مقدمـة المترجمـة
عبيـر عبـاس
أولئك الذين يودون لو استطاعوا تقنين معاني الكلمات إنما يدخلون معركة خاسرة، فالكلمات مثلها مثل الأفكار والأشياء المفترض أن تدل عليها، هي الأخرى لها تاريخ.
لا أجد أفضل من عبارة جون سكوت التي افتتحت بها مقالتها الشهيرة “النوع: مقولة مفيدة في التحليل التاريخي” المتضمنة في هذا الكتاب، لكي أستهل بها هذه المقدمة. وتقصد جون سكوت الإشارة إلى أن الكلمات التي تحيل إلى الأشياء أو تعبر عن مفاهيم لا تحيل إلى معنى ثابت متأصل في طبيعة الشيء المشار إليه أو خواصه، وإنما هي موضع شد وجذب ونزاع، ومن ثم تلفت النظر إلى دور علاقات القوة في “تثبيت” معنى مفاهيم معينة (كالأنوثة مثلاً). إلا أني أجد لعبارتها فائدة تعنينا هنا، فهي بإشارتها إلى تطور المعاني داخل سياق ثقافي وتاريخي، وإلى صعوبة الإمساك بالمعنى من أساسه، تمهد للمناقشة التي أعتزمها بخصوص مشاكل هذه الترجمة وصعوباتها، وهي مناقشة تستهدف – في المقام الأول – الكشف عن السيرورات المرتبطة بالترجمة التي تبقى – في كثير من الأحيان– خافية عن النظر ونحن في مواجهة النص النهائي المترجَم.
فلنبدأ بالتذكير بأن الترجمة – بشكل عام– عملية تسعى إلى إخراج نص يحمل المعنى المعادل للنص الأصلي، أو نقل أفكار من لغة إلى أخرى عبر أكثر المفردات والأساليب اللغوية وفاءً في نقلها، فالترجمة الجيدة – كما يقال– لا تنقل المعنى بوضوح فحسب، وإنما تنقل روح النص الأصلي وأسلوبه، في صياغة طبيعية وسلسة تتفق مع أساليب اللغة المنقول إليها وتركيبها. وفي الواقع، ثمة صعوبات معينة أمام إمكان تحقق “الترجمة المثالية“، أقلها ما هو معروف من اختلافات بين خصائص لغة وأخرى، والبني الصرفية والقواعد النحوية في كل لغة، بما في ذلك تركيب الجملة وترتيب عناصرها وأزمنة الفعل فيها، وهي صعوبات تتعقد بإضافة محاولات الحفاظ على الأسلوب الخاص بكاتب النص الأصلي. بيد أنني أود هنا لفت النظر إلى صعوبات أكثر أهمية وإن كانت أكثر خفاءً: نقل “ثقافة الكلمة“، أي المدلول النفسي والاجتماعي والثقافي المرتبط بلفظ ما أو مصطلح ما، وهي – مرة أخرى– مسألة تتعقد بفضل عدة عوامل، مثل اکتساب مصطلح معروف لمعانٍ معينة نتيجة استخدامه في سياق تخصصات معينة تُحَمِّلُه بمعانٍ غير سائدة في النصوص العادية، بالإضافة إلى الشد والجذب حول المصطلح ومدلوله بين أتباع النظريات والمدارس الفكرية المختلفة، وأخيرًا وليس آخرًا نشوء مصطلح ما وتطوره في بيئة معينة بحيث يستدعي وقعه فورًا مجموعة من الصور والدلالات يستحيل أن يستدعيها أي مقابل له في لغة وثقافة أخرى، وسوف أهتم في بقية هذه المقدمة بإعطاء بعض الأمثلة على هذه الصعوبات المختلفة من خلال عرض سريع لما انتهيت إليه من بين الخيارات المتاحة – لنقل المعنى في كل حالة – متوخية الحرص على أن تكون الأمثلة المختارة وثيقة الصلة بمشاكل الترجمة في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، وخصوصًا قضية (النوع) التي تقع في مركز هذا الكتاب.
