. في مجموعات رفع الوعي كانت النساء تستعيد أصواتهن وكانت الدراسات النسائية تكشف تاريخ النساء وكتابات النساء وكانت النساء يكتشفن أن الخبرات التي بدت وكأنها “تحدث لي فقط، في طفولتي أنا فقط“، حسب تعبير المرأة المحاربة في كتاب ماکسين هونج كينجستون، هي في واقع الأمر مشتركة بين كثير من النساء. إن نظريات الارتقاء النفسي التي تعلمتها والتي كنت أدرسها – نظريات فرويد وإريكسون وبياجيـه وكولبرج – كانت كلها تستند إلى فرضية أن الرجل هو مقياس كل ما هو إنساني. لم يكن سؤالي هو كيف يكون مصير النساء حين يقيمن بمعايير مستمدة من دراسة الرجال، وإنما هو ما الذي فقدناه باستبعاد النساء؟ وما هو الضوء الذي تلقيه أصوات النساء وخبراتهن على علم النفس الإنساني والحالة الإنسانية؟
لقد دعيت لأدرس في حلقة دراسية في إحدى مقار طلاب هارفارد وحيث أنني كنت للتو قد أشرفت على رسالة شتيفاني أنجل عن التحليل النفسي والنسوية، فقد طلبت منها أن تنضم إلي في قراءة ما كتبه فرويد عن النساء. لقد كان ذلك في أواخر السبعينيات وكانت تصريحات فرويد (Freud 1926; 1933) عن النساء قد أصحبت موضوعًا للغضب والهجوم. لقد قرأنا من كتابات فرويد تبعًا لترتيبها الزمني فبدأنا “بدراسات عن الهستيريا” (1893-1895 Breuer & Freud)، وإنني لأتذكر دهشتي حين التقيت بصوت فرويد في كتاباته الأولى عن النساء في ذلك الوقت الذي كان يشير فيه إلى مرضاه من النساء “كمعلميه” (Appignanesi & Forrester 1992, 92). لقد كانت النساء يشكلن التحليل النفسي ويقدن كل من بروير وفروید نحو اكتشاف ما نحن الآن بصدد إعادة اكتشافه ألا وهو الصلة الوثيقة بين عقولنا وأجسادنا (تحول الألم النفسي إلى ألم جسدي)، وظاهرة الانشقاق (كيف يمكن أن ندرك وفي نفس الوقت لا ندرك ما ندركه)، وعلاقتها بالصدمة، وقدرة تداعي الأفكار في حل ظاهرة التحلل – قدرة الحديث والاستماع على الشفاء.
لقد لاحظ فرويد (Breuer & Freud 1893-1895) أن فقدان الصوت هو أكثر أعراض الهستيريا شيوعًا وفي دراسته لحالة الآنسة إليزابيث فان ر. (واحدة من ست دراسات حالة نسائية شملتها دراسات في الهستيريا)، يسترجع فرويد الخطوات التي أدت إلى استعادة إليزابيث لصوتها الذي أسكتته. إذ لاحظ فرويد أن حب إليزابيث “قد انفصـل فعليًـا عـن إدراكهـا” (ص١٥٧) فقد اكتشف طريقة لإعادة التواصل بينهما اعتمدت على تداعي الأفكار: تدفق الوعي ولمسة العلاقة. إنه يتأمل في أن دراسات الحالـة السـت بـدت وكأنهـا قصـص قصيرة وأنهـا تفتقد إلى “السمة العلميـة الجـادة: (ص60). حين كان يعمل مع النساء، كان فرويد يكتب عن علم النفس العلائقي.
إنني أعيد اكتشاف “سايكي“، تلك المرأة التي اسمها جزء لا يتجزأ من التحليل النفسي. إنها، في أسطورة سايكي وكيوبيد، هي القناة التي ترفض في مراهقتها أن تصبح شيئًا. فهي كامرأة شابة تكسر المحظور حين ترى وتتحدث بما تعرفه عن الحب. إنها حبيبة إيروس وهي كذلك أم المتعة. لكنها في خلال عشر سنوات سوف تختفي من التحليل النفسي حيث يتفوق عليها أوديب وقصته. وفجأة يبدأ وصـف النساء بأنهن “محتجبات في غموض غير قابل للاختراق” Freud 1905b, 151)). حين يحل ارتباط إیروس بغريزة الموت ( (Thanatosمحل سايكي، وحين تصبح المتعة مبدأ، تصبح النساء “قارة مظلمة بالنسبة لعلم النفس” (Freud 1926, 212) وتصبح الأنوثة لغزًا (Freud 1933, 116). من هنا بدأت في دراسة الفتيات.
(۲)
هل ترى القصة؟ هل ترى أي شيء؟ يبدو لي أننـي
أحاول أن أحكي لك حلمًا – أحاول دون جدوى، ذلك
أن ما من رواية لحلم تستطيع أن تنقل شعور الحلم،
ذلك المزيج من اللامعقول والدهشة والارتباك في
رجفة من التمرد العنيد، ذلك الشعور بالانصياع لمالا يصدق
الذي هو جوهر لب الأحلام. (Conrad,Heart of Darkness)
في منتصف فترة عملي على مشروع بحثي استمر عشرة سنوات حول ارتقاء الفتيات، وجدت نفسي أدلف إلى حالة من الانشقاق، حيث أن البحث كان يركز على عمر الاحدى عشر عامًا أو الفترة السابقة على المراهقة مباشرة. لقد بدت لي أصوات الفتيات مألوفة وفي نفس الوقت مفاجئة. فقد كنت أستمع إلى الفتيات وهن يقرأن العامل الوجداني للبشر بحدة بصيرة ثاقبة ويتحدثن بصدق عن الحب، ويميزن بين العلاقات الحقيقية والعلاقات الزائفة، ويتابعن حالات المد والجزر في العلاقة. مثل أسراب الطيور كنّ يعتمدن على بوصلة داخلية للإبحار في العالم الإنساني. لقد بدا لي ذلك خارقًا للعادة وإن كان المستمع إليهن يشعر أنه أمر عادي. ثم بدأت أرى الفتيات يفقدن المعرفة بما كن على علم به.
تقول تريسي، 13 عامًا، “حين كان عمرنا تسع سنوات كنـا أغبياء“. لقد شرعت في مقابلة الفتيات اللاتي شاركن في الدراسة الطولية التي استمرت خمس سنوات لأخبـرهن أن أصواتهن أثرت فـي النـاس بقـوة ولأستفسر عن رغبتهن فـي أشـكال المشاركة حيث أصبحنا نقدم نتائج البحث في المؤتمرات وكنا بصدد التحضير لإصدار تلك النتائج في كتاب. بدون تردد أجابت الفتيات ذوات الثلاثة عشر عامًا: “نريدك أن تقولي كل ما قلناه، ونريد أن تظهر أسماؤنا في هذا الكتاب“. ثم عبرت تريسي عن قلقها من أن تبدو ذواتهن وهن في التاسعة غبية. قلت إنه لم يخطر لي أبدًا أن استخدم كلمة “غبية” في وصفهن حين كن في التاسعة من العمر، لأن جل ما أثر في ذلك الوقت هو كم الأمور التي يعرفن عنها. قالت تريسي: “أقصد أننا كنا صادقات حين كنا في التاسعة“.
في إحدى عطلات نهاية الأسبوع في نيوهامبشير أمضيتها مع ثمانية فتيات في الثانية عشر من العمر، وكان ذلك في السنة الثانية من مشروع للكتابة والمسرح، انتابتني الحيرة حين لاحظت التغيير الذي طرأ على بعض الفتيات، كما لو كانت فتـاة الإحدى عشر عامًا قد غابت، تلك الفتاة التي كانت تتحدث بأسلوب مباشر والتي كانت تبدي إدراكًا مذهلاً في ذكائه. وجدتني بدلاً من ذلك في حضرة “فتاة طيبة“، صوتها أكثر لطفًا وتعليقاتها أقل لفتًا للأنظار. أراقبها بحرص. تنظر إلى بتساؤل. ما هي مشكلتي؟ إن شيئًا لم يحدث.
