النسوي، الأنثوي، المؤنث
توريل موي*
ماذا تعني كلمة “نسوي” في “النقد الأدبي النسوي“؟ على مدار العقد الأخير استخدمت النسويات مصطلحات “النسوية“، و“الأنثوي” و“المؤنث” بعدة طرق مختلفة. ومن النقاط الأساسية في هذه المقالة هي التأكيد على أن الفهم الواضح للاختلافات فيما بين تلك المصطلحات يمكنه وحده توضيح ماهية القضايا السياسية والنظرية الأساسية التي يعنى بها النقد النسوي المعاصر، وبداية أرى أن تميز بين “النسوية” (feminism) كموقع سياسي، وبين “الأنوثة” (femaleness) كشأن بيولوجي، وبين “الأنثوية” (femininity) بوصفها مجموعة من الخصائص المعرفة ثقافيا.
إن كلمتي “النسوي” أو “النسوية” (بصيغتي الصفة أو الاسم) هما صیغتان سیاسیتان تشيران إلى موقف داعم لأهداف الحركة النسائية الجديدة التي نشأت في أواخر الستينيات من القرن العشرين. وبالتالي فإن “النقد النسوي” هو نوع معين من الخطاب السياسي، أي ممارسة نقدية ونظرية ملتزمة بالنضال ضد النظام الأبوي والتحيز الجنسي، ولا يقتصر على اهتمام بقضايا الجندر (علاقات القوى بين الجنسين) في الأدب، على الأقل في حالة ما إذا تم التعامل مع هذا التوجه باعتباره مقاربة نقدية مثيرة للاهتمام تتساوى مع المقاربات التي تتناول تصوير البحر أو الصور المجازية للحرب في شعر العصور الوسطى. وفي رأيي أن بوسع الناقدة النسوية استخدام أية مناهج أو نظريات تريدها طالما كانت متماشية مع سياساتها، وهنالك بالطبع آراء سياسية مختلفة داخل المعسكر النسوي، ولكن ما أقصده هنا ليس محاولة لتوحيد أو وضع كافة تلك الاختلافات في كتلة واحدة، بل الإصرار ببساطة على أن النقد والنظرية النسوية المعروفة يجب أن تتماشي بطريقة ما مع دراسة علاقات القوى بين الجنسين، الاجتماعية منها والمؤسسية والشخصية: أي ما قامت به كيت ميليت في دراستها الرائدة عن “السياسات الجنسية” (Kate Millet, Sexual Politics)، حيث ترى أن “جوهر السياسة هو السلطة” وأن مهمة الناقدات والمنظرات النسويات تتمثل في الكشف عن الطرق المتعلقة بسيادة الرجال على النساء (وهو تعريفها المبسط والجامع لمفهوم “الأبوية“) والتي تشكل “الأيديولوجيا الأكثر تفشيا ريما في ثقافتنا وهي (السيادة) التي تطرح فكرتها الأساسية حول السلطة“.1
وتماشيا مع المقاربة التي استخدمتها كيت ميليت، قامت النسويات بتسييس المناهج النقدية القائمة (بطريقة تتماثل بدرجة كبيرة مع أسلوب الماركسيين)، وهذا هو الأساس الذي جعل النقد النسوي يتطور ليصبح فرعا جديدا من الدراسات الأدبية. ومن هنا تجد النسويات أنفسهن في وضع أشبه غيرهن من النقد الراديكاليين، حيث يتحدثن من مواقعهن المهمشة على أطراف المؤسسة الأكاديمية وبذلك يسعين جاهدات للكشف عن سياسات ما يعرف بكتابات زملائهن “المحايدة” أو “الموضوعية“، وكذلك التصرف بوصفهن ناقدات ثقافية بالمعنى الواسع للكلمة. ومثلهن مثل علماء الاجتماع، يمكن للنسويات نوعا ما التمتع بالتعددية المتسامحة في اختياراتهن للمناهج والنظريات، نظرا لضرورة الترحيب وقبول أي مقاربة يمكن توظيفها بنجاح لتحقيق أهدافهن السياسية.
ومن المفردات الأساسية هنا مفهوم الاستحواذ والتوظيف بمعنى التحول الإبداعي. فإذا أخذنا في الاعتبار الإصرار النسوي على الطبيعة السائدة والمنتشرة للسلطة الأبوية تاريخيا حتى الآن، فيجب أن تكون النسويات متقبلات للتعددية، فلا يوجد مكان أو حيز نسوي أو أنثوي خالص يمكننا أن نتكلم منه، فكل الأفكار بما فيها الأفكار النسوية تكون هكذا “ملوثة” بالأيديولوجيا الأبوية، وبالتالي فلا يوجد سبب لإخفاء كون ماري وولستونكرافت تأثرت واستلهمت أفكار الثورة الفرنسية التي كان يسودها الفكر الذكوري، أو إخفاء مدى تأثر سيمون دي بوفوار العميق بالفئات ذات المحورية الفحولية (phallocentric) عندما ألفت كتابها عن “الجنس الثاني” (Simone de Beauvoir, The Second Sex). كما أنه ليس من الضروري أن نأبى الاعتراف بجهود جون ستيوارت ميل في تحليل قهر النساء لمجرد كونه رجلا ليبراليا. فلا تكمن الأهمية في أصل فكرة ما (فلا يوجد أصل نقي خالص). وإنما في مدى استخدامها وتوظيفها وتأثيراتها الممكنة. وهكذا فإن الأهمية لا تتمثل فيما إذا كانت نظرية ما نتاجا لصياغة رجل أم امرأة، بل فيما إذا كانت آثارها تتسم بالتحيز الجنسي أو النزعة النسوية في موقف ما. وهكذا ففي هذا السياق تحديدا نجد أن عدم وجود تراث فكري أنثوي خالص متاح لنا ليس مثارا للاكتئاب والضيق المتوقع، وتكمن الأهمية في مدى قدرتنا على إحداث أثر نسـوي ملحوظ من خلال استخدامنا (توظيفنا) للمواد المتاحة. إن هذا التركيز على التحول الإنتاجي لمواد المفكرين الآخرين إنما يعيد نوعا ما وببساطة إعادة صياغة ما يفعله الكتاب والمفكرون الإبداعيون على الدوام، فلا أحد يفكر جيدا في الفراغ ولا يحيا أحد أبدا في فراغ، ومع ذلك كثيرا ما تتهم النسويات المفكرين الرجال بأنهم “يسرقون” أفكار النساء، وهو ما يتضح جليا على سبيل المثال في عنوان أحد کتب ديل سبيندر الكثيرة، وعنوانه “نساء الفكر وما صنعه الرجال بهن” (Dale Spender, Women of Ideas and What Men Have Done to Therm).2 ولكن هل يمكننا اتهام الرجال به سرقة” أفكار النساء إذا كنا نؤكد بشدة على الحق النسوي في توظيف أفكار الجميع؟ ويتناول كتاب ديل سبيندر حالات واضحة من عدم الأمانة الفكرية، من حيث قيام الرجال بعرض أفكار النساء باعتبارها أفكارا خاصة بهم دون أية إشارة إلى قيامهم بالاقتباس، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره يشكل مثالا جليا على الجهود الأبوية المتفشية لإسكات النساء. إن النسويات اللاتي يوظفن الفكر التقليدي يناقشن صراحة الفرضيات والاستراتيجيات الخاصة بالمادة التي يرغبن في استخدامها أو تحويلها، ولا شك في التوصية بالاستحواذ والتوظيف الصامت للنظريات الأخرى. (وتعترض نسويات كثيرات على الرأي القائل بأن الأفكار يجب أن تنسب لشخص واحد وكأنها ملكيته الخاصة. ومع أنني أتفق مع هذا الرأي. إلا أنه يظل من المهم انتقاد قيام شخص ما بتقديم الآراء التي تصله من غيره باعتبارها آراءه الخاصة به، وهي ممارسة تؤكد على أيديولوجيا الملكية الفكرية.) وستحاول النسويات بوصفهن ناقدات متحفزات سياسيا التعبير صراحة عن السياق السياسي والتداعيات المتصلة بأعمالهن، وذلك تحديدا من أجل مواجهة القبول الضمني لسياسات السلطة الأبوية التي طالما تم عرضها باعتبارها “حيادا” و“موضوعية” فكرية.
