النسوية والدراسات الدينية
“من الناحية الدينية، إن كل ما يقلل أو ينفي الإنسانية الكاملة عن النساء لا يجب أن يُفترض أنه يعكس أمراً إلهياً….”
(روزماري روثر ۱۹۸۳)
“للمرأة الحق أن تشترك في الاجتهاد الشرعي تفسيرًا وتأويلاً، بل أنها أولى من الرجل بتفسير الآيات القائم فيها واجبها وحقها، لأن صاحب الحق والواجب أهدى إليها من غيره سبيلاً.”
(نظيرة زين الدين ۱۹۲۸)
الهدف من هذا الكتاب:
لأن هذا الكتاب يأتي في سياق مشروع سلسلة “ترجمات نسوية” الذي تقدمه مؤسسة المرأة والذاكرة، فالهدف العام هو نقل معرفة متخصصة إلى العربية في مجال التقاطع بين النسوية كمنهج بحثي ونظرية نقدية من ناحية والدراسات الدينية من ناحية أخرى، ومن ثَمّ التعريف بحقل دراسات ’النسوية الدينية‘ [بمعني الدفع بالمساواة ومقاومة التمييز من منظور ديني] في نشأته وتطوره وحصاده البحثي والمعرفي حتى الآن – خاصة النسوية المسيحية في الغرب والنسوية الإسلامية
. قبل تقديم ترجمات لنماذج مختارة من النصوص كأمثلة لهذين الرافدين، تحاول هذه المقدمة أن: (أ) تشرح أفكار ومبادئ وتيارات المجال وتضعه في إطار مقارن من حيث نقاط التقاء وتطورات مشابهة في الجانبين المسيحي والإسلامي على المستوى التنظيري والمنهجي، (ب) رصد القضايا والموضوعات المرتبطة بهذه الدراسات في السياق الإسلامي خاصة وطرح إمكانية التفاعل على أساس علمي مع نظريات ومنهجيات جديدة آخذه في الازدهار والتطور في العالم، (ج) شرح أهمية هذه المقالات التأسيسية المختارة – مع الإشارة إلى معايير الاختيار – للباحثات والباحثين المهتمين وطلبة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية والإنسانية الواجب عليهم الإطلاع على أصل هذه النظريات والمناهج للتشجيع على استكمال طريق البحث العلمي الخلّاق والمتطور، (د) دحض بعض الآراء عن تطبيق المنظور النقدي النسوي في العلوم الدينية التي تشير إلى أن المجال برمته إلحادي النزعة أو رافضي للعقيدة الإيمانية، بدون تفريق بين مساراته واتجاهاته المتنوعة، أو التي ترى تعارضًا بين الدين والمساواة، أو بين الالتزام الديني والوعي النسوي. لذا وجب تمحيص مسيرة هذه الحقل التخصصي وقراءة أبحاثه لمعرفة أنه لم يأتي من فراغ بل من تحليلات متعمقة ومناهج مدروسة، لتبقى بعد ذلك حرية الاختلاف معه أو قبوله أو قبول تطبيقات جزئية… الخ، طالما يأتي هذا التفنيد والتفكّر على أساس المعرفة والدراسة. وأخيرًا تفرقة مهمة لابد منها: هذا ليس كتابًا حول الدين كعقيدة – ضد أو مع، ولكنه كتاب حول المعرفة الدينية التي ينتجها أصحاب الدين والعقيدة.
لماذا دعت الحاجة إلى دراسة الأديان من وجهة نظر تتساءل عن وضعية النساء تحديدًا وعلاقتهن بالمنظومة الدينية ككل – بدءًا من النصوص المقدسة وتفسيراتها، إلى ممارسة الشعائر والعبادات، إلى المفاهيم الثقافية النابعة من الفهم الديني داخل مجتمعات معينة، إلى تاريخ المؤسسات الدينية الرسمية وتطورات الخطاب الديني الذي يشكل الوعي الاجتماعي ويحدد كثيرًا من السلوك والقواعد المنظمة للحياة؟ خرجت هذه الأجندة البحثية المتشابكة – والرؤية الإصلاحية في الوقت نفسه – من مظلة الفكر النسوي في عمومه الذي كشف عن معضلة السلطة الأبوية والتمييز المبني على النوع (الجندر) وإبعاد النساء عن غالبية مناحي الحياة العامة عبر المجتمعات والثقافات الإنسانية المختلفة، فكان من الطبيعي إذًا أن يتقاطع البحث النسوي مع الدراسات الدينية لينتج عن ذلك مجال جديد من المعرفة والأبحاث التي تخصصت في تمحيص الأديان و أفكارها وخطاباتها من زاوية ’موضع‘ المرأة في المجتمع (women’s locus) أي من واقع تجربتها وخبرتها الحياتية المقصورة عليها، كيف تتأثر مباشرة بالمفاهيم الدينية وتطبيقاتها، أو كيف ممكن أن تؤثر تجربتها هذه الناجمة عن فهمها وممارستها للإيمان الديني على دراسة العلوم الدينية، بمعنى آخر: مقاربة الدين بشكل واعي للهوية الاجتماعية والنوعية (الجندرية) للنساء كنساء. هكذا تولد في البداية مساران البحث: دراسات تكشف عن الصور والرموز السلبية للمرأة في الفكر الديني والتفسيرات والتطبيقات المغلوطة المتحيزة ضد النساء، وآخر لدراسات تتناول حق المرأة في دراسة علوم الدين وإنتاج معرفة دينية خلاّقة مبنية على إدراج خبراتها الروحية المباشرة وتساؤلاتها، وما يمكن أن تعبر عنه من فهم أو إحساس بالتناقضات بين الرسالة الإلهية العادلة وصياغة المجتمعات للمفاهيم والقوانين المنحازة.
أصبح هذا مجالاً متخصصًا يتبنى في عمومه منظورًا نقديًا يلتفت بالأساس إلى غياب الصوت والحضور ووجهة النظر، ويهدف إلى تقويم ذلك وترشيده. وليس المقصود فقط البحث عن الأدوار الدينية التي لعبتها المرأة في الماضي أو المكانة التي بلغتها في تواريخ الديانات أو حقوقها والتعاليم الخاصة بها، ولكن المقصود أن تتحول المرأة من ’موضوع‘ للدراسة إلى الدارسة والباحثة والمحللة و’عالمة الدين‘ التي تملك الأدوات العلمية إضافة إلى المنظور، مما يحدث تحولاً في النسق التقليدي لإنتاج الفكر الديني وتحريك لميزان علاقات السلطة المعرفية بين النساء والرجال حتى تتسم بالتكافؤ والعدل.
ركزت هذه الدراسات إذًا على كيفية إعادة تفسير الظواهر الدينية واستنباط المعايير ووصفها من خلال ’عدسة تحليلية‘ تأخذ مسألة النوع (الجندر) في الاعتبار. ومن هنا برزت على السطح مجموعات من الأسئلة تقع في ثلاث مناطق للاستكشاف:
(أ) المنطقة الأولى تخص مشاركة النساء الفعالة في الحياة الدينية لمجتمعاتهن: مثلاً، كيف تمارس المرأة التدين وما خصائص تجربتها الدينية؟ كيف تشعر النساء في علاقتهن مع المقدس والإلهي؟ كيف يعبّرن عن هذه التجارب الروحانية؟ أين أصواتهن وأدبياتهن في هذا المجال؟ ما هي أدوارهن وشعائرهن؟ هل لهن أنشطة خاصة بهن يشاركن فيها وأخرى مُبعدات عنها؟ هل لهن أنشطة هامة وذات دلالة ولكن لا يعتد بها من قِبل الخطاب الديني السائد؟ هل لهذه الأدوار تأثير أو سلطة داخل الجماعة المؤمنة أم تتعرض للتهميش؟ ما العلاقة مع المؤسسة الدينية الرسمية؟ هل يشاركن في إنتاج المعارف الدينية أو تطويرها أو نشرها أو تدريسها؟
(ب) والمنطقة الثانية تخص التنقيب عن الرموز الأنثوية والتصورات عن ’المؤنث‘ في المخيلة الدينية كما تعكسها الكتابات العديدة في نطاق ثقافة الأديان: هل هناك صور مجازية أو تعبيرات أو كنايات تستخدم العنصر الأنثوي – مثلاً الإشارات إلى ’الحية‘ التي أخرجت آدم من الجنة أو ’الفاكهة المحرمة‘ أو ’إغراءات الشيطان‘ أو ’الدنيا الغرورة‘ أو ’الفتنة‘ … الخ؟ كيف عبّر علماء الدين عن عنصر ’المؤنث‘ وما هي صورة المرأة في كتاباتهم وتأويلاتهم؟ هل للوجود الإلهي في بعض الأديان بُعد أنثوي؟ هل للنساء قداسة معينة في بعض هذه الثقافات أم العكس – يكتسبن اقترانًا بكل ما هو شرير وشيطاني ومحرّم؟ لماذا قام الآباء المؤسسون في الترات المسيحي مثلاً بتأنيث الخطيئة والجنس المحرم والجسد، ولماذا اعتبر بعض المفسرين الأوائل في التراث الإسلامي أن “السفهاء” في الآية رقم 5 من سورة النساء إنما إشارة إلى النساء جاعلين من السفه كقيمة سلبية عنصرًا أنثويًا جوهريًا؟
(ج) أما المجال الثالث فتدور الأسئلة فيه حول محور التاريخ بالتحديد وأشكال التعبير عن الروحانية النسائية في الماضي: ماذا كانت ملامحها وخصائصها وهل كانت دائمًا تختلف عن أشكال العبادة لدى الرجال داخل الجماعة المؤمنة؟ وهل فعلاً نستطيع التعرف على وتحديد صوت نسائي واضح عند دراسة ماضي الأديان؟ هل بإمكاننا الآن من منطلق معرفة الحاضر أن ننظر إلى تاريخ النساء لنحلله ونفسر مغزاه؟ هل كان تدين النساء في الماضي وانخراطهن في بعض أشكال التعبد والزهد والتصوف والرهبنة علامة من علامات الخضوع للمنظومات الأبوية السائدة أم الهروب منها؟ هل يجوز أن يتم قراءتها على أنها نوع من أنواع المقاومة وأنها تشكل مصدر قوة للمرأة في حدود السياق وتحقيقًا للذات المستقلة والهوية النسائية بحرية دون قيد أو لوم؟ ماذا يمكن أن نتعلم من تاريخ الراهبات والزاهدات والمتصوفات؟ هل روحانية المرأة استضعاف أم تمكين؟
مجرد طرح مثل هذه الأسئلة – وليس فقط محاولة الإجابة عليها – يجعلنا نفهم ونقترب أكثر من الدراسة النسوية للأديان، بمعنى تطبيق المناهج النسوية الأكاديمية في البحث على العلوم وأفرع المعرفة التي كان يدرسها علماء الدين عادة، وبما أن النسوية ليست منهجًا بحثيًا فحسب ولكن أيضًا ذات رؤية إصلاحية تهدف إلى تأسيس قيم العدالة والإنصاف والكرامة المساوية للجنسين دون تراتبية، فإن النسوية الدينية كذلك لم يكن الدافع الأساسي لها هدم الدين أو تقويض أسسه بالكامل، ولكن نقد الخطابات المتحيزة فيه والأسس العنصرية من أجل الترشيد والتقويم وإعادة البناء.
كيف إذًا ومتى بدأ التغيير داخل المؤسسة الأكاديمية الدينية في الدول الغربية تحديدًا لتشمل بُعد نسائي/ نسوي؟ ترصد كاثرين يونج البداية مع نمو ’الموجة الثانية‘ من الحركة النسوية في ستينيات القرن الماضي عندما بدأت النساء الدارسات في الحصول على شهادات عليا مثل الدكتوراه في الدراسات الدينية منذ أواسط القرن العشرين واكتسبن مهارات لغوية وخبرات بحثية في مجال الهرمونيطيقا تؤهلهن لقراءة النصوص الدينية وفهم السياقات التاريخية جيدًا وتحليل ما بين السطور من بنى ومعاني مضمرة ومفاهيم دينية وتفسيرات كان لها تأثير سلبي على صورة المرأة في الخطاب الديني ومكانتها في الحياة. ثم اكتشاف أن أساسيات المعرفة المسيحية أنتجها وشكَّلها رجال عكسوا في كتاباتهم وتفسيراتهم ثقافة العصور الوسطى المعادية للنساء ولجأوا إلى إما تحقير المرأة أو رفعها إلى مستوى المِثال الرمزي أو في أحسن الأحوال اعتبارها تابعًا للرجل الأصل وليس كائنًا مستقلاً لها حقوق مساوية. باختصار اُتهمت الدراسات الدينية (مثلها مثل كثير من حقول المعرفة الأخرى) بالتحيز والذكورية.1
وعند هذه النقطة بالتحديد يأتي الحديث عن نشأة وتطور تيار من أهم تيارات البحث النسوي في الدين المسيحي وهو المعروف “باللاهوت النسوي” ترجمة عن المصطلح الإنجليزي (feminist theology)؛ ورغم الأصل الإغريقي لكلمة “ثيولوجيا” بمعنى “إله – كلمة” فقد استخدم المصطلح بعد ذلك في الكتابات المسيحية المبكرة منذ (أوغسطين) في القرن الرابع الميلادي ليعني الكلام والنقاش حول فهم طبيعة الله. ومنذ القرن الرابع عشر تبلور المفهوم ليشير إلى مجال أكاديمي يتخصص في الدراسة العلمية العقلانية للتعاليم المسيحية أو علم اللاهوت، وفي القرن السابع عشر بدأ ينسحب على دراسة أي أفكار أو تعاليم دينية أخرى ليست مسيحية بالضرورة أي دراسة العلوم الدينية أيًا كانت دراسة أكاديمية متخصصة، ولعقود طويلة حتى العصر الحديث كان هناك قبول عام أن علم “الثيولوجيا” أو “اللاهوت” يجب أن يستخدم للديانات التي بالفعل تعبد إلهًا خالقًا وتفترض الإيمان بإمكانية التحدث إلى وعن هذا الإله المعبود، ولكن منذ منتصف القرن العشرين في الأوساط الأكاديمية والجامعات الغربية بدأ التمييز بين “الثيولوجيا” التي تستلزم درجة أو حد أدنى من الالتزام الإيماني ’بحقيقة‘ التراث الديني والعقائدي تحت الدراسة من ناحية، و“الدراسات الدينية” الموضوعية التي اتبعت منهج العقلانية العلمانية من ناحية أخرى. وتحتل ما نقدمه هنا تحت المسمى العام “النسوية الدينية” المساحة البينية بين الدراسات الدينية العلمانية واللاهوت الأبوي التقليدي. هو إذًا لاهوت نسوي الذي تعرفه روزماري رادفورد روثر (Rosemary Radford Ruether) – إحدى أهم رائدات ومؤسسات هذا التخصص ويرد لها مقال مهم في الترجمات – بأنه أكثر من مجرد إضافة زائدة أو إبراز التيمات الأنثوية في أدبيات الثيولوجيا مع الاحتفاظ بنفس المنظومة المبنية على التراتب بين الجنسين وافتراض الأولوية والسيطرة لطرف ثم الهامشية والتمييز ضد طرف آخر، كما أنه ليس فقط دراسة النساء للعلوم الثيولوجية بالطرق التقليدية الأزلية دون مراجعة أو تفنيد، ولكنه مجال “ينقل نقد النموذج السائد لعلاقات النوع وإعادة بنائه إلى داخل الحقل الثيولوجي؛” بمعنى أن الباحثات يتساءلن عن “الأنماط والأفكار الدينية التي تبرر سيطرة الرجال وتبعية النساء ودونيتهن، مثل استخدام اللغة الذكورية حصريًا للإشارة إلى القدرة الإلهية مما يوحي أن الذكر/الرجال هم أقرب وأشبه بالإله أكثر من الأنثى، وأن الذكور فقط هم أحق بتمثيل والتعبير عن الرسالة الإلهية والتحدث باسم الله كقادة وزعماء وآباء مؤسِّسين في الكنيسة والمجتمع، وأن الله قد خلق النساء ليكُنّ تابعات الرجال وإذا رفضن هذه التبعية فهن بذلك يرتكبن إثمًا عظيمًا.”2
وتمضي روزماري روثر في شرح تفصيلي لأهداف هذا التيار ومقوماته؛ تهدف باحثات العلوم الدينية النسويات إلى ترشيد وإعادة بناء الرموز الدينية الأساسية عن الله/ الخالق وقصة الخلق، والبشرية بنوعيها الذكر والأنثى، والخطيئة، والخلاص والكنيسة….الخ من أجل إعادة تعريفها من جديد تعريفًا يأخذ في الاعتبار الجنسين وضمهما معًا في منظومة مساوية (Rosemary Radford Ruether, p.4). وهذا جانب مهم نلفت الانتباه إليه: تعتبر الباحثات في هذه القضايا أنفسهن عالمات متخصصات في العلوم الدينية (theologians) لا يسعين لهدم الدين ولكن العكس، استرداد مبادئ المساواة الأصلية والعناصر الأنثوية الإيجابية في المسيحية وإعادة قراءتها وتفسيرها لتطبيق التوازن والتكافؤ بين الجنسين داخل المنظومة المسيحية نفسها، وحتى تسود هذه القراءات والتفسيرات العادلة ويتم تفعيلها داخل المجتمع يستلزم أولاً وجود القناعة أن الرموز الدينية بمفهومها الثقافي قد تم إنشاؤها وبلورتها وتشكيلها اجتماعيًا وليست مُنزّلة إلينا كمفاهيم أبدية لا تتغير: “من يملك السلطة والقوة في المجتمع هو من ينشئ الرموز الثقافية ويحدد المفاهيم التي تحافظ على هذا الميزان المختل من علاقات القوة بين فئات البشر، فالعلاقات الاجتماعية المختلفة مثل الطبقية أو العرقية أو النوعية ليست أزلية خلقها الله كنظام للكون، ولكنها إنشاء اجتماعي يمكن أن يتغير” (4.Ruether, p). المفاهيم التي تقلل من شأن النساء وتستهين بقدراتهن أو تهمش مشاركتهن في الحياة العامة والفكرية بحجة تقسيم أدوار النوع أو تلك التي تميز وتتعالى تشير إلى ممارسات مجتمعية يتم تبريرها دينيًا للإبقاء على ميزان قوة تراتبي. أي أن مجال الدراسات الدينية النسوية في عمومه يرتكز على ركيزتين لا ينفصلان: النقد والتفنيد من ناحية، ثم إعادة البناء وإيجاد البديل من ناحية أخرى، مما يعني رؤية دينية إصلاحية للتحول الاجتماعي فيما يخص النوع (الجندر).