أحلم أنني أرتدي نظاراتي فوق عدساتي اللاصقة. إنني أرى الأشياء مزدوجة بالمعنى الحرفي للكلمة رغم أن إدراكي يبدو طبيعيًا في الحلم. أخلع نظاراتي وأستشعر إحساسًا طاغيًا بالدوار والصدمة، لأنني أدرك فجأة ان ما رأيته وشعرت به في الحلم، ما بدا لي بدون أي شك أنه الطريقة الصحيحة أو الطريقة الوحيدة للرؤية والإحساس، لم يكن هو في حقيقة الأمر ما أراه أو أشعر به إنني أقول ما أرغب في قوله للمرأة في الحلم، صوتي واضح، غير متلعثم، مثل أصوات الفتيات في ذاك الوقت قبل أن تظهر “الفتاة الطيبة“.. حين استيقظ أحتاج إلى لحظة لأدرك ما يبدو أنه غير معقول: لقد شعرت بالدوار في ذلك الحلم، لا حين كنت أرى الأشياء مزدوجة، وإنما بعد أن خلعت نظاراتي وبدأت أرى بوضوح.
عادة ما تأتيني الأفكار بشأن بحث الفتيات أول ما تأتي في الأحلام.. صور في الحلم تبلور لي ما كنت أجاهد لأفهمه.. مع دخولهن إلى المراهقة بدأت الفتيات يضعن مجموعة جديدة من العدسات لإعادة تنظيم إدراكهن للأمور. كنت أستمع إلى فتيات كن يرتقين بشكل جيد طبقًا للمقاييس النفسية ويعشن حياتهن بشكل جيد، أسمعهن يتحدثن عن خبرات صادمة من الفقدان والخيانة، ثم أدخل في حالة من الارتباك لأن الأمر كان يبدو من على السطح وكأن شيئًا لم يفقد، أو على الأقل كما لو أن شيئًا ذي قيمة لم يفقد. إيريس، في السابعة عشر، تتأمل: “لو أنني قلت أنني أشعر وأفكر، فإن أحدًا لن يرغب في صحبتي، لأن صوتي سوف يبدو أعلى من اللازم“. ثم تضيف مـن بـاب التوضيح: “مع ذلك من الضروري أن تكون لك علاقات“. أوافق معها. “لكن إذا لم تعبري عما تشعرين به وما تفكرين فيه، أين تصبحين أنت إذًا في تلك العلاقات؟” إن إيريس تدرك التناقض في ما تقوله. لقد تنازلت عن العلاقة لكي يصبح لها علاقات. أسكتت صوتها لكي تستطيع “هي” أن تكون مع بشر آخرين.
من ثم وصلت إلى لغز الأنوثة: الاختيار بين أن يكون لك صـوت وأن تكون لك علاقات.. إنه لغز غير قابل للحل. إن التنازل عن صوتك يعني التنازل عن العلاقة، وفي غياب العلاقات يتراجع الصوت نحو الصمت. إن الفصل التاريخي بين حيـاة النساء والتاريخ الإنساني ينعكس في انقسام نفسي: في دخولها إلى التاريخ كان المتوقع من المرأة الطيبة أن تلغي ذاتها.. أن تتحول إلى ذات بدون ذات. إن المثير للسخرية هو أن تلك الدعوة إلى الدخول في العلاقات كانت على حساب العلاقة. إن لغز الأنوثة يمثل نقطة تحول في ارتقاء النساء: إنه بمثابة استهلال للانتماء إلى عالم النساء، لكنـه مشوش نفسيًا (2002 Gilligan).
في مقاله “الجنسانية الأنثوية” يلاحظ فرويد (Freud 1931) أن طبقة من طبقات النفس التي تكونت في مراحل ما قبل التاريخ، في حضارة كريت القديمة، يبدو وكأنها تستمر لفترة أطول في ارتقاء الفتيات (عنها في الأولاد). بل وينوه إلى أن فهمه لعقدة أوديب قد يكون خطأ (ص٢٢٥–٢٢٦). لقد وجد صعوبة في دمج النساء في نظريته عن أوديب. لكن ذكره لحضارة كريت القديمة –وهي حضارة متطورة، اندثرت فجأة إثر انفجار بركاني وبدا وكأنها فقدت من التاريخ، إلى أن كشفت عنها بعثة أثرية فيما بعد– يشير إلى أنه في تناوله لارتقاء النساء، بدأ فرويد ينظر إلى مسألة أوديب كغطاء، كما لو كان تاريخًا كتب فوق تاريخ آخر بدا وكأنه اختفي. لقد كان لغز أبو الهول خادعًا في بساطته. لكن أوديب، الرجل الذي يعني اسمه “القدم المتورمة“، حين سئل لغزًا عن الأقدام (ما الذي يسير على أربع في الصباح وعلى اثنين في الظهيرة وعلى ثلاثة في المساء) لم يفطن إلى أن ينظر إلى قدميه اللتين تحملان مفتاح حكايتـه (من أين أتى والى أين يذهب). إن جوناثان لير (Jonathan Lear 1988) يخلص إلى أن ما لم يتحمل أوديب أن يعرفه هو “حقيقة كونه مهجورًا” (ص48). إن أوديب هو تاريخ كتب بناء على تلك الحقيقة.
لقد تزامنت الدراسة عن الفتيات مع دخولي شخصيًا في التحليل النفسي، إذ كانت أتتبع ارتقاء الفتيات، كنت أيضًا أراجع سيرة حياتي، وأكشف عن ذكريات الطفولة المبكرة والتي أمكنني نظمها في سرد متماسك ومنطقي. لكنني وجدت أن ذكريات المراهقة المبكرة كانت مليئة بالألغاز ما بين فجوات زمنية وصور في غير محلها. كانت لدي ذكرى واضحة عن صيف مليء بالبهجة أمضيته في أحد المعسكرات حين كنت في الثانية عشر، لكن الأحداث التي تلت ذلك كانت عبارة عن خليط من الصور المحاطة بمزيج من الأصوات المتنافرة. ما كان يقال لي لم يكن ينطبق على ما كنت أراه أو أشعر به.. ما قيل عما يدور حولي لم يكن هو ما أمر به وأخبره. كان يمكن أن ألغي إدراكي للأمور على أساس أنه إدراك مراهقة، وأن أنظر إلى ارتباكي على أنه انعكاس للتغيرات التي شهدها ذلك الوقت. كان يمكن أن أفسر صراعي كانعكاس لمقاومتي الانفصال عن أهلي أو كدليل على أن صراعات ذات صلة بالجنسانية أو الأوديبية تدور في داخلي.
لكن بحثي حول الفتيات إضـافة إلى قراءة روايات النساء المعاصرات وفر لي إطارًا آخر للتفسير سمح لي بأن أرى صراعي في ضوء مختلف. حادثة فقدان، مررت بها واعتبرتها خيانة مروعة من قبل أمي وأدركتها من منظور “أنا فقط، أمي فقط، حكايتي فقط“، تطابقت بشكل غريب مع روايات سردتها نساء أخريات، وصـفن خبرات مشابهة من الفقدان والخيانة وهن على حافة المراهقة. إنهـا قصـة قطعت مسافات ضخمة من الزمن والثقافة، بداية من شخصية إيفيجينيا في أوليس لمؤلفها يوريبيديس، وانتهاء بروايات جامايكا كينكيد(Jamaica Kincaid) وتوني موريسون (Toni Morrison). في دراما التحليل، في غرفة صغيرة بالدور الثالث في منزل امرأة أخرى، كنت أشعر بالدوار في تلك اللحظات التي أرى فيها بوضوح. إن دخولي في علاقة كان يعني إزالة طبقة من طبقات نفسي أو ذاتي. هل يمكن أن أثق فيما أشعر به وأن أنطق بما أرى جون أن أشعر بالجنون أو الخطأ أو السوء، أو دون أن أجد نفسي أمام “شرطة المرأة الطبيبـة“؟ تعلمت أن استمع إلى أحلامي، إلى مشاعري، إلى جسدي، ودخلت مع محللتي في تمثيل دور الصراع من أجل العلاقة.
في منتصف أسبوع كامل أمضيته في نادي المسرح والكتابة مع فتيات في الحادية عشر من العمر مررت بخبرة بروستية (Proustean): لقد أطلق رنين صوت الفتيات سراح صوت في داخلي. وشعرت بحالة منتشية من الحرية. كان صوتي ينبع من وسط جسدي، دون أن تقيده أفكار أو مراجعات أخرى. كنت ببساطة في علاقة، أتكلم نيابة عن نفسي.
