السيرة الذاتية المقاومة
الأنواع الأدبية الخارجة على القانون والذوات النسوية عبر القومية
کارین کابلان*
تحمل السيرة الذاتية، مثلها مثل غالبية الأنواع الأدبية في الغرب، تاريخا معينا من الحصول العدلية والمعالم المهمة والموضوعات الخلافية، ويتمركز معظم الخطاب المعاصر عن السيرة الثانية حول إشكالية طبيعة تعريف هذا النوع الأدبى، ولكن يمكن القول إن السيرة الذاتية لم تبلغ سوى مؤخرا أكثر مراحلها استقرارا واعترافا بالقيمة على مدار هذا التاريخ، ومع ذلك نجد أن تصيب السيرة الذاتية المتتابع في إطار سوق القيمة الأدبية هو نصيب يختلف في حالة السيرة الذاتية عن غيرها من الأنواع الأدبية الغربية من حيث يبدو الأمر وكان “مشاكلها” هي التي تعمل على تحديدها وتعريفها وإذا كانت السيرة الذاتية تبدو الآن كما لو كانت راسخة رسوخ الرواية على سبيل المثال داخل التراث الرسمي للأدب الغربي، إلا أن ذلك لا يمحو العلامات البارزة الدالة على أوجه التوتر القائم في الخطاب النقدي.
وقد قامت المجالات المعرفية البيئية، مثل الدراسات النسائية والدراسات العرفية والدراسات الأمريكية، بتقديم قراءات نسوية للمذاهب والتعريفات الخاصة بالسيرة الذاتية. ومع أنضمام النظريات النسوية إلى النشاط الجدلي الدائر حول السيرة الذاتية، شهدت قضايا تعريف وتراث الأنواع الأدبية تحولا في سبيل مواجهة وتحدي التقاليد والمذاهب الرسمية ذات السمة الذكورية الغالبة، وقد أسمن النقاد والناقدات مذاهب بديلة في السيرة الذاتية الغربية بما يتضمن سرديات العبيد الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية، واليوميات، ويوميات الأسر، والسجلات الشخصية الخاصة بدعاة إنهاء العبودية والمطالبة بحقوق النساء السياسية، والروايات الواردة عن نشطاء وناشطات الحركة العملية، والتاريخ الشفاهي للهجرة والمنفى، والرواية الحداثية، وغيرها من أشكال السيرة الذاتية، ومع اتساع مجال هذا النوع الأدبي بحيث أصبح يتضمن وسائط عديدة، تعين على نقد السيرة الذاتية التعرف على فنون التصوير الفوتوغرافي والسينما والفيديو والنسخ التصويري. والموسيقى والمنسوجات والعديد من التقنيات الأخرى ولكن رواج مفهوم السيرة الذاتية في الدراسات والممارسات المعاصرة في الثقافة الغربية لا يلغي الثراث الإشكالي لهذا النوع الأدبي المعقد. وأود في هذه المقالة أن أتساءل عما إذا كانت السيرة الذاتية قابلة للاستعادة والاسترجاع كاستراتيجية للكتابة النسوية في سياق الروابط عبر القومية القائمة بين النساء، فإذا كانت المدرسة الغربية في نقد السيرة الذاتية في حد ذاتها شكلا من أشكال الخطاب الكولونيالي الاستعماري، فهل تؤدي إلى استمرار وجود أشكال ما بعد كولونيالية من الهيمنة الثقافية؟ وهل توجد استراتيجيات للقراءة والكتابة تعمل على تفكيك أساطير القومية والفردية ووضعها في سياقها التاريخي؟ وما نوعية استراتيجيات القراءة والكتابة ما بعد الكولونيالية التي تتقاطع مع الهموم النسوية في خلق ذوات نسوية غير قومية؟
إن توظيف مصطلح عبر القومية (transnationa) يعمل على الربط بين الأسئلة التي أطرحها عنا حول النوع والجندر (genre and gender) وبين نظام عالمي من الإنتاج الثقافي الناشئ. وقد تم استخدام مصطلح النسوية العالمية (global feminism) وتوظيفه في حالات كثيرة داخل جزء من المشروع الإمبريالي الجديد الذي يقوم بصياغة وبناء الأجندات والذوات الغربية من أجل النساء في مواقع غير غربية. إن تحليل تشاندرا تالبيد موهانتي (Chandra Talpade Mohanty) لوظيفة سمة “العالمية” (global) في بعض النظريات النسوية الغربية يكشف لنا عن عملية الإخراج من السياق التاريخي والتي يتم خلالها “إخراج السياسات والأيديولوجيا باعتبارهما أوجها للنضال والاختيار الواعي بذاته“1. وفي سبيل تجنب صياغة وبناء فئات جامدة مثل “نساء العالم” أو “نساء العالم الثالث” أو “نساء العالم الأول“، يجب على الفكر النسوي المناهض للعنصرية وللإمبريالية أن يعبر عن الاختلافات في السلطة والموقع بأكبر قدر ممكن من الدقة، كما يجب عليه أيضا أن يجد نقاط تقاطع وأرضية مشتركة، ولكن تلك التقاطعات لن تكون تحالفات طوباوية أو بالضرورة مريحة. وهنالك حاجة إلى مصطلحات جديدة تعبر عن إمكانات قيام صلات وارتباطات وكذلك اختلافات بين النساء اللاتي يعشن في مواقع مختلفة. وإحدى هذه الإمكانات تتمثل في النشاط النسوي عبر القومي ، بل وإننى أرى أن هذا الشكل من الارتباط يظهر في سياقات عديدة أكاديمية وغير أكاديمية، وأن تاریخها ووجودها الحاضر عادة ما يظل جديرا بالقراءة.
یرى جاك ديرندا في مقالته عن “قانون النوع الأدبي ( acques Derrida The Law of the Geme) أن مؤسسة الأدب (وبالتواطؤ مع أخواتها في النزعة الإنسانية العربية، ممثلة في الفلسفة والتاريخ وما إلى ذلك) تقوم بترتيبات تقسم بالجيلة والخداع، فإن “قانون النوع” يعتمد على “قانون مضاد” ، أي أن الإمكانيات المتاحة أمام حدود النور في إمكانيات تضعتها دوما استحالة الحفاظ على تلك الحدود في حد ذاتها، ومع ذلك، فإن قانون النوع يؤكد أنه “لا يجوز خلط الأنواع“
بمجرد نطق كلمة “النوع” ، وبمجرد سماعها، وبمجرد محاولة المرء إدراكياء يتم وضع حد ما فاصل، وعندما تتم إقامة حد ما، تتلوه الأعراف والمحظورات “”إفعل” أو “لا تفعل” تبعا لما يقوله “النوع“، أو كلمة “النوع“، أو الشكل، أو الصوت، أو قانون النوع. … وهكذا، بمجرد أن يعلن النوع عن نفسه، يتعين على المرء احترام عرف ما، ولا يجوز للمرء أن يتجاوز خطا من الخطوط الفاصلة، ولا يجوز للمرء أن يجازف بالوقوع في البذاءة أو الانحراف أو البشاعة2.
إن نظرة سريعة إلى تاريخ نقد السيرة الذاتية في الغرب يؤكد أطروحة ديريدا، فعلى الرغم من أن نقد النوع كثيرا ما يتكون من عملية مستمرة من التعريف وإعادة التعريف، إلا أن نقد السيرة الذاتية يبدو في معظمه منخرطا في جهد محموم من أجل تثبيت وترسيخ الحدود ما بين الأنواع الأدبية فعلى سبيل المثال، نجد في مقالة يزعم جيمس أولني (James Olney) أنها “بداية” الدراسة المعاصرة لنظرية السيرة الذاتية، يصف فيها كاتبها جورج جسدورف (Georges Gusdorf) السيرة الذاتية على أنها “نوع أدبي راسخ ومتأصل، ويمكن تتبع تاريخه في سلسلة من الأعمال العظمى بداية من كتابات “الاعترافات” بقلم القديس أوغسطين (St Augustine, Confessions) إلى كتاب أندريه جيد “إن لم نمت البذرة” (Gide, Si le grain ne meurt)، ومرورا بكل من كتاب جوته (Goethe, Dichtung und Warheit) وكتاب شاتوبریان “ذكريات قبر مہجور” (Chateaubnand, Mémoires d’outre tombe) وكتاب “الاعتذار” بقلم نيومان (Newman, Apologia)”.3 ويقوم التقاد بتعديل التراث الأدبي طبقا لاهتماماتهم البحثية، ولكن المعيار الأساسي لمدرسة نقد السيرة الذاتية المعاصرة يظل محددا في الانشغال بجانبي “الأوضاع والحدود“، وفي الواقع تولد السيرة الذاتية قلقا نقديا برنبط على وجه الخصوص بالاهتمامات الغربية الممتدة في الفترة ما بين منتصف ونهايات القرن العشرين. وقد زعم جسدورف في عام ١٩٥٦ إمكانية احتواء السيرة الذاتية، ولكن مقدمة كتاب “السيرة الذاتية: مقالات نظرية وتقدية (۱۹۸۰) جانت تحمل علامات على التشكك، حيث يكتب جيمس أولني في مقدمته تلك قائلا عن “السيرة الذاتية” إنها “تنتج أسئلة أكثر من الإجابات، وشكوكا أكثر بكثير (حتى عن وجودها) من الثوابت باليقين“4.