وتلك يمكن تقسيمها إلى عدة عناصر مع أمثلة توضح المقصود:
مفردات ليس لها مقابل في اللغة العربية: من باب المفارقة المليئة بالدلالات في هذا السياق أن أبرز هذه المفردات كلمة womanhood. نحن لدينا كلمة “الأنوثة” لنقل معنی femaleness؛ أي حالة كون الشخص أنثى على الصعيد البيولوجي، وكلمة “الذكورة” لنقل معنى maleness؛ أي حالة كون الشخص ذكرًا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكلمتين نفسيهما تُستخدمان لترجمة كلمتي/ مفهومي femininity masculinity اللتين تحيلان إلى صفات الأنوثة وصفات الذكورة على أصعدة غير بيولوجية. ولست هنا بصدد مناقشة تصور اللغة والثقافة والمجتمع للصفات أو التكوين المعين أو الدور الاجتماعي الذي ينبع “تلقائيًا” أو بصفة “طبيعية” من جنس الفرد البيولوجي، وإنما أكتفي فقط بالإشارة إلى أن هذه الصلة مطموسة تمامًا في اللغة العربية، على عكس الحال في اللغة التي أنقل منها هنا (الإنجليزية)، حيث ثمة حيز نزاع وتفاوض حول طبيعة هذه الصلة. ولعل مقصدي يزداد وضوحًا إذ أعود إلى البداية فأنوه بأن اللغة العربية تحتوي على كلمة الرجولة لنقل كلمة manhood (بغض النظر عن مفهوم/ مفاهيم الكلمة في هذه اللغة أو تلك)، وهي كلمة تشير بوضوح إلى ما يرتبط بحالة كون الشخص رجلاً (فيما هو يتجاوز بوضوح كونه مجرد ذكرًا)، في حين لا توجد كلمة تنقل womanhood؛ أي حالة كون الشخص امرأة، أو كينونتها بوصفها امرأة، وتلك إحدى البدائل المطروحة لنقل الكلمة إلى العربية، إلا أن السياق في هذه المقالات كان يسمح في معظم الأحوال باستبدال كلمة woman بكلمة womanhood دون إخلال بالمعنى، فنستطيع مثلاً ترجمة عبارة locating Indian womanhood إلى تحديد موقع المرأة الهندية، دون أن نبتعد عن المقصود، كما يبدو في المقالة الثانية في هذا الكتاب.
مشكلة التأنيث والتذكير: وهي قضية قديمة لها أهميتها في كتاب يناقش قضايا النوع. تتميز اللغة العربية، على عكس الإنجليزية، بدور قوي للمؤنث والمذكر في تركيبها، وهو ما له – من ناحية – دلالة قوية تشير إلى الأهمية التي أعطتها الثقافة العربية لإبراز الاختلاف بين الجنسين، ومن ثم استخدامات (النوع) طبقًا لمفهوم جون سكوت (الذي نتعرف عليه في المقالة الأولى هنا). وله من ناحية أخرى فائدته في عدم طمس “المرأة” خلف المذكر المفترض أنه حيادي، وبذلك تسمح اللغة بقول فلانة وزيرة كذا أو مسئولة لجنة كذا. وتجدر الإشارة هنا إلى دلالة نزوع اللغة الإعلامية الحديثة إلى استخدام صيغة المذكر من قبيل: فلانة رئيس التليفزيون وليس رئيسته.