كنت قد انخرطت لفترة شهر في ورشة تدريبية للممثلين لكي أتعلم شيئًا عن الصوت الجسدي. كانت كريستين لينكلاتر (Kristin Linklater)، وهي خبيرة أصـوات في المسرح، كانت تقود التمرينات التي تربط ما بين الصوت من ناحية وبين التنفس والرنين والتذبذب من ناحية أخرى. كنت بصدد اكتشاف فيزياء علم النفس، طريقة تفسر كيف يمكن للصـوت أن يحمل، وأيضًا أن يخفي، العالم الداخلي للإنسان؛ كيف يمكن ماديًا أن نتكلم بـدون أن نقول مـا نشـعر بـه أو نفكر فيه؛ وكيف يمكن لرنين الصوت أن يسجل الاختناق؛ وكيف يمكن للصوت أن يتحرر (انظر/ي: Linklater 1976).
طلبت من نورمي نويل (Normi Noel)، وهي مدربة أصوات في الورشة وخبيرة في رنين الأصوات، أن تنضم إلى البحث حـول ارتقاء الفتيات، وأن تستمع إلى أصواتهن وهن ينتقلن من كونها فتيات إلى أن يبدأن في الدخول إلى عالم النساء. لقد استمتعت إلى ذلك التغير في رنين الصوت الذي يجعل من غير المقبول من الفتاة أن تتحدث بحرية وأن تصـل صـوتها بجسدها ومشاعرها وأفكارها. لقد تابعت صوتًا صادقًا وهو يتحول من صوت إلى زفرة ثم إلى الصمت، متذبذبًا في عالم داخلي من الشيللو أو الحجرة المرددة للصـدى. (Noel 1990-1992). لقد تحول الباعث إلـى الحديث إلى نبذبة رقيقة.
في عمر السادسة عشر تسترجع شيلا خبرتها وهي تقف صامتة مع صديقها في فترة كانت فيها العلاقة في طريقها إلى الغرق: “لا أستطيع أقول لك شيئًا عن (هذه العلاقة) لأن ذلك سوف يضايقك، وأنت لا تستطيع أن تقول لي أي شيء عنها لأن ذلك سوف يضايقك، وهكذا نقف نحن الاثنان في المياه وقد غطت قدمينا، نراقبها وهي ترتفع)”. لقد كان الارتقاء النفسي للفتيات يتقاطع مع العالم النفسي للرجال.
بعد بضعة سنوات من انتهائي من التحليل النفسي، حين كنت أجهز لكتابة مقال “مولد اللذة“Gilligan 2002) )، اكتشفت أن آن فرانك (Anne Frank) قد راجعت مذاكراتها. كنت أعلم أن والدها قد سبق وأن راجع مذكراتها، لكن آن أعادت كتابة ٣٢٤ صفحة منها في الفترة ما بين مايو وأغسطس ١٩٤٤ وقد التزم والدها إلى حد كبير بمراجعتها، فقدم ابنته إلى العالم كما أرادت هي أن يراها العالم. في الثمانينات قام المعهد الهولندي للتوثيق الحربي بتجميع مجلد ضخم بعنوان: مذكرات آن فرانك – النسخة الحرجة (1989 Frank)، التي تضمنت النسخ الثلاث من تلك المذكرات: المذكرات الفعلية التي كتبتها آن بشكل يومي تقريبًا، والنسخة التي قامت آن بتنقيحها والمذكرات كما نشرت في المرة الأولى.
حين قرأت المذكرات الفعلية، شعرت وكأنني أكتشف حضارة كريت القديمة، كأنني أستمع إلى صوت بدا وكأنه ضاع من التاريخ. لقد كان صوتًا مألوفًا لدي من دراساتي مع الفتيات. ما استغربته هو أنه لا أنا ولا – على حد علمي – أي شخص آخر غاب عنه هذا الصوت أثناء قراءة ما قدم على أنه مذكرات آن فرانك. ومع ذلك فقد كان أمرًا لا تخطئه العين: “صورة جيورجيوس، أليس كذلك!!!” – لقد لصقت آن صورة شخصية لها في داخل الغلاف الأمامي للمذكرات. إن هذا التعبير المفتوح، بدون تشويش، عن غبطتهـا هـو الصوت الذي سوف تزيلـه تمـامًـا أثنـاء تنقيحهـا للمذكرات. فالمذكرات المنقحة تبدأ بدايـة أكثر قتامة، إنها تتوقع صوتًا ناقدًا سوف يرفض مذكراتها على أساس أنها مجرد “تفريغ لمحتويـات قلـب فتاة في سنوات المدرسة” (Frank 1989, 177, 180). حين أرادت آن أن تؤخذ مأخذ الجد، بدأت في إخفاء نفسها.
في ربيع عام ١٩٤٤ سمعت آن في المذياع أن الحكومة الهولندية في المنفى تخطط لإقامة متحف حربي بعد انتهاء الحرب، وأنهم يبحثون عن مذكرات وخطابات ومجموعات من الخطب توضح كيف أن الشعب الهولندي استمر في تسيير حياته رغم الظروف القاسية للحرب. كانت آن تريد أن تصبح كاتبة شهيرة ورأت فرصتها في ذلك الإعلان. لكنها، لتفعل ذلك، أسكتت الصوت الذي كان محفوظًا في المذكرات: “لقد أخفيت نفسي داخل نفسي.. وبهدوء شديد دونت كل مصـادر بهجتي وأحزاني وكراهيتي في مذكراتي” (1989, 438 Frank).
ما يثير الدهشة هنا هو كلمة “البهجة“. فعند إعادة كتابة مذكراتها قامت آن بحذف أو التخفيف من استمتاعها بجسدها، وجنوستها، وإدراكها للأمور وفضولها ورغبتها في المعرفة؛ لقد حذفت ملاحظاتها عن حزن أبيها، وألقت باللوم في أكثيرة أحزانها على أمها؛ وخففت من لغة احتقارها لنفاق الكبار، خاصة فيما يتعلق بأمور الجنس. لقد كانت تنظر إلى نفسها من خلال عيون هؤلاء الذين سوف يقررون إدراج مذكراتها في المتحف من عدمه، هؤلاء الذين سوف يقررون ما إذا كانت كاتبة عظيمة أم لا. إن الصوت الذي يخاطب كيتيKitty) )، صديقة آن الخيالية التي توجه لها الحديث في مذكراتها، يختلف عن الصوت الذي سوف يتحدث في العلن. من بين كل ما حذفت كان أشد ما أدهشني هو حذف آن لاستمتاعها مع والدتها. “أمي ومارجوت وأنـا غلاظ كاللصوص“Frank 1989, 279) ). إن الصـوت القاسي الناقـد لـلأم، وهو السبب المزعوم وراء مراجعة أبيهـا للمـذكرات، كـان هـو صـوت النسخة التـي قامـت آن بمراجعتها أكثر منـه صـوت مذكراتها الأصلية. لقد حذفت آن ارتباطها بأمها، وما صورته على أنه علاقة بالإكراه قدمته كمشكلات خاصة بوالدتها، على حين فصلت آن نفسها عن تلك المشكلات.
في كتابها حب متغير تصف تيري أبتر (Terry Apter 1990) المشاجرات التي تدور بين البنات المراهقات وأمهاتهن كمشاجرات بهدف الارتباط أكثر منها مشاجرات حول الانفصال. لقد أصبحت أنظر إلى انفصال الفتيات عن أمهاتهن في فترة المراهقة کرد فعل لشعورهن بأن الأمهات أصبحن منفصلات عنهن. من خلال الابتعاد عن أمهاتهن والقول بأنهن لا يرغبن في أن يكن مثل أمهاتهن كانت الفتيات في واقع الأمر يقاومن التوحد مع امرأة كانت الفتيات يرين أنها منفصلة عن أجزاء حيوية من ذاتها – عن متعتها وعن قدرتها على المعرفة. حين سألت آن أمها عن البظر، حين أرادت أن تعرف “ما هو هذا الشيء الذي يشبه العقب القصير“، كان رد أمها أنها لا تعلم (1989, 566 Frank).
لقد دفعتني قراءتي لآن فرانك إلى طرح سؤال لم يبرز أثناء وجودي في التحليل النفسي: هل قمت أنا أيضًا بحذف ذكريات الاستمتاع مع أمي؟ لحظة أن وجدت المفتاح الرابط (كان لوالدتي اسمان) أصبحت الذكريات متوفرة في متناول اليد، لكني لم أكن قد أدرجتها في روايتي عن علاقتي بأمي. لقد صدمت حين اكتشفت أن روايتي، التي كنت أشعر أنها مقنعة، كانت هي أيضًا نسخة منقحة حذف منها الشق الخاص بالمتعة. كما فوجئت أيضًا حين أدركت كم من المرات تؤخذ تلك الرواية المنقحة على محمل الحقيقة.