بدأ تبلور هذا اللاهوت النسوي في مرحلته الحديثة أي في القرن العشرين كما أشرنا سابقًا منذ الستينيات مع “الموجة الثانية” من الحركة النسوية وفي الولايات المتحدة خاصة ضمن إرهاصات حركة الحقوق المدنية من قِبل ثلاث قطاعات بالتحديد؛ نساء البشرة البيضاء من الليبراليات اللاتي اهتممن بحقوق التعليم والاشتراك في المهن والمناصب الحكومية وكافة المؤسسات العامة، ونساء اليسار اللاتي اكتشفن التحيز الجنسي للرجال اليساريين، ثم قطاع النساء داخل الكنائس اللاتي نجحن في إقناع كثير من الكنائس البروتستانية بالاعتراف برسامة المرأة ككاهنة منذ السبعينات مما شجع أعدادًا أكبر من النساء على الالتحاق بالمعاهد الدينية والحصول على درجات الدكتوراه في العلوم والتخصصات الدينية والتدريس في الكليات والجامعات، وهذا العامل الأخير بدوره أكسب الوجود النسائي داخل الكنائس قاعدة مؤسسية وأكاديمية وكان على هذا التواجد أو النشاط التطور وترجمته إلى معرفة وعلم لاهوتي خاص؛ أي الدفاع عن والتنظير لهذه الحقوق المكتسبة (المشاركة في تقلّد الزعامات والقيادات الكنسية) من خلال دراسة المعارف الدينية اللاتي طالما بررت إقصاءهن في الماضي من منظور جديد.
إلا أن بروز باحثات رائدات تخصصن في هذا اللاهوت النسوي بالتحديد كان في الدوائر الكاثوليكية بأمريكا، وهن يمثلن الجيل الأول الذي أسس لأفكار ومناهج هذا البحث الدقيق والتمحيص لمصادر الديانة المسيحية والكشف عن أصول التحامل على النساء والتحيز ضدهن لصالح نمط سلطوي أبوي احتكر إنتاج المعرفة الدينية وقسَّم كل شيء إلى عنصر ذكوري إيجابي وعنصر أنثوي سلبي. الأسماء الثلاثة اللامعة اللاتي يشكلن المرحلة التأسيسية الحديثة بأعمالهن هن: ماري دالي وكتابها ما بعد الإله الأب (Mary Daly, Beyond God the Father, 1973) وروزماري روثر بكتابها التمييز الجنسي والكلام عن الله (Rosemary Ruether, Sexism and God-Talk: Toward a Feminist Theology, 1983) وكتاب إليزابيث فيورنزا في ذاكراها (Elisabeth Fiorenza, In Memory of Her: A Feminist Theological Reconstruction of Christian Origins, 1983). كان الهجوم على الكنيسة الكاثوليكية ونقد سياساتها الدافع الرئيسي المشترك، فتشير روزماري روثر إلى هذه المفارقة أنه بسبب صلابة وعناد مواقف الكنيسة تجاه حقوق المساواة للمرأة وخاصة مسألة الرسامة والتدريس الديني أوجد ذلك تحديًا وأدى إلى نشاط وحراك وإنتاج معارف ونظريات بديلة، في حين أن انفتاح البروتستانية لرسامة المرأة وانخراطها في النشاط الكنسي قلل من دواعي المقاومة والإبداع.
تشعب تيار الباحثات الكاثوليكيات إلى توجهات مختلفة: منها “حركة كنيسة المرأة” (Women- Church Movement) وهو الاتجاء لتكوين جماعات لممارسة شعائر وطقوس كنسية بطريقة مستقلة تركز على الروحانية النسائية وعبادات تغذي العنصر الأنثوي. ثم ماري دالي المذكورة آنفًا التي بعد أن تم رفض إكمالها للدكتوراه في تخصص الفلسفة المسيحية هاجرت إلى أوروبا ودخلت مرحلة راديكالية هي في الحقيقة انشقاق ورفض كامل للعقيدة المسيحية عندما أعلنت أن مشروعها سيركز على خلق أشكال من الديانات والروحانيات النسوية خارج نطاق أي ديانة تقليدية تمامًا. أما روثر – فبسبب تأثرها بحركات “لاهوت التحرير” (liberation theology) التي انتقدت وقاومت القهر الطبقي والعنصري ونادت بالعدالة الاجتماعية ومناصرة المستضعفين من خلال صياغة قيم وتعاليم مسيحية لإنصاف الفقراء والمهمشين – فقد استطاعت أن تبقى في مدار الدين المسيحي ولا تخرج عنه وأن تضيف إلى هذه الأفكار محاربة القهر “النوعي” أيضًا (gender oppression). في الثمانينات والتسعينات تتلمذ على أيدي هذا الجيل الأول مزيد من الطالبات والدارسات في المؤسسة الأكاديمية الدينية وشكّلن الجيل الثاني الذي عكف على كتابة أطروحات في الدراسات العليا وفقًا للنظريات والمناهج البحثية النسوية وإدراجها في العلوم الدينية التقليدية التي طالما تجاهلت قضايا النوع. واستمر في الخمس عشرة سنة الأخيرة انتشار الفكر النسوي الديني في غالبية الكنائس والطوائف على اختلاف مذاهبها؛ مثلا الكنيسة الإنجيلية (Evangelical Church) ثم الجماعات الأفروأمريكية واللاتينية والآسيوية التي أضافت عامل العِرق في الموضوع وبدأت النساء فيها يعبّرن عن صوت خاص يمزج بين إشكاليات الخطاب الديني والتمييز العنصري. أما النساء الأفروأمريكيات بالتحديد فقد اشتهرن بصياغة حركة خاصة تحت مسمى “محورية المرأة” (Womanism)، لوصف منظورهن الديني المميز وموقعهن الصعب في المجتمع الأمريكي حيث يتعرضن لتمييز مزدوج بناء على الجنس واللون في الوقت نفسه؛ ومن الكتب المؤسسِّة لهذا التيار كتاب أخوات في البرية: الكلام عن الله من منظور محورية المرأة (Dolores Williams, Sisters in the Wilderness: The Challenge of Womanist God-Talk, 1993). وهذا مثال على تبلور أطياف من التنوع الثقافي داخل التيار المسيحي العريض، صاحبه ظهور اتجاهات في ديانات أخرى غير المسيحية تطبق قراءات نسوية، مثل جوديث بلاسكو عالمة الدين اليهودية وريتا جروس المعتنقة للبوذية ولها كتاب البوذية بعد الأبوية (Rita Gross, Buddhism After Patriarchy: A Feminist History, Analysis, and Reconstruction of Buddhism, 1993 ). أما كارول كرايست فقد برزت منذ السبعينيات لتشكل تيارًا منشقًا أعلن يأسه من القضاء على الأبوية في المسيحية ومن داخلها أو من محاولات الترشيد والإصلاح في أي من الأديان السماوية، واتجهت لتأسيس ديانة جديدة تمامًا تستلهم العنصر الأنثوي في الأساطير الوثنية القديمة قبل الموروث اليهودي/ المسيحي (Judeo-Christian tradition)، ديانة لها طقوسها الخاصة وتواصلها الروحاني مع عناصر الطبيعية خاصة – مثل الأرض – في تماهيها مع “الإلهة الأم” والآلهة المؤنثة الأخرى، وهي الحركة التي عُرفت باسم (Wicca) وهي كلمة مأخوذة من اللغة الإنجليزية القديمة التي تعني “تملُّك الحكمة“، ثم تطورت لتعني ساحر أو ساحرة، وهذه الدلالات تدخل كلها فيما تهدف إليه الديانة وهو قلب أو عكس الإيحاءات المضمرة في معنى “الساحرة” (witch) في التراث الأوروبي المسيحي بالذات من الشر والسحر الأسود وعبادة الشيطان إلى مفهوم الحكمة الأنثوية ومصدرها الإلهة الأنثى، لذا وُصفت الديانة بحركة الإلهة الأنثى ( goddess movement). وكان أول كتاب يطرح هذه الفكرة ويبرر استخدام صور ورموز أنثوية خالصة للإشارة إلى ’الله‘ هو بزوغ روح المرأة: قراءات نسوية في الدين (Christ and Plaskow, Womanspirit Rising: A Feminist Reader in Religion, 1979) من تحرير کارول کرایست وجوديث بلاسكو تقدمان فيه أمثلة لطقوس روحانية متطورة تدمج عنصر المؤنث، وتبعت ذلك بالعديد من الكتب المماثلة منها مولد الإلهة: العثور على المغزى في الروحانية النسوية (Carol Christ, Rebirth of the Goddess: Finding Meaning in Feminist Spirituality, 1997) وذلك بعد استقرار الاصطلاح الشائع الآن “الروحانية النسوية” (feminist spirituality) ليس فقط للإشارة لهذا الاعتناق الخاص ولكن أيضًا إلى تيار نقدي تحليلي يكشف عن مظاهر وسمات الروحانية النسائية/ النسوية المختلفة في أعمال النساء الماضية. وآخر كتبها حتى الآن هي التي تُغيّر: إعادة تخيل ’الإلهي‘ في العالم
(She Who Changes: Re-imagining the Devine in the World, 2003).
ظل التيار الأساسي السائد يكمن في اللاهوت المسيحي النسوي الذي ازدهر وتكاثرت دراساته وأبحاثه منذ أواخر التسعينيات وما بعد عام ۲۰۰۰ حتى تطورت وتفرعت إلى علوم بينية أكثر عمقًا، مثل دراسات “الهرمونيطيقا” في نصوص العهد القديم والعهد الجديد، التاريخ الكنسي، علم الأخلاق، الوعظ، العبادة والشعائر والطقوس، الفلسفة الدينية… الخ، فلم يعد هذا المجال مهمشًا فيما يشبه (جيتو) منبوذ – على حد قول روثر– داخل المؤسسة الأكاديمية الدينية في أمريكا وإن كان لا يزال غير مرحب به من قِبل كنائس تقليدية وقساوسة كثيرين مما أحدث فجوة بين الأكاديمية ومؤسسات الكنيسة.
كان ما سبق رصدًا للمشهد الأمريكي خاصة الذي يسمح بهذه التطورات بسبب الطبيعة التعددية لممارسة الأديان في المجتمع بحكم أنها دولة مهاجرين من بقاع شتى في أنحاء العالم وخلا تاريخها من مؤسسة كنسية موحدة مركزية، فمنذ البداية نشأت كنائس حرة متعددة وطوائف متنوعة، لذا تغيب عقدة الميراث الأوربي في عدائيته الشديدة لتدخل الكنيسة والكهنوت وما أنتج عنه من حركات ماركسية من جهة أو ليبرالية علمانية متطرفة من جهة أخرى، ولهذا لم يجد اللاهوت النسوي المستند على الإيمان الديني تربة خصبة ليزدهر في أوربا، فرغم العداء والرفض الشديدين في فرنسا مثلاً لكل ما يتعلق بتراث الكاثوليكية الرومانية ورغم قوة الحركات النسوية بصفة عامة لا يوجد مساهمات بحثية في اللاهوت النسوي بالتحديد، ورغم ترسيم النساء في ألمانيا منذ ١٩٦٠ إلا أن عالمات الدين فيها لا يتبوأن مراكز أكاديمية في العلوم الدينية. وهذه نقطة هامة جديرة بالالتفات إليها والتوقف عندها (وسنعود إليها لاحقًا عند الحديث عن النسوية الإسلامية): أن العلمانية المتطرفة التي عادةً ما تقصي دور الدين تمامًا في الحياة والمجتمع وتتبنى فكرة إفساد المرجعية الدينية لقضايا النوع (الجندر) وحقوق النساء لا تفرز إلا موقفًا سلبيًا ولا تنتج مقاومة إيجابية في شكل معرفة أو علم أو مناهج بحث.
في المرحلة الراهنة تؤكد روزماري روثر أنه رغم تعدد تجليات وأشكال اللاهوت النسوي داخل سياقات ثقافية متباينة فالحركة يمكن اعتبارها “عولمية” لأن عالمات الدين المسيحيات في العالم كله لا تزال تجمعهن أهداف نقد وتفنيد الرموز والمفاهيم العنصرية المنحازة داخل خطاب المسيحية وإعادة بناء مفاهيم مسيحية جديدة عن الله والمسيح وآدم وحواء والطبيعة والخطيئة والخلاص بهدف التأكيد على الكرامة الإنسانية المساوية للمرأة وترشيد الخطاب الديني من الداخل عن أدوار وعلاقات النوع وحقوق النساء، ثم تطبيق كل ذلك على قضايا معينة داخل مجتمعاتهن ووفقًا للسياقات الثقافية والتاريخية لتحقيق عالم أكثر عدلاً ومحبة.