أما المشكلة الكامنة في مقاربة ديل سبيندر فهي أنها تضع النساء في قالب الضحية الأبدية لألاعيب الرجال، وعلى الرغم من صحة القول بأن الكثيرات من النساء تعرضن للقهر الفكري والعاطفي والجسدي بواسطة الرجال، إلا أنه من الصحيح أيضا أن بعضهن قد نجحن بكفاءة في مواجهة سلطة الرجل. ومن خلال التأكيد على حقنا، بل واللجوء إلى العدوانية في حالة الضرورة، في توظيف أفكار الآخرين لتحقيق أغراضنا السياسية، يمكننا أن نتجنب الوقوع في التحليل الانهزامي لوضع النساء النشطات فكريا وثقافيا. وعلى سبيل تقديم أمثلة على تلك المهمة الخاصة بالتحول الثقافي، بوسعنا الإشارة إلى النساء الكثيرات اللاتي شرعن في الجهد الكبير لتحويل مدرسة التحليل النفسي الفرويدية إلى مصدر لتحليلات نسوية حقيقية عن الاختلاف الجنسي وبناء الجندر في المجتمع الأبوي، وهن إيلين سيكسو ولوسي إيريجيراي اللتان جعلنا فلسفة جاك ديريدا قابلة للاستخدام النسوي المهر، وكذلك ساندرا جیلبرت وسوزان جوبار اللتان قامتا بإعادة كتابة دقيقة لنظرية هارولد يلوم الأدبية.3
إذا كان النقد النسوي يتسم بالتزامه السياسي في النضال ضد كافة أشكال الأبوية والتميز الجنسي، فيترتب على ذلك أن الانتماء إلى كيان الأنثى (female) لا يضمن بالضرورة الالتزام بمقاربة نسوية، وباعتباره خطابا سياسيا، فإن النقد النسوي يتحقق الهدف من وجوده من خارج مجال النقد، والواقع الذي لا بد من تكراره هو أن الكتب المكتوبة بأقلام النساء عن كاتبات من النساء ليست كلها كتبا تمثل التزاما مناهضا للأبوية، وهو ما ينطبق تحديدا على كثير من الأعمال المبكرة (قبل الستينات من القرن العشرين) التي تتناول كاتبات من النساء، بل والتي كثيرا ما تنخرط في نفس التنميط الأبوي الذي ترغب النساء في مواجهته. إن التراث الأنثوي في الأدب أو النقد ليس بالضرورة تراثا نسويا.
وفي مقالتها الفاصلة “هل روايات النساء روايات نسوية؟” تنافش روزالیند کاوارد Rosalind Coward, “Are Women’s Novels Feminist Novels?”)) الخلط الشائع بين الكتابة النسوية وكتابة الأنثى داخل الحركة النسائية وفي وسائل النشر وغيرها من وسائل الإعلام، حيث تقول “ليس من الممكن القول بأن الكتابات المتمركزة حول المرأة هي بالضرورة ذات صلة بالنسوية“. وتضيف قائلة “إن روايات ميلز أند بون الرومانسية مكتوبة ومقروءة بواسطة النساء ويتم تسويقها للنساء وتدور حول النساء، ولكن ليس هنالك ما هو أبعد عن أهداف النسوية من تلك الصور الخيالية القائمة على التبعية الجنسية والعرقية والطبقية، والتي عادة ما تتسم بها تلك الروايات“.4 ووراء هذا الخلط المتكرر بين النصوص النسوية (feminist) والأنثوية (female) توجد شبكة معقدة من الفرضيات، فكثيرا ما يفترض على سبيل المثال أن مجرد وصف تجربة خاصة بالنساء هو بمثابة فعل نسوي وهذا الأمر صحيح بالطبع من ناحية، حيث حاولت الأبوية على الدوام إسكات وقمع النساء وتجربة النساء، وبالتالي فإن الكشف عنها وجعلها مرئية هي كما هو واضح استراتيجية مهمة مناهضة للأبوية ولكن من ناحية أخرى جعل تجربة النساء مرئية في صور من الاغتراب أو الأوهام أو بطريقة مهينة حيث أن روايات سلسلة ميلز أند بون (Mills and Boon) عن حب المرأة أو إشادة أنيتا برايانت (Anita Bryant) بالحب بين الجنسين وبالأمومة ليست في حد ذاتها قراءة تحررية للنساء، إن الاعتقاد الخاطئ في التجربة بوصفها جوهر السياسيات النسوية ينبع من التأكيد المبكر على رفع الوعي كقاعدة سياسية أساسية للحركة النسائية الجديدة، والفكرة الأساسية هنا هي أن رفع الوعي في اعتماده على مفهوم “التجربة التمثيلية” لا يمكنها في حد ذاتها أن توصل لسياسة، نظرا لكون أي تجربة مفتوحة أمام تأويلات سياسية متناقضة.5 وقد يبدو أن العديد من النسويات اليوم قد أدركن ذلك، بل وإن روزاليند کاوارد تؤكد أن مجموعات رفع الوعي لك تعد ذات أهمية محورية بالنسبة الحركة النسائية: “فإجمالا لم بعد رفع الوعي يشكل قلب النسوية، فالمجموعات الصغيرة التي ما زالت تحتل موقعا محوريا في السياسات النسوية هي حاليا إما مجموعات حملات او مجموعات بحثية“.6
إن التصديق بأن التجربة الأنثوية المشتركة تؤدي في حد ذاتها إلى نشأة تحليل نسوي للوضع النسائي هو بمثابة تعبير عن سذاجة سياسية وعدم وعي نظري، فالاشتراك مع شخص آخر في نفس التجربة لا يضمن بأية حال من الأحوال وقوفهما في جبهة سياسية واحدة، فملايين الجنود الذين عانوا كثيرا في خنادق الحرب العالمية الأولى لم يتحولوا جميعا بعدها إلى دعاة سلام – أو إلى اشتراكيين أو إلى عسكريين، ولسوء الحظ فإن تجربة الولادة أو آلام الدورة الشهرية ليست تجارب مشتركة بين كافة النساء أو كافية كمصدر يلهم برغبة عميقة للتحرر السياسي، فلو كان الأمر كذلك لكانت النساء قد غيرن وجه العالم. وعلى الرغم من تشكلها الجوهري بذلك التأكيد المناهض للأبوية على تجربة الأنثى، إلا أن النسوية كنظرية سياسية لا يمكن اختزالها في مجرد انعكاس أو نتاج لتلك التجربة. ونجد أن الرأي الماركسي القائل بضرورة وجود علاقة جدلية بين النظرية والتطبيق هو رأي ينطبق أيضا على العلاقة بين تجربة الأنوثة والسياسات النسوية.