لقد وصلت إلى لغز التكوين النفسي للنساء: إنه ميل الفتيات وهن يتحولن إلى نساء صغيرات إلى أن يدفن متعتهن وأن يعدن كتابة تاريخهن. إن أعراض الهستيريا التي تظهر في حالات انشقاقهن تحمل الخبرات التي تم تجميدها في الزمن، مثل حضارة كريت القديمة. إن صوت الفتيات الذي أسرني، ذلك الصوت الذي يبدو وكأنه غائب عن علم نفس النساء، قد تم دفنه في مفترق طرق المراهقة. إن ما يدعو للسخرية هو أن هذا الصوت بالذات هو صوت المتعة.
سوف تتكرر عودتي إلى “دراسات في الهستيريا” في معرض بحثي مع الفتيات. لقد شدتني ملاحظة فرويد بأن صوت الهستيريا المفقود هو الصوت الذي يتحدث عن تجربة. كما شدني برهانه على أنه من الممكن استعادة ذلك الصوت. لقد أدهشني في وصفه للنساء الصغيرات اللاتي كن يـجـدن صعوبة في الرؤية والكلام والتقدم إلى الأمام على أنهن نساء موهوبات، شديدات الذكاء، متوازنات أخلاقيًا، مطالبات بالحب ومبديات “طبيعة استقلالية تجاوزت النموذج الأنثوي ووجدت مجالاً للتعبير عن نفسها في قدر لا بأس به من العناد والمشاكسة والتحفظ. ” (Breuer & Freud 1893-1895, 161). لقـد أسـرتني تلك اللحظـة فـي دراسـة فرويد لحالـة الآنسة اليزابيـث فـون ر. (Elizabeth von R. ) حين تقطع تسلسل تداعيها وتدعي أن شيئًا لا يحدث لها. فرويد يلاحظ خليط المشاعر والأفكار على وجهها، وفي خطوة جريئة وعبقرية يقرر أن يستمر كما لو أن منهجه الترابطي لا تخطئ أبدًا. وكرد على ادعائها بعدم معرفة عالمها الداخلي، يفترض فرويد أنها تعرف. لقد كان مفتاحه السري، منهجه الترابطي هو فك انشقاق الهستيريا. لكنه من خلال التخلي عن صـوت السلطة لمرضاه من النساء، كان فرويد يحل إرهاصات دخول النفس إلى النظام الأبوي.
لقد اتبعت مسارًا مشابهًا في دراساتي مع الفتيات، حيث بدأت في مرحلة مبكرة من ارتقائهن. الفتيات اللاتـي جـذبـن انتباهي واللاتـي وجـدتهن أكثـر تنـورًا كن ذكيـات، موهوبات، طموحات، متزنات أخلاقيًا، مطالبات بعلاقات صـادقة وكن يبدين استقلالاً تمثل في درجة لا بأس بها من العـناد والمشاكسة والتحفظ. لقد أطلقت عليهن اسم المقاومات. لقد أحببت روحهن، حتى وأن تسببت في بعض المتاعب أثنـاء أجـراء البحث. لم يكن هستيريات، لم يفقدن أصواتهن، لم يكن منفصلات عن أجسـادهن، لقد كن على علم بما يعرفن. إن مفتاح الاكتشاف في الدراسات مع الفتيات يكمن في التحلي لهن عن موقع السلطة، والاقتراب منهن باعتبارهن خبيرات في خبراتهن الخاصة، وقد أثبتن أنهن على قدر المسئولية، حين كانت فتاة مراهقة تقول: “أنا لا أعلم” وتدعي أنها لا تعرف ما تفكر فيه وما تشعر به، كنت أتذكر كلمات ذات الإحـدى عشر عامًا وأتابع معها مقترضة أنها تعلم.
(۳)
إن ممارسة هذه الحياة (الروحانية) تفترض روحًا قتالية تستند إلى الإيمـان بـأنـه مـن الممكن تخفيـف بعض من معاناة الإنسانية، وأن عمل أي شيء من أجل تخفيف المأزق الإنساني هو مسئوليتنا. إن أحد فوائد التقدم العلمي هو توفيرنـا بـالسبل التي تسمح بالتخطيط لأفعـال ذكية قادرة على تسكين المعاناة. من الممكن أن نربط ما بين العلم وبين أفضل ما في التـراث الإنساني لنسمح بتناول جديـد للشــون الإنسانية يؤدي إلى ازدهار الإنسان. (Antonio Damasio, Looking for Spinoza)
في عرضها لأبحاثها عن دوروثي بورلينجهامDorothy Burlingham) ) (في هذا الكتاب) تصف إليزابيث يونج–بروهل (Elisabeth Young- Bruehl) ملاحظاتها عن ابنها الصغير روبرت. لقد فوجئت بورلينجهام بالدقة التي كان ابنها يراقب بها العالم الوجداني للبشر، بما في ذلك المشاعر التي كان أصحابها يعملون على إخفائها. ما تصورت انه توارد خواطر غريب المصدر اتضح أنه ملكة إنسانية، تستند في عمقها إلى الترابط بين البشر. وقد لاحظت أن تلك القدرة تفقد بالتدريج في أثناء عمليـة الارتقاء.
حيث أن فقدان تلك القدرة يحدث في مرحلة أكثر تأخرًا بين الفتيات، فإن علم نفس النساء يصبح موضوعًا ذي أهمية قصوى بالنسبة للتحليل النفسي. في غياب النساء وخاصة الفتيات يصبح من السهل أن نعيد أخطاء فرويد وأن نقرأ الثقافة على أنها الطبيعة. إن الفتيات يلقين الضوء على الترابط الإنساني، لكنهن أيضًا يكشفن الكيفيـة التي يفقد بها.
“إنها باقة صغيرة من التناقضات” هكذا تكتب آن فرانك(Anne Frank 1989). هكذا يطلقون عليها، وهي تقول إن الاسم يناسبها. لكنها تلاحظ: “مثل الكثير من الكلمات فإن كلمة “التناقض” قد تعني أمرين، تناقض من الخارج وتناقض من الداخل“. الأول هو “المعتاد من عدم الاستسلام بسهولة، الثقة في أننا دائمًا على علم بما هو أفضل، أن تكون لنا الكلمة الأخيرة، باختصار، كل الصفات غير المريحة التي أشتهر بها. ” الثاني، “لا أحد يعرف بهذا الأمر، إن ذلك هو سري الشخصي.. واقع الأمر هو أن لدي شخصيتين” (ص٦٧٧). ثم تستمر في وصف شخصيتي آن – إحداهما طيبـة والأخرى “ليست طيبة” أو سيئة. إنها تلاحظ “إنني لا أنطـق أبدًا بمشاعري الحقيقية“، ثم تصف مشكلة غير قابلة للحل في عمل العلاقات: إنها قادرة على أن تكون مع الآخرين بالطريقة التي ترغبها “إن لم يكن هناك بشر آخرون يعيشون في العالم” (ص٦٩٩).
بدأت في دراسة الأولاد. بالاشتراك مع جودي شو، التي كانت طالبة دراسات عليا في هارفارد في ذلك الوقت، نقلت بحثي إلى فصل للأطفال في فترة ما قبل الحضانة لأراقب الأولاد في سن الرابعة والخامسة. سجلت شو انطباعاتها في داخل الفصل ومن خلال مقابلات اعتمدت على اللعب. لقد كان الأولاد مباشرين ومنتبهين وقادرين على التعبير عن أنفسهم وحقيقيين بدرجة لافتة للنظر، سواء في علاقتهم فيما بينهم أو في علاقتهم بها.
لقد استمعت إلى روايات الأهل عن أبنائهم. جايك الذي يبلغ من العمر أربع سنوات قال لأمه ذات صباح: “أمي، لديك صوت سعيد، لكنني أسمع أيضًا قليلاً من القلق“. تقول الأم: “إنه كالمقياس (يقيس مشاعري بدقة). كان يقول: “أنا فارسك“. لقد كان يرافقها عاطفيًا. حين عبر والد نيك عن ندمه على أنه فقد أعصابه وقام بضربه في اليوم السابق، قال نيك لوالده: “إنك تخاف إن أنت ضربتني أن أضرب أبنائي حين أكبر“. كان أليكس قد تعرض للضرب من والده وكان قد أقسم أن يكسر الدائرة. وقد التقط نيك مخاوفه. ويل ذو الأربع سنوات سأل والدته، “أمي لماذا أنت حزينة؟” حيث أنها لم ترغب في تحميله عبء حزنها أجابته أمه: “لا، لست حزينة.” فاقل: “أمي، أنا أعرفك، لقد كنت بداخلك.”