إن وضع مقالة جسدورف على رأس كتاب أولي الذي يضمن مجموعة من المقالات في نقد السيرة الذاتية إنعا بمثل مؤشرا على تأثير جسدورف و هذا المجال البحثي ولابد من اقوادة آراء جسورات حول الخصوصية الثقافية لكتابات السيرة الذاتية قراءة تحمل قدرا من الوعي بموقفه من الصلحة في إنتاج نقد النوع الأدبي، حيث تتضمن جهود جسدورف في تحديد إطار (وتقنين) السيرة الذاتية رسم حد فاصل عند حدود الثقافة الغربية:
لا يمكن العثور على السيرة الذاتية خارج مجالنا الثقافي، بل يمكن القول بأن السيرة الذاتية تعبر عن هم خاص بالرجل الغربي، وهو هم كان مفيدا في غزوه المنظم للعالم، كما نجح في إيصاله إلى الرجال في الثقافات الأخرى، ولكن هؤلاء الرجال سيكونون بالتالي ملحقين بواسطة نوع من الاستعمار الفكري الذي يربطهم بعقلية مغايرة لعقليتهم.5
وليس جسدورف هو الناقد الأدبي الغربي الوحيد الذي يزعم أن أهل الغرب وحدهم هم القادرون على كتابة السيرة الذاتية، حيث يزعم روي باسكال (Roy Pascal) في كتابته عام 1960 أن السيرة الذاتية هي “نتاج مميز للحضارة الغربية ما بعد الرومانسية، ولم تنتشر إلى الحضارات الأخرى سوى في العصور الحديثة“.6 إن محاولة باسكال لتثبيت الحدود القومية والثقافية للسيرة الذاتية هي محاولات تخضع لتحديات من قبل تأمله هو نفسه لمذكرات بابور التي ترجع إلى القرن السادس عشر، وكان بابور هو المؤسس التركي لأسرة المغول الحاكمة في الهند، حيث يقول باسكال:
ليس من صميم اختصاصي أن أطرح إجابات على السؤال بشأن الأسباب التي تؤدي إلى عدم وجود سيرة ذاتية خارج أوروبا، وعن وجود عمل مثل مذكرات بابور من القرن السادس عشر والتي كانت ستحتل مكانا بارزا في تاريخ السيرة الذاتية لو كانت تنتمي إلى أوروبا، وهو الأمر الذي يجعلني أتردد عن التعميم. ولكن الأمر الذي يظل لا شك فيه هو أن السيرة الذاتية في في جوهرها أوروبية.7
وإذا كان باسكال لم يجد في مذكرات بابور تحديا كافيا لنظريقة في النوع الأدبي، إلا أن هنالك ناقدا آخر لم يجد غضاضة في توفيق كتابة المغول في القرن السادس هو من تاريخه من من هذا النوع، حيث قام جورج میش ببساطة بإضافة بابور إلى قائمة الصور الذاتية للملوك” الذين يقدمون أنفسهم باعتبارهم “أشخاصا عاديين من لحم ودم” في “صور مدهشة من حيث عدوية الوانها“8. ونجد أن كتاب ميش البارز (Georg Misch, Geschichte der Aurobiographie)، وهو العمل الضخم الصادر عام ۱۹۰۷، يبدأ من حضارة بابل وأشور ما قبل التاريخ . سعيا للوصول إلى ايات القرن التاسع عشر. ودون التطرق إلى نزعة ميش الاستشراقية، نجد أن غياب أي اعتبار لكل ما هو غير أوروبي من نصوص أو مفاهيم خاصة بتمثيل الذات في معظم نقد السيرة الذاتية الغربي في فترة ما بعد الحرب هو غياب يثير الاهتمام بالنسبة للصيغة التي يوردها ميش عن تاريخ السورة الذاتية، ولكن يجب تأجيل التوقف أمام الأسابا التي أدت إلى رسم حدود هذا النوع الأدبي في نطاق متضائل من الخصوصية الثقافية عبر القرن التاسع عشر، وتناول تلك المسألة في مقالة أخرى بمزيد من التفصيل.
وقد بدأ نقد السيرة الذاتية النسوي مؤخرا في عادة تقييم الأوضاع والحدود التي وضعها جسدورف لهذا النوع الأدبي. فقد قامت ليلى أحمد بمراجعة نقدية لمدرسة جسدورف في نقد السيرة الذاتية فقامت بدراسة تراث السيرة الذاتية في الرسائل العربية الإسلامية، وتميز ليلي أحمد بين السير الذاتية الكلاسيكية (التراجم) “الخاصة بالحكام، والسير الذاتية الدينية الصوفية، وروايات السيرة الذاتية الخاصة بالعلماء” وبين السيرة الذاتية العربية الحديثة، وذلك من أجل طرح أسئلة حول التواصل التاريخي والتغير الناشئ في أعقاب الحركة الاستعمارية الأوروبية.9 وتقدم دومنا ستانتون (Domna Stanton) دحضا آخر لفكرة أصل السيرة الذاتية من منظور المركزية الأوروبية، حيث تشير دومنا ستانتون إلى “الكتابات المتأملة للذات” بأقلام النساء اليابانيات في عصر هيان 10. ونجد أن كلا من ليلى أحمد ودومنا ستانتون تقرأ نقد السيرة الذاتية المعاصر من منظور الجندر (gender) في سبيل رؤية تتجاوز الحدود القومية والعرقية التي تشكلت بواسطة جيلين على الأقل من النقاد الغربيين.
إن تبني الصيغة التي طرحها ديريدا بشأن إنتاج النوع، وتوظيفها في خدمة نقد السيرة الذاتية. هي مسألة محملة بالحدود والإمكانيات. وتتضح حدود البنى الأدبية الغربية بشدة في عمليات الدمج والاقتباس والتجريب القوية والتي تشكل مساحات الهوامش الثقافية، فباعتبارها إنتاجا مضادا للقانون، أو خارجا على القانون ، كثيرا ما تقوم تلك الأعمال بكسر القوانين الواضحة لقواعد النوع ان تحديد موقع الأنواع الخارجة على القانون يتيح لنا تفكيك الأنواع “السيادية” (master genres) مع الكشف عن قوة الآليات والديناميات الكامنة في الإنتاج والتوزيع والاستقبال الأدبي.
ونجد أن الأنواع الخارجة على القانون في خطاب السيرة الذاتية في اللحظة الراهنة تمزج بين عنصرين “غير قابلين للاممتزاج” تقليديا، وهما نقد السيرة الذاتية والسيرة الذاتية نفسها، وهكذا نجد أن المسؤولية النقدية في موضوع له أولوية سواء صراحة أو ضمنيا في كافة أشكال الإنتاج الثقافي التي سأتداولها عنا، وتتطلب هذه الأنواع الخارجة على القانون الناشئة إجراءات تقوم على قدر أكبر من التعاون والعمل المشترك وتتسم بكونها أكثر اقترابا وإحساسا بالاختلافات القوية القائمة بين الأطراف المشاركة في عملية إنتاج النص، ومن ثم، فإننا نجد بدلا من خطاب التأليف الفردي خطابا يرتبط بالموقف الذي يرد فيه أي “سياسات الموقع” (polities of location).11
وسوف أتوقف لدراسة عدة صيغ لخطاب الموقف، وذلك من حيث التوسعات أو عمليات التنوير التي شهدتها الحدود المحيطة بالنوع والتي تعمل على إعادة التعامل مع وتحدي المفاهيم التقليدية عن الناقد أو الناقدة والمؤلف أو المؤلفة (بما فيها مذكرات السجن، وأدب الشهادات. والكتابة الإثنوجرافية، و“سيرة أسطورة الحياة” (biomythography)، و“السيرة الذاتية الثقافية” (cultural autobiography)، و“سيرة الحياة النفسية الضابطة” (regulative psychobiography)) وإنني إذ أضع تلك الأنواع البديلة جنبا إلى جنب فإنني لا أفعل ذلك باعتبارها قائمة شاملة أو خريطة كاملة للإنتاج الأدبي العالمي الذي يشير إلى تراث “السيرة الذاتية“، وإنما أفعل ذلك كمؤشر على وجود مجموعة متنوعة من استراتيجيات القراءة والكتابة القائمة أثناء تقاطع قانون النوع مع الأوضاع المعاصرة ما بعد الكولونيالية وعبر القومية.
تستخدم باربرا هارلو مصطلح “أدب المقاومة” لوصف كم من الكتابات التي تعرضت للتهميش في الدراسات الأدبية، وهي كتابات محملة بالموقف السياسي الجغرافي.12 وقد نشأ أدب المقاومة كظاهرة عالمية من داخل الراعات السياسية بين الإمبرايلية الغربية وحركات المقاومة المحلية غير الغربية وبالتالي فإن أدب المقاومة يقوم بتحطيم كثير من قوانين أدب النخبة، فهو أدب قابل للمقارنة ولكنه غير متصل بالضرورة بلغة ما قومية، كما أنه أدب سياسي صراحة، ويكون أحيانا مجهول المؤلف، ولكنه دائما ما يمارس ضغطا على حدود الأنواع الأدبية الراسخة.
وفي مقالتها “من سجن النساء: سرديات نساء العالم الثالث عن السجن” (Barbara Harlow From the Women’s Prison; Third World Women’s Narratives of Prison”) تعبر باربرا هارلو من مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي قد تتداخل مع الهموم النسوية الغربية حتى في الوقت الذي قد تتشكل فيه في معارضة ضد بعض جوانب النسوية الغربية. وبدلا من مواءمة المفاهيم الغربية الخاصة بكل من “النسوية” و“السيرة الذاتية” و“الفردية” مع استخدامات غير غربية ذات لخصوصية ثقافية، فإننا نجد أن الكاتبات الحبيسات اللاتي تتناولين باربرا هارلو يقمن بإنتاج أنواع أدبية بديلة، وفي قراءتها بهذا الإنتاج الثقافي باعتباره خارج السيرة الذاتية السائدة أو معارضا لها تقوم باربرا مارلو بتحديد موقع “نشأة كتلة أدبية جديدة من الأوضاع المعاصرة في العالم الثالث المتسم بالقهر السياسي والاجتماعي“:13
إن كتابات النساء عن السجن الآتية من العالم الثالث في كتابات تمثل تحديا للتطور النظري الغربي من حيث النقد الأدبي والفكر النسوي، إن ما قد يبدو وكأنه صدفة عارضة تجمع بين تلك الكتابات، من حيث كونها مكتوبة بأقلام نساء من العالم الثالث وتتناول تجربة السجن، إنما هي في واقع الأمر قابلة لتشكيل فئة خطابية. فمن منطلق النوع الأدبي نجد أن تلك الكتابات تتحدى الفئات والتفرقة التقليدية وتجمع بين الأشكال الروائية والسجل الوثائقي. كما أن التجربة الجماعية للنساء والتطور السياسي الذي يصفنه إنما ينشأ عن موقعهن داخل مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي تؤدي إلى قيام ايديولوجيا علمانية لا تقوم على أساس من روابط الجنس أو اللون أو العرق التي قد يشترك فيها الرجال دون كافة النساء.14
إن المراجعة النقدية للنسوية الغربية الواردة في ما قدمته باربرا هارلو عن نشأة نوع أدبي تتوازى مع مراجعتها النقدية للبنية السردية، حيث تؤكد على تطابق نفس العملية والمسار في داخل البنية السردية والاجتماعية:
فبنفس الطريقة التي تخضع فيها مؤسسات السلطة … إلى التقويض بفعل مطالب المجموعات المحرومة وذلك في سبيل وصولها إلى التاريخ والسلطة والموارد، كذلك أيضا تخطيع المنظومات السردية وسلطها التحية للتحول والتغير بفعل التعبير التاريخي والأدبي عن تلك المطالب.15
ومن خلال هذا الشكل من أشكال الصراع الطبقي تحدث تغيرات في مؤسسة الأدب – من حيث إنتاجه وتوزيعه واستقباله، ويمكن التعرف على شكل من التفويض ممثلا في عملية تفكيك المؤلف البورجواري الفردي (وهو الموضوع المقدس في سرد السيرة الذاتية) وفي عملية بناء مؤلف دي كيان جماعي، أي نوع من الوعي الجماعي الذي يقوم بإضفاء “السلطة” والمصداقية على هوية كاتب أو كاتبة ما، وتوضح باريرا هارلو في كتابها عن “أدب المقاومة” (Barbara Harlow. Resistance Literature) قائلة: “إن مذكرات السجن الخاصة بالمعتقلين السياسيين لا تكتب من أجل أن تكون “كتابات بقلم الفرد ذاته” بل هي وثائق جماعية وشهادات يكتبها أفراد من أجل نضالهم المشترك“.16
وتحرص باربرا هارلو على التفرقة، داخل نوع الكتابة الخاصة بكتابات السجون، بين فئة معينة من الكتاب والكاتبات ممن “لم “يكتشفوا” ببساطة ذواتهم الكاتبة أثناء فترة السجن، بل تم حبسهم بسبب الكتابة“.17 وتعتبر هذه المجموعة من الكتاب والكاتبات بالضرورة أن الكتابة فعل سياسي يربط بين تجربة الحبس الفردية وبين الحركات والأنشطة الاجتماعية الأشمل، وإذا أخذنا في الاعتبار أن سجونا كثيرة ترفض دخول أدوات الكتابة أو تمنع الكتابة تماما عن السجناء السياسيين، فإن فعل الكتابة في حد ذاته يقاوم منطق السجن وسلطة الدولة التي يمثلها.