تتناول ريتا جروس في كتابها المهم النسوية والدين (Rita Gross, Feminism and Religion, 1996) – ضمن الإحاطة الشاملة بكافة جوانب هذا الحقل المعرفي – إشكالية تجاهل الباحثين فيه للتنوع “عبر” أديان العالم المختلفة وليس فقط داخل الدين الواحد (ص 56)،3 وتحث البحث النسوي في العلوم الدينية أن يخرج من إطار السياق الغربي وينفتح على الأديان الأخرى وعلى جهود النساء فيها ليصبح بحق “ثيولوجيا متقاطعة وبينية للأديان والثقافات” (“cross-cultural interreligious study”, p.57). ثم تذكر الاستثناءات القليلة لهذا التوجه الأحادي متمثلة في سلسلة من الكتب صنفتها وحررتها آرفند شارما التي كانت أول من اهتم بالسياق العالمي وبمكانة النساء وأدوارهن في ديانات أخرى آسيوية وإفريقية، بدءًا من النساء في أديان العالم (Arvind Sharma, Women in World Religions, 1978)، وامرأة اليوم في أديان العالم (Today’s Woman in World Religions, 1994)، والدين والنساء (1994 Religion and Women)، ثم النسوية وأديان العالم ( Feminism and World Religions, 1999). كما ظهر كتاب مرجعي للمحررة سيرينيتي يونج مختارات من نصوص مقدسة بقلم النساء وعنهن ( Serenity young, An Anthology of Sacred Texts by and about Women, 1999) يضم تراث اليهودية والمسيحية والإسلام، والتراث الإغريقي والروماني، والوثنية في شمال أوربا، والديانات المصرية القديمة، والهندوسية والبوذية والكونفوشية والطاوية والشامانية. وقد استمرت جروس في تطوير موقفها هذا الناقد للعالِمات النسويات المسيحيات في تجاهلهن للديانات الأخرى والاهتمام فقط بالتعدد “داخل” المسيحية وليس خارجها في آخر مقال لها بعنوان “اللاهوت النسوي ولاهوت الأديان“،4 حيث تطرح هذا الاصطلاح الأخير – والذي قد يبدو مكررًا أو مبهمًا – ولكنه يعبر عن اقتراحها لإصلاح النزعة الاحتكارية والإقصائية لدي النسويات المسيحيات، فمن أهم المبادئ الأساسية التي قامت عليه النسوية هي “تضمين مَن تم إقصاؤهم سابقا” (Gross, Cambridge Companion, p.64) وليس إعادة إنتاج التهميش مع الآخر. كما تناقش فائدة الانخراط في التحاور والتفاعل بين نساء الأديان المختلفة: “الهدف على المدى البعيد هو إثراء دراسة دين المرء ذاته بأفكار لا يحتمل أن ترد إليه من تلقاء نفسه” (Gross, Cambridge Companion, p.75). مع ذلك ورغم سعة الأفق في هذه الرؤية و المناداة بالمنظور المقارن والتعددي (pluralistic)، نجدها تستشهد بمقدمة كاثرين يونج لكتاب النساء في أديان العالم المذكورة أعلاه والتي تضع فيها مقياسًا متدرجًا للحكم على هذه الأديان في درجة إشراك وتمكين النساء فيها بحيث يبدأ من الأديان الأكثر تصريحًا للسيادة الذكورية حتى الأكثر في قبولها وتضمينها للنساء على هذا المنوال: (1) اليهودية، (۲) الهندوسية، (3) الكونفوشية، (4) الإسلام، (5) السسيحية، (6) البوذية، (7) الطاوية. ثم تقترح ريتا جروس تعديلاً: يؤخر الهندوسية إلى رقم 4 فقط ليتقدم كل من الكونفوشية والإسلام إلى رقم ٢ و ٣، مضيفة أن التنافس على الموقع الأدنى في قبول تمكين المرأة يكمن خصوصًا بين اليهودية والكونفوشية والإسلام. ونحن نعتبر أن هذا الطرح يشوبه خلل إطلاق أحكام قَيمية على الأديان المذكورة وخلل التعميم والتسطيح والتعارض مع الدعوة التي أطلقتها الباحثة نفسها في قبول تعددية وخصوصية الأديان على قدم المساواة بدون إقصاء.
العرض السابق الذي بدأ تطوره في ستينيات القرن العشرين كما أسلفنا حتى الآن يُعد إحاطة بالنشأة ’الحديثة‘ التي اتخذت شكل الدمج في المؤسستين الأكاديمية والكنسية وتمخضت عن حقل معرفي قائم بذاته ومناهج بحث صارت معترف بها، فدفع هذا بعض الباحثات النسويات إلي التنقيب في التاريخ (خاصة ما قبل عصر الحداثة) عن مظاهر التدين والعبادة والنسك والرهبنة إلى آخر الأنشطة والأدوار الدينية للنساء وتطبيق تلك المناهج التحليلية على أعمالهن التي وصلت إلينا وعلى سيرتهن وعلاقتهن بالسلطة الدينية ومدى تأثرهن بالخطابات الدينية السائدة. يطلق على هذا المنهج في النقد النسوي ’المراجعة‘ (revisionism) – أي إعادة القراءة والتفكير في ظاهرة ما لتفسيرها تفسيرًا جديدًا وفقًا إلى منظور مختلف، ومن هنا بدأ تفسير هؤلاء الباحثات لمظاهر التدين والروحانية النسائية في القرون الوسطى بأوربا کإرهاصات لوعي نسوي كامن ورغبة في الاستقلالية وتمكين الذات وكمقاومة للأبوية الطاغية والمعاداة للنساء في هذه العصور – حتى وإن لم يكن هذا الوعي أو هذه الممارسات أخذت شكل ’حركة‘ متسقة لها مسمى أثناء الماضي، لأن من موقعنا اليوم نستطيع أن نفسر ظواهر هذا التاريخ الثقافي ونسميه. يرجع الفضل للمؤرخة جردا لرنر صاحبة المصدرين الرئيسين: خق الأبوية ( Gerda Lerner, The Creation of Patriarchy, 1986) وخلق الوعي النسوي (The Creation of Feminist Consciousness, 1993) في إلقاء الضوء على “تاريخية” الأبوية منذ الإغريق وتحولها إلى نمط اجتماعي عتيد وما يشبه مؤسسة ضاربة بجذورها في العصور القديمة، ثم تزامن ذلك مع بزوغ من وقت إلى آخر “وعى نسوي” اتخذ أشكالاً غير مباشرة أحيانًا، وتحيلنا إلى وجود ما تحسبه رائدات مبكرات لهذا الوعي والإدراك في المجال الروحاني والزهد والرهبنة مثل الراهبة الألمانية هيلدجارد دي بنجن (Hildegard de Bingen) في القرن الثاني عشر الميلادي التي صوّرت في كتاباتها الكنيسة كأم وأصرت على وحدة العناصر الذكرية والأنثوية في الكون والحياة في تضاد مع التفكير الأبوي الثنائي والتراتبي السائد في عصرها، والراهبة الإنجليزية جوليان نوريتش (Julian of Norwich) في القرن الرابع عشر الميلادي المشهورة بفكرة “تأنيث الثالوث” الراديكالية، وغيرهما كثيرات اعتبرتهن جردا لرنر معالم على مسيرة التاريخ للمقاومة وتأكيد الذات والبحث عن المساواة والتحرر من قيود أبوية المجتمعات التي عشن فيها.
وحتى ما بعد القرون الوسطى، أي ما يعرف بعصر النهضة والإصلاح بأوربا من القرن الخامس عشر وحتى السابع عشر الميلادي، تؤكد لنا روزماري روثر أن البروتستانتيين الذين انتقدوا كنيسية القرون الوسطى ونادوا “بأنسنة” (humanistic) دراسة النصوص الدينية لم يطبقوا ذلك على قضية علاقات النوع، بل العكس؛ تم استخدام النقد “الإصلاحي والإنساني” (Reformation humanist critique) لترسيخ علاقات النوع التقليدية. والوحيدة التي كتبت من منطلق التعليم و التفكير “الإنساني” الجديد في ذلك الوقت هي الإيطالية كريستين بيزان Christine de Pizan)) في القرن الخامس عشر الميلادي التي نادت بالإنسانية الكاملة للنساء ودافعت عن قابلية المرأة للفضيلة ضد الحط من شأن النساء الذي عبّر عنه كل من القساوسة والشعراء، وذلك في كتابها مدينة السيدات (Christine de Pizan, City of Ladies). أما تطور الليبرالية والاشتراكية في آخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر فلم يسفر عن تطوير حقيقي لمفاهيم عدالة النوع لأن التركيز كان على محاربة هيمنة الأرستقراطية والطبقة الرأسمالية عن طريق تكريس السيطرة الذكورية.
مع ظهور “الموجة الأولى” للحركات النسوية في أواخر القرن التاسع عشر التي نادت بحقوق المرأة المساوية في التعليم والمِلكية والحقوق المدنية والسياسية، بدأت أيضًا جهود منظَّمة للاعتراض على منظومة التمييز بين الجنسين في العلوم المسيحية أو اللاهوت المسيحي، ومن الكتابات التي تعتبر علامة لا يمكن تجاهلها على طريق “النقد الإنجيلي” (Biblical Criticism)، رغم راديكاليته، كتاب إليزابيث كادي ستانتون إنجيل المرأة (Elizabeth Cady Stanton, The Woman’s Bible, 1895 ) التي ركزت فيه على نصوص بعينها من الإنجيل ضد المرأة وانتقدتها بشدة إلى حد رفضها الصريح لقدسية أو ألوهية الإنجيل والتلويح إلى أن هذه الآيات نتاج تمييز جنسي بشري. ورغم هذا الموقف المتطرف الرافض للمصدر الإلهي الأول للإنجيل والذي لم ينتهجه التيار الرئيسي لباحثات اللاهوت النسوي في العصر الحديث والمعاصر، فإن هذا التوجه النصي في مسائلة النصوص المقدسة وتحدّيها قد فتح الباب بعد ذلك لهؤلاء الباحثات ليخضن مجال “علم التأويل” أو “الهرمينوطيقا” (Biblical hermeneutics)، والعكوف على تفاصيل تأويلات هذه النصوص– التي اعتبرها علم اللاهوت الذكوري مصدرًا ومسوغًا إلهيًا للتمييز ضد المرأة وتهميشها– لمراجعتها وإعادة تأويلها ولكن مع الاحتفاظ بالإيمان بمصدرها الإلهي المقدس.
يتضح مما سبق أن جزءًا كبيرًا من تاريخ الوعي النسوي في أوروبا وأمريكا قد انبثق من المدار الديني أو تفاعلاَ معه، وأن البحث النسوي السائد في تفسير الإنجيل ( feminist Biblical interpretation) يهدف عادةً إلى الجمع بين تجربة الإيمان الديني الخاصة للنساء وإحساسهن بالتمييز والاعتراض من ناحية، والمكوث داخل إطار العقيدة والالتزام بثوابتها من ناحية أخرى، عن طريق إصلاح الخطاب الديني أحادي النظرة (من منطلق تجربة الرجال فقط وتحقيق مصالحهم)، لإدراج وجهة نظر المرأة المسيحية المؤمنة.
تنقسم الباحثات المسيحيات النسويات إلى مجموعات متباينة فيما يخص اتجاهاتهن الفكرية ومواقفهن من المادة التي يدرسنها:
(أ) النسويات الإنجيليات أو البروتستانت (Biblical or Evangelical feminists). وهن يؤمنَّ بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله المعصومة، الذي لا يأمر بنمط الأبوية كمثال إلهي، بل بالمساواة والتبادلية بين الذكر والأنثى، وأن النصوص التي قد تعتبر تحيزًا ضد المرأة جاءت كتوصيف للوضع القائم المترتب على الخطيئة والخروج من الجنة (the Fall)، وليس كتوجيهات مفروضة أو إرشادات لما يجب أن يكون. وإذا كان الرب قد أظهر نفسه من خلال وأثناء ثقافة ذكورية أبوية كانت قائمة بالفعل، فإن التطبيق التدريجي لتعاليم الإنجيل راعي تلك الأعراف في زمانها، ولكن المبادئ الأصلية يجب أن تؤدي في النهاية إلى التكافؤ والمساواة في البيت والكنيسة والمجتمع. هذا إذًا منهج يعتمد على ’تاريخانية‘ الكتاب المقدس، أي السياق الزمني التاريخي المحدد (الاجتماعي والثقافي) وقت كتابته.
(ب) النسويات الإصلاحيات ويمثلن الاتجاه السائد، فرغم اعتقادهن أن الإنجيل يمثل رسالة الله إلى الجماعة المؤمنة، إلا أنه ليس نفسه كلمة الله المعصومة، لأن معظم نصوصه تكرّس الأبوية، ولذا لا يجوز اعتبارها وحيًا إلهيًا مباشرًا، ولكننا سنجد إرادة الرب الحقيقية من خلال مبادئ عامة وأفكار الافتداء والخلاص من الخطيئة، وكذلك في شخص وحياة المسيح المخلّص الذي جاء ليعتق البشرية من كل أشكال الخطايا ومنها الأبوية. وفي ضوء الرؤية التحررية لبعض الآيات – مثل “سفر التكوين” (٢٧:١) التي تشير أن الله خلق الإنسان الذكر والأنثى على صورته، و“غلاطيا” (۲۸:۳) التي تنفي التفرقة بين اليهودي واليوناني، أو بين العبد والحر، أو بين الذكر والأنثي، لأن “الكل واحد بيسوع المسيح” – يجب على المسيحيين أن يسعوا لتحقيق التحرر والحقوق المساوية للمرأة في كل المجالات: البيت والعمل والكنيسة. كما يبحثن صاحبات هذه المدرسة في إمكانية تحييد اللغة ’المجازية‘ المستخدمة للإشارة إلى ’الإلهي‘ لتضم المؤنث والمذكر (رغم أن الله يتجاوز نطاق التمثّل الجنسي فعليًا)، ويطالبن باستعادة والتأكيد على قصص النساء في الإنجيل. وأجمع المحللون على اعتبار روزماري روثر السابق ذكرها تتحرك داخل هذا التيار وخلال هذه المنهجية، حيث تسعى من داخل الكنيسة إلى إصلاح خطاباتها وآراءها حول علاقات النوع وأحقية السلطة الدينية.
(ج) النسويات الراديكاليات/ الثوريات؛ وهن شقان: الشق الأول مسيحي راديكالي، وهن يسلمن تسليمًا صريحًا أن كل من الأبوية والتحيز الذكوري القومي يطغى على الإنجيل، ولا مجال لمحاولة التماس المساواة استنادًا على نصوص إنجيلية أو أي ثرات مرتبط بالكتاب المقدس. يجب إذًا التوجه إلى محورية تجربة المرأة فيما يسمينه “كنيسة المرأة” (women- church)؛ وهي جماعة مسيحية مؤمنة ومناصرة للنساء خاصة، تسعى إلى التحرر من القهر الأبوي، وهن يعتقدن أن هذا التيار كان دائمًا متواجدًا منذ أيام المسيح، ولكن تم طمسه في صفحات ونصوص العهد الجديد، لذا قد لا يثقن في سلطة النص الإنجيلي ولا يتعاملن معه. ومن الأسماء الرائدة في هذا الموقف إليزابث فيورنزا. أما الشق الثاني فهو خارج المسيحية ومتجاوز لها (post- Christian)، لأن الباحثات هنا لم يدعين فقط إلى طرح سلطة الإنجيل جانبًا، ولكن أكثر من ذلك رفض المسيحية كعقيدة ومنظومة ميئوس منها، ثم إحداث ثورة روحية تغير المعايير تمامًا لإعادة اختراع ديانة وآلهة جديدة، مثل ماري دالي المذكورة سابقًا.