في السنة التالية حين أصبح الأولاد في سن الخامسة والسادسة وأصبح بعضهم في الحضانة لاحظت شو تغييرًا في طريقة تعاملهم فيما بينهم وتعاملهم معها. لقد أصبحوا أقل مباشرة وقل انتباههم، وأَصبحوا أقل قدرة على التعبير عن أنفسهم وغير حقيقيين – أصبحوا أقرب إلى “الأولاد الحقيقيين“. (2000 Chu).
يبدو أنـه فـي خـلال عملية الارتقاء فقد الأولاد قدرتهم على المعرفة الحدسية والارتباط المتعاطف. لكن الفرق بين توقيت فقدان الأولاد لقدرتهم على التواصل الوجداني في الطفولة المبكرة وأزمة العلاقة التي وصفتها الفتيات في المراهقة يشير إلى أن ذلك الفقدان وتلك الأزمة ليست أمرًا طبيعيًا ولا هي جزء لا مفر منه من الارتقاء. بل هما مرتبطان بدخول النفس إلى عالم معايير الذكورة والأنوثة – إنها معايير تفرض في تلك المراحل من الارتقاء من خلال ممارسات الإشعار بالخجل والاستبعاد.
ليس الأمر متعلقًا بالرجولة أو الصفة النسائية في ذاتهما رغم أن الكلمتين تحملان حجبـًا أو إخفاء للذات. إنما هي رجولة ونسائية تفرض انفصامًا فـي داخـل النفس، وتمزق الروابط بين العقل والجسد، بين الفكر والمشاعر، بين الذات والعلاقة. في هذا السياق فإن عملية الاستهلال تستدعي الانشقاق وتنتج نوعًا من الهستيريا.
لقد كان التحليل النفسي في أيامه الأولى علمًا راديكاليًا. لقد تمكن فرويد من خلال منهج التداعي أن يكتشف طريقة لإطلاق سراح ذلك الصوت الذي تم إسكاته. لقد کشف الغطاء عن ذات منشقة من خلال الدخول إلى علاقة مع النساء الهستيريات وفي نفس الوقت التنازل صوت السلطة. من هنا فقد وجد مدخلاً إلى العلاقة بين النفس والثقافة، ذلك المكان الذي تحجب فيه النفس بعض الخبرات عن إدراك الوعي وبعيدًا عن العلاقات، حيث لا يمكن معرفة أو رؤية أو الحديث عما هو معروف. من خلال تشجيع النساء على الوصل ما بين الحب والمعرفة، كان فرويد يداوي هذا الانقسام الداخلي، لكنه كان أيضًا يكسر واحدًا من المحرمات الثقافية.
أنطونيو داماسيوAntonio Damasio) )، عالم بيولوجيا الجهاز العصبي، يلقي الضوء على الأسس العصبية لانقسام الوعي. في كتابه الشعور بما يحدث: الجسد والمشاعر في تكوين الوعيDamasio 1999 يقارب المؤلف بين “الذات المركزية” التي تسجل الخبرة من لحظة إلى أخرى (في الجسد والمشاعر) وبين ما يطلق عليه اسم “الذات كمـا تـرد فـي السيرة الذاتية” (ص١٧٣–١٧٤) أي تلك الذات المتمسكة برواية ما عن نفسها. في أثناء القيام ببحثي كنت قد استمعت للصوت الذي يتحدث بنـاء على خبرة دون أن يكون ملزمًا برواية سابقة التجهيز. إنه الصوت الذي استعاده فرويد في النساء الهستيريات اللاتي كن متمسكات بروايات زائفة. إن الاكتشاف المذهل ل “دراسات في الهستيريا” يكمن في تقديمها البرهان المثير على أنه من الممكن استعادة الصوت الذي قد يبدو كأنه فقد.
حين عدت إلى ذلك التاريخ في مرحلة مبكرة من الارتقاء لاحظت مقاومة الفتيات لاستيعاب أو تقبل الروايات الزائفة بشأن أنفسهن. كما قد شاهدت مقاومة مماثلة في الأولاد الصغار، عبروا عنها بالفعل أكثر منها بالكلمات نظرًا لكونهم أقل قدرة على التعبير عن أنفسهم. حين بحثت في تلك المقاومة، اعتبرتها علامة على الصحة النفسية: إنها مقاومة لعدم المعرفة، وعدم رغبة في بتر الصفات ما بين العقل والجسد، والفكر والمشاعر، والذات والعلاقة – إنها صلات مؤسسة بشدة في الجهاز العصبي وأساسية للإبحار في العالم الإنساني. لكنني رأيت تلك المقاومة الصحية أيضًا تتخذ طابع المقاومة السياسية لأنها وضعت النفسي في صراع مع الثقافة الأبوية. حين تعذر التعرف على الصراع، ظهر الانشقاق.
إن الأبوية هي مصطلح أنثروبولوجي يشير إلى الأسر والثقافات التي يرأسها الآباء. إنها تصف هرمية، كهنوت يتحكم فيه الأب أو بعض الآباء في الوصول إلى الحقيقية والسلطة والإله والمعرفة – إلى الخلاص بكل ما قد يتخذه من أشكال. الأبوية في حد ذاتها هي نمط من الهيمنة، يرفع بعض الرجال فوق الآخرين ويخضع النساء. لكن الأبوية من خلال تمييزها بين بعض الرجال والبعض الآخر، وبين كل الرجال والنساء، وبين فصلها بين الآباء والأمهات والبنات والأبناء، فإنها تخلق صدعًا في داخل النفس، حيث تفصل ما بين الجميع وبين أجزاء من ذواتهم.
حين وضع فرويد مركب أوديب كحجر زاوية في التحليل النفسي، فإنه كان يضم صوته إلى أصـوات الآباء. بعد أن انتهى فرويد من كتابة “دراسات عن الهستيريا“Breuer & Freud) 1893-1895) توفي والده، فكتب إلى فيليسFelice) ) يقول بأنه سوف يهجر “عصابيته” أي نظريته التي تربط ما بين العصاب والصدمة الجنسية. لكنه في نفس الوقت الذي يعلن فيه أنه لن يركز بعد الآن على الصدمة الجنسية، نجده يضع رواية أوديب، وهي رواية عن العلاقات المحرمة، في موقع المركز من علمه الجديد. إنه إذ يفعل ذلك فهو يقوم بعملية إزاحة جوهرية. في محل النساء الشابات اللاتي يتحدثن عن خبرات العلاقات المحرمة مع آبائهن، وضع فرويد الولد الصغير الذي يتخيل علاقة محرمة مع والدته. إن هذا الانتقال في التركيز من الواقع إلى الخيال جاء تاليًا على عملية الإزاحة، ومعه فقد التحليل النفسي حده الراديكالي.