إن اختيار النساء للسيرة الذاتية كنوع يلجأن إليه في السجون التي لا تنتمي إلى المدن الكبرى أو إلى الغرب هو اختيار يؤدي بالضرورة إلى تغيير بنية السرد نفسها ليعكس ما تطلق عليه باربرا هارلو “الوعي النقدي العلماني“.18 وكتابات السجن بأقلام نساء العالم الثالث لا تخضع تلقائيا إلى الخصائص التقليدية المتعارف عليها بالنسبة لهذا النوع، ولكنها “تقوم … بطرح خصائص بديلة لتعريف والتعبير عن القوالب الأدبية“.19 وتذكر باربرا هارلو كلا من بيسي هيد (Bessie Head) ووال السعداوي وأختر بالوتش (Akhtar Baluch) ودوميتيلا باريوس دي تشونجارا (Domitila Barrios de Chungara) وروث فيرست (Ruth First) وريموندا طويل (Raymonda Tawil) باعتبارهن كاتبات تصنع أعمالهن نوعا أدبيا ناشئا يمثل تحديا ويعمل على إعادة صياغة البنى الاجتماعية السائدة.
ونجد ضمنيا في تناول باربرا هارلو لمذكرات السجن الخاصة بنساء العالم الثالث مراجعة نقدية لكثير من فئات النسوية الغربية، ومع ذلك فإن نظريتها بشأن أدب المقاومة كعنصر مكون للتغير الاجتماعي تساهم في توصيف أشكال النسوية عبر القومية. فعلى سبيل المثال تؤكد باربرا هارلو على أن النصوص التي تتناولها هي نصوص تقوم بإعادة كتابة “النظام الاجتماعي من أجل تضمين رؤية للإمكانيات العلاقاتية الجديدة التي تفرض تقسيمات عرقية وطبقية وعنصرية بالإضافة إلى الروابط العائلية“.20 ان تلك الرؤية لكتابات نساء العالم الثالث باعتبارها كتابات ديناميكية حيوية وتركيبية تكشف عن التعارض بين نقيضين هما النسوية الغربية والنساء غير العربيات، وتقوم باربرا هارلو بعملية الكيك للعالم المعلمة العلاقات القوى الجندرية في النسوية الغربية وكذلك في النزعة القومية الموحدة والمنافقية للعدالة الخاصة بالنساء غير الغربيات، وذلك وصولا منها إلى طرح قيام انتماءات غير قومية بين حركات التحرر أن قراءة كتابات السجن بأفلام النساء باعتبارها كتابات تنتمي إلى أدب المقاومة في قراءة تقدم “أنماطا جديدة للانتماء” على أساس “الأوضاع المادية للناس أنفسهم“.21
ان الوعي النقدي الناجم عن إعادة تناول واستخدام نوع أدبي تقليدي كالسيرة الذاتية، في إطار نقل محدد الموقع ممثلا في تجربة الاعتقال. يؤدي إلى تحريك النوع الأدبي، حيث يتم توظيف، وإعادة استخدام بل وحتى ترك الفئات الجوهرية الخاصة بالسيرة الذاتية، وتحديدا تلك التي تبنتها النسوية العربية خلال العشرين عاما الماضية، وهي الفئات الممثلة في الآتي: الكشف عن الذاتية، والتعبير عن الحياة تبعا لترتيب زمني، والتأملات والاعترافات، واستعادة وتأكيد الهوية المكبوتة. إن سمو المكانة التي يتمتع بها المؤلف الفرد الذي يتميز عقله يكونه منفصلا وفريدا هي مسألة نراها في لحظات النزع الأخير في سياق مفہوم باربرا هارلو بشان “سجن النساء“، حيث تكون المحصلة هي قراءتنا عن رفض الفئات الجمالية الصرفة وذلك في صالح إطار عام للسرد والإنتاج الثقافي في النصوص التي تسلط علما باربرا هارلو الضوء في عملها، وذلك في إطار مسيس ووثيق الصلة بعالم الحياة اليومية.
وبعد خضوع المؤلفة للتفكيك في سياقات ما بعد الكولونيالية والكولونيالية الجديدة يظل السؤال المطروح هو كيفية تحديد موقع الناقد أو الناقدة، وكذلك على وجه الخصوص كيفية تحديد موقع الشخصية التي تجمع وتدير شؤون الترجمة والتحرير والمشاركة في إنتاج أنوع معينة من خطاب “السيرة الذاتية” الناشئ من داخل مواقع غير أوروبية. إن الشهادة التي تدلي بها النساء غير العربيات والتي تصل إلى الغرب في شكل كتاب تتطلب قيام استراتيجيات جديدة لقراءة الإنتاج الثقافي بوصفه نشاطا عبر قومي، إن التعامل مع “مؤلف أو مؤلفة” نص “الشهادة” باعتبارها صوتا أصليا ومتفردا، دون الاعتراف بالوسائط المتمثلة في المحررات والمحررين ومتطلبات سوق النشر، يمكن أن يؤدي إلى أكال جديدة من تأكيد الغرابة والعنصرية، فطبيعة العلاقة بين المؤلف أو المؤلفة وبين الناقد أو الناقدة في حالة كتابات الشهادات هي علاقة لا تتسم أبدا بالبساطة أو غياب الجانب السياسي فيها، ويجب دوما تحديد معالمها ورسم خطوطها.
نظرا إلى أن أدب الشهادة عادة ما يتخذ شكل سود برد بصيغة المتكلم يحث عليه شخص آخر أو بدونه لم يحرره، فإن أدب الشهادة يصبح جزءا مساهما في مجال من التعاون المشترك الدقيق وبعد أن أدب الشهادة (والذي يطلق عليه في سياقات أمريكا اللاتينية مسمى testimonio) يقوم بوظيفة خارج القانون وأخرى “داخل القانون” مثله في ذلك مثل كثير من الأنواع الأدبية الناشئة. قباعتباره نوعا خارجا عن القانون، يكون أدب الشهادة شكلا من أشكال “أدب المقاومة“، حيث بعد عن علاقات مادية عبر قومية في مجتمعات كولونيالية جديدة وما بعد كولونيالية كما يحدث خللا في التقاليد والقوالب الدبية السائدة، كما أن أدب الشهادة يسلط ضوءا على إمكانيات قيام تضامن وانتماءات تربط بين النقاد والناقدات، والقائمين والقائمات بالمقابلات الشخصية، والمترجمين والمترجمات، وبين الذات التي “تتحدث“. أما باعتباره نوعا أدبيا داخل القانون فقد يشير أدب الشهادة إلى القيم الكولونيالية الاستعمارية الخاصة بالحنين والتغريب، وهي قيم تعمل من خلال خطاب “الحقيقة” و“الأصالة“.
وهنالك عدة اعتبارات ظهرت مؤخرا بشأن أدب الشهادة تؤكد الطبيعة الإشكالية للنوع والسياسة في إنتاج واستقبال هذا الشكل الناشئ. ففي مقالته عن “الهامش في المركز: حول سرد الشهادة” (John Beverley, “The Margin at the Center: on Testimonio (Testimonial (Narrative) يقوم جون بيفيرلي برسم خارطة بمعالم خطاب أدب الشهادة، مركزا فيها على الأوضاع المادية التي تنتج هذا النوع من التعبير وكذلك الطرق التي تقوم بها تلك الأوضاع بتقييد وتوسيع دائرة الاستقبال، ويؤكد بيفيرلي الأشكال الأدبية التي تطورت في فترة التوسع الاستعماري لا تعكس العلاقات الاجتماعية فحسب بل تلعب دورا وسيطا في صياغة الهيمنة، وبالتالي يرى بيفيرلي أدب الشهادة كجزء من الصراع القائم لمقاومة وتقويض الخطاب الكولونيالي للأدب. ومن هنا يمثل أدب الشهادة تحديا للفئات ذات المكانة السامية مثل فئة المؤلف الواحد الأوحد، والجماليات الأدبية والصياغة الثقافية النخبوية لـ“الأعمال العظمي“. ويكتب بيفيرلي قائلا: “إن أدب الشهادة هو شكل سردي ديمقراطي وقائم على المساواة بمعنى أنه يوحي بأن أية حياة يتم سردها بتلك الطريقة يمكن أن تتمتع بقيمة تمثيلية“.٢٢
ومن بين الخصائص العديدة المهمة التي يستشهد بها بيفيرلي بوصفها من صميم أدب الشهادة نجده يورد كلا من خاصية التأليف الجماعي وإعادة توكيد الشفاهية في مواجهة سيادة الكتابة في الثقافة الأدبية، وهما الخاصيتان اللتان تشيران بشكل مباشر إلى مسألة شكل السيرة الذاتية. إن الشهادة، باعتبارها “شكلا خطابيا مضادا للسمة الأدبية” أو “خارجا عن السمة الأدبية“، تستبدل “المؤلف أو المؤلفة” بجانبين اثنين الذين من جوانب وظيفة التأليف، وهما المتحدثة” الذي يحكي الحكاية و“المستمع” الذي يقوم بم مع وكتابة النص السردي المنشور، وتشير هذه العملية ، بما فيها من وساطة بالغة، إلى إشكالية الاستقبال النقدي بالنسبة لأدبي الشهادة، حيث لا يمكن الحفاظ على الرؤية المثالية الساعية إلى نقل “التابع” (subaltern) إلى مجال الخطاب العام من خلال وسيط شماته وحتى مع حرص الشهادة على تجنب “قيمة الحقيقة” الوثائقية الخاصة بفئة “التاريخ الشفاهي – والذي يتم بتسليط الضوء على العلاقة بين “المحرر أو المحررة” (editor) أو “الميسر أو الميسرة” (facilitator) وبين “الذات” (subject) أو “المتحدث أو المتحدثة” (speaker)، إلا أن مسألة علاقة القوة والسلطة تظل قائمة. فهل تشكل شهادات مثل شهادة ريجوبيرتا مينتشو أو دوميتيلا فعلا جماعيا أم استحواذا (L. Kisodora Merche, or der Me Speakl Fesrinory of Dorvitilha, a (Woman of the Bolivian Mines
وفي مقالة مثيرة للجدل عن “إعادة(-)تمثيل الشهادة: ملاحظات حول عبور فواصل العالم الأول/العالم الثالث” ( Robert Carr, “Re(-)presenting Testimonial: Notes on Crossing the First World/Third World Divides)، يؤكد روبرت كار المشكلة التي تخص استقبال الشهادة في أمريكا الشمالية. فمن خلال طرح تساؤلات حول استهلاك النصوص التي تدعي تمثيلها لنساء العالم الثالث، يقوم كار بتحديد موقع أدب الشهادة ضمن السوق العالمية حيث تجد “المجتمعات وعالمها الذي تم إضفاء سمة الآخر عليه” وقد دخلت مجال الخطاب العام باعتبارها مجتمعات وعوالم خاضعة فعليا للاستغلال، وتقوم بدور يبرر “تراكم المعرفة والسلطة“.23 ومن منطلق هذه القراءة النقدية تقوم صياغة وبناء ضمير المتكلم “أنا” في الشهادة بمحو وإلغاء الفروق النقدية بين المجموعات التي تتصل فيما بينها من خلال إنتاج الأدب، بما يؤدي إلى إيجاد “واقع كامل وعابر للتاريخ وشفاف” تقف فيه الشهادة موقف “الصوت المعبر عن كل الأمريكيين الأصليين على مدار التاريخ“24. وبالتالي تستحيل قراءة أدب الشهادة في الغرب خارج تأثير رأس المال والخطاب الكولونيالي. ويرى كار القيام بالتفرقة بين أنواع مشروعات الشهادات، باحثا عن المقاومة والانتماء في أنماط التعبير لدى النساء غير الغربيات، والتي تؤدي دورها في مواجهة الخيار الخاسر دائما ما بين المواءمة والمحو.