قبل التطرق إلى خلفية المسمى أو الاصطلاح نفسه، نوضح أنه في ضوء ما سبق يشير المفهوم إلى تضافر الوعي النسوي بالتمييز ضد المرأة وبمسألة النوع (التراتب بين الجنسين لتأسيس طبقة مهيمنة وطبقة أدنى)، مع تفعيل وتطبيق مبادئ العدل و الكرامة الإنسانية المتساوية للنساء والرجال داخل المنظومة الإسلامية نفسها بمبادئها وشريعتها ومقاصدها، أي أن المرجعية القيمية الإسلامية قائمة وكذلك ثوابت العقيدة مع تبني منظور نقدي تحليلي للخطابات والعلوم الدينية، تغربل مفاهيم أولوية الرجال وهامشية النساء. هذا المنظور الذي ينتج عن الموقع الاجتماعي الخاص للمرأة المسلمة وعن معايشتها لعلاقات القوة المتفاوتة في الجماعة والمجتمع، يهدف إلى الإدراج والتضمين بعد الإقصاء. وهناك أمثلة متعددة لهذا المفهوم المركب في التراث تشير إلى تحرّي النساء في المجتمع الإسلامي المبكر المساواة في التواجد والحضور والتعبير عن النفس،5 كما أن التاريخ الحديث لرائدات عربيات كثيرات منذ نهاية القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين يبين أنهن كن معنيات ليس فقط بقضية الفجوة بين المبادئ الإسلامية النظرية من ناحية والواقع الاجتماعي والثقافي وحقوق التعليم والعمل العام من ناحية أخرى (مثلاً ملك حفني ناصف، أو حتى زينب الغزالي وعائشة عبد الرحمن اللتين طرحتا مفهوم التحرر الإسلامي للمرأة)، ولكن أيضًا ناقشن واجتهدن في الخطاب الديني نفسه (مثل عائشة تيمور ونظيرة زين الدين، فالأولى قدمت مفهوم القوامة المشروطة ضد القوامة المطلقة، والثانية فندت خطاب نقص العقل والدين).6 أما زينب فواز وقدرية حسين فاهتمتا بإعادة إبراز دور النساء المنسي في التاريخ الإسلامي، رغبة في التأصيل للمطالبة بالتمكين والفاعلية في المجال العام.7 ولم تكن معظم رائدات العمل النسائي في مصر والبلاد العربية الأخرى اللاتي ارتبط نشاطهن بالسياق الوطني والإصلاحي الليبرالي في مطلع القرن العشرين بعيدات تمامًا عن افتراض الحقوق الشرعية والمرجعية الإسلامية.8
من أين إذًا أتت عبارة “النسوية الإسلامية“، وإن لم تستخدمه هؤلاء الرائدات اصطلاحًا، ولكن طبقنه كفكرة ومنظور ووعي؟ أطلقت التسمية في بادئ الأمر ومنذ تسعينيات القرن العشرين على محاولات الناشطات الإيرانيات في الفترة التي أعقبت الثورة الإسلامية، انتزاع حقوق قانونية شرعية من داخل إطار المنظومة الفقهية الشيعية، كما شرحت ذلك هالة أفشار، وكانت من أوائل من لفت الانتباه إلى تلاحم الالتزام الديني العميق لهؤلاء النساء، وبزوغ وعي قوي بالحقوق المغيّبة وسوء تطبيق الشريعة، مما نتج عنه استخدام الشريعة الإسلامية نفسها التي أسستها الجمهورية الإيرانية مرجعًا أيديولوجيًا لإقرار قوانين لصالحهن.9 وفرقت عزة كرم 10 في دراستها الرائدة في نهاية التسعينيات بين النسوية الإسلامية والنسوية المسلمة والنسوية العلمانية، من حيث التوجه إلى استخدام المصادر والنصوص الدينية كمرجعية مساندة للمطالب والحقوق، أو التوجه إلى الخطاب العالمي لحقوق الإنسان والقوانين المدنية والمواثيق الدولية دون التعويل على المفاهيم الدينية. ثم كان الجمع المباشر بين طرفي المسألة في كتاب بعنوان النسوية والإسلام: رؤى قانونية وأدبية (Mai Yamani, Feminism and Islam, 1996) حررته مي يماني، يضم مجموعة من الأوراق، وكان الهدف منه استكشاف نوعية الأبحاث التي يمكن أن تنتج عن هذا الربط وعن صياغة نسوية تكون على حد قول مي يماني في المقدمة “إسلامية في الشكل والمضمون“. لذا قدمت المقالات دراسات في محاور التاريخ والثقافة والسياسة والقانون. بعدها وردت العبارة في عنوان كتاب للباحثة الضالعة في شئون النساء في الشرق الأوسط إليزابيث فيرنيا في البحث عن النسوية الإسلامية (Elizabeth Fernea, In Search of Islamic Feminism, 2000)، الذي كان في معظمه سردًا توصيفيًا لرحلة الكاتبة ومقابلاتها لنساء مسلمات ناشطات في مجال قضايا المرأة الاجتماعية والقانونية والحقوقية داخل مجتمعاتهن ذات الأغلبية المسلمة وعلى أرض الواقع، ولم يتطرق إلى مفاهيم أو تحليلات نظرية. أما كتاب ميريام كوك نساء يطالبن بأحقيتهن للإسلام: صياغة نسوية إسلامية من خلال الأدب (Miriam Cooke, Women claim Islam, 2001)، فقد كان هدفها الرئيسي تحليل أعمال روائية ومذكرات لمبدعات عربيات مثل نوال السعدواي وآسيا جبار وفاطمة المرنيسي وزينب الغزالي، باعتبارهن نساء من خلفيات مسلمة، واستخدمن في أعمالهن المختلفة التاريخ الإسلامي أو موضوعات مرتبطة بالإسلام لمقاومة التهميش في الثقافة العربية والمطالبة بالمشاركة والمواطنة الكاملة للمرأة في مجتمعاتهن العربية. في سياق دراستها لنصوص هؤلاء الكاتبات، قدمت كوك تعريفًا لما تقصده ب “النسوية الإسلامية“، ركزت فيه على عنصري المنظور النقدي و’تموقع الصوت‘ ، بمعنى نفي أن تكون الظاهرة تعبر عن هوية ثابتة أصيلة، بل تشير إلى اتخاذ ’موقع‘ للخطاب قد يتغير أو يتشكل حسب الغرض التكتيكي من استخدامه وتوظيفه، كنا أنه واحد من عدة مواقع محتملة أخرى، أي أنها كانت تقترب أكثر من دائرة التعريف والتنظير لقضية الجمع بين فكرتي النسوية والإسلام؛ “الانتماءات المتعددة” أو “صعوبة الالتزام المزدوج” (Cooke, p.59) للإيمان الديني من ناحية وحقوق المرأة من ناحية أخرى. ورغم مساهمتها المبكرة في طرح هذه القضية، إلا أن إقصاء بُعد الهوية والتعامل الجدي المتسق مع التراث الإسلامي يثير إشكالية استخدام الدين للمصلحة وتوظيف مشروعية الخطاب الديني لتمرير مكاسب وحقوق آنية مما يصنف الظاهرة تحت الانتهازية السياسية أو النفعية، أكثر منها مشروع فكري معرفي أو موقف شخصي واضح إزاء المنظومة الإسلامية.
ثار بعض الجدل عقب ذلك مع بداية الألفية الثالثة في أوساط الباحثات المهتمات بهده الفكرة حول سلطة التسمية حين تأتي من موقع المراقب الخارجي (الدارس أو الباحث المحلل) مقابل أن تتبناها الباحثات المسلمات المشتغلات بإعادة تفسير المصادر الإسلامية لوصف أنفسهن ومشروعهن.11 ومن هنا بدأت مرحل التحليل والشرح المفصل لمغزى هذه الظاهرة التي طرحت عدم التناقض الأساسي بين الوعي النسوي والالتزام الديني، وعدم ضرورة الارتباط بين النسوية والعلمانية. وجاءت مساهمات تنظيرية لتوصيف وتحديد معالم وقضايا هذا التيار في شكله المعاصر، خاصة زيبا ميرحسيني في كتابها الإسلام والنوع (Ziba Mir-Hosseini, Islam and Gender: The Religious Debate in Contemporary Iran, 1999)، والتي نبهت فيه إلى بزوغ “نسوية أصيلة من الداخل” بدافع الشعور الديني. ودراسات مارجو بدران عن مسيرة الحركات النسائية في العالم العربي خلال القرن العشرين، ثم مؤخرًا تركيزها على رصد النسوية الإسلامية بالذات ومناقشتها لمسميات أخرى بدأت تُستخدم مثل “جهاد النوع (الجندر)” أو “العمل النشط من أجل النوع” – أي اجتهادات إسلامية من أجل عدالة حقيقية بين الجنسين.12
يجدر التوضيح عند هذه النقطة بالتحديد أنه رغم الدور الرائد لكل من الدكتورة نوال السعداوي في السبعينيات، والباحثة الأنثروبولوجية المغربية فاطمة المرنيسي (الأولى في إلقاء الضوء بكل قوة على مشكلات المرأة العربية بسبب الأبوية والقهر والتبريرات الدينية الخاطئة، والثانية في فتح باب لنقد متعمق ومباشر للمصادر الإسلامية ومسائلة التراث والعلوم الدينية)، لم يعتبرا أنفسهما يومًا نسويات ’إسلاميات‘ على الإطلاق – سواء من حيث المصطلح أو المنظور والهوية. من المفارقة أن يشترك معهما في جزئية رفض تبني مُسمى ’نسويات إسلاميات‘ باحثات أخريات ينتجن خطابًا ومعرفة إسلامية من وجهة نظر المرأة المسلمة ومن أجل تحقيق العدل والمساواة والاحترام للنساء في الإسلام، ولكن يفضلن صياغة تسمية أخرى مثل “ناشطات/ باحثات مسلمات“.13 ومن هنا تبرز أبعاد ومستويات متعددة لهذه الظاهرة المعاصرة: کاصطلاح – كهوية – كمنظور – كخطاب عمدي واعي بذاته – كمعرفة بديلة. وهذا الجانب الأخير هو أكثر ما يميز التوجه البحثي للنسوية الإسلامية حاليًا: (أ) عدم الاكتفاء بالنقد والتفكيك من أجل التفكيك فقط، ولكن طرح تفسيرات واجتهادات جديدة، حتى يكتمل مشروع إعادة البناء، (ب) توسيع دائرة البحث والدراسة في مجال العلوم الدينية مثل التفسير القرآني والفقه وعلم الحديث والسيرة النبوية إلى التاريخ، والدراسات الثقافية، وتحليل الخطاب وجذور الأفكار والمفاهيم، وإبراز فاعلية النساء واجتهاداتهن في التاريخ الإسلامي، (ج) اتخاذ موقف أنطولوجي محدد إزاء المنظومة أو المرجعية الإسلامية، لا يتسم بالقطعية والازدراء ولكن بالانتماء والتأصيل، (د) تبني واعي لتيار فكري وناشط معاصر يهتم بقضايا المرأة والنوع في الإسلام.
ذكرنا أن جذور هذه النوع من الاجتهاد وُجد عند أمثال عائشة تيمور ونظيرة زين الدين، إلا أن التطور في إنتاج معرفة بشكل ’واعي‘ للمنطورين الإسلامي والنسوي في آن وإدراك أن هذه المعرفة جزء من تيار يتكون ويتنامى تم في الثلاثين سنة الأخيرة. في عام ۱۹۸۲، أفردت الدورية الأكاديمية المنبر العالمي لدراسات المرأة ( Women’s Studies International (Forum عددًا خاصًا عن “النساء والإسلام“، وساهمت نوال السعدواي وفاطمة المرنيسي بأبحاث حول ممارسات المجتمعات المسلمة، ولكن تميز مقال عزيزة الحبري – القانونية من أصل لبناني وتعمل بالولايات المتحدة – “دراسة في ’تاريخها الإسلامي‘: أو كيف وصلنا إلى هذا المأزق“، المترجم هنا، أنه ركّز على قضية دينية (ثيولوجية) محددة وهي سوء الفهم الفقهي والثقافي لمفهوم “القوامة“، فعرضت الباحثة تفنيدًا مبكرًا للتفسير التقليدي، وقدمت تأويلاً بديلاً يتسق مع الرسالة الأصلية للدين وروح الشريعة الإسلامية. كما ظهرت كتابات عديدة لرفعة حسن – أستاذة الدراسات الدينية بجامعة لويفيل بأمريكا، وهي من أصل باكستاني – تحاول فيها إعادة قراءة مفاهيم وتفسيرات سابقة لإثبات أن القرآن في حقيقة الأمر جاء بالمساواة بين الرجال والنساء ولا يتعارض مطلقًا مع العدالة والإنصاف وحقوق الإنسان، واهتمت خاصة بمواجهة الروايات الدينية عن دور حواء في قصة الخروج من الجنة أو خلقها من ضلع آدم، مما برر ممارسات اجتماعية واعتقادات ثقافية عن دونية المرأة أو وجودها الثانوي والمشتق عن الرجل، وبينت تناقض هذه التصورات مع آيات قرآنية واضحة تؤكد أن الرجال والنساء خلقوا مخلوقات متساوية في نظر الله سبحانه وتعالى، فنشطت رفعة حسن خلال الثمانينيات وبداية التسعينيات في نشر أبحاث ترفض استخدام القرآن لتعزيز الظلم والتمييز وتطرح تفسيرات بديلة لبعض الإشكاليات والمسائل الدقيقة في هذا المضمار. وأثناء الفترة نفسها تكونت مجموعة من النساء المسلمات الناشطات في ماليزيا تحت اسم “أخوات في الإسلام” وبدأن في النظر إلى القرآن بأنفسهن حتى يعرفن إذا كانت دونية النساء والتجني عليهن أفكارًا إسلامية أصيلة وإلى أي حد ممكن تبريرها خطأً بالمصادر الرئيسية للدين، ثم كيف نبرز وننبه إلى المساواة الكامنة في النصوص وليس التفاوت وحق الاعتداء، ثم تم نشر هذه المعالجات في شكل كراسات قصيرة سهلة التداول والقراءة وفي شكل إثارة أسئلة جوهرية مباشرة والرد عليها، من خلال مقاربة جديدة بسيطة. وهذا هو الجانب الريادي لهذه المنشورات، حيث قصدت البساطة والمنطقية في الطرح والاستدلال، بعيدًا عن المنهج التخصصي المعقد، لأن التوجه هو إلى الإنسان المسلم العادي، والهدف تقديم مادة سهلة ومفيدة في الدفاع عن حق المرأة المسلمة في المساواة والكرامة الإنسانية. أما من أكثر الكتب تأثيرًا وانتشارًا في تلك المرحلة الأولى هو القرآن والمرأة ( Amina Wadud, Qur’an and Woman, 1992) لباحثة وأستاذة الدراسات الإسلامية آمنة ودود الأمريكية المسلمة، وهو علامة مهمة من حيث إرساءه لمنهجية تأويلية لإعادة قراءة النصوص من منظور المرأة، تصحح المقاربات التقليدية التجزيئية المنفصلة عن أي سياق وبمعزل عن القيم الإرشادية الكلية للقرآن الكريم والتي أطلقت عليها (atomistic approach)، بمعنى التعامل مع الآيات كذرات منفصلة تدور حول نفسها، لا علاقة لها ببعض. اقترحت في المقابل منهج “المقاربة الشمولية” (holistic) وهي قراءة للنص الإلهي تعتمد الارتباط بين المبادئ العامة أو الكليات وبين المفردات، وتأخذ في الاعتبار كل من الرؤية الأخلاقية الشاملة للقرآن والسياقات التي نزل فيها الوحي عند تدبر معاني الألفاظ والتعبيرات القرآنية لاستخلاص معاني المساواة والعدل والكرامة. كما فرّقت آمنة ودود في كتابها الأول هذا بين ما يصرح به القرآن الكريم من ناحية وبين البنى الاجتماعية في المجتمعات المختلفة التي تتكون تاريخيًا وسياسيًا. وتنتمي لهذه المرحلة كذلك دراسة أميمة أبو بكر عن تحليل التفاسير المتعاقبة لآية أو عبارة بعينها لرصد مسيرة وتراكم الأفكار المنحازة ضد النساء والتوسع فيها عبر عقود وقرون حسب الآراء الشخصية للمفسر وسياقه الزمني والثقافي، وذلك بهدف فهم أين وكيف حدث سوء الفهم، (والدراسة مترجمة ويتضمنها هذا الكتاب).