إن كون هذا العدد الكبير من الناقدات النسويات قد اخترن الكتابة عن الكاتبات من النساء هو اختيار سياسي بالغ الأهمية، ولكنه ليس تعريفا للنقد النسوي. إن ما يضفي على النقد النسوي وحدة (نسبية) هو منظوره السياسي لا موضوعه، وبالتالي فإن الناقدات النسويات قد يتناولن كتبا بأقلام الرجال وهو ما فعلته منذ أواخر الستينات من القرن العشرين وحتى يومنا الحاضر. وفي كتابها الرائد عن “السياسات الجنسية” تكشف کیت میلیت (Kate Millet, Sexual Politics) عن التحيز الجنسي المتأصل لدى كتاب مثل نورمان ميلير وهنري ميلر ود.هـ. لورنس، ونجد أن ماري إلمان تتناول في كتابها “التفكير في النساء” (Mary Ellmann, Thinking About Women) مظاهر التحيز الجنسي لدى نقاد الأدب، كما تقوم بيني بوملحه بتحليل الأيديولوجيا الجنسية لدى توماس هاردي في كتابها عن “توماس هاردي والنساء” (Penny Boumelha, Thomas Hardy and Women)، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.7
أما المشكلة الأخيرة الناجمة عن التفرقة بين مفهومي النسوي والأنثوي فهي مسألة ما إذا كان من الممكن للرجال أن يكونوا نسويين أو نقادا نسويين، إذا علمنا أنه ليس من الضروري للنسويات والنسويين الاقتصار على تناول الكاتبات، فلعله لا يشترط في أصحاب الفكر النسوي أن يكونوا إناثا؟ فمن حيث المبدأ تكون الإجابة على السؤال السابق، نعم بالطبع، يمكن للرجال أن يكونوا نسويين. ولكن ليس في وسعهن أن يكونوا نساء، مثلما يمكن للبيض أن يناهضوا العنصرية ولكنهم لا يكونون من السود، وفي إطار الأبوية سيتحدث الرجال دوما من موقع مختلف عن موقع النساء، ويجب لاستراتيجياتهم السياسية أن تأخذ هذا الأمر في الاعتبار، ومن هنا نجد على مستوى الممارسة والتطبيق أن الطامح إلى أن يكون ناقدا نسويا عليه أن يسأل نفسه عما إذا كان هو بوصفه رجلا يقدم بالفعل خدمة للنسوية في الوضع الحالي، عن طريق فرض نفسه على الحيز الثقافي والفكري الوحيد الذي أوجدته النساء لأنفسهن داخل المجال “الخاص به” الذي يسوده الرجال.
إذا كان الخلط بين كيان الأنثى والكيان النسوي محفوفا بالفخاخ السياسية، فالأمر لا يختلف كثيرا عن تبعات تداخل التأنيث مع الأنوثة. وقد جرى العرف منذ فترة طويلة بين العديد من النسويات على أن “المؤنث” (“feminine”، والمذكر “masculine”) يمثلان بني اجتماعية (أي أنماط من الحياة الجنسية والسلوك المفروض تبعا للأعراف الثقافية والاجتماعية)، وعلى قصر مصطلحي “الأنثى” و“الذكر” (female and male) للإشارة إلى الجوانب البيولوجية الصرفة للاختلاف الجنسي وهكذا يمثل مفهوم “الأنثوية” (feminine) النشأة والتربية أي التأنيث، بينما تمثل “الأنثى” (female) الطبيعة في هذا الاستخدام. إن مفهوم “التأنيث” هو بناء ثقافي لصياغة كيان “أنثوي” “مؤنث” فالواحدة لا تولد امرأة بل تصبح امرأة طبقا لمقولة سيمون دي بوفوار. وإذا تأملنا الأمر من هذا المنظور فإن القهر الأبوي يتكون من فرض معايير اجتماعية معينة خاصة بالأنثوية (أي إضفاء “التأنيث“) على كل النساء المنتميات بيولوجيا إلى جنس الإناث، وذلك كي تقتنع بأن المعايير التي ته اختيارها تعبيرا عن “الأنثوية” هي معايير طبيعية. وهكذا فإن المرأة التي ترفض الامتثال لها يمكن وصمها بأنها تفتقد إلى الأنوثة وبأنها غير طبيعية، ومن مصلحة النظام الأبوي أن يستمر اللبس قائما بين هذين المصطلحين (التأنيث والأنوثة). وبمعنى آخر فإن الأبوية تريدنا أن نعتقد في وجود جوهر للأنثى اسمه الأنثوية. أما النسويات فعليهن من ناحية أخرى فك هذا الخلط، وعلين بالتالي التاكيد والإصرار دوما على أنه رغم كون المرأة بلا شك أنثى إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنها ستصبح أنثوية وهو ما ينطبق بالمثل عما إذا كان يتم تعريف الأنثوية تبعا للطرق الأبوية القديمة أو تبعا للنهج النسوي الجديد، إن إضفاء الجوهرية (أي الاعتقاد في كيان أنثوي جوهري) يكون دائما في النهاية في صالح من يريدون أن تمتثل النساء للأنماط المحددة مسبقا الخاصة بالأنثوية، وفي هذا السياق يأتي مفہوم “الكيان البيولوجي” (biologism) مشيرا إلى الاعتقاد في أن مثل هذا الجوهر محدد بيولوجيا. ولكن الإيمان بوجود جوهر تاريخي أو اجتماعي محدد للأنثى لا يقل أبدا عن المفهوم السابق في جوهریته.