إن الاختلافات القائمة بين الاعتبارات النقدية التي يقدمها كل من كار وبيفيرلي بشأن أدب الشهادة هي اختلافات في الدرجة أكثر منها في النوع، حيث أن بيفيرلي يعترف بآثار “تدخلات” عملية التحرير وميل قراء العالم الأول إلى الاستحواذ، أما كار فيقوم بمراجعة نقدية لعملية “الترجمة” عبر الثقافات والتي تقع في صميم إنتاج أدب الشهادة، وذلك من منطلق “الاهتمام البالغ” بـ“التحالفات الدولية وما بين الثقافات“25 ويقوم كل من الناقدين بيفيرل وكار بمساهمة في فهمنا للصعوبات الناجمة عن الخروج والانحراف عن مسار الأنواع الأدبية السائدة كالسيرة الذاتية في الوقت الذي تعمل فيه ثقافات القراءة والكتابة، والآداب واللغات القومية، والمطبوعات المنشورة، على إعلاء شأن ودعم مواءمة النصوص، وسوف تقوم سياسات الموقع بتحديد الحالات الخاصة بالإنتاج السردي التي يمكن قراءتها باعتبارها أعمالا مقاومة سواء من حيث الشكل أو المضمون في لحظات تاريخية بعينها، ومن هذا المنطلق، فإن كيفية قراءتنا للشهادة (ومدى تنوعنا “نحن“) يمثل قوة وسلطة تماثل مسألة كيفية إنتاج هذا النوع السردي.
إن قراءة الشهادة باعتبارها نوعا خارجا على القانون يتيح قيام مراجعة نقدية قوية للخطاب الكولونيالي المتأصل في صميم المناقشات النسوية الغربية حول سياسات الهوية في السيرة الذاتية ونجد في مقالة دوريس سومر عن الشهادة وما يخص السيرة الذاتية النسوية “ليست مجرد حكاية شخصية شهادات النساء والذات الجمعية” ( :”Doris Sommer, ” Nor Just a Personal Story “Women’s Testimornins and the Plural Self) أنها لا تقوم بمجرد تناول صيغة المتكلم المفرد “أنا” في السيرة الذاتية الغربية التقليدية في مقابل صيغة ضمير “أنا” الجماعية في الشهادة، ففي قراءتها لشهادتي ريجوبيرتا مينتشو ودوميتيلا باعتبارهما نموذجين للشهادة يتطلب إنتاجهما تعاونا مشتركا بين الشاهدة والقائمة بالمقابلة الشخصية بل وأحيانا المترجمة أو المترجم، تؤكد لنا دوريس سومر الاختلاف القائم بين السيرة الذاتية واستراتيجيات الشهادة الخاصة بالتماهي:
إن “أنا” المستخدمة في الشهادة لا تدعونا إلى التماهي معها. فنحن على قدر بالغ من الاختلاف، ولا مجال هنا للادعاء بوجود تجربة إنسانية عالمية أو جوهرية…. إن صيغة المفرد تمثل الجمع، لا من حيث أنها تحل محل أو تدرج المجموعة داخلها، بل لأن المتحدثة أو المتحدث يكون جزءا مميزا ضمن الكل. ٢٦
وهكذا فإن أدب الشهادة، بطبيعة أسلوب إنتاجه، يلفت الانتباه إلى عملية كثيرا ما يتم جعلها صامتة أو غير مرئية في كتابة السيرة الذاتية. إن تأكيد دوريس سومر على الشهادة بوصفها أسلوب إنتاج هو تأكيد يعمل على مواجهة إضفاء الغموض على ما هو شفاهي من أجل الكشف عن نقاط التناقض التجانس في الكتابة النسائية. وعندما تقوم دوريس سومر بقراءة الشهادات باعتبارها نماذج من “التوافق التجربي” .27 فإنها تنضم بذلك إلى كل من بيفيرلي وكار في تقديم مراجعة نقدية لعملية إضفاء الرومانسية والمواءمة على المنتجات الثقافية عبر القومية، وتؤكد دوریس سوم قائلة:
إن ظاهرة الذات الجماعية في الشهادة هي بالتالي ليست نتيجة للمبول الشخصية من جانب الكاتبة أو الكاتب الذي يؤدي الشهادة، بل هي ترجمة لموقف الهيمنة في السيرة الذاتية إلى لغة مستعمرة لا تعادل بين الهوية والفردية، ومن هنا فهي تذكرة بأن الحياة تستمر على هامش الخطاب الغربي، وتواصل إرباك هذا الخطاب وتتحداه.۲۸
إن أثر التحريك والخلخلة الذي تتركه الشهادة ينتقل عبر القراءة وكذلك عبر الكتابة، أي أن مسؤوليتنا كنافدات ونقاد تكمن في قيامنا بإفساح مجال الفئات بما يؤدي إلى توسيع عملية التعاون المشترك لتستوعب الاستقبال كما أن رفض قراءة كتابات الشهادات الخاصة بالنساء الفقيرات والسجينات باعتبارها سيرة ذاتية فقط هو رفض يربط بين أدب المقاومة ونقد المقاومة. وإن إمكانية قيام إنتاج ثقافي تسوي عبر القوميات تتطلب علاقات انتماء متبادل بين مذكرات السجن، وكتابة سيرة الحياة، والشهادة السياسية، والسيرة الذاتية، والإثنوجرافيا، وكل فئة منها هي فئة شرطية مؤقتة ومختلفة في علاقتها بنضالات ومواقع معينة. وسوف يؤدي تعلمنا قراءة الاختلافات إلى إمكانية ایجاد أوجه نشابه استراتيجية.
إن الكتابة الإثنوجرافية تشترك مع كتابة الشهادة، وغيرها من الأشكال التي يتم تناولها هناء في أفضلية التأليف والسلطة. فكل الأنواع الخارجة على القانون تتسم بخضوعها للوساطة، وهي أنواع تم انتاجها داخل مصفوفة من الخطابات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية التي تعمل على ضبط لعلوم الإنسانية وتمثل قراءة الكتابات الإثنوجرافية باعتبارها نوعا خارجا على القانون تحديا المقرانية التقليدية الخاصة بالعالم الموضوعي والمصدر المحلي المعروف في الأنثروبولوجيا السائدة، هما أن تلك القراءة تزيح الهالة المحيطة بالكلاسيكيات “الأدبية” في هذا المجال المعرفي، ويعمل الربط من الإنحرافيا والقضايا التي تثيرها مذكرات السجن وأدب الشهادة على تفكيك الحنين إلى علاقة المحاصيل الكاملة والمثالية بين القائم بالعمل الميداني وبين “الآخر“.
إن صدور مجموعة من الكتب مؤخرا تقوم على “قراءة عملية كتابة الثقافة“، اعتمادا على الاعمار المجيات التاويلية المتنوعة المتاحة للناقد الأدبي أو الناقدة الأدبية (وخاصة النظريات ما بعد البنيوبة)، أدت إلى تسييس الكتابة الأنثروبولوجية.29 ونتيجة لذلك تمت خلخلة دور الباحث الاستوجرافي توصفه قارنا وكاتبا، كما تمت إعادة التنظير حول ذلك الدور حتى مع إعادة التفاوض ومناقشة موقع وذاتية المصدر.30
وضمن تلك العملية الخاصة بالخلخلة وإعادة التفاوض، أصبح الجنس الذي تنتمي إليه الذات علم الأنثروبولوجيا مسألة لها أهميها، ونجد أن ديبرا جوردون (Deborah Gordon) تصف الكتابة الاثنوجرافية على أنها موقع من المواقع التي تشهد ظهور خطابات نسوية عبر قومية:
إن النساء اللاتي يرعمن وجود علاقة ما بين النسوية والحركات النسائية وكذلك بين التحرر من الاستعمار يقمن بخلق أنواع جديدة من الذاتية الإلتوجرافية التي تربط بين الإثنوجرافيا المحلية والنسوية، ويجب أن يكون هذا هو محط اهتمام الشكل الإثنوجرافي، أي الاهتمام بالملاحظات وبالمعرفة بشأن العلاقات العالمية بين البشر على تعدد وتنوع مواقعهم ممن يسعون من أجل التمتع بالسلطة.31
ولابد من طرح الأسئلة حول السلطة وتراث الكولونيالية في الإثنوجرافيا باعتبارها نوعا من الإنتاج المكتوب، وتناول تلك الأسئلة فيما يتعلق بالنصوص التي ترسم صورة لعلاقات التلاقي بين النساء الغربيات وغير الغربيات. وترى كمالا فيسويسواران Kamala Visweswaran) أن السرد في صيغة ضمير المتكلم هو شكل منطقي للتعبير عن الأزمات والحلول الناجمة عن التفاعل عبر الثقافات، حتى في الوقت الذي يؤدي فيه هذا النوع من الكتابة إلى ظهور سرديات من “التواصل المنقوص” الذي يعمل على صياغة وتدعيم الخطاب الكولونيالي.32 وترى كمالا فيسودسواران أنه يوجد نوع أدبي بأكمله من المرويات “الاعترافية” بصيغة المتكلم والمكتوبة بأقلام نساء غربيات، وهو نوع أدبي تعرض للتجاهل أو الرفض من قبل الأنثروبولوجيين التقليديين والتجريبيين، مع كونه نوعا يمثل عنصر مهما في الخطاب الكولونيالي. إن إسقاط هذا الأدب من الاعتبار يوصفه “ذاتيا بقدر زائد عن الحد” أو “اعترافيا” أو حتى على أنه غير شيق أدبيا هو بمثابة إغفال للقضايا السياسية والثقافية التي تنجم عن علاقات التلاقي بين النساء الغربيات وغير الغربيات، وهو ما تشرحه كمالا فيسونسواران قائلة: “إن المسائل المتعلقة بالموقعية تواجه الباحثات الميدانيات أكثر من الباحثين الميدانيين، كما أن الباحثة الإثنوجرافية تكون أكثر عرضة لأن تجد نفسها أمام قرار يدور حول العالم الذي هي بصدد دخوله” 33
إن كلا من كمالا فيسويسواران وروجر کیسینج يثيران القضايا الخاصة بماهية المتحدث أو المتحدثة والأوضاع التي يتم الحديث فيها، وتؤكد كمالا فيسويسواران على أن الباحثة الأنثروبولوجية النسوية لا يمكنها أن تفترض استعداد النساء للحديث“34. وفي دراسته عن بناء “السيرة الذاتية” بواسطة كل من الباحثة أو الباحث الإثنوجرافي والذات المحلية، يؤكد روجر کیسینج (Roger Keesing) على أن الاهتمام الدقيق بالسياسات المصغرة بشأن “موقف الحث” ، أي السياق الذي يجمع بين الطرف القائم بالمقابلة الشخصية والطرف الخاضع للمقابلة، يؤدي إلى طرح أسئلة نقدية حول كيفية تشكل ونقل وتأويل ذاتية النساء: “ما هي القيود التي يتم فرضها على ما سوف تقوله النساء عن حيواتهن وثقافاتهن بواسطة الهيمنة الأيديولوجية والسياسية للرجل؟ وكيف يقع الباحثون الإثنوجرافيون في براثن تلك العملية؟“، ٣٥ حيث يلخص كيسينج رأيه قائلا:
أولا، لا يمثل “الصمت” ولا المرويات المعبرة عن الذات والمجتمع انعكاسا مباشرا لـ“مكانة النساء” أو دور النساء في المجتمع، بل وثانيا فإن ما يمكن أن تقوله النساء وما سيقلنه بالفعل هو نتاج لظروف تاريخية معينة، وثالثا نجده يظهر في سياق سياسي مصغر ومعين خاص بالعلاقات بين الرجل والمرأة وفي علاقة التلاقي الإثنوجرافي في حد ذاته، وبالتالي فنجد رابعا أن النصوص المشتقة من مثل هذا التلاقي (سواء كانت غنية ومتجانسة أو محدودة وغير مفهومة، وسواء كانت تنتمي في ظاهرها إلى “السيرة الذاتية” أم لا) يجب تأويلها من منطلق تلك الظروف التاريخية والسياسات المصغرة والتي تتضمن بالضرورة الباحثة الإثنوجرافية نفسها أم الباحث الإثنوجرافي نفسه، وخامسا فإنه لا يمكن تناول مثل هذه النصوص بعين غير نقدية باعتبار أنها إما تمثل “السيرة الذاتية” أو تشكل مرويات معيارية عن الثقافة والمجتمع، من حيث أن النصوص أبدا لا “تتحدث عن نفسها“، وسادسا وأخيرا فإن عدم النجاح في استخراج مرويات عن الذات والمجتمع من النساء لا يمكن اعتباره دليلا على عجزهن وعدم قدرتهن على تقديم مثل تلك المرويات بسبب تجاربهن الحياتية وأدوارهن المجتمعية، ويجب دائما تحديد موقع “الصمت” تاريخيا وجعله في سياقه، مع تبني نظرة تشككية تجاهه ووضعه بين قوسين.36
وبينما نجد أن فكرة روجر كيسينج عن السيرة الذاتية، بما فيها من مفاهيم غربية بشأن الترتيب حسب التسلسل الزمني ومراحل الحياة الاجتماعية النفسية، هي فكرة قد تقلص من قدر الفائدة التي تجدها في بعض المعلومات التي يقدمها لنا، إلا أن تناوله للتفاعلات السياسية وديناميكيات التواصل والاتصال في عصر ما بعد الكولونيالية يثير أسئلة مهمة، فالإثنوجرافيا باعتبارها نوعا خارجا على القانون السيرة الذاتية، مثلها في ذلك مثل كتابات الشهادة، فهي تتطلب مراجعات جذرية لمفاهيم التأليف الفردي والأصالة. وإذا كان للذات الكائنة في الكتابة الإلتوجرافية أن تنتشر ويتم تداولها في الثقافة عبر القومية بوصف تلك الذات هي “المؤلف أو المؤلفة“، فلا بد للأساطير الجوهرية بشأن الهوية والتأليف أن تخضع للمواجهة ووضعها بين قوسين لصالح استراتيجيات القراءة التي تعترف بتعقيدات السلطة والقوة في إنتاج الكتابات عن سيرة الحياة في مواقع غير غربية وغير عالمية. وهنالك فرص كبيرة لتطوير تحالفات سياسية غير قائمة على الاستغلال تقوم بين النساء من مختلف أنحاء العالم من أجل إنتاج وثائق تعمل على تقوية الذوات الواردة في الكتابات الإثنوجرافية. وإن النسويات المنتبهات إلى ديناميكيات وتفاعلات السلطة في سياسات الهوية سيجدن في أدب المقاومة وفي الأنواع الخارجة على القانون نماذج مفيدة للنضال القائم على التعددية العنصرية والتعددية القومية والتعددية العرقية والتعدد الجنسي.
إن الثورة الثقافية الخاصة بالميول الجنسية المسيسة، والممثلة في حركة التحرير المثلية، هي من مواقع النضال في سبيل التوصل إلى استراتيجيات لتحديد الهويات المتعددة والتي شهدها مجال الثقافة الغربية في نهايات القرن العشرين. ففي محاولة جاهدة لتحديد أساليب فعالة للتمثيل في مواجهة الصور النمطية المدمرة، قام بعض الكتاب المثليين والكاتبات المثليات باستخدام أشكال من السيرة الذاتية وبدرجات متفاوتة، بداية من الأشكال الاحتفائية التقليدية وانتهاء بالتجريبية، إن بناء كيان سياسي يمكنه التحرك من أجل التغيير في البنى الاجتماعية الديمقراطية الغربية يتطلب دعما من المؤسسات الثقافية كالأدب، فيناء الهوية الجنسية وخلق الأنواع الأدبية مرتبطان بالضرورة بعملية الإنتاج الثقافي.
وفي واحدة من أكثر المقالات المثيرة للفكر التي تتناول السيرة الذاتية والتي خرجت من داخل النقد النسوي في السنوات الأخيرة، نجد الكاتبة بيدي مارتن (Biddy Martin) تقول فيها إن “الكثير من الكتابات المثلية النسائية الصادرة مؤخرا هي كتابات من السيرة الذاتية، كثيرا ما تأخذ شكل مقالات السيرة الذاتية أو حكايات إعلان المثلية (coming out tartes).37 وتحذر بهدي مارتن من التوصل إلى استنتاج والف مقادم أن الفئات المشار إليها في تلك المقولة هي قوالب جامعة مانعة، حيث يجب على المرء التساؤل “ما هي الحياة المثلية النسائية، وما هي السيرة الذاتية، وما الذي يمكن أن تكون عليه العلاقة بينهما“38 وتؤكد بيدي مارتن أن الربط بين مصطلحين قنوبين مثل “المثلية النسائية” و السيرة الذاتية قد تؤدي إلى قراءات خاطئة:
إن الجمع بينهما يأتي باكثر تاویلات تقليدية لكل منهما، حيث أن وجود مصطلح المثلية النسائية كصفة المصطلح السيرة الثانية بقوي من الفرضيات التقليدية بشان شفافية كتابة السيرة الذاتية، كما أن مصطلح السيرة الذاتية يوحي حيثها بأن الهوية الجنسية لا تقوم فقط بتعديل سيرة حياة ما بل وتعمل على تعريفها حيث تضيفي عليها مضمونا متوقعا وهوية تمتلك خاصيتي التواصل والعالمية.39
إن تناول بيدي مارتن للجوانب المربكة الخاصة بالسيرة الذاتية يقدم إطارا للقيام بوضع سياسات الهوية النسوية في سياق محكم. ففي مراجعتها النقدية لـ “قيمة الحقيقة” في بعض أنواع سرديات إعلان المثلية تقوم بيدي مارتن بدراسة بعض كتبات السيرة الذاتية الصادرة حديثا التي تعارض مفاهيم الهوية باعتبارها متجانسة تماما، وهي الكتابات التي تبرز فيها المثلية النسائية كشيء مختلف عن :تعريف الذات الشامل” ويتم تحديد موقعها على أرضية مغايرة للأسس النفسية وحدها“40. وتدعو بيدي مارتن إلى قيام قراءات لسير الحياة المثلية النشائية تنطلق من نقطة التعددية مع استخدام التجربة المادية الخاصة ببناء الجنسانية (sexuality) بما يضيف إلى الأفكار المتعلقة باللون والجنس وغيرها من الفروق الرئيسية. وفي إشارة منها إلى كتابات لنساء مثليات ملونات وردت في مجموعات من النصوص المختارة مثل “هذا الجسر المدعو ظهري” (This Bridge Called My Back)، تقول بيدي مارتن:
لم تعد المثلية النسوية هوية لها مضمونها المتوقع، ولم تعد تكون هوية سياسية كاملة وهوية للذات. ولكنها تظل تحتل مع ذلك موقعا مركزيا في هذا التحول، حيث تظل المثلية النسائية موقعا للحديث والتنظيم والفعل السياسي، ولكنه لم يعد الأرضية الوحيدة والمستمرة للهوية أو السياسة. بل هي تعمل على قلقلة وتحريك الحدود المحيطة بالهوية بدلا من ترسيخها وتنبيها، فلا تعمل على محو تلك الحدود تماما بل فتح مجالها أمام المرونة والتباين مما يجعل إعادة التفاوض حولها ممكنا، وفي نفس الوقت الذي تقوم فيه كتابة السيرة الذاتية تلك بتفعيل المراجعة النقدية لكل من الهوية الجنسية واللون باعتبارهما من التعريفات “الجوهرية” والشاملة، إلا أن مثل هذه الكتابة تعترف أيضا بالأهمية السياسية والنفسية بل والمتع الخاصة بتعريفات وأوطان ومجتمعات جزئية أو مبدئية. وهي في قيامها بذلك تظل مخلصة لمكانة الهوية في السياسات النسوية وكتابة السيرة الذاتية، وهي المكانة التي تتسم بالتعقيد والتناقض الظاهري الذي لا يمكن اختزاله.41
ويمكننا أن نجد أيضا مثل هذا التفكيك للفرضيات التقليدية بشأن الهوية والنوع الادبي في كتابات كيتي كينج الصادرة حديثا والتي تناول فيها الهويات الجنسية المعاصرة والجدل الدائر حول الإنتاج الثقافي. ففي مقالتها عن “الطبقات المصقولة لدى أودري لورد” ( Katie King: “Audre “Lorde’s Lacquered Layerings: The Lesbian Bar as a Site of Literary Production)، تقوم كبتي كينج بتسليط الضوء على مصطلح “سيرة أسطورة الحياة” (biomythography) الذي صاغته أودري لورد في مذكرات سيرتها الذاتية “زامي” (Audre Lord, Zam)، فترى كيتي كينج هذا المصطلح بمثابة تسمية لـ “تنويعة من الاستراتيجيات الخاصة بالنوع الأدبي في بناء الهوية المثلية الرجالية والنسائية في الولايات المتحدة الأمريكية” 42 وترى كيتي كينج أن “سيرة أسطورة الحياة” هي “تدوين مكتوب لمعانينا عن الهوية … بواسطة مواد من حيواتنا“.43 وتركز الاستراتيجية الخاصة بالنوع الأدبي لسيرة أسطورة الحياة على المسار جنبا إلى جنب المواد المستخدمة في سرد السيرة الذاتية، وذلك دون الإصرار على قاعدة واحدة أو شكل بعينه، حيث تكتب كيتي كينج قائلة:
إن استراتيجيات النوع الخاصة بسيرة أسطورة الحياة لتاريخ المثلية النسائية والرجالية هي استراتيجيات تتضمن حاليا الدراسة التاريخية والكتاب التاريخي، والمراجعة النقدية الجدلية، والفيلم والفيديو وعروض الشرائح المرئية، والتاريخ الشفاهي، ومقالة العرض العام، والتحليل المتأمل للذات، والمجموعات المختارة من الكتابات الأكاديمية/ الجدلية، والرواية القصيدة والقصة القصيرة، وبلا شك غيرها من الاستراتيجيات.44
إن النقاشات الدائرة حول الأنواع الأدبية المتسعة والهويات المتعددة التي نجدها في الأطر النقدية التي تقدمها كل من كيني كينج وبيدي مارتن بشأن النصوص المثلية النسائية هي نقاشات تشير إلى وجود نماذج مبهرة للإنتاج الثقافي النسوي عبر القومي، وباعتبارها نوعا خارجا على القانون، تتطلب سيرة أسطورة الحياة الاعتراف بوجود “طبقات من المعاني، وطبقات من التاريخ، وطبقات من القراءات وإعادة القراءة، عبر شبكة من الشفرات المحملة بالسلطة“45 ومن هذا المنطلق المحدد. يصبح “الاختلاف” واقعا ماديا يمكن تحديد معالمه، وكما تقول كيني كينج في مقالة أخرى: “إن هذا لا يعني أن المثليين والمثليات لا يشتركون في مصالح مشتركة، بل هنالك ما يجمعنا، ولكن تحالفاتنا وهوياتنا في حالة تحول وتغير مستمر، ويجب أن تكون كذلك“.46 إن إعداد “خرائط” للانتماءات والتحالفات المتغيرة هي جزء من “عمل” سيرة أسطورة الحياة باعتبارها نصا، كما أن ما تثيره سيرة أسطورة الحياة من خلق جسور بين الهموم والهويات المتباينة والمتحولة هي عملية تعكس الانتماءات السياسية التي تتشكل بفعل جهود التحالف التي تولد النسويات عبر القومية، وإن المراجعة النقدية لسياسات الهوية (وأشكال السيرة الذاتية المتصلة بالبني الغربية الحديثة للهوية) تتطلب إعادة تشكيل مفهوم التأليف والذات الموجودة في الأنواع الخارجة على القانون الناشئة.