الملاحظ إذًا أن البدايات كانت في التأكيد المتكرر على الفصل بين الدين والموروثات التاريخية، وفي العكوف على التعامل المباشر مع نصوص قرآنية محددة، تحتوي على قضايا إشكالية كما قدمها المنظور الفقهي الذكوري، ثم إعادة تأويلها، مثل تحرير مفاهيم “الدرجة” و “القوامة” و“الضرب” و“النشوز” و“الطاعة“، وموضوعات خلق المرأة وتصوير النساء في القرآن… الخ. أي التركيز على محورية النص القرآني الخالص كمصدر أولي ورئيسي ونص إلهي متسق، لم يطبقه الفقه التقليدي كما يجب في مجال العدالة والكرامة المتساوية للجنسين. الملاحظ أيضًا أن هذه المحاولات المبكرة، قام بها نساء متخصصات في الدراسات الإسلامية والقانون وتحليل الخطاب، ومهنتهن تدور حول البحث المتخصص والدراسة في العلوم الدينية، ولا تنحصر المسألة فقط في انتمائهن للدين الإسلامي أو استخدامهن العابر لبعض الأمثلة من التراث لتعزيز المطالبة بحقوق المرأة، فقد بدأن يشكّلن تيارًا معني بإنتاج معرفة دينية تجديدية بديلة.
تميزت المرحلة التالية بمزيد من هذا التراكم البحثي والعلمي والتوسع في مجال الهرمينوطيقا – أي تأويلات النصوص الدينية – لنفي الأبوية والتحيز الذكوري عن القرآن، من خلال دراسات أكثر تعمقًا وشمولاً وتنظيرية، مثل كتاب أسما برلس الممتاز النساء المؤمنات في الإسلام: فض التفسيرات الأبوية للقرآن، الذي طبقت فيه منهج “نقض خيوط القراءة الأبوية” للقرآن والإسلام، لتثبت أن القرآن الكريم ليس نصًا أبويًا ظالمًا، ولكنه نزل على شعوب ومجتمعات كانت أبوية بالفعل، ولذا فُهم وفُسر كذلك، وتقول أسما برلس أنها تهدف إلى “استعادة الأساس النصي للمساواة بين الجنسين في الإسلام، ومن ثم الدفاع عنه ضد زعم كل من المسلمين المحافظين [التقليديين] والنسويات أن الإسلام ما هو إلا أبوية دينية ’يقدم نماذج من العلاقات التراتبية وعدم المساواة بين الجنسين‘ ولذا ’يضع ختمًا مقدسًا على الخضوع الأنثوي‘” (Asma Barlas, “Believing Women” in Islam, 2002, p.203). والعبارات المنصصة الداخلية اقتبستها أسما برلس من كلام سابق لفاطمة المرنيسي. أما كتاب نوافذ الإيمان تحرير جيزيلا ويب ( Gisela Webb, Windows of Faith, 2000) الذي ترجمته دار الفكر بدمشق، ونشرته بعنوان دعونا نتكلم عام ٢٠٠٢، فهو يضم مجموعة من الأبحاث الجادة في مجالات الدراسات القرآنية، وقوانين الشريعة والأدب والروحانيات والنشاط الحقوقي، وساهمت فيه بأوراق بعض الأسماء التي ذكرناها في البداية، والتي استمرت في بلورة مواقفها ورؤيتها لهذا الحقل وتطوير وتعميق أفكارها، مثل آمنة ودود التي كتبت مقالاً بعنوان “تفسير قرآني بديل ووضع المرأة المسلمة“، وعزيزة الحبري “مدخل إلى حقوق المرأة المسلمة“، ورفعة حسن “حقوق الإنسان في المنظور القرآني“. وتميزت خاصة دراسة ميسم الفاروقي “الهوية الذاتية للمرأة في القرآن والشريعة الإسلامية” التي طرحت فيها اجتهادًا تفسيريًا لآيتي ۳۲ و ٣٤ من سورة النساء، لإعادة فهم عبارة “فضَّل” بالذات، ونفي أن المقصود انحياز إلهي مسبق لجنس الرجال أو تفضيل شامل، وهي دراسة تحليلية متعمقة ومتأنية، تتخذ من المنطق القرآني نفسه وتسلسل أفكاره وسياقات المقاطع والوحدات التي ترد بها الآيات، وتواتر ألفاظ معينة بنفس المعنى في آيات أخرى أو بمعنى مختلف … إلى آخر هذه العوامل ’النصية‘ – تتخذ من كل ذلك مرشدًا ودليلاً للوصول إلى تفسيرات مختلفة. بينما ركزت باحثات أخريات على التراث الفقهي والأحكام الشرعية واستنباط القوانين في كتابات المراجع الفقهية للقدماء للتعرف على منطق مناهجهم في الاستنباط والاستدلال والاشتباك النقدي البنَّاء مع التراث الإسلامي من أجل إنتاج فكر ديني متجدد وحيوي، مثل أستاذة العلوم الدينية الأمريكية المسلمة كيشا على في كتابها أخلاقيات الجنسانية والإسلام: تأملات نسوية في القرآن والحديث والفقه ( Kecia Ali, Sexual Ethics and Islam: Feminist Reflections on Qur’an, Hadith and Jurisprudence, 2006)، والتي ترى أن منهجيات التراث الفقهي والقانوني بمراعاتها للسباقات الزمنية والمجتمعية المعاصرة وقتها تصلح أرضية مشروعة لمقاربة مرنة للدين الإسلامي، أفضل من الاعتماد فقط على التفسير الحرفي لنصوص المصادر.
نشير في هذا السياق كذلك إلى الأعمال العربية الحديثة التي ظهرت لعلماء دين ومفكرين رجال حاولوا فيها مساندة حقوق المرأة المسلمة ودعم منظور إسلامي عصري ضد تحريم الاختلاط وضد معارضة اشتراك النساء في الحياة العامة وعزلهن، منها موسوعة تحرير المرأة في عصر الرسالة لعبد الحليم أبو شقة (1995)، وقضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة لمحمد الغزالي (۱۹۹۱)، المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء (۱۹۹۸) لجمال البنا، وهي أعمال لها أهميتها في تقديمها تأصيلا دينيا مستنيرا ورغبة صادقة في إنصاف المرأة في المنظومة الإسلامية، فقدم جمال البنا مثلاً اجتهادات في قضايا متنوعة مستندة إلى النظرة القرآنية للمرأة “كإنسان” أولاً موضحًا أن الكثير من التراث الفقهي يقر بإنسانية المرأة نظريًا ثم يمضون إلى تجريد هذا الحق من مضمونه في مجال التطبيق العملي واستنباط الأحكام، واهتم الشيخ الغزالي بالدفاع عن الإسلام والرد على هجوم واتهامات الغرب الاستشراقي بالتخلف والظلامية، وإن لم تخلو هذه الإسهامات من استخدام مسألة ’الاختلاف البيولوجي‘ لتبرير عدم التساوي في المجال الاجتماعي والأسري، كما بيّن نصر حامد أبو زيد في دوائر الخوف (٢٠٠٤) عند نقده لقصور هذا الخطاب الديني “المعتدل” لأنه لا يزال يميز ضد المرأة بالتركيز على طبيعتها البيولوجية الجوهرية أو فطرتها المغايرة. ويعني ذلك أن هذه الكتابات يغيب عنها منظور النوع كأداة تحليلية (أي تمحيص فكرة التنميط الاجتماعي والثقافي لأدوار وطبائع الجنسين لتكريس التراتب والتمييز)، كما لم يتطرق أصحابها إلى مسألة حق المرأة المسلمة نفسها في الاجتهاد والبحث الديني ووجهة نظرها في قضاياها، وهي بالطبع قضية نسوية بالأساس ظهرت في بعض كتابات فريدة بناني القانونية المغربية عندما كتبت عن وجوب مساهمة المرأة العربية المسلمة “في المجال الديني والإدلاء بوجهة نظرها/ باجتهادها في كل المواضيع التي تتناول وضعيتها سواء داخل الأسرة أو داخل المجتمع، حتى تصبح بذلك صوتًا مسموعًا في النقاش الديني… صوتًا يؤخذ بعين الاعتبار في تشريع القوانين التي ستطبق عليها” (ص 165).14 كما نشرت دراسة تفند مفهوم تقسيم العمل بين الجنسين الذي يُعتقد خطأ أنه تشريع إسلامي وليس مجرد ثقافة مجتمعية: تقسيم العمل بين الزوجين في ضوء القانون المغربي والفقه الإسلامي (1993). والدكتورة زينب رضوان أستاذة العقيدة والفلسفة الإسلامية كتاب مبسط ظهر في فترة مبكرة بعنوان الإسلام وقضايا المرأة (١٩٨٨)، تدعو فيه إلى المساواة كأساس للعلاقة الزوجية في الإسلام من خلال الإشارة إلى دلالة اللفظ القرآني المتكرر “زوج” لوصف جنسي البشرية بما معناه نصفان أو شطران يطابق كل منهما الآخر تمامًا، كما قدمت تفسيرًا يتفق مع عزيزة الحبري للقوامة المشروطة المتغيرة تبعًا لتغير الظروف واختلاف الصفات والأحوال، وخلصت إلى جواز قوامة بعض النساء على بعض الرجال إذا كانت لديهن صفات يُفضَّلن بها، وتكون مبررًا وسببًا لقوامتهن (ص ٨١)، وقد خصصت لتلك المسألة بالتحديد كتيبًا طبع في ٢٠٠٥ بعنوان التفسيرات الخاطئة للدين كأحد معوقات التنمية أمام المرأة، والذي حمل رؤيتها بأن قوامة المرأة على الرجل في أحيان كثيرة جائزة وحلال شرعًا. أما مجموعات الأبحاث التي قدمتها باحثات جمعية دراسات المرأة والحضارة في السنوات الثلاث الأولى من الألفية الثالثة، فقد تم طرحها في نطاق موقف واضح: “منظور إسلامي للمعرفة النسوية“. أما أحدث كتاب ظهر مؤخرًا ويعتبر مثالاً على معرفة دينية من منظور نقدي لباحثة أكاديمية وأستاذة في اللغة العربية والحضارة الإسلامية من العالم العربي هو حيرة مسلمة (٢٠٠٨) للتونسية د. ألفة يوسف التي تمشكل فيه بعض القضايا الدينية مثل الميراث والزواج من خلال تمحيصها لمعالجات المفسرين والفقهاء التي تثبت تناقضاتها الصارخة وتعارضها مع مقاصد الشريعة أحيانًا بل ونصوص القرآن نفسه. ولعنوان الدراسة دلالة مهمة، حيث أن الطرح العام يشير إلى أمرين: الأول أن الدراسة كما في قولها “قراءة متسائلة” ناجمة عن “حيرة فكرية” بسبب التعارض بين “قراءة المفسرين المنغلقة غالبًا من جهة وانفتاح القرآن والسنة لقراءات اجتهادية شتى من جهة أخرى” (ص 61)، فهي تشرك القراء معها في هذه الحيرة، والثاني فكرة منظور “المسلمة” عندما تفكر وتدرس دينها بنفسها. لا نتطرق لهذه الكتابات بالتفصيل في سياق هذا العرض، حيث أنها منشورة وموجودة بالعربية، في حين أن الهدف من هذا الكتاب كما أوضحنا ترجمة وإتاحة مادة في مجال النسوية والدراسات الدينية من لغات أخرى إلى العربية، والتقديم لها ولخريطة الإنتاج البحثي خارج النطاق العربي.
بالنسبة لذلك السياق إذًا وللتعرف على الشكل العام لدراسات النسوية الإسلامية منذ عام ۲۰۰۰ حتى الآن، نجد أنها تنقسم إلى شقين: واحد معني برصد الظاهرة وتعريفها وتسميتها وتحليل أفكار الباحثات اللاتي يكتبن في هذا الاتجاه، مثل أعمال مارجو بدران وميريام كوك وزيبا ميرحسيني وأميمة أبو بكر وأخريات كثيرات؛15 والثاني هو تطبيق فعلي لمنظور وفكرة النسوية الإسلامية في إنتاج معرفة دينية من وجهة نظر المسلمة الباحثة والمتخصصة، التماسًا للعدل الإلهي. بينما ظهرت دراسات كثيرة في مجال الهرمينوطيقا (التأويل الديني) تتقصى تعدد التفسيرات لآيات بعينها لرصد تشكُّل الخطاب الديني حول مفاهيم التفرقة بين الجنسين ودونية المرأة،16 تطرقت أخرى إلى القواعد المنهجية والافتراضات الفكرية لعملية التأويل نفسها وإلى التنظير لمبادئ وآليات تفسيرية أرحب تخرج الباحثات والمفسرات من أسر الدوران في الحيز الضيق لما هو المعنى المحدد لكلمة أو عبارة أو حرف إلى المجال الأوسع الذي يسترشد بروح النص والقصد الإلهي الأشمل. تناقش بعض الباحثات بجرأة محدودية التفسير النصي لبعض الآيات، وفشل هذه المنهجية التبريرية في الوصول إلى حل مشكلات المفاهيم والتشريعات التمييزية، مثل آمنة ودود في كتابها الأخير من داخل جهاد النوع، عندما طرحت فكرة تجاوز حرفية النص القرآني تمامًا في بعض الأحيان، واعتباره “عتبة” تعبر بنا إلى مساحات أوسع أو “نافذة” مفتوحة نطل منها على عوالم أخرى. وهذا بالطبع موقف أكثر راديكالية من موقفها السابق حيث تتحدث عن الولوج إلى مرحلة “ما بعد النص” (Amina Wadud, Inside the Gender Jihad: Woman’s Reform in Islam, 2006, p.192) واعتبار القرآن إشارة للأمام لنمض في مسارات متطورة أكثر ومواكبة للأزمان المتعاقبة. وعلى نفس المنوال ترى كيشا علي (في كتابها المذكور أعلاه) أن القرآن نفسه يحثنا أحيانًا على تجاهل تطبيقه حرفيًا حتى نستطيع تحقيق العدل الكامل (Kecia Ali, p.55)، فهو كنص منزّل على الأرض له حدوده في التنفيذ العملي ويبقى “ظلاً للحقيقة الأعلى” (Kecia Ali, p.134) “ونقطة انطلاق” للتطور الأخلاقي للإنسانية وليس المنتهى ( Kacia Ali, p.150). ورغم الفائدة الفعلية التي ممكن أن تنتج عن هذه النظرية التأويلية، إلا أن هذا الاتجاه في رأيي ينقلنا من التطرف السلفي المتشدد في التطبيق الحرفي الضيق إلى التطرف النقيض في تعطيل وتقويض التنزيل الإلهي، وتفريغ كلمات القرآن من أي محتوى حقيقي أو معنى يؤخذ بجدية.