هذا على صعيد صيغة المفرد، أما عند الجمع فتختفي تمامًا صيغة المؤنث – كما هو معروف – إذا ظهر ذكر أو مذكر واحد، فيقال مثلاً: “اتفق المترجمون المتمرسون على استخدام الصيغة الآتية…”. قد يبدو أن ثمة حلاً بديهيًا هو إضافة “المترجمات” إلى جوار “المترجمون“، غير أنه حل غير مجدٍ إلا إذا لجأنا إلى تأنيث كل الأفعال والصفات التالية، وهو أمر يؤدي إلى طول الصياغة وثقلها. ومن بين البدائل التي ناقشتها محررات ومترجمات هذا المشروع اخترت حلاً يتمثل في استخدام صيغة المؤنث والمذكر بالتبادل، بحيث يأخذ الفاعل مثلاً صيغة المؤنث مشفوعة بصيغة المذكر بين قوسين، أو العكس، على أن تتبع بقية العبارة قواعد التأنيث أو التذكير طبقًا للصيغة الأولى الموجودة خارج القوسين، فنقول: “اتفقت المترجمات (أو المترجمون) على أن يستخدمن…”، أو “اتفق المترجمون (أو المترجمات) على أن يستخدموا…”. واختيار حرف العطف “أو” مقصود على سبيل الإشارة إلى أنه لا فارق بين الكلمتين، هذه أو تلك، في حين أن حرف “الواو” قد يوحي بأن الكلمتين لا تتقاطعان؛ ومن ثم فإحداهما ناقصة دون الأخرى مما يحمل ترسيخًا لفكرة التضاد أو التكامل دون مساحات من التقاطع.
يبقى أن هناك مفردات يستحيل تأنيثها. فلنتأمل كلمة “شخص“، أو كلمة “فرد” (في الفقرة قبل السابقة مثلاً). قد يبدو أنه ليس ثمة مشكلة في عدم القدرة على تأنيثها، إلا أن المشكلة قد تتضح طبيعتها في العبارة الآتية (وهي عبارة من عمل تستشهد به نانسي هارتسوك في مقالتها هنا): “… إن تجارب “الفرد” تؤثر على تكوين هويتها الثقافية وإن لم تكن تحدد شكلها تمامًا. (… an individual’s experiences will influence, but not entirely determine, the formation of her cultural identity).
وليس من العسير على قارئة (أو قارئ) المقالة أن تتبين أنه لا مجال لتذكير العبارة كلها؛ إذ تناقش فكرة المنظور من موقع النساء، كما أن استبدال “الفرد” بكلمة “المرأة” يُحَمِّلُ الكلمة بدلالات غير مقصودة، ويحول بين النساء وضع “الفرد” (the individual) الذي له مفهوم معين ومكانة خاصة في تاريخ الفكر الحداثي الغربي.
صعوبات صيغة الجمع: كيف يمكن جمع كلمة “واقع” مثلاً؟ يصلح أحيانًا أن نترك الكلمة على صيغة المفرد المعروفة والمستساغة إذا لم يكن الجمع له أهمية خاصة، غير أنه إنْ إلى كلمة “realities” نجد أن جمع هذه الكلمة له أهميته في مقالة تتحدث عن اختلاف “أشكال الواقع أو أنواعه” الذي تعيشه مجموعات اجتماعية معينة، كما في العبارة الآتية من مقالة تشاندرا موهانتي:
“If these particular gendered, classed and racialized realities of globalization are left unseen….
وحين لجأت في مناسبات أخرى إلى إضافة كلمات تفيد معنى الجمع، مثل “أشكال القهر” أو “مظاهر/أمثلة اللامساواة” إلى الكلمة المفردة، إلا أن هذا الحل – على عدم كفايته1 – يتعذر مع موقع كلمة “realities” (جمع “واقع“) كما وردت في العبارة المذكورة، فهي مضافة بدورها إلى كلمة “العولمة“، مع وجود صفات متعددة تعود على الكلمة نفسها (realities)، مما يضع بعض التحدي أمام محاولة تركيب العبارة وترتيب عناصرها في اللغة العربية. وقد استخدمت هنا عبارة “تجليات العولمة على أرض الواقع” مع إعادة ذكر الكلمة مصحوبة بصفاتها، على النحو التالي:
إننا إنْ تركنا تلك التجليات المحددة للعولمة على أرض الواقع – التي هي تجليات تتسم هنا بالتمييز (النوعي) والطبقي والعنصري– إن تركناها خافية عن النظر..
والعبارة نفسها (إذا التفتنا إلى كلمة “racialized”) تصلح مثلاً يوضح فئة أخرى من صعوبات الترجمة المتعلقة بالاختلافات في التركيب اللغوي، كما نرى فيما يلي.