لقد ساهمت كتابة السيرة الذاتية الغربية تقليديا في البناء الأدبي لمفهوم “الموطن، وهي عملية اشتملت على تعميم ما هو خاص، واختلاق مساحة سردية من الألفة، وصياغة سرد يربط بين ما هو فردي بما هو عام. إن التأثير الساعي إلى إضفاء التجانس في أنواع السيرة الذاتية هو تأثير يحدد أوجه الشبه، كما أن قراءة السيرة الذاتية تتضمن استيعاب أو قبول قيم ورؤية العالم من منظور الكاتب أو الكاتبة. وتقوم الأنواع الخارجة على القانون بإعادة التفاوض ومناقشة العلاقة بين الهوية الشخصية وبين العالم، وكذلك بين التاريخ الشخصي والاجتماعي. ونجد هنا رابطة بين الابتكارات السردية والنضال من أجل البقاء الثقافي، بدلا من النضال في سبيل التجريب الجمالي الخالص أو التعبير الفردي.
إن الاهتمام بـ ” التفكك السريع لتجربة السود” هو الذي يدفع بيل هوكس إلى كتابة سيرة الحياة وإلى العملية المعقدة الخاصة بتناول النوع الأدبي للسيرة الذاتية47. ففي مقالتها عن “كتابة السيرة الداتية تستخدم بيل هوكس (“bell hooks, Writing Autobiography) هذا النوع الأدبي للحفاظ ونقل تجارب وخبرات حياة السود في الجنوب، وتؤكد على أن السيرة الذاتية قادرة على مواجهة بعض التأثيرات المدمرة الرأسمالية والسيادة الثقافية للطبقة الوسطى، كما أنها ترى أن عملية تذكر التجارب غير المتزامنة مع الثقافة السائدة في نشاط يتم من أجل البقاء الثقافي والشخصي.
إن كتابة السيرة الذاتية باعتبارها سجلا بدون الذات الفردية ليست بالنسبة لبيل هوكس مسألة خالية من المتاعب، حيث تبدأ قولها بوصف المعوقات والمتاعب التي واجهتها من حيث عملية الكتابة والشكل:
كان قيامي بحكي قصة سنوات النشأة والنمو يرتبط لدي ارتباطا وثيقا بشوقي إلى قتل الذات التي كتبها، ولكن دون أن أموت. فقد أردت قتل تلك الذات بالكتابة، وبمجرد اختفاء تلك الذات – وخروجها من حياتي إلى الأبد – كان من الأسهل على أن أصبح أنا التي أنا عليها. … وقبل بداية محاولتي كتابة السيرة الذاتية كنت أعتقد أنها ستكون مهمة بسيطة من حيث قياسي بحكي قصتي ولكني مع ذلك حاولت عاما تلو الآخر دون أن أتمكن أبدا من كتابة ما يتعدى صفحات معدودة.48
وقد وجدت بيل هوكس في كتابة سجل بدون حياتها ويرتبط بالتجربة الجماعية السوداء أنه لا بد من فك وحل كافة أوهامها بشأن السيرة الذاتية والعلاقة بين الكتابة والماضي، وما إن تبدأ في السماح لنفسها بإفساح المجال أمام الطبيعة الخيالية للذاكرة عندها تبدأ عملية التذكر في تشكيل نفسها في شكل سردي. وتصبح السيرة الذاتية “مكانا” وموقعا آمنا للاحتفاظ بالذكريات الأساسية والمحددة ثقافيا: “كان التذكر جزءا من دائرة لم الشمل وتجميع الشطايا أي “فتافيت قلبي” التي أعاد السرد جمعها في كيان كامل مكتمل“.49
إن تجميع الشظايا وربطها معا في عملية كتابة السيرة الذاتية لدي بيل هوكس لا ينتج عنه تكيف مهترئ مع قواعد النوع الأدبي، بل إن عملية تحديد مساحة سردية تتواجد فيها معا أجزاء متباينة إنما تؤكد على التوتر الخلاق القائم بين التجانس والاختلاق. وفي مقالتها عن “سياسات التحالف” تری برنیس جونسون ريجون (“Bernice Johnson Reagon, “Coalition Politics) ضرورة التمييز بين “الموطن” و“التحالف” أي وجود اختلاف بين شبكة الأمان المكونة من أوجه الشبه والألفة وبين المساحة الصعبة والضرورية الخاصة بالتنوع وعدم الألفة.50 إن كتابة سيرة الحياة كتأكيد لـ“الموطن” وإعلان عن الانتماء عبر جهود التحالف تتطلب صيغا بديلة للذات والمجتمع والهوية، صيغا يمكن قراءتها ضمن عملية إنتاج بعض من الأنواع الأدبية الخارجة على القانون.
إن عملية إعادة استخدام وتوظيف السيرة الذاتية في كتابات بيل هوكس يخضع لمزيد من التوسيع من خلال مفهوم “السيرة الذاتية الثقافية” التي تطرحها برئيس جونسون ريجون في مقالتها ، “أمهائي وأخواتي السوداوات أو حول البدء في سيرة ذاتية ثقافية” ( Reagon، My Black “Mothers and Sisters or On Beginning a Cultural Autobiography)51. ونجدها تتناول هنا أوضاع “الموطن” والمواقع المتزعزعة غير الراسخة لجهود التحالف، دون توظيف قوالب الهوية المحتفى بها في السيرة الذاتية السائدة ونجد برئيس جونسون ريجون تكتب عن أمها وجدتها وجدتها الكبرى، وعن معلمتها (السيدة دانيلز) والأنسة نانا (المغنية في كليستها)، وذلك في إطار تعيد فيه التعامل مع تاريخ الإلهام والانتماء. وفي تأملاتها حول ضرورة تسمية وتذكر الناس الذين منحوها المهارات والإلهام اللازم لضمان البقاء على قيد الحياة، تقوم برئيس جونسون ريجون بالتنظير حول شكل من السيرة الذاتية التي تصف كلا من المجتمع القائم على علاقات قوى بين الجنسين، وشكلا أشكال القومية: “إن النساء السوداوات قوميات في جهودنا من أجل تشكيل أمة تنجح في البقاء على قيد الحياة في هذا المجتمع، كما أننا أيضا نقوم ثقافيا بدور الحاملات والناقلات الرئيسيات من لتقاليد شعبنا“.52
إن السيرة الذاتية الثقافية الخاصة برئيس جونسون ريجون تعمل على توسيع نطاق خصائص ومضمون كتابة سيرة الحياة، وقيام كاتبة السيرة الذاتية الثقافية باستعادة تاريخ وبناء مجتمع يقوم على القوة والتنوع إنما يمنح تلك الكاتبة أساسا للقيام بالجهد الصعب الممثل في التحالف كما أن توسيع دائرة حدود كتابة سيرة الحياة، بحيث تتضمن التحالف أي الأنشطة التعاونية التي تجمع أناسا ومجموعات صاحبة وجهات نظر مختلفة. هي مسألة تمثل تحديا في وجه شروط السيرة الذاتية التقليدية، وعملية التمييز بين الصديق والعدو، والذات والآخرين، والجوانب المتعارضة داخل الذات الواحدة، مع القيام في نفس الوقت بالتعامل مع الصلات والانتماءات التي تكون المجتمعات في وجه العنصرية والانحياز الجنسي وكراهية المثلية الجنسية وغيرها من الأشكال المؤسسية للعنف الثقافي، هي عملية تتطلب عديدا من الاستراتيجيات وتعمل السيرة الذاتية الثقافية، باعتبارها نوعا خارجا على القانون، على بناء كل من الأماكن “الآمنة” والمناطق الحدودية لسياسات التحالف، حيث تلعب التعددية والتنوع دورا في الأزمات من أجل صياغة أحلاف قوية مؤقتة. وتذكرنا برئيس جونسون ريجون أن جهود التحالف لا تتم سوى بواسطة من لا يعترفون بوجود حل آخر أمام العنف المنظم الذي تمارسه العنصرية والانحياز الجنسي وغيرها من أشكال القهر الحديثة حيث تكتب قائلة: “إن دخولك في تحالف لا يكون لمجرد حبك لهذا الأمر“، وتضيف “إن السبب الوحيد الذي يدفعك لمحاولة توحيد الجهود مع شخص يمكنك فتلك هو لأن ذلك العمل هو السبيل الوحيد في رأيك الذي يبقيك على قيد الحياة“.53
إن البقاء على قيد الحياة – ثقافيا وشخصيا – هو الدافع المحفز للأنواع الخارجة على القانون ان اتخاذ موقف معارض من الكتابة ومن الأنواع كالسيرة الذاتية يتطلب القيام بكل من احتواء من من الاستراتيجيات السردية غير المألوفة بما في ذلك من صعوبة، وكذلك إدخال أنماط التعليم الخاصة بك والمألوفة، وأنظمة الدلالة الخاصة بك أيضا، إن تواريخ التحالفات – من حيث دینامیکیاتها وصعوباتها – يمكن رسم معالمها باعتبارها سيرا ذاتية ثقافية لمجتمعات في حالة أزمة أو مقاومة، ولم يتم بعد إخضاع النضال في الكتابة للقراءة والتعرف عليه والاعتراف به في النقد الأدبي فمن الضروري أولا قراءة سرديات سياسات التحالف بوصفها سيرا ذاتية ثقافية، وثانيا، فمن الممكن قراءة التواريخ الشخصية التي تربط بين الجانب الشخصي ومجتمعات بعينها على أنها سير ذاتية ثقافية، وإن الصلة القائمة بين الفرد والمجتمع، تبعا لصياغتها في عملية قراءة وكتابة سياسات التحالف في لحظة تقاطعات تاريخية ما، هي صلة تعمل على تفكيك فردية التراث العربي للسيرة الذاتية كما تجعل عملية كتابة وقراءة الأنواع الأدبية الخارجة على القانون بمثابة نمط من البقاء الثقافي على قيد الحياة.