ولكن إذا عرفنا النسوية، كما هو مقترح، بوصفها موقعا سياسيا، والأنوثة باعتبارها مسألة بيولوجية، فنظل نواجه مشكلة تعريف الأنثوية. إن تعريفها على أنها “مجموعة من السمات المحددة ثقافيا” أو “بناء ثقافي” قد يبدو غامضا للكثيرين، ويبدو من الممكن اعتبار هذا التعريف جامعا غير مانع، ولا يبدو كتعريف “صحيح“، ولكن السؤال المطروح هو ما إذا كان من المرغوب فيه بالنسبة للنسويات محاولة تحديد وتثبيت معنى الأنثوية أساسا، فالأبوية جاءت بمجموعة كاملة من السمات “الأنثوية” (العذوبة والحياء والتبعية والتواضع، إلخ) فهل يتعين على النسويات حقا محاولة تطوير مجموعة أخرى من الفضائل “الأنثوية“، مهما كانت مرغوبة؟ وحتى إذا أردنا فعلا تعريف الأنثوية بإيعاز من التعريفات الأبوية ألن يتحول الأمر إلى مجرد جزء من الثنائيات الميتافيزيقية المتعارضة التي تنقدها إيلين سيكسو عن حق؟ كما يوجد خطر أن يتحول التعريف النسوي الإيجابي للأنثوية إلى تعريف للأنوثة، وبالتالي التقهقر والوقوع في فخ أبوي آخر. ويقدر ما هو مثير للرضا أن يقال لنا إن النساء حقا قويات ومندمجات ومحبات للسلام ومعتنيات بالتربية وكيانات مبدعة وخلاقة، إلا أن هذا الجمع من الفضائل الجديدة لا يقل جوهرية عن الفضائل القديمة، ولا يقل في تأثيره القامع لكل امرأة لا ترغب في أن تلعب دور “أم الأرض” فالأبوية، لا النسوية، هي التي آمنت دوما في وجود طبيعة حقيقية تتصف بالأنوثة/الأنثوية، فمفهوما الكيان البيولوجي والطبيعة الجوهرية كامنان خلف الرغبة في إضفاء الفضائل الأنثوية على كافة أجساد الإناث، بما يحقق بالضرورة مصالح الآباء.
لقد تأملنا حتى الآن مصطلحات الأنوثة – الأنثوية – النسوية في علاقة الواحدة بالأخرى، ولكن من المهم كذلك الوعي بالتداعيات السياسية والنظرية الناجمة عن الافتراض أنها تدخل في علاقات ثنائية متعارضة تلقائية وثابتة ممثلة في الأنوثة/الذكورة أو الأنثوية/ الذكورية.
ولكن حالة النسوي أو النسوية قد تبدو مختلفة نوعا ما، فالعلاقة بين كلمات مثل النسوية والتحيز الجنسي والأبوية تبدو لي أكثر تعقيدا من حالة الأنثى/الذكر female/male أو الأنثوي الذكوري أي المؤنث المذكر (feminine/masculine)، وربما يرجع ذلك إلى الطبيعة السياسية لتلك المصطلحات، ومن هنا فإنني لا أفترض أن تناولي فيما يلي أيديولوجيا الثنائيات المتعارضة يستدعي بالضرورة أيضا ثنائيات أخرى مثل متحيز/ نسوي أو أبوي/ نسوي، حيث لا يبدو أن هنالك تداهرا تلقائيا مع “الثنائيات” مثل ذكر/أنثى، ذكورة/أنوثة أو ذكوري أنثوي.
وقد قدمت ایلین سیکسو مناقشة قيمة للنتائج المترتبة على ما أطلقت عليه مسمى “الفكر الثنائي المميت” (“death-dealing binary thought”)، حيث نجدها تحت عنوان “أين هي؟” تسرد قائمة بالثنائيات المتعارضة. ومع تماشي تلك الثنائيات مع التعارض الكامن بين ثنائية الرجل/ المرأة نجد تلك الثنائيات المتعارضة متراكبة ضمن نظام القيم الأبوية، حيث يمكن تحليل كل ثنائية متعارضة كتراتبية هرمية نرى فيها الجانب “الأنثوي” دائما باعتباره حالة سلبية عديمة القوة والسلطة. وبمعنى آخر، فإن المعارضة البيولوجية في صيغة الذكر الأنثى (male/female) تستخدم في صياغة وبناء سلسلة من القيم “الأنثوية” السلبية التي يتم بعدها فرضها وخلطها بكيان “الأنوثة” وبالنسبة لإيلين سيكسو، التي تدين بالكثير هنا لكتابات جاك ديريدا، فإن الفلسفة والفكر الأدبي الغربي كان دوما ولا يزال متداخلا مع تلك السلسلة اللانهائية من الثنائيات المتعارضة، والتي ترجع دائما في نهاية الأمر إلى الثنائي الأساسي الذكر/الأنثى. وتوضح الأمثلة التي تقدمها إيلين سيكسو أن الأهمية لا تكمن في أي “الزوجين” يتم اختيار إلقاء الضوء عليه، فالمعارضة الخفية في الذكر/ الأنثى، بما فيها من تقييم حتمي من منطلق ثنائية الإيجابي/ السلبي يمكن دوما تتبعها باعتبارها منظومة أساسية قائمة تحت السطح.