تحديات الاشتقاقات والأوزان: من أكثر الصيغ الصرفية صعوبة في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية تلك التي تنتهي في اللغة الإنجليزية بـ ization –، ولأغراض هذه المقدمة يمكن تصنيفها إلى ثلاث فئات. الفئة الأولى مكونة من مصطلحات دارجة أو أصبحت دارجة ويوجد لها مقابل شائع أو مستقر على الأقل نسبيًا، ومنها globalization (عولمة)، militarization (عسكرة) internationalization (تدويل)، industrialization (تصنيع)، وهي صيغ اشتقاقية ترد على قياس صحیح منصوص عليه في كتب الصرف، فتستخدم أبنية (أو أوزان) لها دلالاتها الثابتة نسبيًا (فعللة و فوعلة و تفعيل).
وتضم الفئة الثانية مصطلحات مثل: anglicization, racialization professionalization, وهي مفردات تضعنا أمام خيارين: إما نقل المعنى عن طريق عبارة (أقل ما يقال عنها أنها غير قصيرة)، فنقول: anglicization (جعل – الشيء يصبح “إنجليزيًا” في شكله أو مضمونه أو طابعه أو ممارساته، حسب السياق) و racialization (إدخال الاختلافات العنصرية بوصفها عاملاً مؤثرًا في، شيء، في الفعل مثلاً أو في الفكر) و professionalization (وهو مصطلح يتكرر في مقالة هبة أبو غديرة؛ بما يعني تحويل ممارسات الطب إلى مؤسسة مهنية رسمية لها قواعدها التي تقتصر على أعضائها). أو نلجأ إلى خيار آخر، ألا وهو المجازفة باستخدام أوزان الفئة الأولى نفسها كلما تيسر الأمر.
ولقد انتهيت إلى استخدام “أنجلزة” مقابل anglicization (راجعي مقالة هبة أبو غديرة) والتراوح في الحالة الثانية (racialization) ما بين استخدام عبارة التعريف وبین استخدام وزن عسكرة نفسه، لتوليد كلمة “عنصرة” (والتي استتبعتها صفة صيغة “المعنصر” مقابل racialized)، وبالمنطق نفسه كلمة “تمهين” في الحالة الثالثة، على وزن “تدويل” أو “تذكير” (masculanization). ثم نأتي إلى الفئة الثالثة التي تضم كلمات يصعب إيجاد كلمة واحدة تقابلها؛ حيث يستحيل اشتقاق الوزن (مثلاً corporatization، راجعي أو راجع كشاف المصطلحات)، أو لأن الصيغة المشتقة تتقاطع فورًا مع معنى آخر. ومن تلك الفئة نجد الأمثلة الآتية: scientization (“علمنة” من “العلم“- مثلاً تتقاطع مع الترجمة المستقرة لمفهوم secularization و contextualization (“تسويق” من “تحديد السياق” أو “الوضع في سياق” يسهل اللبس بينها وبين ترجمة كلمة marketing). ومن هنا، يمكن أن ننتقل بسهولة إلى عنصر آخر من عناصر الصعوبات اللغوية.
تقاطعات المعنى: وهنا مرة أخرى أعطي أمثلة سريعة على حالات تقاطع المعنى، بينما تحيل كلمة “sexual” – في الأصل – إلى نطاق النشاط الجنسي (كما في sexual activity صارت تحيل أيضًا إلى العلاقات–علاقات القوى أو العلاقات الاجتماعية بين الجنسين (كما في تعبير sexual politics” و“sexual roles مثلاً) إلا أن ترجمة التعبير إلى “السياسات الجنسية” أو “الأدوار الجنسية” تجعل المعاني المستدعاة في اللغة/الثقافة العربية مرتبطة بالنشاط الجنسي فقط. ولقد استخدمت في هذا الكتاب “السياسات الجنسوية” لنقل “sexual politics” (انظر/ انظري هامش ص 45 في مقالة جون سكوت الأولى) و“أدوار الجنسين” لنقل “sexual roles. وعلى المنوال نفسه، لجأت إلى توزيع العمل الجنسوي أو توزيع العمل بين الجنسين.