في الوقت الذي يقوم فيه التفاعل بين جهود التحالف وبين البويات المتنوعة بتقديم فرص للتعبير عن مواقع الذات “التابعة“، ترى جاياتري سبيفاك (Gayatri Spivak) وجود ذات أخرى غير ممثلة تماما بالقدر الكافي إلى الدرجة التي تجعلها غانية حتى عن الأنواع الخارجة على القانون “الناشئة“، وبناء على ما سبقها من كتابات كل من جيون ناش وماريا باتريشيا فيرناندز كيلي ( une Nash and Maria Patricia Fernandez-Kelly)، تتأمل جاياتري سبيفاك الاختلاف بين الذات الكولونيالية وبين الذات الدولية الكولونيالية الجديدة التي يمكننا أن تجدها في كثرة وانتشار مناطق عمليات التصدير (EPZs: export-processing zones)54 إن هذه المناطق. والمعروفة أيضا بمسعى “مناطق التجارة الحرة” ظهرت عندما أصبح التصنيع بغرض التصدير هو نمط التنمية المفضل منذ ستينات القرن العشرين. وتم حل الحدود التجارية الوقائية التي كانت قائمة لصالح أمم بعينها مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى، وذلك من أجل إقامة مناطق التصدير، والتي تتطلب “حرية تدفق” في “رؤوس المال والبضائع عبر الحدود القومية“، بما يساهم بالتالي في خلق ثقافة عبر قومية.55 وتورد كل من أنيت فوينتيس وباربرا إهرينرايتش ( Annette Fuentes and Barbara Ehrenreich) أن الغالبية من بين ما يزيد على المليون من العمال في هذه المناطق هم من النساء، وأن القوى العاملة المفضلة للعمل في المصانع الكبرى التي تحكمها جهات متعددة الجنسية وكذلك المصانع المملوكة محليا والعاملة بعقود من الباطن خارج مناطق التصدير هي من القوى العاملة النسائية56 ” وتستخدم جاباتري سبيفاك هذا السياق في تحليلها لأوضاع النساء في الثقافة عبر القومية “المتجزئة بفعل التقسيم الدولي للعمل“. 57
وتصف جاياتري سبيفاك زمانا كانت فيه الذات التقليدية للكولونيالية في خضعت لتغيير عنيف بفعل الرأسمالية الاستهلاكية، فمع قيام الإمبريالية التوسعية بتطوير شفرات قانونية واجتماعية لإضفاء الشرعية على البناء الكولونيالي الاستعماري الجديد، دخلت الذات الكولونيالية “الصراع من أجل الفردية“. وبناء على وصف سيفاك لتشكيل الذات التابعة. أرى أن التعبير بالسيرة الذاتية، مع غيره من العلامات الثقافية المعبرة عن الفردية58، أصبحت جزءا من اقتصاديات الكولونيالية، أي جزءا من تقسيم العمل الذي أنتج مواقع للذات ومنتجات من الذاتية. ويمكننا أن تحدد موقع غالبية أدب المقاومة والأنواع الخارجة على القانون في موقع على الحدود بين نظامي الكولونيالية والكولونيالية الجديدة، حيث تقوم الذاتية والسلطة الثقافية والبقاء والتعبير عن نفسها في العصر الحديث.
وتؤكد جاياتري سبيفاك على أنه في الكولونيالية الجديدة الممثلة في اقتصاديات مناطق عمليات التصدير “لا يكون التكوين التفصيلي للذات ضروريا“:
لا توجد ضرورة لوضع بناء قانوني لهذا الجيش “غير النظامي الدائم“. فلا توجد على أجندة العمل سوى القواعد المنظمة والمحيطة بالعمل والأمان. فلم تعد هنالك حاجة إلى التدريب المستمر على السلوك الاستهلاكي. ويمكن للصناعات أن تمضي إلى الأمام. والأسواق في مكان آخر. … وهكذا فإن هؤلاء النساء والرجال يمضون متباعدين عنا، والرأسمالية الإلكترونية لا تجعلهم يدخلون ثقافة ما بعد الحداثة، بل هم يدخلون مرة أخرى إلى مجال أطلق علیه بارنا تشاترجي مسمى “النمط الإقطاعي للسلطة“.59
ان تقسيم العمل في مناطق التجارة الحرة يتجاوز كلا من الحداثة وما بعد الحداثة فيلقي بمجموعات من البشر إلى بني إقطاعية من السيادة والسيطرة. ونظرا إلى أن المؤسسات متعددة الجنسيات تفضل النساء بسبب ما يفترض فين من طبيعة مسالمة وأصابع رقيقة، فإن الصيغ المحلية والراسخة بشأن بنية علاقات القوى بين الجنسين تخضع للتقويض وإعادة التفاوض، وأصبحت النساء معرضات لما أطلقت عليه جاباتري سبيفاك “نذير شؤم مضاعف“:
بخلاف الوضع في السياق الكلاسيكي … نجد الرجال في هذا التحول الإقطاعي الجديد في موضع المواجهة ضد النساء، ولا يمكن الآن معارضة النمط الإقطاعي للسلطة باستحضار الأنماط الجماعية للسلطة … من أسفل، كما حدث في حالات التمرد ما قبل الرأسمالي إضافة إلى ذلك، فإن الوصول إلى النمط البورجوازي للسلطة … أصبح أكثر صعوبة لهؤلاء النساء، وهكذا فليس من السهل مقاومة هذا النمط الإقطاعي الجديد من أعلى بواسطة هؤلاء النساء ومن يمثلهن.60
فهل يمكن للممارسة النقدية حول الأنواع الخارجة على القانون، تبعا لتعريفها الحالي، أن تتوجه إلى الذات الكولونيالية الجديدة؟ وهل توجد أنواع خارجة على القانون تتفاعل مع النمط الإقطاعي الجديد للإنتاج الساري في مناطق عمليات التصدير؟ إن الأنواع الخارجة على القانون تمثل تحديا للممارسات النقدية الغربية وتدعوها إلى توسيع نطاقها وبالتالي إحداث تحول في الذات الخاصة بالسيرة الذاتية، بحيث تنتقل من كيان الفرد إلى كيان جماعي أقل ثباتا. وإذا كانت الذات الفردية غير متضمنة في الإطار الاجتماعي لمناطق التجارة الحرة (في أي من مجالاتها التقليدية: القانون، وعلم النفس، والطب، وما إلى ذلك)، فما هي أشكال الإنتاج الثقافي التي تعمل ضد السيطرة والسيادة والاستغلال؟
وتؤكد جاياتري سبيفاك على أنه إذا كانت نظريات التحليل النفسي ما بعد البنيوية بشأن تشكيل الذات وعلاقات الموضوع هي نظريات غير قادرة بالقدر الكافي على تناول مسألة تكوين الذات الكولونيالية الجديدة وقاهرها، فإنه يتعين على الناقدات النسويات إيجاد إجراء بديل يكون أسلوبا أكثر اعتمادا على المشاركة والتعاون المتبادل، إن الشكل “السردي” الذي يجب ابتكاره هو “سيرة الحياة النفسية الضابطة” (regulative psychobiography)، أي التعبيرات “التي تكون الأثر الداني لهؤلاء النساء، وتمنحهن إحساسا بالأنا“.61 إن النماذج السردية التي تشير إلها جاياتري سبيفاك باعتبارها “سير حياة نفسية ضابطة” هي أقل وضوحا “ليا” في اللحظة الراهنة، وتطرح سبيناك السؤال التالي: “ما هي السرديات التي تنتج الدال على الذات للتراث المغاير ؟ … يمكن العثور على آثار لسيرة الحياة النفسية تلك في التراث القانوني المحلي. وفي الكتب المقدسة وبالطبع في الأساطير“.62
وفي دراستها عن النساء في مناطق التجارة الحرة في ماليزيا، وحدت إيهوا أونج (Aihwa Ong) “أربع مجموعات متداخلة من الخطابات عن نساء المصانع: خطاب الشركات والخطاب السياسي والخطاب الإسلامي والخطاب الشخصي“.63 وإذا تبنينا مشروع جاياتري سبيقاك، فإن سير الحياة النفسية الضابطة التي تم إنتاجها في السياق الماليزي الذي درسته إيهوا أونج، على سبيل المثال، سيتطلب دراسة متعددة الطبقات تضم مدخلات من أشخاص لديهم أشكل متنوعة من الخبرة والمعرفة، ونجد آن جاباتري سبيفاك تحث النسويات الغربيات على إيجاد وتطوير المهارات والأساليب اللازمة لهذا المشروع الخاص بالتحالف متعدد الطبقات. وتحذرنا من أن غياب هذا الجهد سيؤدي إلى ترك المعرفة عبر القومية بين أيدي التركيبة التي تضم أهل السياسة والصناعة.
إن تناول أنواع السيرة الذاتية الخارجة على القانون في عصر ما بعد الكولونيالية والكولونيالية الجديدة المتصلة برأس المال عبر القومي سيؤدي بنا للتوصل إلى مفهوم للعمل التعاوني المشترك الذي يتمثل أفضل توصيف له في مصطلح كيتي كينج “تقنيات الكتابة النسوية” (feminist writing technologies).64 وإذا أخذنا مفہوم سبيفاك الخاص بالعمل المشترك ممثلا في “سيرة الحياة النفسية الضابطة“، فإن مفهوم “تقنيات الكتابة النسوية” يوحي بمشروع عالمي يعمل على توظيف جهود أشخاص عديدين بدلا من كونه يوحي بفعل تقوم به يد واحدة برفع القلم إلى الورق أو بفعل بقوم به فرد واحد بالشغط على لوحة مفاتيح الحاسب الآلي. “إن “تقنيات الكتابة النسوية” قادرة على إحداث تحول في الإنتاج الثقافي من كونه إجراءات تحمل صبغة فردية وجمالية ليصبح تحالفات تعاونية وعبر قومية في سياق تاريخي محدد، ولكن نظرا إلى كون تقنيات الاتصال الإلكتروني التي لستخدمها في مصنوعة فعليا بأيدي النساء في مناطق التجارة الحرة وبأيدي “أخواتنا” في مصانع التجميع الكائنة في الغرب، فيجب على النسويات الغربيات الانتباه إلى دورنا المساهم في تقسيم العمل دوليا. إن الأوضاع التي أوجدت “البروليتاريا الدنيا من نساء العالم الثالث” أي الذات الكولونيالية الجديدة. هي نفسها الأوضاع التي أدت إلى تعزيز وتمكين النسويات عبر القومية ( transnational feministms)، ومن هنا، واستشهادا بما قالته سارالي هاميلتون (Saralee Hamilton) فإنه “إذا كان التسوية أن تعني شيئا للساء العالم، فعليها أن تجد طرقا جديدة لمقاومة سلطة الشركات الكبرى مقاومة عالمية“65.