وكما هو متوقع تنتقل إيلين سيكسو إلى تحديد موقع الموت ونشاطه في هذا النوع من التفكير فهي تزعم أنه في سبيل نجاح مصطلح في اكتساب المعنى لابد وأن يقضي على مصطلح آخر، وبالتالي فلا يمكن أن يظل “الثنائي” كما هو، بل يتحول إلى أرض معركة عامة يقوم عليها مرارا وتكرارا صراع من أجل السيادة على المعنى، ويتم في النهاية معادلة النصر بالنشاط والهزيمة بالسلبية. وفي إطار النظام الأبوي يكون الذكر هو المنتصر دائما، وتندد إيلين سيكسو بشدة مثل هذه المعادلة بين الأنوثة وبين السلبية والموت باعتبار تلك المعادلة لا تترك حيرا إيجابيا للمرأة: “فالمرأة إما سلبية أو لا وجود لها“8. ونظرا لتأثرها الكبير بتفكير جاك ديريدا واستراتيجياته الفكرية، يمكن بمعنى ما تلخيص مشروعها النظري بأكمله بوصفه جهدا يسعى إلى إلغاء أيديولوجيا مركزية الكلمة ( logocentric ideology)، أي إعلان المرأة كمصدر للحياة والقوة والطاقة والترحيب يبواكير لغة أنثوية جديدة تعمل بلا كلل على تقويض تلك الأنظمة الثنائية الأبوية حيث تتواطأ مركزية الكلمة مع مركزية الفحولة سعيا لقهر النساء وإسكانهن. (إن مركزية الفحولة (phallocentrism) تشير إلى نظام يميز عضو الذكورة كرمز أو مصدر للسلطة. وعند الجمع بين مركزية الكلمة ومركزية الفحولة، يتم استخدام مصطلح “مركزية فحولة الكلمة” (phallogocentrism) الذي صاغه جاك ديويدا) ولكن هذا المشروع في حد ذاته محفوف بالمخاطر، فعلى الرغم منتيزايد وعيها بالمشاكل القائمة تجد إيلين سیکسو نفسها في مأزق كبير عندما تحول التمييز بين مفهومها عن الكتابة الأنثوية وبين فكرة كتابة الأنثى ففي أعقاب صراعها البطولي ضد مخاطر “الكيان البيولوجي“، لعله من المنصف القول بأن نظريات إيلين سيكسو عن “الكتابة الأنثوية” (écriture feminine) تتهاوى في النهاية لتصبح شكلا من أشكال الجوهرية البيولوجية.9
ولكن ما قامت به إيلين سيكسو من “تفكيك” للثنائية المتعارضة الأنثوية/ الذكورية يطل جهدا ذا قيمة كبيرة للنسويات ، وإذا كان تحليلها صحيحا، فإن قيام امرأة نسوية بمواصلة الدعوة إلى الفكر الثنائي، ضمنيا أو علانية، سيبدو بمثابة البقاء داخل النظام الميتافيزيقي الأبوي، إن فكرة وجود معارضة موحدة من الإناث تتصدى لجبهة الذكور لن تمثل بالتالي استراتيجية نسوية ممكنة لهزيمة النظام الأبوي، بل على النقيض من ذلك سيدعم النظام الذي يسعى إلى حله، وتقوم إيلين سيكسو بتأسيس مبدأ الاختلاف (difference) المتنوع والمتعدد، وذلك في مواجهة أي نظام فكري قائم على الثنائيات. وهي إذ تفعل ذلك فإنما تقوم به بتأثير كبير من فكرة الفيلسوف الفرنسي جاك ديويدا عن الاختلاف (difference) أو بالأدق عن الاختلاف والإحالة (differance). فالمعنى (الدلالة) عند جاك ديرندا لا ينتج في النطاق الساكن المغلق للثنائية المتعارضة، بل يتحقق من خلال “الدور الذي يلعبه الدال“،10 إن حصر الذكورة والأنوثة داخل ثنائية متعارضة يلغي فيها إحداهما الآخر يعني تحديدا. طبقا لإيلين سيكسو، إجبارهما على الدخول في صراع قوة مميتة ترى موقعه داخل الثنائية المتعارضة، ويتقبع ذلك المنطق تصبح مهمة النسوية المطلقة في تفكيك الميتافيزيقا الأبوية (أي الاعتقاد في وجود معنى دفين قائم في العلامة)، وإذا كنا، كما يرى ديربدا، لا نزال نعيش تحت حكم الميتافيزيقا، فمن المستحيل إنتاج مفاهيم جديدة غير ملوثة بميتافيزيقا التواجد. إن طرح تعريف جديد للأنثوية يعني بالضرورة الوقوع في الفخ الميتافيزيقي.
ولكن ألا يؤدي كل هذا القدر من النظرية إلى ترك النسويات أمام نوع من حائط السد المزدوج؟ فيل من الممكن حقا البقاء في مجال التفكيكية عندما نجد أن ديربدا نفسه يعترف بأننا ما زلنا نعيش في حيز فكري “ميتافيزيقي“؟ وكيف يمكننا مواصلة نضالنا السياسي إذا كان علينا أولا تفكيك فرضيتنا الأساسية بشأن التعارض بين سلطة الذكر وتبعية الأنثى؟ من الطرق التي يمكن بها الإجابة على هذه الأسئلة هو تأمل آراء جوليا كريستيفا Julia Kristeva)) الباحثة اللغوية والمحللة النفسية الفرنسية البلغارية فيما يتعلق بمسألة الأنثوية فهم ترفض تعريف “الأنثوية“، وتفضل أن تراها باعتبارها موقعا، فإذا كان في وسعنا القول بوجود تعريف ما للأتلوية لدى جوليا كريستيفا، فهو ببساطة يشير إلى ما هو مهمش بواسطة النظام الرمزي الأبوي” إن هذا التعريف القائم من طريق التناسب هو تعریف متغير ومتحول مثل الأشكال المتنوعة للأبوية نفسها، وتتيح لجوليا كريستيفا التأكيد على أنه في الأمكان صياغة وبناء الرجال بوصفهم هامشيين في النظام الرمزي، وهو ما أوضحته تحليلاتها للفنانين الطليعيين من الرجال (جويس، وسيلون، وآرتو، ومالارمي، ولوتريامون Joyce, Céline, Artuad, Mallarmé, Lautréamont 11
إن تأكيد جوليا كريستيفا على الأنثوية باعتبارها صياغة وبناء أبوبا يتيح للنسويات مواجهة كافة أشكال الهجوم الذي يشنه دعاة “الكيان البيولوجي” من حماة المركزية الفحولية، إن تقديم كل النساء باعتبارهن بالضرورة أنثويات، وكل الرجال باعتبارهم بالضرورية ذكوريين، هو تحديد الفعل الذي يمكن القوى الأدوية من تعريف كل النساء، لا الأنثوية، كهامشيات بالنسبة للنظام الرمزي وللمجتمع، وإذا كانت الأنثوية، كما بينت إيلين سيكسو، تعرف باعتبارها نقصا وسلبية وغيابا للمعنى ولاعقلانية وفوضى وظلاما – أي باختصار، على أنها “غير كائنة” – فإن تأكيد جوليا كريستيها على الوجود الهامشي تتيح لنا رؤية قمع الأنوثة من منطلق الموقعية لا الجوهر إن ما نراه هامشيا في زمن ما يعتمد على الموقع الذي تحتله، وهنالك مثال موجز سيوضح ذلك التحول وتلك النقلة من الجوهر إلى الموقع: فإذا كان النظام الأبوي يرى أن النساء يحتللن موقعا هامشيا داخل النظام الرمزي فيوسع الأبوية أن تعتبر من بمثابة الحد أو الخط الفاصل لهذا النظام. ومن منظور المركزية الفحولية ستصبح النساء ممثلات للحدود الضرورية بين الرجل والفوضى، ولكن بسبب هامشيتهن تلك فسوف تبدو النساء دوما وكأنهن يتراجع ويندمجن داخل فوضى العالم الخارجي. إن رؤية النساء باعتبار من الحد الفاصل للنظام الرمزي سيساهم بمعنى آخر في إرباك خصائص كل الحدود، فلن يقعن في الداخل ولا في الخارج، ولن يكن معروفات أو غير معروفات. إن هذا الموقع هو الذي مكن ثقافة الرجل أحيانا من الطعن في النساء بوصفين يمثلن الظلام والفوضى، ورؤيتهن على أنهن ليليث أو عاهرة بابليون، وأحيانا أخرى من إعلاء شأنهن يوصفين يمثلن طبيعة أسمى وأنقى وإجلالهن كما لو كانت كل واحدة منهن العذراء وأم الإله، ففي الحالة الأولى يرى الحد الفاصل على أنه جزء من عالم البرية والفوضى الخارجي، وفي الحالة الثانية يرى بمثابة جزء متأصل من الداخل، أي الجزء الذي يذود عن النظام الرمزي ويحمية من الفوضى المتخيلة. ومن المسلم به أن الموقع لا يتماشى مع أية حقيقة جوهرية خاصة بالمرأة، على الرغم من محاولات القوى الأبوية في إقناعنا بذلك.12
إن مثل هذا المنظور الموقعي لمعنى الأنثوية قد يبدو السبيل الوحيد لتجنب مخاطر مفہوم الكيان البيولوجي” (متداخلا مع مفهوم “كيان الأنثى“)، ولكنه لا يجيب على أسئلتنا السياسية الأساسية. فإذا كنا الآن قد قمنا بتفكيك مفهوم الأنثى خارج الوجود، فقد يبدو وكأن أسس وقواعد النضال النسوي قد تلاشت، وفي مقالتها عن “زمن النساء” تدعو جوليا كريستيفا ( lulia Kristeva “Women’s Tima”) إلى مقاربة تفكيكية للاختلاف الجنسي، وترى أن النضال النسوي يجب أن ينظر إليه تاريخيا وسياسيا باعتباره ثلاثي المستويات، ويمكن تلخيصه فيما يلي:
1. النساء يطالبن بحق مساو في النظام الرمزي، النسوية الليبرالية، المساواة
2. النساء يرفضن النظام الرمزي الذكوري من منطلق الاختلاف النسوية الراديكالية، الإشادة بالأنثوية.