خلاصة القول في البحث النسوي الإسلامي أنه نوع من أنواع المقاومة الفكرية ومشروع ’إحيائي‘ للإصلاح والبناء في العلوم الدينية والمجتمع: (۱) مقاومة للتفسير الأبوي والاستشراقي للإسلام الذي يعضد بعضه بعضًا وللاحتكار الذكوري للمعرفة الدينية؛ (۲) مقاومة تهميش صوت النساء المسلمات وإقصائهن عن الحق في الاجتهاد والإفتاء والقيادة؛ (۳) مقاومة احتكار المؤسسات الغربية للتنظير والبحث في مجال المرأة والإسلام؛ (4) معارضة التطرف النسوي العلماني الذي يقصي المرجعية الدينية تمامًا من رحلة البحث عن العدالة والمساواة؛ (5) التضامن مع ومساندة الحركات النسوية الدينية الأخرى؛ (6) وأخيرًا مقاومة كل أشكال السلطوية والظلم وإهدار العدالة والكرامة الإنسانية.
سمات مشتركة أو متشابهة نلاحظها في كل من المسيرتين وفي القضايا المتناولة. بالنسبة لمسيرة النشأة والتطور: (1) مر كل من الوعي النسائي/ النسوي المسيحي والإسلامي بمرحلة تاريخية مبكرة، بدءًا بالقرن التاسع عشر، هي مرحلة الجذور الحديثة للمرحلة التالية، التي تحددت وتبلورت أكثر في آخر القرن العشرين؛ (۲) استكمال باحثات الموجة الثانية مشوار التأويل الديني واستلهام رموز المرحلة الأولى، بل واستدعاء أو تسليط الضوء على مشاركة النساء المتساوية داخل الجماعة المؤمنة منذ بداية التاريخ المسيحي والإسلامي في تأسيس الدين والعمل العام؛ (3) في كلى الجانبين رصد المحللون أن الأيديولوجيات العلمانية والليبرالية (بمعنى التي تنأى بنفسها عن الإطار الديني تمامًا) لم تنتج وعيًا أو اجتهادًا نسائيًا/ نسويًا في الفكر الديني، فمثلاً لم يطبق رموز وكتّاب النهضة الأوروبية وحركة الإصلاح (ق14 – ق۱۷) النقد البروتستانتي لكنيسة العصور الوسطى أو المطالب ’الإنسانية‘ (humanistic) على إعادة قراءة النصوص الدينية أو على علاقات النوع الاجتماعي، بل أن أفكار تلك الحقبة استُخدمت لترسيخ أدوار النوع التقليدية ( Ruether, p.5). كما أن علمانية بلد مثل فرنسا حاليًا، المعروفة بعدائها للموروث الكاثوليكي، لم تشجع ظهور أي حركة للاهوت النسوي، ومن النادر أن نرى باحثات وعالمات دين في مراكز بالمعاهد الدينية في ألمانيا (Ruether, p.12). وهذا يذكرنا بمواقف بعض رواد النهضة البارزين في مصر، الذين حملوا لواء الليبرالية المصرية مثل قاسم أمين والإمام محمد عبده وأحمد لطفي السيد، الذين رغم فكرهم العام المناصر لتحديث مكانة المرأة المصرية، بثوا خطابًا رجوليًا حول دونيتها بالنسبة للرجل ومسئوليتها الكاملة عن تخلف الشرق،17 كما كرسوا لمنظومة نمطية تثبِّت أدوار الجنسين حول الطبيعة الفطرية لكل من الرجل والمرأة. بينما يرى كل من فرانسوا بورجا وجون اسبوزيتو أن من إرهاصات الصحوة الإسلامية أو المد الإسلامي العام الذي انتشر منذ حقبة الثمانينات هو ظهور نساء متعلمات وذوات اهتمام خاص بالفكر الإسلامي يرغبن في تمحيص وبحث التراث الديني بأنفسهن؛18 (4) هناك أيضًا عنصر المفارقة المشترك؛ فقد أدى تشدد وصلابة موقف الكنيسة الكاثوليكية ضد رسامة المرأة وكثير من قضايا المساواة الأخرى إلى خلق تحديًا وتحفيزًا لنساء مسيحيات مؤمنات أن يعدن تقييم الموروث وتأويله، وعلى الجانب الإسلامي استفزت التيارات ’السلفية الجديدة‘ – المغالية في قضايا المنع الكامل للاختلاط بين الجنسين وعزل النساء وتحجيم أدوارهن والترسيخ لفكر عدم الاعتبار للمرأة بسبب طبيعتها الفطرية المتأصلة وضعفها – شريحة من المسلمات للدراسة وإنتاج فكر ديني تحرري مضاد، كما أن تصاعد الاستشراقية الجديدة ضد ’المرأة المسلمة‘، ومد (فوبيا) الإسلام – أو هوس الخوف من والكراهية للإسلام – بعد أحداث سبتمبر ۲۰۰۱، أفرز رد فعل، وإن كان بعضه سطحيًا ودفاعيًا لتصحيح صورة المرأة في الإسلام على المستوى النظري، إلا أن بعضه الآخر اهتم بتفعيل الحقوق وتجديد الخطاب الديني وتطبيق القيم الإسلامية واستنطاقها عدالة النوع بالتحديد؛ (5) مثلما اتسمت النسوية المسيحية بتعدد وتدرج أطيافها بين تيارات تحمّل الكتاب المقدس نفسه المسئولية المباشرة، بحيث يصعب تقويمه أو إعادة تأويله، وأخرى تدين فقط الآباء المؤسسين فيما بعد مرحلة بولس الرسول، كذلك تتباين المواقف النسوية في الإسلام بين إعفاء القرآن الكريم من تهمة الانحياز الذكوري أو الإقرار بإشكالية ذلك بسبب بعض النصوص الصعبة.
في العموم يلتقي كل من الجانبين على رؤية مشتركة وهي القناعة بالإمكانات التحررية والمقاصد السامية لكل من الدين المسيحي والإسلامي، وعلى التمسك بتلك المساحة البينية بعيداً عن النسوية الرافضة للتأصيل الديني وعن التفسير الأبوي التمييزي للدين. تعبر إليزابث فيورنزا عن الهدف من اللاهوت النسوي المسيحي بطريقة تماثل ما تنادي به النسويات المسلمات في سياقهن: “التأكيد على أن الإيمان والديانة المسيحية ليست أبوية أو تمييزية (ضد النساء) في أصلها، وفي نفس الوقت الإقرار بأن الكنيسة هي المذنبة بخطيئة التمييز“.19
فيما يخص القضايا المتناولة على الجانبين وآليات إعادة تقييم الموروث الديني نلاحظ التشابه في الآتي: (أ) في مجال الهيرمينوطيقا: دراسة الموضوعات التأويلية المستمدة من نصوص إنجيلية وقرآنية والتحليل اللغوي الدقيق لها وطرح فكرة وضع هذه المفاهيم في سياقها التاريخي وقت التنزيل وفي سياقها النصي، مثل العكوف على تفسير 1 قورنتية 34:14 التي تقول أن النساء صوامت لا يتكلمن ويخضعن لأزواجهن، و1 طیماثاوس 2: 11-14 التي تنص على أن “المرأة تتعلم بالسكوت لا تُعلَّم ولا تتسلط على بعلها…”، و1 قورنتية 3:11 الشهيرة التي تؤكد أن “رأس الرجل المسيح ورأس المرأة الرجل…”. ثم استخدام النصوص المضادة، التي تشير إلى المساواة بين الرجال والنساء في الإيمان وفي نظر الله، والتي تحمل تعاليم روحية عامة تشمل جميع المؤمنين ولا تختص الرجال أو تقصي النساء، حتى تُقرأ النصوص السابقة (التي تعزو الباحثات المسيحيات أفكار تبعية المرأة فيها إلى السياق الزمني وقتها وهو المجتمع اليهودي) في ضوئها. مثلاً “ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم كلكم شئ واحد بيسوع المسيح” (غلاطيا ٢٨:٣). وهذا يتشابه كثيرًا مع انخراط الباحثات المسلمات في إعادة تفسير آية القوامة والطاعة والنشوز (النساء 34)، وآية الدرجة الزائدة (البقرة ۲۲۸)، والتنبيه إلى آيات المساواة بين المسلمين والمسلمات (الأحزاب 35 – آل عمران ١٩٥)، والولاية الاجتماعية المشتركة للمؤمنين والمؤمنات (التوبة 71)، وآيات “النفس الواحدة” (النساء 4- الأنعام 6 – الأعراف ۷ – لقمان ٣٩)، وجعلها مركزية ومعيارية بالنسبة للنصوص الأخرى وليس العكس. (ب) في مجال العقيدة والذات الإلهية: أكدت باحثات وعالمات اللاهوت النسوي أن الرب يتجاوز الإدراك البشري والتعبير اللغوي البشري وبالتالي تصورات النوع، وإذا كانت المسيحية تدعو إلى إله المحبة الذي يحرر كل إنسان، فلا يجب الحديث عنه بمفهوم أبوي/ ذكوري لترسيخ تفوق جنس الرجال ودونية جنس النساء، ويجب الاعتراض على معادلة أن ’أبوية‘ الرب تعني أيضًا ’ربوبية‘ الآباء والذكور البشر. ويتشابه هذا الطرح أيضًا مع مناقشة الباحثات المسلمات لعقيدة التوحيد من زاوية أنها تعني الطاعة والعبودية لله وحده، للخالق فقط وليس المخلوق، فالمعنى هنا المساواة بين جنسي البشرية، وليس التراتبية بأي حال، وأي زعم بالتفوق أو الأفضلية هو نوع من أنواع الشرك، لأن التراتبية الوحيدة المسموح بها في الإسلام هي بين الله عز وجل وبني الإنسان. (ج) في مجال التاريخ: تسليط الضوء بقوة والكشف عن تواجد وإسهام النساء الأوليات في المراحل التأسيسية للديانتين. كتبت الباحثات المسيحيات عن النصوص الإنجيلية التي تشير إلى امتداح بولس الرسول لنساء في موقع شماسة أو موقع قيادي كنسي أو نصيرات للسيد المسيح في بداية العهد المسيحي والدور الفعال الذي لعبنه، إلى جانب اتخاذ معاملة المسيح نفسه لهن كنموذج ومثال لاحترام النساء وليس ازدرائهن، كذلك إماطة اللثام عن الدور المهمش للقديسات والراهبات الأوليات، ورد الاعتبار التاريخي لهن. يوازي هذا الاتجاه الاستشهاد بتاريخ الصحابيات والتابعيات للتأكيد على المشاركة في الحياة العامة والحضور القوي وسط الجماعة، والإشارة إلى تكريم الرسول (عليه الصلاة والسلام) لزوجاته وبناته وعدله معهن ومعاملته الحسنة للنساء المؤمنات وبقية تفاصيل سيرته وسنته الفعلية – وليس فقط القولية. (د) في مجال القيادة الدينية: المقصود بها الاشتراك في تبوء أدوار قيادية في مؤسسات ومجالس دينية وألا تقتصر هذه الأدوار والمراكز على الرجال فقط، فقضية رسامة المرأة مثلاً واشتراكها الكامل والمساوي في طقوس وكهنوت الكنيسة الكاثوليكية قضية جدلية رئيسية منذ زمن، بينما تحتل فكرة الولاية العامة المرأة – لرئاسة الدولة أو القضاء– حيزًا كبيرًا في النقاش الإسلامي واشتراكها في مجالس الإفتاء العالمية والمنظمات ومجامع البحوث، أو توليها مناصب للإفتاء والدعوة، ومؤخرًا طُرحت إمامة المرأة التي لاتزال تثير جدلاً شديدًا. (ه) في مجال علاقة النص الإلهي بالعامل الزمني والثقافي: وهي إشكالية محورية تؤثر على سائر المنهجيات، لأن التساؤل هنا عن ما الذي بالتحديد نعتبره أمرًا أو تشريعًا إلهيًا ثابتًا ساريًا لكل الأزمان والثقافات، وما الذي نعتبره ’وصفيًا‘ أو انعكاسًا للواقع الاجتماعي وقت التنزيل. تسأل الباحثات المسيحيات مثلاً: هل الأبوية مثال ونموذج للإنسانية كلها إلى آخر الزمان، أم أنها كانت مرحلة مؤقتة في التاريخ الإنساني بعد ’السقوط‘ و’الخطيئة‘؟ هل كانت تعاليم بولس الرسول المجحفة الخاصة بالنساء مقصودة فقط لثقافة وقته أم كل الثقافات والأزمان؟ هذا الفصل بين ما هو ’سياقي‘ (أي تاريخانية النص المقدس) وما هو إلهي مطلق لا يتغير، يثير تخوف استخدام هذا المبدأ لتقويض سلطة الإنجيل إخضاع كلام الله للنسبية بحيث يُفسَّر الكتاب المقدس على حسب المعايير العلمانية ويفقد المطلقات تمامًا. ويرد الطرف الآخر أن الإنجيل يُعلّم الناس كيف يعيشون بالحق حياة ربّانية في هذا العالم الذي خلقه الله لهم، فيجب إذًا ربط الإنجيل بالحقيقة الأشمل خارجه وهي حياة الانسان وواقعه، ويكون هذا من خلال التفرقة بين الكلّيات والتطبيقات وتطبيق نفس مبادئ العقيدة المسيحية العامة تطبيقًا عمليًا مختلفًا – خاصة في أمور المساواة بين البشر. يدور نفس هذا النقاش على الجانب الإسلامي كثيرًا، ويتمثل بوضوح في هذه الاستشهادات من نصر حامد أبو زيد الذي تحدّث – في مسألة التمييز ضد المرأة بالتحديد – عن “السياق السجالي” و“السياق الوصفي” لبعض آيات القرآن مما لا يعد المقصد الإلهي العام: “إن المساواة بين الرجل والمرأة تمثل مقصدًا من مقاصد الخطاب القرآني، والنصوص الواردة بهذا الشأن لا تحتمل تأويلاً يتجاوز دلالاتها المباشرة“. ويمضي أبو زيد في شرح المستوى الآخر من النصوص القرآنية: “ولكن لأن القرآن نزل على قوم كان التمييز بين الرجل و المرأة؛ أو بين الأنثى والذكر، جزءًا من ثقافتهم ونظامهم والاجتماعي، فمن الطبيعي أن ينعكس هذا التمييز في مساجلات القرآن معهم. ولكن الخطأ كل الخطأ يكمن في أن تُعامل التعبيرات السجالية على أساس أنها تشريعات جاء بها الإسلام، وهو الأمر الذي يفسر لنا كثرة الفتاوى والتأويلات الخاطئة النابعة من ذلك الخلط بين السياق السجالي والسياق التشريعي” (نصر أبوزید، ص ۲۰۷–۲۰۸).20
من معايير الاختيار الأولي لهذه النماذج المترجمة هو رصد بدايات هذا التيار في مرحلة تشكله وتقديم مقالات تأسيسية تعد من العلامات المبكرة ولذا لم يتسع المجال لتضمين نماذج حديثة، ولكن ضمت المجموعة مقالات لأسماء رائدة مهمة في المجال، حيث أنهن بادرن بتيارات بحثية وخطابات، وعلى الباحث/ة أن يحيط بأعمالهن. مثلاً أشرنا من قبل إلى مقالة عزيزة الحبري “دراسة في ’تاريخها الإسلامي‘:أو كيف وصلنا إلى هذا المأزق؟“، التي تقدم عرضًا تاريخيًا للأبوية كنظام اجتماعي وسياسي في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، ثم اتجاه الإسلام لتقويضها في أغلب تشريعاته، إلا أن النزعة الأبوية القبلية اتسمت بالعناد والتشبث، مما أفقد المرأة في الإسلام الكثير من حقوقها ومكاسبها، ثم تدلل الكاتبة على هذه الأطروحة بمناقشة ثلاث مشکلات أساسية كما حددتها ترى أن الأبوية هي التي خلقتها وعقَّدتها: تعدد الزوجات والطلاق وسيادة الرجال على النساء. من المحاولات الرائدة أيضًا التي أشرنا لها من قبل كراستان صغيرتان لمنظمة “أخوات في الإسلام” في ماليزيا، يحملان عنوانين في شكل سؤالين: “هل تتساوى النساء والرجال أمام الله؟” و“هل يحق للرجال المسلمين ضرب زوجاتهم؟“. ورغم أن المجموعة لم تكمل إصدارات هذه السلسلة إلا أن هذا العمل يشكل علامة مهمة من ناحية طريقة طرح المشكلة من وجهة نظر المرأة المسلمة المؤمنة ومن ناحية الرجوع المباشر إلي مصادر القرآن والسنة دون وساطة أو وصاية، وعرضها بشكل مبسط للغاية توجهًا للمسلم العادي غير المتخصص للإقناع من خلال نفس المرجعية الدينية التي تستخدم لتبرير التفرقة والعنف.