إن تركيز البحث في التحليل النفسي (الذي أصبح الآن أكثر اهتمامًا بالتحليل عنه بالنفس) ابتعد عن الانشقاق في اتجاه الكبت. لقد فقد فرويد بصيرته التي كانت له في “دراسات عن الهستيريا“، ليس فقط فيما يتعلق بمنهج الإجرائي، وإنما أيضًا فيما يتعلق بتفسير النفس. في حالة دوراFreud 1905a) ) يجاهد فرويد ليصـل مـا بين حبها ومعرفته، فيطغى بصوته على صوتها ويدعي أنه أعلم بعالمها الداخلي منها. لقد حلمت دورا أن أباها قد مات وانقطعت عن العلاج. لكن حين تحالف فرويد مع أصـوات النساء، وجد نفسه في موقع النساء: منعزلاً ومجاهدًا من أجل حقه في امتلاك المعرفة. سوف أتذكر فرويد بعد ذلك بقرن من الزمان حين كتبت عن مقاومة الفتيات لفقدان أصـواتهن فـي كتـابي عن الانضمام إلى المقاومة: علم النفس والسياسة، الفتيات والنساء Gilligan 1990))، وكذلك فـي مقـالـي “النساء والفتيات والعلاج النفسي: إعادة تجسيد المقاومة Gilligan, Rogers and Tolman 1992))، وفي دراسة عن “خرائط الزمن الضائع” Gilligan, Rogers and Noel 1992)). وقد وصفت جريدة النيويورك تايمز كتابي الذي كتبته مع لين مايكل براون بعنوان “اللقاء عند مفترق الطرق” Gilligan and Brown 1992) ) بأنه كتاب جدير بالملاحظة. لقد أخذ البحث مع الفتيات مأخذ الجـد. ثم بدأت ردة الفعل المضادة، فظهرت المقالات على الصفحات الأولى لجريدتي ذا نيشنThe Nation) ) وذا نيو ريبابليكThe New Republic) ) بعنوان “جزيرة جيليجان” لينوه ضمنيًا إلى أنني قد فقدت اتجاهي وضعت مع الفتياتLash 1992; Politt 1992) ). كما رفضت مجلـة أطلانتيك الشهريةAtlantic Monthly) ) أيضًا بحث الفتيات Kaminer) 1993)، وذلك في مقال على صفحتها الأولى تضمن رسومات لأغاني الأطفال. لقد أذهلتني حدة مشاعر الغضب التي جاءت كرد فعل لكوني أخذت مأخذ الجد ما حكته لي القنيات. لقد كانت تريسي ذات الثلاثة عشر ربيعًا على حق: إن أصوات الفتيات الصادقة تبدو غبية. أما أنا فقد صورت على أني ساذجة وقابلة للخداع، مثلما كان فرويد مع الهستيريين.
في نهاية مسرحيته عربة اسمها الرغبة لتينيسي ويليامز(Tennessee Williams 1947) تقول بلانش لأختها ستلا إن ستانلي (زوج ستلا) قد اغتصبها. فتقول ستلا: “لم أتمكن من تصديق روايتها والاستمرار في العيش معه“. تقول صديقتها يونيس، “لا تصدقي ذلك أبدًا. الحياة يجب أن تستمر. مهما حدث، يجب أن تستمري في الحياة” (ص 165-166).
وقد احتل الكتاب الأمريكيون من أصول أفريقية وكتاب حقبة ما بعد الاستعمار موقع الريادة في كشف التكلفة النفسية للعبودية والاستعمار. كذلك فإن علم نفس النساء يكشـف التكلفة النفسية للنظـام الأبـوي، إذ يكشـف كيـف أن صـوتًا مسلحًا بالسلطة الأخلاقية ومتحدثًا باسم الأب يمكنه أن يدلف إلى النفس ويسكت صوت الذات. حيث أن نقلة الفتيات تحدث في سن متأخرة عن نقلة الأولاد فإن الفتيات أقدر على تسمية المعرفة الحدسية والترابط العاطفي الذي كان موجودًا في بداية عملية الارتقاء، كما أن النساء أقدر على الاحتفاظ بها – إنها معرفة كثيرًا ما تنفصم بعيدًا عن الوعي. إن البحث في علم النفس النساء حين يرتبط بدراسة الفتيات يؤدي إلى الاكتشاف المذهل أن ما كان يعتبر ارتقاء، كان في حقيقة الأمر نوعًا من الاستعمار.
ثورة هادئة في العلوم الإنسانية، أثارتها ما أسفرت عنـه نتائج دراسات علم نفس النساء وبحوث الطفولة المبكرة وعلم بيولوجيا الجهاز العصبي، أدت كلها إلى تحول في المنظور، بحيث أصبح ينظر إلى الانفصالية على أنها بقايا صدمة (تفتيت لارتباط إنساني أو إصابة دماغية) بعد أن كانت تعتبر ذروة الارتقاء. لقد أصبحت موسومة بعلامات الانشقاق: فقدان الصوت، وانقسـام الـوعي. لقد ظهر الآن مصطلح جديد يتجاوز الانقسامات القديمة، ويعالج ذلك الفصل بين المرأة وبين ما هو إنساني: “الذات العلائقية“، الذكاء العاطفي“، “الدماغ القادر على الإحساس“. إن التحول من منظور الانفصالية إلى منظور الترابط يمثل نهاية علم النفس الأبوي. لكننا لا نستطيع أن نغير أسلوبنا في الرؤية والحديث عن العالم الإنساني على حين نستمر في الحياة كما كنا نحياها.
لقد كتبت ميلاد المتعة Gilligan لأبحث عن مهرب من المأساة. إنني إذ جمعت ما بين البحث مع القنيات وبين دراسات عن صغار الأولاد وإذ عملت مع طرفي العلاقة من خلال العلاج ومع توسيع نطاق الملاحظة بالرجوع إلى الأدبيات من مختلف الثقافات وفي أوقات مختلفة، كنت أطبق منهجًا ترابطيًا، وأسعى إلى إعادة خلق عملية الاكتشاف التي وجدتها غنية ومضيئة بالمعرفة. لقد كانت الفتيات هن من فكوا سلاسلي التي كانت تقيدني إلى ما كنت أعتبر انه العالم المألوف. لقد القين الضوء على علم النفس الإنساني ومن خلال ذلك الضوء أدركت أن ما كان يعتبر واحدة من مراحل الارتقاء كان أيضًا مسرحًا لحادث. فجأة انهارت أرضية الترابط، المألوفة ألفة الأرض التي نقف عليها. بعد الحادثة يصبح من الصعب أن نستعيد شعورنا بالحياة حين كانت تلك الأرضية لا تزال في مكانها، أو أن نتذكر مـرأى أو مسمع الأشياء في الحيـاة اليومية. بدلاً من ذلك نبدأ في سرد الروايات عن الحب وضياعه لنضع علامة حيث وقعت الحادثة.
لاحظت وينيكوتWinnicott 1974) ) أن الكارثة التي نخافها هي الكارثة التي وقعت بالفعل. لكن ماذا لو أنه لم يكن من الحتمي أن تقع الكارثة أصلا؟ لقد طالبت بوقفة مقاومة، على حين طالب داماسيوDamasio 2003) ) بموقف الاستعداد للقتال. في بدايات القرن الواحد والعشرين استعاد علم النفس الارتقاءي وبيولوجيا الجهاز العصبي الطرح الجذري الذي سبق أن قدمه التحليل النفسي، ألا وهو تذكيرنا بأن سايكي هي في الأصل فتاة، ضمن أمور أخرى، وأن الترابط هو حالة إنسانية. كما أن أوديب هو أسطورة تظهر الطريق المؤدية للانحدار نحـو العصاب، فإن أسطورة سايكي وإيروس (Psyche and Eros3) تصور الطريق الذي يميل بعيدًا عن المأساة. إنها أسطورة تنتهي بميلاد ابنة اسمها المتعة، ترسم الخطوط العريضة لقصة جديدة. في ختام هذا المقال أضيف ملاحظتين تاريخيتين. الأولى تنبع من التعليقات الحاخامية على كتاب الخلق. في تعليقهم على قصة إبراهيم وإسحاق akedeh))، يلاحظ الحاخامات “أن قوة الحب تربك نظام الأشياء“. الإشارة المحددة هنا تعود إلى طريقة حب إبراهيم لإسحاق التي تربك النظام المعتـاد للأشياء. حيث يقوم إبراهيم بسرج حماره بدلاً من أن يدع الخادم يفعل ذلك؛ في ذلك تغيير في النظام الذي تسير به الأمور. لكن المعنى الخفي، الدلالة الأعمق هنا هي أن الحب قادر على أن يتسبب في اضطراب الأبوية: حيث يرفض إبراهيم أن يضحي بحب غير مشروط في مقابل حب يفرض الخضوع.
الملاحظة الثانية أيضًـا تتعلق بالمقاومة. لقد اكتشفت إيفـا كـانتـاريللا (Eva Cantarella 2002)، وهي مؤرخة قانونية واجتماعية، أن أسطورة سايكي وكيوبيد، التي كتبت في شمال أفريقيا في القرن الثاني، تعكس تاريخ مقاومة النساء للأبويـة التـي بدأت في زمن أغسطس. فحين أصدر أغسطس قانونًا يجرم الزنا وينفي الزانيات، باستثناء العاهرات، إلى جزيرة نائية، نزلت النساء الرومانيات، في واحدة من أولى حركات العصيان المدني المسجلة في التاريخ، وسجلن أنفسهن كعاهرات. لقد استمرت مقاومة النساء للقيود الأبوية على الحب والزواج في العالم روماني الطابع لشمال أفريقيا في القرن الثاني. لكن جل ما أدهشني هو اكتشاف كانتـاريللا أن “سايكي” كان اسـمًا شـائعًا بين الفتيات. إن الأسطورة، التي كانت أصـولها بمثابـة لغـز، تضـرب بجذورها في تاريخ من مقاومة النساء للأبوية وفي ملاحظة الفتيات.