3. النساء يرفضن الانقسام بين الذكورة والأنوثة كمسألة ميتافيزيقية. (وهو موقف جوليا كريستيفا الشخصي).
إن الموقف الثالث هو الذي قام بتفكيك التعارض بين الذكورة والأنوثة ( masculinity and femininity)، وبالتالي يواجه بالضرورة مفهوم الهوية في حد ذاته. وتكتب جوليا كريستيفا قائلة:
في هذا الموقف الثالث الذي أدعو إليه بشدة –والذي أتخيله؟– يمكن فهم الانقسام في الرجل/ المرأة كتعارض بين كيانين متنافسين على أنه ينتمي إلى الميتافيزيقا. فما الذي يمكن أن تعنيه “الهوية“، بل وحتى “الهوية الجنسية“، في حيز نظري وعلمي جديد حيث يتعرض مفهوم الهوية نفسه للتحديات؟
إن العلاقة بين تلك المواقع الثلاثة تتطلب بعض التعليقات. ففي مكان آخر في مقالتها تؤكد جوليا كريستيفا بوضوح أنها تراها مواقع متزامنة في النسوية المعاصرة ولا تلغي إحداها الأخرى، ولا تراها كصيغة نسوية لفلسفة التاريخ – عند هيجل. إن الدعوة إلى الموقف الثالث مع إلغاء الموقفين الأول والثاني هو بمثابة فقد الصلة بالواقع السياسي للنسوية. فما زلنا في حاجة إلى المطالبة بمكاننا في المجتمع الإنساني على قدم المساواة، لا باعتبارنا أعضاء تابعين، وما زلنا في حاجة أيضا إلى التأكيد على الاختلاف القائم بين تجربة الذكر والأنثى أو الذكورة والأنوثة مع العالم. ولكن هذا الاختلاف يتشكل بواسطة البنى الأبوية التي تعارضها النسميات، وإن البقاء على العهد تجاه الاختلاف يعني أن نلعب اللعبة الأبوية، ومع ذلك، فطالما كانت الأبوية سائدة فإنها تظل جوهرية سياسيا بالنسبة للنسويات كي يحمين النساء باعتبارهن نساء، من أجل مجابهة القهر الأبوي الذي يكره النساء باعتبارهن نساء. ولكن شكلا “غير مفكك” من “المرحلة الثانية” من النسوية وغير واع بالطبيعة الميتافيزيقية للهويات الجندرية، هو شكل يجازف بالتحول إلى شكل مقلوب من التحيز الجنسي. والذي يتحقق عن طريق الاستحواذ غير النقدي على الفئات الميتافيزيقية نفسها التي أوجدها النظام الأبوي للإبقاء على النساء في أماكنهن، وذلك على الرغم من محاولات الصاق قيم نسوية جديدة بتلك الفئات القديمة. إن تبني شكل النسوية الخاضعة للتفكيك بواسطة جوليا كريستيفا بترك بالتالي الأمور كما كانت، دون أن تتغير مواقعنا في النضال السياسي، ولكن بمعنى آخر يؤدي تبني هذا الشكل إلى حدوث تحول جذري في وعينا بطبيعة ذلك الصراع والنضال، إن الاستحواذ والتوظيف النسوي للتفكيكية هو بالتالي ممكن ومنتج سياسيا، طالما لم يؤد بنا إلى كبت ضرورة إدماج المرحلتين الأولى والثانية لدى كريستيفا ضمن منظورنا.