من الرائدات كذلك اللاتي أصبحت أسماؤهن مقترنة بمجال الدراسات الإسلامية المعاصرة عن المرأة رفعة حسن، والتي تناقش أيضًا في مقالها عن “النساء المسلمات وإسلام ما بعد الأبوية” التأثير السلبي للأبوية على تراث الدين الإسلامي وحياة النساء وتدعو إلى دحض الأسس الفقهية المغلوطة التي تغذي المعاداة للمرأة وتفوّق الرجل، ثم تطبق ذلك أيضًا على ثلاث افتراضات دينية خاطئة تتمحور حول قصة الخلق لتعارضها من خلال إعادة التفسير: أن الله (سبحانه) خلق الرجل أولاً ثم خُلقت المرأة من ضلعه؛ أن المرأة هي السبب الرئيسي في الخروج من الجنة، أنها خُلقت من أجل الرجل وليس ككائن مستقل. قد تحتوي هذه المقالة المبكرة لرفعة حسن على بعض الأخطاء في الاستشهادات والاقتباسات من المصادر، والتي خلت منها أعمالها بعد ذلك، إلا أن المهم رصده هنا هو الطرح ووجهة النظر والاجتهاد الشخصي في التفسير. يختلف النص المختار “القرآن والجنس/ النوع والجنسانية: التماثل، الاختلاف، المساواة” وهو الفصل الخامس من كتاب أسما برلس المشار إليه سابقًا في درجة الدقة في التأصيل القرآني وفي منطقية المنهج المتبع للاستنباط وإعادة الفهم. ورغم أن تاريخ العمل يعتبر حديثًا مقارنة بالأعمال الأخرى، إلا أنه أصبح إضافة أساسية في أدبيات المجال لا يمكن تجاوزه. تقدم أسما برلس قراءة متعمقة في الخطاب القرآني العام والأصول الفلسفية والأخلاقية والمعرفية التي ينبني عليها والتي تثبت كلها أن القرآن الكريم نص مناقض تمامًا للأبوية ويخلو من أي عناصر ’لكراهية النساء‘ المتعارف عليها في النصوص الدينية الأخرى. والجديد أن الباحثة توازي بين الفهم الأبوي المغلوط للإسلام – الذي أقرن أفكار الاحتشام الجنسي والعفة وفتنة الجسد بالنساء فقط ووضع الرجال في مكانة أعلى – وبين القراءات النسوية الغربية التي في ازدرائها لستر الجسد لأنه “يجعله غير متاح جنسيًا” – متهمة كذلك “بتشيئ” النساء كممتلكات جنسية. وهي تثبت أن نقد النسوية الغربية– للإسلام أنه يعامل النساء كأشياء للمتعة لا ينبع من القرآن نفسه ولكن يرجع إلى قبول النسويات في الغرب التفسيرات الأبوية له، ولذا فهي تقدم تفسيرات بديلة.
من الرائدات كذلك التي كتبت منذ بداية التسعينات عن وجوب إتباع منهجية جديدة تمامًا في تفسير وتأويل آيات القرآن الكريم حتى تظهر المساواة وعدالة (الجندر) الكامنة فيه آمنة ودود في كتابها المذكور أعلاه القرآن والمرأة والذي لعب دورًا كبيرًا في مرحلة البدايات، لم نضمنه في النصوص المترجمة هنا لأنه قد تُرجم بالفعل، ولأن المعيار الثاني الذي بنيت عليه اختيارات المجموعة هو عدم ترجمتها سابقًا. لذا يُقدم أجزاء محورية من الفصل السادس من كتابها الأحدث من داخل جهاد النوع، الذي سبق ذكره، والذي يسجل تطورًا ملحوظًا في موقفها من قضية التأويل، حيث تطرح فكرة تجاوز “التطبيق الحرفي” لبعض عبارات القرآن بسبب ارتباطها بنسبية السياق الزمني الضيق والمحدد للجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي. أي أن الباحثة هنا تقترح منهجية جديدة أو حلاً للخروج من مأزق التعامل مع النصوص الصريحة التي تسمح بالضرب وسيادة الرجال في أمور كثيرة، منها ما تطلق عليه التدخل بين التطبيق الحرفي والتطبيق المشروط للنص (على طريقة “نعم ولكن…”) مؤكدة أنه منهج اتبعه الفقهاء القدامى أيضًا على مستويات أخرى، مثلاً في محاولاتهم لتفادي عنف ضرب الزوجة، وأننا بوسعنا الآن تطوير هذا المنهج لإنتاج “معاني نصية” جديدة. ترد عبارة عند آمنة نتوقف عندها – “الله ذاتها“- أي الإشارة إلى الذات الإلهية بصيغة المؤنت (في الإنجليزية Herself)، وهو أمر مستغرب وغير مقبول على مستوى العقيدة لأن الله (عز وجل) يتعالى على تصنيفات النوع الإنساني و“ليس كمثله شئ” (الشوری 11)، ولكن ممكن أيضًا النظر إلى المسألة من زاوية تكتيكية، أي صياغة خطاب مضاد كرد فعل أو للتنبيه إلى ما الذي أدى أصلاً إلى هذا الطرح العكسي: ألا وهو الفهم الأبوي الذكوري للدين الذي جعل تشريعاته تبدو وكأنها تحابي وتنحاز للرجال وهي رؤية متهمة ببدء ذلك التصنيف النوعي المرفوض لله (سبحانه وتعالى).21
أما عن أبرز أسماء اللاهوت النسوي فكان لابد من تضمين دراستين للرائدتين إليزابيث فیورنزا وروزماري روثر تندرجان أيضًا تحت المعيار الثالث لاختيارات المجموعة وهو وجود أبحاث تنظيرية وتحليلية تعرض الرؤى المؤسَّسة؛ في “نحو هرمونيطيقا نسوية لتفسير الكتاب المقدس” ((“Toward a Feminist Biblical Hermeneutics” تضع فيورنزا التأويل النسوي للإنجيل في سياق حركة لاهوت التحرير باعتبار الأخيرة حركة دعت إلى استعادة جوهر الرسالة المسيحية في مساندتها للمقهورين والمهمشين ضد الطغاة، وإلى تذكر السيد المسيح كنصير للفقراء، بمعنى البحث عن البُعد الثوري التحرري لهذا الدين وإنتاج صياغة مسيحية للعدالة الاجتماعية على اعتبار أنه جاء عتقًا للبشرية من الخطايا والظلم الدنيوي، ولذلك تشرح العلاقة بين لاهوت التحرير وتفسير الكتاب المقدس بمناهجه أو نماذجه التفسيرية الثلاث، ثم تركز على آليات ومناهج علم الهرمونيطيقا المرتبطة باللاهوت النسوي بالتحديد من خلال إعادة تقديم مشروع إليزابث كادي ستانتون إنجيل المرأة المشار إليه سابقًا الذي طرح فكرة المراجعة الموضوعية والعلمية لنصوص الكتاب المقدس. مقال فیورنزا نموذج الانخراط النساء عالمات الدين في صلب القضايا اللاهوتية المسيحية على المستوى التخصصي، ولذلك يشوب لغته بعض الصعوبة ولا يحتوي على كثير من الأمثلة الواقعية أو التطبيقية لأنه يركز على البعد الفلسفي التجريدي وراء تراث هرمونيطيقا الكتاب المقدس.
تتصف كذلك دراسة إليزابث روثر “تحرير علم ’طبيعة المسيح‘ من النزعة الأبوية” (“The Liberation of Christology from Patriarchy”) بتركيزها على رؤية بديلة عن الرؤية الأبوية لمعنى ومغزى دور المسيح في العقيدة المسيحية التي صاغت مفهوم مجازی ’مُذكّر‘ للتعبير عن الله – فهو الارتباط الأنسب لافتراض تفوق عنصر الذكورة – وبالتالي تم اتخاذ هذه الصيغة المجازية البحتة (التجسيد الإلهي في الابن) بصورة حرفية لتعني ذكورة “الكلمة” أو “ذكورة الإله” في المفهوم المسيحي. تمحص الباحثة نصوص الكتاب المقدس التي تشير إلى خلق الله للإنسان ذكرًا وأنثى على صورته وتحلل تفسيرات الآباء المؤسسين مثل أوغسطين وعلماء اللاهوت في القرون الوسطى لمفهوم “صورة الله” (image of God) الذين أصروا على فكرة “ذكورة المسيح” لا لشئ إلا لأن هذه الفكرة بدت ضرورية ومنطقية حيث أن الذكر فقط يصلح لتمثيل الإنسانية المكتملة والمثالية، وتبين الكاتبة أن هذا المفهوم العنصري لطبيعة المسيح هو في الحقيقة مناقض لجوهر العقيدة، فالمفترض أن ’ناسوت‘ المسيح يشمل إنسانية النساء أيضًا. أي أن روثر هنا تشتبك اشتباكًا مباشرًا مع أحد الفروع الأساسية من العلوم الدينية اللاهوتية في المسيحية– وهو النقاش و التدارس حول تفسير طبيعة المسيح – وتربطه بدلالات النوع (الجندر) بهدف مراجعة موروث ذلك الحقل الديني كله وتقويمه، وهي بذلك تتشابه إلى حد كبير مع إسهام أسما برلس في دحض الرؤية الأبوية المغلوطة للقرآن الكريم وتفنيدها للتراث التفسيري والفقهي. كما تصب دراسة أميمة أبو بكر “قراءة في تفاسير القرآن واعية لاعتبارات الجندر” في نقد وتحرير الخطاب الديني من الفكر التفاضلي بين النوعين، فترصد تراكم وتطور تفسيرات مفهوم “الدرجة” في سورة البقرة ٢٢٨، من بداية القرن العاشر ميلادي (منذ أول تفسیر جامع و هو الطبري) حتى آخر القرن العشرين. أما جون أوكونر في “إعادة قراءة وإعادة فهم وإعادة صياغة التراثات الدينية: البحث النسوي في مجال الدين” ( “Rereading, re-conceiving and reconstructing traditions: feminist research in religion”) فهي تضع إطارًا عامًا لمنهج الدراسات النسوية في مقاربة أي تراث ديني كما يتضح في العنوان؛ تتمثل ’الإعادات الثلاث‘ في إعادة قراءة المواد والمعلومات التاريخية المتاحة الخاصة بحضور أو غياب النساء من ساحة النشاط الديني التعبدي والتجارب الدينية الخاصة بهن، والخطوة الثانية: إعادة التفكر في هذه الاكتشافات وطرح تساؤلات تفتح المجال لمزيد من تفسير هذه الظواهر، والخطوة الثالثة: إعادة إنشاء صورة بديلة عن الماضي وتوظيف نموذج مختلف للتحليل والتقييم التاريخي. وسوف نلاحظ ملائمة وسهولة تطبيق هذا الإطار النظري على وضع وقضايا النساء في التاريخ الإسلامي. وفي الجزء الثاني من المقال تصنف جون أوكونر –فيما يشبه قائمة ببيبليوجرافية بأهم المراجع– الأعمال والدراسات التي ظهرت في فترة الثمانينيات وحتى وقت نشر مقالها هذا في ١٩89، الأعمال التي تناولت أفرع مختلفة في مجال النساء والأديان – تواريخها وموروثاتها. الملاحظ أن القائمة تتوقف عند عام 1989 ولذا لا يرد بها كثير من الأعمال المهمة بعد ذلك التاريخ والتي ذكرناها في العرض السابق، وقد ضمّنا العناوين كاملة باللغة الإنجليزية وتاريخ إصدارها فقط مصحوبة بنقل المعنى الأساسي لهذه العناوين والمضامين التي تشير إليها.
يتمثل المعيار الرابع في اختيار نماذج تطبيقية للرؤى والنظريات السابقة في شكل تحليلات نصية ومناقشات لقضايا دينية محددة اعتبرها البحث النسوي الديني إشكاليات كبيرة ومعوقات في طريق المساواة والعدل. في “الجدل الدائر حول اللاهوت النسوي: أى الآراء يتبع الكتاب المقدس؟” يعرض رون رودز لمبادئ تيار النسوية “الإنجيلية” خاصة كما يحددها ويميزها عن كل من النسويات العلمانيات ونسويات “العصر الجديد” والنسويات المسيحيات الليبراليات، ويقدم شرحًا مبسطًا لأهم البراهين الدينية التي يطرحنها والمستندة مباشرةً على نصوص وآيات من الكتاب المقدس تعضد المساواة وتنفي المفاهيم التقليدية عن خضوع المرأة وصمتها في الكنيسة، ثم يضمن الاعتراض على التفسير النسوي لهذه النصوص من المعسكر التقليدي في شكل مناظرة، ولذلك لهذا الإصدار الإلكتروني فائدة في جمع كل الآيات الإنجيلية ذات الصلة بالموضوع. ويذكرنا أسلوب التفسير هنا بالمحاولات المماثلة لرفعة حسن وأخوات في الإسلام وعزيزة الحبري في إشاراتهن إلى الآيات القرآنية مباشرة والاعتماد على التحليل اللغوي والسياقي لها، ويتشابه في رأيي إلى حد كبير مناقشة إشكالية “الخضوع” التي ترد في الرسالة إلى أهل أفسس ٢١:٥ – ٢٤ مع محاولات التعامل مع قضية “القوامة” و“الطاعة” في سورة النساء 34؛ تركز النسويات الإنجيليات على تفسير خضوع “بعضكم للبعض” (أي دعوة كل من الأزواج والزوجات للخضوع المتبادل في المسيح) أو اعتبار أن أي تراتبية بين الجنسين تعكس سياقها التاريخي وغير ملزمة فيما بعد، وهو ما تفعله النسويات المسلمات في محاولة إعادة تفسير “بما فضل الله بعضهم على بعض” (النساء ٣٤) و’تأريخ‘ مفهوم قوامة الزوج. كما أن نفس إصرار الانتقاد التقليدي – للتفسير النسوي الإنجيلي – على فكرة الاختلافات البيولوجية بين الجنسين كدليل على اختلاف الأدوار الاجتماعية وقيادة الرجل يشبه تركيز العلماء المسلمين المحافظين على فكرة الطبيعة الفطرية لكل من الرجل والمرأة لتسويغ عقلانية الرجال مقابل عاطفية وضعف النساء.