ويقدم أبويليوس4 أسطورة سايكي وكيوبيد على أنها “رواية نسائية قديمة“. وعلى خلفية مأساة أوديب تقدم أسطورة سايكي وكيوبيد مشروعًا للمقاومة يحمل إمكانية كسر الدائرة الشيطانية. الثلاثي الذي يحدث ذلك التحول مكون من امرأة شابة وحبيبها وأمها، إنه مثلث بديل لمثلث أوديب. لقد كتبت الأسطورة أو سجلت في زمن شهد بداية اضطراب الهيمنة الأبوية، حين كانت الثقافات تختلط فيما بينها وحين كانت أصوات النساء تجد لنفسها أصداء ثقافية جديدة. إنها أسطورة للتحليل النفسي في القرن الواحد والعشرين.
حين قدمت نسخة من هذه الدراسة في أحد المؤتمرات، علق أحد الأشخاص: “إن كل ما قلتيه كان مقنعًا بالنسبة لي، لكن مداخلتك جعلتني أتساءل عن جانبها الآخر. لماذا قمنا عبر القرون ببناء ذلك النظام الأبوي حيث فرض الصمت على الأصوات الداخلية؟ لماذا حدث ذلك؟” لماذا استمر النظام الأبوي؟ ما هو المكسب من وراء ذلك؟ إن ذلك حقيقة سؤال شديد الأهمية، لأننا إذا فهمنا ذلك لأدركنا الثمن الذي ندفعه مقابل ذلك الاستمرار. إذا تحدثنا عن الديمقراطية، ما الذي يدفع النساء إلى التواطؤ مع استمرار النظام الأبوي رغم انه أصبح من حقهن أن يدلين بأصواتهن؟ إن ذلك سوف ينتقل بي إلى مناقشة الانشقاق والحسد بين النساء، وكذلك إلى ضرورة فصل النساء عن أنفسهن وكذلك فصلهن فيما بينهن لكي يستمر النظام الأبوي. ماذا سيعود على الجميع من وراء ذلك؟
إن أسطورة سايكي تقدم صورة لحسد النساء من خلال ربطه بثقافة ينظر فيها إلى كل امرأة على أنها تكرار لامرأة أخرى. حين يحدث ذلك، فإن أحدًا لن يحب أن يرى أيًا منهما. إنها وصفة للحسد، لبث الانقسام بين النساء وأيضًا عن أنفسهن. إن ما يثير الحسد هو ذلك الشعور بأن أحدًا لن يحبك لما أنت عليه، وأنه فقط حين تصبحين شخصًا آخر يمكن لأحد أن يحبك. إنه أمر مؤلم بما يفوق الاحتمال، لكنه أيضًا وهم ينفجر جراء ما يحمله من تناقضات. بلغة التحليل النفسي: “حين يصبح العثور على الموضوع هو ذاته إعادة العثور على الموضوع” تصبح الأرض ممهدة للحسد. إننا بصدد نسخة معدلة من التنازل عن العلاقة من أجل العلاقات، نسخة من لغز الأنوثة.
في ميلاد المتعةGilligan 2002) ) أتساءل، لماذا نحب روايات الحب المأساوية؟ ما الذي يجذبنا إلى الأوبرا والى الموسيقى الشعبية؟ ما الذي يعجبنـا في رواية أنّا كارنينا. أنّا تلقي بنفسها تحت القطار، وفرونسكي يذهب ليحارب حربًا انتحارية. لو أنك اضطررت يومًا إلى التنازل عما تحب كي تتمكن من استكمال طريقك في الحياة، فإن الأسهل هو تبرير أكثر من التساؤل عن جدوى التضحية. إن التساؤل بشأن الفقدان يطرح إمكانية أن الفقدان لم يكن ضروريًا أو حتميًا. لو كنت معالجًا أو ولي أمر أو مدرسًا فمن الضروري جدًا أن تتساءل بشـأن تلك التضحيات بدلاً من أن تفرضها على الجيل التالي. لقد وجدت أن على النساء أن يبطلن الانشقاق داخلهن لكي يبقين في علاقة مع الفتيات، ونحن لن نستطيع أن نفعل ذلك وحدنا.
لقد أدهشني ذلك حين تذكرت وصف يونج بروهل (في هذا الكتاب) للعلاقة بين دوروثي برلينجهام وأنـا فرويد، وطريقة عملهما معًا. في العادة نتصور أنا فرويد وحدها مع والدها، ثم يختفي هذا العمل ولا نسمع عنه. لكننا نحتاج إلى ارتجاع رنين. في غياب ذلك الرنين أو إذا كان الرنين الوحيد المتاح هو ذاك الذي يقول بأنك جننت، بأنك مخطئ، بأنـك لا يمكن أن تعلم، وأن ذلك لا يمكن أن يحدث، حينئذ ينسحب الصوت نحو الصمت.
من خلال ورشات عمل “بأصواتنا” حافظنا كريستين لينكلاتر وأنا على علاقتنا بـ “صحبة النساء” وهي فرقة مسرحية من النساء فقط. لقد لاحظت أن الحديث عن البهجة هو الأصعب بالنسبة للنساء. من الأسهل بكثير أن يحكين رواية مأساوية، ذلك أن العودة إلى البهجة أو المتعة في علاقتك بأمك أو بأي شخص آخر تعني أنك تقفين عند نقطة حيث الفقدان ما زال أمامك أكثر مما هو وراءك. إن ذلك يعني المخاطرة بما قلنا إننا لم نخاطر به مرة أخرى ثانية. بدلاً من ذلك نختار أن نحكي رواية مأساوية. لكنني أريد هنا أن أضيف أمرًا واحدًا، لأن الآن يبدو هو الوقت المناسب جـدًا لذلك. إن المكسب المترتب على التنازل عن الترابط العاطفي بالنسبة للأولاد هو ما أبح يطلق عليها اسم “الرجولة“. إن الحديث عن الترابط العاطفي يضع الرجولة على المحك – رجولة الشخص ومعنى الرجولة ذاتها، وهو أمر مشحون بالمخاطر. بناء عليه، ينتهي بنـا الأمر إلى التضحية بالعلاقة والدفاع عن الرجولة. فالنساء يلتقطن شعور الرجال بالضعف، كما يستشعرن احتمالات العنف ومن ثم يصبح هناك إغراء كبير للنساء أن يضحين بأصواتهن وأن يهرعن إلى مساعدة الرجال الذين يشعرون بأن ذكورتهم مهددة أو موضوع للتحدي. حين تساءل فرويد عما إذا كان أخطأ في فهمه لأوديب، فإنه كان يضع نظريته على المحك، لكنه ما لبث أن تراجع.
لقد شاهدت الأمر نفسه لدى إريكسون حين وصل إلى النقطة التي أدرك عندها أن استيعاب السير الحياتية للنساء يعني تغيير نظريته بشأن دورة الحياة. كما رأيت الأمر ذاته مع لاري كولبرجLarry Kohlberg) ) أيضًا. إنني أعتقد أنه يجب علينا أن ندرك ما هو على المحك في هذه اللحظة.5 إن الانتقال نحو استرجاع أو دعم المفاهيم الأبوية للرجولة هو أمر باهظ الثمن بالنسبة للرجال والنساء على السواء. إنه أمر يأتي على حساب الأمل في أسلوب أكثر ديمقراطية للحياة. إنه أمر ندفع ثمنه بالتنازل عما نعرفه وما نريده.
1 “سايكي” (Psyche): للكلمة معنيان في اللغة الإنجليزية. الاستخدام الشائع هو psyche بمعنى النفس، والمكون لكلمة سيكولوجي أي علم النفس. لكن psyche هو أيضًا اسم يعود إلى الميثولوجيا اليونانية ويشير إلى فتاة جميلة تسبب جمالها في إشعال الغيرة الشديدة في قلب فينوس فأرسلت ابنها كيوبيد إلى الأرض ليضرب قلبها بسهامه ويجعلها تقع في غرام أكثر البشر شرًا. لكن كيوبيد يقع في غرامها وحين يميل ليقبلها يخترق السهم قلبه. (المترجمة)
2 Carol Gilligan, “Recovering Psyche: Reflections on Life-History and History”, The Annual of Psychoanalysis: Psychoanalysis and Women, ed. Jerome A. Winer, James William Anderson, and Christine C. Kieffer, Vol. XXXII, 131-147.