وعلى تلك الخلفية ربما يكون من المفيد تقسيم النظرية والنقد النسوي اليوم إلى فئتين أساسيتين وهما نقد “الأنثى” (female criticism) والنظرية “الأنثوية” (feminine theory)، إن نقد “الأنثى” الذي يعني في حد ذاته النقد الذي يركز بصورة ما أو بأخرى على النساء، يمكن بالتالي تحليله تبعا لمدى كونه نسويا من عدمه، وتبعا لما إذا كان يتعامل مع “الأنثى” بمعنى النسوية، أم أنه يخلط بين الأنثى الأنوثة والأنثوية. إن الدراسة اللاسياسية للكاتبات ليست كما هو واضح دراسة نسوية في حد ذاتها، فقد تكون مجرد مقاربة تختزل النساء في مكانة الموضوعات العلمية المثيرة للاهتمام جنبا إلى جنب الحشرات أو الجزيئات النووية. ومع ذلك فمن المهم التأكيد على أنه في السياق الذي يسوده الرجل، يجب من منطلق موضوعي اعتبار الاهتمام بالكاتبات بمثابة دعم للمشروع النسوي الساعي إلى جعل النساء مرئيات، ولا ينطبق ذلك بالطبع على الأبحاث التي تتناول النساء مع التحيز ضدهن وبمعنى آخر فمن الممكن أن يكون المرء من نقاد “الأنوثة” دون أن يكون ناقدا نسويا أو ناقدة نسوية إلا أن الغالبية العظمى من الناقدات النسويات الأمريكيات يكتبن من موقع نسوي صريح، ويأتي التركيز في الولايات المتحدة على “النقد النسائي” (gynocritics) أو دراسة الكاتبات من النساء. ونجد في كتاب إيلين شوولتر “أدب خاص بهن” (Elaine Showalter, A Literature of Their Own) وكتاب ساندرا جیلبرت وسوزان جوبار عن “المجنونة في العلية” (Sandra Gilbert and Susan Gubar, The Madwoman in the Attic) هما المثالان الأكثر تميزا في هذا النوع من النقد النسوي.13 وفي سياق هذه المقالة، فإن الدراسة العظيمة التي قامت بها ساندرا جيلبرت وسوزان جوبار تقدم نموذجا مفيدا الداعيات الخلط بين الأنوثة والأنثوية بل وأيضا بين مدمج الأنوثة/ الأنثوية من ناحية وبين النسوية من ناحية أخرى، ففي تناولهما للعناصر المتكررة (الموتيفات) والأنماط الواردة عند كاتبات القرن التاسع عشر، تجدهما تصران على استخدام صفة “الأنثى” في محض حديثهما على سبيل المثال عن حراث الأنثى في الأدب” أو “كتابة الأنثى” أو “إبداع الأنثى” أو “غضب الأنثى” على سبيل المثال لا الحصر وكان من ضمن آرائهن المحورية هو أن كاتبات القرن التاسع عشر اخترن التعبير عن غضب الأنثى عندهن في سلسلة من الاستراتيجيات النصية المخادعة التي تصبح بها كل من الملاك والوحش، والبطلة الرقيقة والمجنونة الغاضبة، جوانب تعكس صورة الكاتبة عن ذاتها، بالإضافة إلى عناصر من استراتيجياتها الخادعة والمناهضة للأبوية. إنها نظرية بالغة الجاذبية والغواية، ومدهشة في إنتاجيتها، عند تطبيقها على أعمال شارلوت برونتي مثلا التي قامت أساسا بخلق شخصية المرأة المجنونة الأصلية، ولكننا إذا كشفنا الستار عن المعاني المحتملة لكلمة أنثى في نص ساندار جيلبرت وسوزان جوبار لوجدنا أن نظرية “إبداع الأنثى” تقوم على فرضية مؤداها أن الكاتبات الإناث يتعرضن دائما لتجربة غضب مناهضة الأبوية في قلوبهن، وأن هذا الغضب النسوي سيوجد بالطبيعة نمطا أنثويا للكتابة، حيث يتم استخدام استراتيجية التحفي الماكرة لجعل الرسالة الموجهة من المجموعة المهمشة تلقى قبولا لدى القوى الأبوية. ولكن هذا النمط ليس متاحا للمؤلفين من الرجال ولكنه مشترك بين كافة الكاتبات الإناث، ويمكننا أن نرى هنا تطبيقا للاستراتيجية الأبوية الخاصة بالخلط وإدماج الأنثوية في الأنوثة، حيث نجد أن نشأة الكتابة الأنثوية (écriture feminine) من داخل هذا النوع من النقاش المنطقي يكتنفه قدر من المنطق البيولوجي. إن كتاب ساندرا جیلبرت وسوزان جوبار يوحد كل مقولات الإناث المبدعات في التعبير النسوي عن الذات، وهي استراتيجية تفشل على الأخص في تفسير الطرق التي قد تتبنى بها النساء موقع الذات الذكورية أي يصبحن مدافعات وحاميات حتى النظام الأبوي القائم.
إن النظرية “الأنثوية” في تعريفها البسيط قد تعني النظريات المهتمة بصياغة وبناء الأنثوية. ومن منظور نسوي، تتمثل مشكلة هذا النوع من الفكر في كونه قابلا للتعرض لهجوم من منطلق “الكيان البيولوجي“، وكثيرا ما يتحول عن غير قصد إلى ظريات في جوانب جوهر الأنثى. وفي نفس الوقت، فإن أكثر نظريات “الصياغة والبناء” رسوخا قد لا تكون نظريات نسوية على الإطلاق. فأعمال زيجموند فرويد، على سبيل المثال، تقدم توضيحا رائعا لعملية تشكل النظرية، التي مع كونها أبعد ما تكون عن النسوية إلا أنها توفر أساسا لازما للتحليل اللاجوهري للاختلاف الجنسي. أما النظرية البديلة، وهي النظرية القائلة بوجود خصائص أنثوية جوهرية، فكما رأينا سوف تلعب ببساطة دورا أبويا. ومع أن التحليل النفسي ما زال في حاجة إلى التعرض لتحول خلاق بما يحقق أغراض النسوية، إلا أن الواقع يظل يشير إلى أن النسوية في حاجة إلى نظرية اللاجوهرية عن الحياة الجنسية والرغبة الإنسانية من أجل فهم علاقات القوى بين جنس وآخر.
ويمكن اعتبار الكثير من النظرية النسوية الفرنسية، وكذلك قراءات نسوية متنوعة للتحليل النفسي، على أنها بهذا المعنى بمثابة “نظريات أنثوية“. ولكن يوجد تناقض ظاهري قائم في آراني المعروضة هنا، فالكثيرات من النسويات الفرنسيات مثلا سيجادلنني بقوة في محاولتي تعريف “الأنوثة” أصلا. فإذا كن يرفضن المسميات والأسماء والصيغ المشتقة تحديدا (isms) – كالنسوية والتحيز الجنسي (feminism and sexism) – فإنما يعود ذلك إلى أنهن يرون في عملية إضفاء المسميات ما يكشف عن نزعة مركزية فحولة الكلمة (phallogocentrism) لتثبيت وتنظيم وإضفاء العقلانية على عالمنا الفكري، وترى النسويات الفرنسيات أن العقلانية الذكورية هي التي تعلي دوما من شأن العقل والنظام والوحدة والصفاء، وأنها نجحت في ذلك بإسكات وإقصاء اللاعقلانية والفوضى والتفكك الذي صار يمثل الأنثوية. وفي رأيي الشخصي فإن مثل تلك المصطلحات الفكرية هي ضرورية سياسيا وميتافيزيقية في نهاية الأمر، ومن الضروري تفكيك المعارضة بين القيم “الذكورية” تقليديا و“الأنثوية” تقليديا وفي نفس الوقت مواجهة الواقع والقوة السياسية الكاملة لتلك الفئات. ويجب علينا أن نسعي نحو مجتمع نتوقف فيه عن تصنيف المنطق والتفكير والعقلانية باعتبارها “ذكورية“، لا أن نصبو لمجتمع تم فيه نفي وإبعاد تلك الفضائل باعتبارها “غير أنثوية“.