أما كلمة “power” فهي تطرح نفسها مثلاً بليغًا على تقاطع المعنى في لغة النص الأصلي مع وجود نطاق من معان متقاطعة في اللغة المنقول إليها. فنجد من ناحية أننا إذا لجأنا إلى كلمة “القوة” مرادفًا لـ power فإن المعنى يتقاطع مع Force،2 وأحيانًا مع strength ومن ناحية أخرى فإن power تتقاطع أيضًا مع authority إذا فكرنا في استخدام “السلطة” مقابلاً لـ “power”،3 في حين أن “authority” نفسها تحمل معنى آخر إذا عدنا إلى مقالة جون سكوت حين تتحدث عن “the authority of experience”، فهي تشير في الواقع إلى مرجعيتها أو سلطتها بوصفها مرجعًا أو “السلطة المرجعية“، وهو المقابل الذي اخترته نقل معنى authority المقصود في هذه المقالة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مفهوم “power”، الذي له مكانة محورية في النظريات الاجتماعية الغربية، وخصوصًا في النقاشات والتحليلات التي تضع قضايا الصراع الاجتماعي وعلاقات القوة في مركزها، نجده مستخدمًا في اللغة الدارجة وفي المعاجم اللغوية بطرق تحيل إلى القدرة بمعنى الإمكانية (power to…) كما تحيل إلى القدرة بمعنى السيطرة (power over). بيد أن الدلالة الثانية (power as domination) أصبحت منذ منتصف القرن الماضي تمثل المنظومة الفكرية السائدة في الدراسات الأكاديمية الغربية. وهي على أية الحال الدلالة المقصودة في مقالات هذا الكتاب، ومن ثم فقد اخترت أن أترجم “power” إلى “القوة/ السلطة” مع شفعها بالكلمة الإنجليزية بين قوسين، وبذلك نميزه عن كافة استخداماته بالمعنى الدارج الذي سبق أن أشرت إلى مشكلة تقاطعاته، وأيضًا نحفظ له علاقته بمصطلح “علاقات القوة (power relations) الذي أصبح مستقرًا ووافيًا بالغرض.
هذه الأمثلة تقع في منطقة تقاطع أو تراكب بين وجهين من أوجه صعوبات الترجمة: الأول هو اللغة كما ذكرت، أما الشق الثاني الذي ننتقل إليه الآن فيرتبط بما يمكن أن نطلق عليه ثقافة الكلمة.
مرة أخرى هذه مشكلة قد تأخذ عدة مظاهر وأبعاد منها ما يلي:
ارتباط المصطلح بالبيئة التي نشأ فيها، وقدرته على استدعاء معانٍ فورية لا يمكن لنظيره العربي أن يثيرها. ومن أمثلة ذلك مصطلح “identity politics” (انظر/ انظري هامش ص١١٦ في مقالة نانسي هارتسوك). وهي عبارة تشكل جزءًا من مفردات الجدل الاجتماعي والسياسي في الولايات المتحدة بحيث لا تحتاج إلى شرح. ونحن إذا وضعنا لها مقابلاً في اللغة العربية بنفس التعبير المقتصد، أي “سياسات الهوية” فإن المفهوم لن يكون “مفهومًا“؛ خصوصًا إذا كان واردًا من باب الإشارة السريعة كما هو الحال في مقالة نانسي هارتسوك هنا (مراجعة الموقف النسوي). من البديهي أن إضافة هامش شارح تمثل حلاً معقولاً لمعالجة هذه النقطة، ولكنه حل لا يغير شيئًا من واقع أن تعبير “سياسات الهوية” يبقى فارغًا بلا معنى ولا رنين، في حين أن التعبير في لغته الأصلية محملاً بالدلالات والأصداء وبتاريخ من النضال والجدال.