وفي هذا النظام العالمي من المساهمة غير المتكافئة في الإنتاج الثقافي والصناعي، لا يمكن أن تظل الشملة الكتابة والقراءة في حالة حياد، حيث أن ديناميكيات السلطة تقوم ببناء أنواع أدبية وأنواع مضادة، بما فيها السيرة الذاتية والنقد، وربما لا تكون السيرة الذاتية قد تمتعت حتى وقت قریب بدور محوري في الدراسات الأدبية، ولكن مكانتها كنوع أدبي خارج التيار لم تجعلها تنتمي تلقائيا إلى المقاومة. وقد كانت الفكرة التي تم تأكيدها في هذه المقالة مفادها أن المقاومة هي نمط من أنماط الضرورة التاريخية، وأنه يتعين على النسوية الغربية المشاركة في هذه اللحظة التاريخية، وأن الممارسة النقدية للأنواع الخارجة على القانون تمثل تحديا للبنى التراتبية الخاصة بالأبوية والرأسمالية والخطاب الكولونيالي. إن قراءة مذكرات السجن، والشهادات، والإثنوجرافيا، و“سيرة أسطورة الحياة“، والسيرة الذاتية الثقافية، و“سيرة الحياة النفسية الضابطة” وغيرها من أشكال التحدي في مواجهة تقاليد وقوالب السيرة الذاتية في نمط قائم على المعارضة والتعارض، في كلها قراءة تدفع بالنقد النسوي الغربي إلى العمل التحالفي عبر القومي إن النقد التسوي، باعتباره شكلا من النشاط السياسي في معناه عبر القومي الواسع، سوف يؤدي إلى إنتاج نظريات ومناهج من الثقافة والتمثيل متأصلة في الأوضاع المادية الخاصة بما بيننا من أوجه تشابه واختلاف. كما أن تفكيك السيرة الذاتية في النقد النسوي عبر القومي هو علامة في تكوين “تقنيات الكتابة” التي يمكنها أن تعمل من أجل ومع النساء، بحيث يتوقف قانون النوع الأدبي عن التحكم والسيطرة على تمثيل وتعبير النساء من مختلف أرجاء العالم.
كارين كابلان، أستاذة الدراسات الأمريكية والدراسات الثقافية في جامعة كاليفورنيا ديفيز بالولايات المتحدة الأمريكية. واهتمت بأدب الرحلات وخطابات ما بعد الحداثة عن التنقل والتهجير في كتابها الصادر عام 1996، وقد ركزت في دراساتها على علاقات الهيمنة وما بعد الحداثة والممارسات النسوية عبر القومية والدولة، كما تجمع بين اهتمامها بالدراسات الأدبية والثقافة البصرية والثقافات الرقمية في عصرنا الحالي.
أود أن أتقدم بالشكر إلى كل من كيتي كينج واندريال جريوال وإيريك سمودين على الحوارات القيمة والملاحظات الملهمة.
* Caren Kaplan, “Resisting Autobiography: Out-Law Genres and Transnational Feminist Subjects”, De/Colonizing the Subject: The Politics of Gender in Women’s Autobiography, Sidonie Smith and Julia Watson, eds. Minneapolis: University of Minnesota Press, 1992, 115-138.
1 Chandra Talpade Mohanty, “Feminist Encounters: Locating the Politics of Experience”. Copyright (Fall 1987): 35.
2 Jacques Derrida, “The Law of Genre”, trans. Avital Ronell, Glyph7 (1980): 203-4.
3 Georges Gusdorf. “Conditions and Limits of Autobiography”, trans. James Olney, in Autobiography: Essays Theoretical and Critical, ed. James Olney (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1980) 28
4 James Olney, “Autobiography and the Cultural Moment: A Thematic, Historical, and Bibliographical Introduction, in Autobiography: Essays Theoretical and Critical (Princeton, NJ: Princeton university Press, 1980), 28.
5 Gusdorf, “Conditions and Limits”, 29.
6 Roy Pascal Design and Truth in Autobiography (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1960) 180.
7 Ibid., 22 Y
8 Georg Misch, A History of Autobiography in Antiquity, vol. 1 (Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1951), 272.
9 Leila Ahmed, “Between Two Worlds: The Formation of a Turn-of-the-Century Egyptian Feminist”, in Life/Lines: Theorizing Women’s Autobiography, ed. Bella Brodzki and Celeste Schenck (Ithaca, N.Y Cornell University Press, 1988), 154.
10 Domna C. Stanton, The Female Autograph: Theory and Practice of Autobiography from the Tenth to the Twentieth Century (New York: New York Library Forum, 1984). 6.
11 يمكن الحصول على مناقشات مفيدة حول “سياسات الموقع” في الآتي:
dtieme Rich, “Notes toward a Politics of Location”, in Blood, Bread, and Poetry: Selected Prose 1979-1985 (New York: W.W. Norton, 1986), 210-31; Donna Haraway, “Situated Knowledges: The Science Question in Feminism and the Privilege of Partial Perspective”, in Simians, Cyborgs, and Women: The Reinvention of Nature (New York: Routledge, 1991), 183-201; Mohanty, “Feminist Encounters and essays included in “Third Scenario: Theory and the Politics of Location”, special issue, ed. John Akomfrah and Pervaiz Ichan, Framework 36 (1989): 4-96
12 Barabara Harlow, Resistance Literature (New York: Methuen, 1987)
13 Barbara Harlow, “From the Women’s Prison: Third World Women’s Narratives of Prison, Feminist Studies 12 (Fall 1986): 502-3.
14 Ibid.
15 Ibid.
16 Harlow, Resistance Literature, 120.
17 Ibid.
18 Harlow, “From the Women’s Prison”, 508,
19 Harlow, Resistance Literature 136
20 Ibid, 142
21 Ibid,147 – 48
22 John Beverley. “The Margin at the Center: On Testimonio Testimonial Narrative), Modern Fiction Studies 35 (Spring 1989):16.
23 Robert Carr, “Re(-)presenting Testimonial: Notes on Crossing the First World/Third World Divides” (Unpublished manuscript, July 1990), 6.
24 Ibid., 21.
25 Ibid., 6
26 Dotis Sommer, “Not just a Personal Story: Women’s Testimonios and the Plural Self”, in Life/Lines: Theorining Women’s Autobiography, ed. Bella Brodzki and Celeste Schenck (Ithaca, N.Y.: Cornell university Press, 1988), 108.
27 Ibid., 111
28 Ibid.
29 انظر/ي:
George E. Marcus and Michael M. J. Fischer, eds., Anthropology as Cultural Critique (Chicago: University of Chicago Press, 1986); James Clifford and George E. Marcus, eds., Writing Culture (Berkeley: University of California Press, 1986), James Clifford, The Predicament of Culture (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1988(
30 انظر/ي:
James Clifford, “On Ethnographic Authority”, in The Predicament of Culture (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1988), 21-54
31 Deborah Gordon, “Writing Culture, Writing Feminism: The Poetics and Politics of Experimental Ethnography”, Inscriptions 3/4 (1988): 21.
32 انظر/ي:
Kamala Visweswaran, “Defining Feminist Ethnography”, Inscriptions 3/4 (1988): 27-46
33 Ibid., 33,
34 Ibid., 37,
35 Roger M. Keesing, “Kwaio Women Speak: The Micropolitics of Autobiography in a Solomon Island Society”, American Anthropologist 87 (1985): 37.
36 Ibid., 27.
37 Biddy Martin, “Lesbian Identity and Autobiographical Difference(s)”, in Life/Lines: Theorizing Women’s Autobiography, ed. Bella Brodzki and Celeste Schenck (Ithaca, N.Y: Cornell University: Press, 1988), 77.
38 Ibid.
39 Ibid, 78,
40 Ibid. 82.
41 Ibid., 103,
42 Katie King, “Audre Lorde’s Laquered Layerings: The Lesbian Bar as a Site of Literary Production”, Cultural Studies 2 (1988): 331.
43 Ibid, 330,
44 Ibid. 331.
45 Ibid. 336.
46 Katie King Producing Sex, Theory and Culture: Gay/Straight ReMappings in Contemporary t Feminism in Conflicts in Feminism ed. Marianne Hirsch and Evelyn Fox Keller (New York: Routledge, 1990), 82-101.
47 bell hooks, “Writing Autobiography”, in Talking Back: Thinking Feminist Thinking Black (Boston: South End, 1989), 158.
48 Ibid., 155
49 Ibid., 159,
50 Bernice Johnson Reagon, “Coalition Politics: Turning the Century”, in Homegirls: A Black Feminist Anthology, ed. Barabara Smith (New York: Kitchen Table: Women of Color Press, 1983(
51 Beric Johnson Reagon, “My Black Mothers and Sisters or On Beginning a Cultural Autobiography”, Feminist Studies 8 (Spring 1982): 81-96.
52 Ibid., 82.
53 Reagon, “Coalition Politics”, 356-57, r
54 June Nash and Maria Fernandez-Kelly, eds. Women, Men and the International Division of Labor (Albany: State University of New York Press, 1983(
وانظر/ي أيضا:
Annette Fuentes and Barbara Ehrenreich, Women in the Global Factory (Boston: South End, 1983(
55 Fuentes and Ehrenreich, Women in the Global Factory, 9
56 Ibid., 11-12,
57 Gayatri Chakravorty Spivak, The Political Economy of Women as Seen by a Literary Critic”, in v Coming to Terms: Feminism, Theory, Politics, ed. Elizabeth Weed (New York: Routledge, 1989), 219.
58 Ibid., 224,
59 Ibid.
انظر/ي أيضا:
Partha Chatterjee, “Agrarian Relations and Communalism in Bengal, 1926-1935”, in all Subaltern Studies, vol. 1 (Delhi: Oxford University Press, 1982), 9-38, idem, “More on Modes of Power and the Peasantry”, in Selected Subaltern Studies, ed. Ranjit Guha and Gayatri Chakravorty Spivak (New York: Oxford University Press, 1988), 351-90.
60 Spivak, “Political Economy of Women”, 225.
61 Ibid, 227,
62 Ibid.
63 Alhwa Ong, “Colonialism and Modernity: Feminist Representations of Women in Non-Western Societies”. Inscriptions 3/4 (1988): 88.
64 انظر/ي كتابات كيتي كينج قيد العمل:
Katie King’s works in progress, “Crafting a Field: Feminism and
Jalluss aus all Writing Technologies” (Presentation at Princeton University, 12 April 1990); “Feminism and Writing Technologies” (Presentation at the annual meeting of the Modern Language Association, 28 December 1988).
65 Saralee Hamilton, coordinator of the AFSC Nationwide Women’s Program, quoted in Fuentes and ¹ Ehrenreich, Women in the Global Factory, 59.