وعلى سبيل إيجاز ذلك العرض للوضع الحالي للنظرية الأدبية النسوية، يمكننا الآن أن تعرف الكتابة بأقلام النساء على أنها كتابة الأنثى، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه التسمية لا تذكر أي شيء على الإطلاق عن طبيعة هذه الكتابة، ويمكننا تعريف الكتابة بأنها نسوية عندما تتخذ موقعا واضحا مناهضا للأبوية ومناهضا للتحيز الجنسي، وتعريف الكتابة بأنها أنثوية عندما تبدو مهمشة (مكبوتة أو متعرضة للإسكات) بواسطة النظام الاجتماعي/ اللغوي الحاكم، ولا تتضمن تلك الأخيرة (مع احترامي لجوليا كريستيفا) أي موقع سياسي معين (دون نسوية واضحة جلية) وذلك رغم عدم استبعاد النسوية أيضا. وهكذا فإن بعض النسويات، مثل إيلين سيكسو، حاولن إنتاج كتابة “أنثوية” في حين لم تفعل أخريات (سيمون دي بوفوار) ذلك. ونجد أن مشكلة مسمى “الأنثوية” تكمن حتى الآن في ميله إلى إعلاء الأشكال القائمة من الحداثة الأدبية والنزعة الطليعية و/أو التداخل معها. وأعتقد أن تلك هي طريقة واحدة ممكنة أمام الكيان الهامشي في علاقة الهامشية بالنظام السائد (وفي تلك الحالة في علاقتها بالأشكال التقليدية أو التمثيلية من الكتابة). إن “الهامشية” لا يمكن أو لا يجب أن تكون فقط مسألة متعلقة بالشكل.
ولعل أهم نقطة في هذا كله من أهمية إدراك أن تلك “المسميات” الثلاثة لا تعبر عن جواهر الأمور، بل في قنات تستخدمها بوصفنا قراء وقارئات أو نقادا وناقدات، اننا ننتج نصوصا تكون هامشية من خلال وضعها في علاقة مع بني أخرى سائدة. وتختار قراءة نصوص مبكرة بأقلام لساء باعتبارها أعمالا ما قبل السوية (pre-feminist)، وتقرر العمل على نصوص تخص “الأنثى“. والقصد من التعريفات المقدمة هنا هو فتح المجال أمام قيام مناقشات وجدل حولها، لا وضع نهاية لها، وذلك رغم أنها من المفترض أن تكشف شيئا ما عن المجال الذي يمكن أن يشهد ذلك الجدل والنقاش. ويبدو أن السياسة والبيولوجيا والهامشية هي موضوعات أساسية في هذا الصدد، ولكن للأسف لا يوجد شيء يعتبر نصا نسويا بطبيعته الداخلية، فإذا أخذنا في الاعتبار السياق التاريخي والاجتماعي الصحيح فيمكن استعادة كافة النصوص بواسطة القوى الحاكمة – أو الاستحواذ عليها وتوظيفها بواسطة المعارضة النسوية، ولو أتيحت لها الفرصة لربما كانت جوليا كريستيفا قد قالت إن كل أشكال اللغة في أماكن للصراع والنضال، وباعتبارنا ناقدات نسويات فإن مهمتنا هي منع الآباء أي أصحاب السلطة الأبوية من التهرب عن طريق خدعتهم المعتادة الممثلة في إسكات المعارضة. والأمر متروك لنا الآن أن نجعل الصراع والنضال حول معنى العلامة – معنى النص – بندا صريحا وحتميا على قائمة الأجندة الثقافية.
توريل موي، أستاذة الدراسات الأدبية والأدب الإنجليزي والفلسفة والدراسات المسرحية في جامعة ديوك بالولايات المتحدة الأمريكية. تجمع اهتماماتها البحثية بين النظرية النسوية والكتابة النسائية وتقاطع الأدب مع الفلسفة وعلم الجمال. وهي متخصصة في مجال نشأة الحداثة في الفترة من نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وتعتبر من مؤسسات النقد الأدبي النسوي بكتابها السياسات النصية الجنسية: النظرية الأدبية النسوية الصادر عام 1985. وتتركز دراساتها حول المدرسة الفرنسية في النقد النسوي إذ ألفت عدة كتب منها كتاب عن سيمون دي بوفوار صدر عام 1994 في طبعته الأولى، وكتاب الفكر النسوي الفرنسي الصادر عام ١٩٨٧، بالإافة إلى تحرير كتاب عن جوليا كريستيفا صدر عام 1986.
* Toril Moi, “Feminist, Female, Feminine” in The Feminist Reader: Essays in Gender and the Politics of Literary Criticism, eds., Catherine Belsey and Jane Moore (Longman, 1997; 1989).
وهذه المقالة هي صيغة مختصرة من مقالة نشرت مسبقا في المصدر الآتي:
“Feminist Literary Criticism”, in Ann Jefferson and David Robey (eds), Modern Literary Theory (London, 1986), pp. 204-221.
-
Kate Millet, Sexual Politics (London, 1971), p. 25.
2. Dale Spender, Women of Ideas and What Men Have Done to Them (London 1982).
3. Sandra M. Gilbert and Susan Gubar, The Madwoman in the Attic: the Woman Writer and the T Nineteenth-Century Literary Imagination (New Haven, CT, 1979).
4. Rosalind Coward, “Are Women’s Novels Feminist Novels?”, in Elaine Showalter (ed.), The New Feminist Criticism (London, 1986), p. 230.
5. للحصول على مناقشة لمثل هذه الاختلافات السياسية داخل النسوية الأمريكية، أنظر/ ي:
Hester Eisenstein, Contemporary Feminist Thought (London 1984).
6. Coward, “Are Women’s Novels Feminist Novels?”, p. 237.
7. Mary Ellmann, Thinking About Women (New York, 1968); Penny Boumelha, Thomas Hardy and Women: Sexual Ideology and Narrative Form (Brighton, 1982).
8. Hélène Cixous and Catherine Clément. The Newly Born Woman, trans.Betsy Wing (Minneapolis and Manchester, 1986), p. 64.
9. مما لاشك فيه أن فيرينا ألديرمات كونلي ستختلف في الرأي في كتابها عن إيلين سيكسو أنظر/ي:
Verena Andermatt Conley, Hélène Cixous: Writing the Feminine (Lincoln, NE and London, 1984)
وللحصول على مناقشة لبعض آرائها، أنظر/ي أيضا:
Toril Mol, Sexual/Textual Politics: Feminist Literary Theory (London 1985), pp. 123-6.
10. يكون المعنى في نظرية جاك ديرندا دائما متعددا وغير ثابت وفي حالة فعل أو “لعب“.
11. Julia Kristeva, Revolution in Poetic Language (New York, 1984)
وللحصول على قراءات عن لاكان والنظام الرمزي، أنظر/ي:
Elizabeth Wright, Psychoanalytic Criticism: Theory in Practice (London 1984); Moi, Sexual/Textual Politics and Terry Eagleton, Literary Theory: An Introduction (Oxford, 1983)
وكذلك كتاب أنيكا ليمبر عن “جاك لاكان“، والذي يظل في رأبي أكثر مقدمة جادة ومتسعة إلى أعمال لاكان:
Anika Lemaire, Jacques Lacan (London, 1977)
12. للحصول على مراجعة نقدية ضرورية للتعرف على التداعيات السياسية لنظريات جوليا كريستينا في تلك النقطة، أنظر/ي:
73 -150 .Moi, Sexual/Textual Politics, pp
13. Elaine Showalter, A Literature of Their Own: British Women Novelists from Bronte to Lessing (Princeton, NJ, 1977)