3 إیروس في الميثولوجيا اليوناينية هو كيوبيد في الميثولوجيا الإغريقية. (المترجمة)
4 كاتب أمازيغي عاش ما بين عامي ۱٢٣–۱۸۰ ميلادية ويقال إنه كتب أول رواية في التاريخ (الحمار الذهبي). (المترجمة)
5 انظر/ي الفصل الأول من: Gilligan 1982.
Apter, T. (1990). Altered Loves: Mothers and Daughters During Adolescence. New York: St. Martin’s Press.
Appignanesi, L. & Forrester, J. (1992). Freud’s Women. London: Weidenfeld & Nicolson.
Breuer, J. & Freud, S. (1893-1895). Studies on Hysteria. Standard Edition, 2:1-309. London: Hogarth Press, 1955.
Brown, L.M. & Gilligan, C. (1992). Meeting at the Crossroads: Women’s psychology and Girls’ Development. Cambridge, MA: Harvard University Press.
Cantarella, E. (2002). Psyche and Cupid. Presented at the conference “Themes of Love and Liberation in The Birth of Pleasure,” November, New York University.
Conrad, J. (1963). Heart of Darkness. New York: W.W. Norton
Chu, J.Y. (2000). Learning what boys know. Unpublished doctoral dissertation. Harvard University, Cambridge, MA.
Damasio, A. (1999). The Feeling of What Happens: Body and Emotion in the Making of Consciousness. San Diego, CA, Harcourt.
….. (2003). Looking for Spinoza: Joy, Sorrow and the Feeling Brain. Orlando, FL: Harcourt.
Frank, A. (1989), The Diary of Anne Frank: The Critical Edition (prepared by the Netherlands State Institute for War Documentation, ed. D. Barnouw & G.Van Der Stroom). trans. A. J. Pomerans & B.M. Mooyart. New York: Doubleday.
Freud, S (1905a). Fragment of an analysis of a case of hysteria. Standard Edition, 7:7-122. London: Hogarth Press, 1953.
…..(1905b). Three essays on the theory of sexuality. Standard Edition, 7:130-243. London: Hogarth Press, 1953.
…. (1926). The question of lay analysis. Standard Edition, 20:183-258. London Hogarth Press, 1959.
(1931). Female Sexuality. Standard Edition, 21:225-243. London: Hogarth Press, 1961.
…..(1933). Femininity. Standard Edition, 22:112-135. London: Hogarth Press. 1955.
Gilligan, C. (1982). In A Different Voice: Psychological theory and Women’s Development. Cambridge, MA: Harvard University Press.
…..(1990). Joining the resistance: Psychology, politics, girls and women. Michigan Quart. Rev., 24:501-536; 1991.
Gilligan, C. (2002). The Birth of Pleasure. New York: Knopf.
Gilligan & Brown, L.M. (1992). Meeting at the Crossroads: Women’s Psychology and Girls’ Development. Boston: Harvard University Press.
Gilligan, Rogers, A. & Noel. N. (1992). Cartography of a lost time: Women, girls and relationships. Presented at the Lilly Endowment Conference on Youth and Caring, February. Miami, FL and at the Cambridge City Hospital/Stone Center Learning from Women Conference, April 1993.
Gilligan, Rogers, A. & Tolman, D., eds. (1991). Women, Girls and Psychotherapy: Reframing Resistance. New York: Howarth Press.
Kaminer, W. (1993). Feminism’s identity crisis. Atlantic Monthly, October, 272:51-53.
Lasch, C. (1992). Gilligan’s Island: Review of meeting at the crossroads. The New Republic, December, 207:304.
Lear, J. (1998). Open Minded: Working Out the Logic of the Soul. Cambridge, MA: Harvard University Press.
Linklater, K. (1976). Freeing the Natural Voice. New York: Drama Book Publishers.
Noel, N. (1990-1992). Unpublished journals.
Pollitt, K. (1992). Marooned on Gilligan’s Island. The Nation, 225:799-807, December 28.
Williams, T. (1947). A Streetcar Named Desire. New York: New Directions.
Winnicott, D.W. (1974). Fear of Breakdown, Internat. Rev. Psycho-Anal., 1:103-107.
نتقدم بالشكر إلى كل الكاتبات والكتاب ممن استعنا بدراساتهم في هذا الكتاب، وأصحاب حقوق النشر الذين تكرموا بمنح مؤسسة المرأة والذاكرة حقوق الترجمة والطبع والنشر باللغة العربية:
Copyright © 2008 From Psychoanalysis and Women by ed. Jerome A. Winer. Reproduced by permission of Lawrence Erlbaum Associates Inc, a division of Taylor&Francis Group.
والذي ترجمنا منه الفصول التالية:
Chodorow, Nancy. “Psychoanalysis and Women: a Personal Thirty-Five-Year Retrospect.” Psychoanalysis and Women: The Annual of Psychoanalysis, edited by Jerome Winer, 101-129. Vol. Xxxii. Hillsdale N.J. and London: Analytic Press, 2004.
Gilligan, Carol. “Recovering Psyche: Reflection on Life-History.” Psychoanalysis and Women: The Annual of Psychoanalysis, edited by Jerome Winer, 131-147. Vol. Xxxii. Hillsdale N.J. and London: Analytic Press, 2004.
Kieffer, Christine. “Selfobjects, Oedipal Objects, and Mutual Recognition: A Self-Psychological Reappraisal of the Female “Oedipal Victor”. “Psychoanalysis and Women: The Annual of Psychoanalysis, edited by Jerome Winer, 69-80. Vol. Xxxii Hillsdale N.J and London: Analytic Press, 2004.
Kristeva, Julia. “Some Observations on Female Sexuality.” psychoanalysis and Women: The Annual of Psychoanalysis, edited by Jerome Winer, 59-68. Vol. Xxxii. Hillsdale N.J. and London: Analytic Press, 2004.
Layton, Lynne. “Relational No More: Defensive Autonomy in Middle-Class Women.” Psychoanalysis and Women: The Annual of Psychoanalysis, edited by Jerome Winer, 29-42. Vol. Xxxii Hillsdale N.J. and London: Analytic Press, 2004.
McDougall, Joyce. “The Psychoanalytic Voyage of a Breast-Cancer Patient.” Psychoanalysis and Women: The Annual of Psychoanalysis, edited by Jerome Winer, 9-28. Vol. Xxxii. Hillsdale N.J. and London: Analytic Press, 2004.
Schmidt, Erika. “Therese Benedek Shaping Psychoanalysis from Within.” Psychoanalysis and Women: The Annual of Psychoanalysis, edited by Jerome Winer, 217-231. Vol. Xxxii. Hillsdale N.J. and London: Analytic Press, 2004.
Schroter, Michael, Elke Muhlleitner, and Ulrike May. “Edith Jacobson: Forty Years in Germany (1897-1938).” Psychoanalysis and Women: The Annual of Psychoanalysis, edited by Jerome Winer, 199-215. Vol. Xxxii. Hillsdale N.J. and London: Analytic Press, 2004.
Tolpin, Marian. “In Search of Theory: Freud, Dora, and Women Analysts.” In Psychoanalysis and Women: The Annual of Psychoanalysis, edited by Jerome Winer, 169-184. Vol. Xxxii. Hillsdale N.J. and London: Analytic Press, 2004.
Young-Bruehl, Elisabeth. “Anna Freud and Dorothy Burlingham at Hempstead: The Origins of Psychoanalytic Parent-Infant Observation.” In Psychoanalysis and Women: The Annual of Psychoanalysis, edited by Jerome Winer, 185-197. Vol. Xxxii. Hillsdale N.J. and London: Analytic Press, 2004.
وكذلك المقالة التالية:
Benjamin, Jessica. “Revisiting the Riddle of Sex: An Intersubjective View of Masculinity and Femininity.” From Dialogues on Sexuality, Gender, and Psychoanalysis, edited by Irene Mattis. London: Karnac Books, 2004, pp. 145-172. © Karnac, London, UK.
كما نشكر الأستاذة ميسان حسن على متابعة الحصول على حقوق الترجمة والنشر، والأستاذة آية سامي على تدقيق المحتوي. وكذلك نشكر الأستاذة داليا الحمامصي والأستاذ رامي رياض على متابعة أعمال الإعداد للطباعة.