وتطرح قضيتان أخريتان في التراث المسيحي – خلق حواء وغطاء الرأس – في مقالتين؛ الأولى “الجنسانية، الخطيئة، الأسى: ظهور الشخصية النسائية” تناقش بناء شخصية حواء وتكوين الأبعاد الأسطورية المتحاملة عليها؛ تستخدم الباحثة منهج النظريات النقدية الأدبية في تحليل الشخصيات الروائية وكيفية بنائها وتطورها في سياق الأحداث، وتقارن – أو تقابل – ذلك التطور بالبناء الأسطوري لشخصية حواء داخل التراث الديني المسيحي وكيفية تشكّله على خلفية العداء المسبق للنساء. هي إذًا تسلط الضوء على نصوص الإنجيل التي تعرض قصة خلق حواء وتعرّضها للإغواء من الشيطان ثم خطيئتها وتسببها في ’السقوط‘ (الخروج من الجنة)، وتحلل الباحثة هذه الأحداث كحكاية أدبية ذات رموز ودلالات وعناصر سردية بهدف إثبات أن شخصية حواء كما نعرفها هي أسطورة خاضعة للأيدولوجيا وقد تم تطويرها وإعادة استخدامها لعقود وقرون على هذا الأساس، بينما من خلال تحليل العناصر السردية والتناص تخلص إلى أن حواء ليست مخلوقة تابعة من ضلع آدم ولكنهما الاثنين خُلقا من “أديم الأرض” كمخلوقات ترابية متساوية.22 أما القضية الأخرى التي تتناولها المقالة الثانية “أغطية الرؤوس، والعذاري، وألسنة الرجال والملائكة: رؤوس النساء في المسيحية المبكرة” فهي هوس الآباء الأولين المؤسسين للفكر المسيحي بتغطية رؤوس النساء ورمزية هذا الانشغال المبالغ فيه الذي يظهر في تعاليمهم لعلاقته بالرغبة في كبح أي انطلاقة للنساء في المجال العام وفي تحجيم تواجدهن وفاعليتهن، وكذلك القضاء على أي اقتران ينشأ بين النساء والقيادة – من خلال ربط “الرأس” بفكرة الزعامة أو الرئاسة أو السيادة، فالمرأة ليست فقط مأمورة بتغطية الرأس في أحوال كثيرة أو قص شعرها، بل لا تصلح أن تكون “رأسا” (بمعنى ذات سلطة) لشئ أو لأحد آخر. وتحلل الباحثة خاصة صياغات تعاليم بولس وبعده المؤسِّس الكنسي ترتوليان التي جاءت في لحظة زمنية معينة كرد فعل لحصول النساء وقتها على وضع مميز من خلال مشاركتهن في الطقوس الكنسية مبكرًا، كما تحلل إشكالية الهوس في هذه التعاليم والأدبيات بملابس العذارى وكشف رؤوسهن أو تغطيتها ربطًا بسيادة نظرة الرجل المحدقة التي تضفي الصبغة الجنسية على رأس المرأة وبالتالي تحدد كل شئ عن سلوكها وأسلوب حياتها. والمقالة مثل سابقتها نموذج لنوعية الأبحاث العلمية المتخصصة للغاية التي تتعمق في النصوص التراثية وتفندها بموضوعية حادة قد تزعج الفرد المؤمن العادي، ولكن هذه هي طبيعة الإنتاج العلمي والأكاديمي في مجال الدراسات الدينية المسيحية حاليًا. (والملاحظ أن في الكتابات العربية بالتحديد لم نعتاد مناقشات حول زي المرأة وتغطية رأسها في السياق المسيحي، كما لم نعتاد المبادرة بتفسيرات قرآنية بدون النقل المباشر عن الفقه التقليدي في السياق الإسلامي).
المقالات في هذا الكتاب لا تغطي بالطبع كل القضايا الدينية أو الإشكاليات البحثية المرتبطة بها، ولكنها فقط تمثل ’عينة‘ من الدراسات الدينية الحديثة في المسيحية والإسلام التي تستخدم المنظور النسوي أو مناهج النظرية النقدية النسوية في مقاربة النصوص والمصادر والتراث، وبذلك يتم إنتاج معرفة دينية مختلفة وغير تقليدية قد يكون لها تأثير هام على تطورات الفكر الديني داخل حضارته المعنية. لم تُنقل هذه الأبحاث إلى العربية من قبل ولذا يتم تقديمها هنا بهدف إتاحتها لباحثات وباحثين العربية المتخصصين والمهتمين برصد هذا التيار والتفاعل العلمي والفكري معه. قد تحتوي بعض التأويلات والمناقشات على شطحات مستغربة أو صادمة أو غير مقبولة على مستوى الاعتناق الشخصي، لكن على مستوى العلم والمعرفة يمكن دراسة هذه الأفكار ووضعها في سياقها وفهم الهدف من ورائها، كما يمكن تصنيفها على أنها اجتهادات تحتمل الصواب أو الخطأ، الاقتناع بها أو النأي عنها.
“إن من علامات العقل المتعلم القدرة
على تأمل فكرة ما بدون قبولها بالضرورة.” (أرسطو)
“فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.” (سورة الرعد، ۱۷)
أميمة أبوبكر (Omaima Abou-Bakr): أستاذة الأدب الإنجليزي المقارن بكلية الآداب، جامعة القاهرة، وعضوة مؤسسة بمؤسسة المرأة والذاكرة. لها دراسات في النقد الأدبي والشعر الصوفي والأدب المقارن، متخصصة في آداب العصور الوسطى المسيحية والإسلامية، وتكتب عن النساء في التاريخ الإسلامي، والراهبات في الأدبيات المسيحية في القرون الوسطى، وقضايا النوع في الخطابات الدينية.
1 کاثرين يونج: “الدراسات الدينية والتيارات الفكرية” في موسوعة النساء والثقافات الإسلامية (۲۰۰۳)، المجلد الأول، المحررة العامة: سعاد جوزيف، ترجمة أميمة أبو بكر، القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، ٢٠٠٦، النسخة الإلكترونية: https://sjoseph.edu/ewic/V1 arabicparted/religious_studies.pdf
2 روزماري رادفورد روثر
Rosmary Radford Ruether, “The emergence of Christian feminist theology” in The Cambridge Companion to Feminist Theology, ed. Susan Frank Passons (UK: Cambridge University Press, 2002), p.3.
3 ريتا جروس: Rita Gross, Feminism and Religion_ (Boston: Beacon Press, 1996).
4 ريتا جروس:Rita Gross, “Feminist theology as theology of religion” in The Cambridge Companion, pp.60-78 .
5 أنظر/ي الأمثلة في المرأة والجندر: إلغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين لأميمة أبو بكر (دمشق: دار الفكر، 2002).
6 عائشة تيمور: مرآة التأمل في الأمور (۱۸۹۲)، تقدیم میرفت حاتم (القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة، ۲۰۰2)؛ نظيرة زين الدين: السفور والحجاب (۱۹۲۸)، تقديم بثينة شعبان (دمشق: دار المدى، ۱۹۹۸).
7 زينب فواز: الدر المنثور في طبقات ربات الخدور (القاهرة: المطبعة الأميرية، ١٨٩٤)؛ قدرية حسين شهيرات النساء في العالم الإسلامي (١٩٢٤)، تقديم أميمة أبو بكر (القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، ٢٠٠٤).
8 مارجو بدران:Margot Badran, Feminists, Islam, and Nation (New Jersey: Princeton University Press, 1995), pp.124-135.
9 هالة أفشار: Haleh Afshar, “Islam and Feinism: An Analysis of Political Strategies” in Feminism and Islam, ed. Mai Yamani (UK. Ithaca Press, 1996); Afsaneh Najmabadi, “Feminism in an Islamic Republic” in Islam, Gender and Social Changes, eds. Yvonne Haddad and John Esposito (N.Y.: Oxford University Press, 1998).
10 عزة كرم:Azza Karam, Women, Islamisms and the State (N.Y.: St. Martin’s Press, 1998).
11 أميمة أبو بكر: “Islamic Feminism: What’s in a Name? Preliminary Reflections, “AMEWS Review, Vol. xv, xvi (2001), 1-4.
كذلك مناقشة أسماء برلس لأسباب مقاومة هذا المصطلح في محاضرتها: “Four Stages of Denial,” Ithaca College, 23 October 2006.
12 مارجو بدران: Margot Badran, Feminists, Islam, and the Nation: Feminism in Islam: Secular and Religions Convergences (Oxford: Oneworld, 2009).
13 تم طرح هذا المسمى كجزء من عنوان کتاب منشور أولاً بالإنجليزية وتُرجم إلى العربية لاحقاً: Windows of Faith: Muslim Women Scholar-Activists in North America, ed. Gisela Webb (N.Y.: Syracuse University Press, 2000).
14 فريدة بناني: “صوت مسموع في النقاش الديني” في زمن النساء والذاكرة البديلة، تحرير هدى الصدة وآخرين (القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة، ۱۹۹۸).
15 أنظر/ي كذلك كتاب صدر حديثًا بالعربية لفهمي جدعان: خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ٢٠١٠)؛ ومجموعة من مقالات عن أبعاد النسوية الإسلامية المعاصرة في كتاب:
Islamic Feminism: Current Perspective, ed. Anitta Kynsilehto (Finland: University of Tampere, 2008).
16 مجموعة من المقالات كلها منشورة بالإنجليزية:
-Mohamed Mahmoud, “To Beat or Not to Beat: On the Exegetical Dilemmas over Qur’an, 4:34,” Journal of the American Oriental Society, 126, no. 4 (2006), 537-50.
-Nawal Ammer, “Wife Battery in Islam: A comprehensive Understanding of Interpretations,” Violence Against Women, 13, no. 5 (2007), 516-26.
– Keran Bauer, “The Male is Not Like the Female (Q 3:36): The Question of Gender Egalitarianism in The Qur’an,” Religion Compass, 3/4 (2009), 637-54.
– Sa’diyya Shaikh, “Exegetical Violence: Nushus in Qur’anic Gender Ideology, Journal for Islamic Studies_ 17 (1997), 49-73; “A Tafsir of Praxis: Gender, Marital Violence, and Resistance in a South African Muslim Community,” In Violence Aginst Women in Contemporary Religions (Cleveland: Pilgrim Press, 2007), pp.67-89..
– Manuela Marin, “Disciplining Wives: A Historical Reading of Qur’an 4:34,” Studia Islamica, 97 (2003), 5-40.
17 أنظر/ي مقدمة هدى الصدة في الطبعة الثالثة لكتاب ملك حفني ناصف النسائيات (القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة، ١٩9٨)؛ كذلك أميمة أبو بكر: “صورة الرجل في الكتابات الإسلامية: بين التفاسير القديمة والحديثة” في عائشة تيمور: تحديات الثابت والمتغير في القرن التاسع عشر، تحرير هدى الصيدة (القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، 2004).
18 فرانسوا بورجا:
Francois Burgat, Face to Face with Political Islam (London: I.B. Taurus, 2003); John Esposito, “Women, Religion, and Empowerment” in Daughters of Abraham: Feminist Thought in Judaism, Christianity, and Islam, eds. Yvonne Haddad and John Esposito (University Press of Florida, 2001), pp. 1-11.
أنظر/ي كذلك دراسة أميرة سنبل في هذا الكتاب الأخير والتي تورد فيها رأيًا عن النساء شديد المحافظة والرجعية قاله فضل الرحمن المفكر الإسلامي الليبرالي البارز: “Rethinking Women and Islam,” p.125.
19 وردت هذه العبارة وهذا التوجه إلى إيجاد التشابه بين الحركتين في مقالة عائشة هدايت الله التي تعرض فيها ما رأته من رؤية وموقف مماثل تجاه الإيمان الديني في أعمال الرائدة المسيحية إليزابث فيورنزا، كذلك تستعرض الباحثة استخدام نفس المنهجيات لديها والمحافظة على المسار ’الثالث‘ بين قبول التفسير الأبوي التمييزي للمسيحية من ناحية والنسوية الرافضة المتجاوزة للكتاب المقدس تمامًا، فتقول: “رفض [فيورنزا] تسليم المسيحية إلى نسوية ’ما بعد الإنجيل‘ مع رفضها تسليم المسيحية إلى التفسير المنحاز جنسانيًا قد ساعدني أنا شخصيًا في استيضاح أولوياتي عن تصور إمكانات (الثيولوجيا) الإسلامية النسوية“.
Aysha Hidayatullah, “Inspiration and Struggle: Muslim Feminist Theology and the work of Elisabeth Schussler Fiorenza” Journal of Feminist Studies in Religion 25 (2009), 162-170.
20 نصر حامد أبو زيد: دوائر الخوف (القاهرة: المركز الثقافي العربي، ٢٠٠٤).
21 تجدر الإشارة هنا إلى فكرة اقتران التجلي الإلهي بالمرأة على المستوى الرمزي والصوفي عند محي الدين بن عربي في ترجمان الأشواق وفصوص الحكم، وعند جلال الدين رومي في كتابه المثنوي في القرن الثالث عشر الميلادي.
22 يجدر الإشارة هنا إلى كتاب مهم للغاية صدر حديثًا للأستاذة الباحثة د. حُسن عبود، السيدة مريم في القرآن الكريم: قراءة أدبية (بيروت: دار الساقي، ٢٠١٠)، وهو يمثل دراسة رائدة في مجال الدراسات القرآنية المعاصرة حيث تختار الكاتبة أهم شخصية نسائية في القرآن الكريم وتفحص سماتها “القرآنية” وماذا تمثله، وتقدم تحليلاً متعمقًا عن طريق استخدام أدوات النقد الأدبي والبلاغي مثل التناص مع أساطير ونصوص تراثية أخرى والتحليل البنيوي ونظريات الأسلوبية والسردية، لتخلص إلى مبادئ “مريمية“، أي رسمًا قرآنيًا خاصًا للشخصية النسائية الروحانية أو “الأنثى المثال“، وفي تلك النوعية من الدراسات – التي تطلق عليها الباحثة “قراءة أدبية نسوية” – دفاع عن قيمة شخصية المرأة والتأكيد على علاقتها بالمقدس والإلهي، كذلك التأمل في “المعاني المتعلقة بمفهومي الأنثوي والأمومي” من خلال معالم شخصية مريم ومحاولة الإجابة على هذا السؤال: “هل صورة الأنثى والأم تعكس، من خلال صورة أكثر النساء هيبة في القرآن، صورة قامعة أم محررة للمرأة المسلمة؟“