ومن هنا يمكن أن نطرح مصطلح “Gay” مثلاً ممتازًا على صعيدين، فهو يقدم نموذجًا يوضح معنی مصطلح “سياسات الهوية“، ويقوم في الوقت نفسه بإبراز “النقص” المتأصل في عمليات الترجمة (translation loss) أو ما يتم فقدانه بسبب الاختلاف الثقافي وما يستتبعه غالبًا من قصور في اللغة المصطلحية. إن “gay” كلمة تستخدم للإشارة إلى الأشخاص الذين لهم نشاطات أو ميول جنسية مثلية، بيد أن المصطلح له تاريخه الخاص، فقد تطورت المعاني والدلالات المرتبطة بالكلمة، دخلت أصلاً من الفرنسية (gai) إلى الانجليزية في القرن الرابع عشر، وكانت تعني مرح وخفيف، ثم اكتسبت في منتصف القرن السابع عشر دلالات مرتبطة بالتسيب الأخلاقي، وقبل منتصف القرن العشرين كانت قد تأسست كمصطلح يشير إلى مظاهر السلوك وأساليب الحياة والملبس والزينة الخاصة بالأشخاص غير المتزوجين، ثم أخذت مجتمعات المثليين في استخدام الكلمة للإشارة إلى أنفسهم. ومع تنامي الحركات المسماة بـ“سياسات الهوية” منذ الستينات من القرن العشرين، أصبحت الكلمة تعبر عن هوية اجتماعية سياسية يرفع المثليون والمثليات رايتها ويتبنونها بصفتها مصدرًا للشعور بالفخر والاعتزاز لا بالنقص أو العار، وللمطالبة بالاعتراف بهم– اجتماعيًا وسياسيًا– على أساس اختلافهم وليس بالرغم من اختلافهم. ومن هنا، اكتسبت الكلمة دلالات جديدة تجعل الفارق بينها وبين كلمة “homosexual” فارقًا له أهميته على الصعيدين السياسي والمعرفي. وكما انتقلت معظم قطاعات الثقافات الغربية من استخدام مفردات مثل “queers” و“faggots” إلى كلمة “homosexuals” التي تتمتع بوقع أكثر حيادية (وإن شابته صبغة مرتبطة بنوع من التقييم الطبي، خصوصًا طب النفس)، فقد عرفت كلمات “مثليين” أو “أصحاب الجنسانية المثلية” طريقها إلى مفردات اللغة العربية والفكر العربي على الأقل في أوساط فكرية معينة، بدلاً من كلمة “شواذ” التي لا زالت شائعة في الثقافة الدارجة، غير أن مصطلح “gays” لا يزال بلا معادل حقيقي، ولا أظن أن إيجاد المعادل إمكان يسير؛ إذ إنها نموذج يشير في أبلغ الدلالات إلى ارتباط اللغة بالثقافة والخطاب والتاريخ، أي بحركة مجتمع معين (انظري مقالة جون سكوت، التجربة).
اكتساب الكلمة/ المصطلح معاني جديدة غير تلك الموجودة في الثقافة الدارجة، وذلك في استخداماتها داخل تخصصات معينة. وأستدعى هنا طريقة استخدام كلمة femininity في مقالات هذا الكتاب؛ إذ لا علاقة لها بمعنى الكلمة في الثقافة الدراجة، سواء في المجتمعات الناطقة بالانجليزية أو تلك الناطقة بالعربية، فالكلمة تحيل إلى مواصفات مثل الرقة والنعومة والجاذبية. أما هنا فهي تستخدم تقريبًا نفس استخدام woman أو بمعنى womanhood مع اختلافات في بعض ظلال المعنى والدلالات، يضيق المجال عن التطرق إليها.
تطور المعنى داخل بيئته وتنوع طريقة استخدامه في سياق المدارس المختلفة وفي سياق الخطاب الفردي. وهنا أكتفي بمصطلح “gender” الذي أناقش قضية نقله إلى العربية ببعض التفصيل. من المعروف أن مفهوم “gender” له في بيئته التي نشأ وتطور فيها تاريخًا حافلاً بالجدل والنزاع وتنوع تأويلاته واستخداماته وفقًا للمذاهب النظرية والسياسية المختلفة. وأكتفي بالإشارة إلي هذه القضية وأحيل القارئة (أو القارئ) إلى المقالة الأولى في هذا الكتاب (النوع: تصنيف مفيد في التحليل التاريخي) حيث تقدم جون سكوت عرضًا لمختلف استخدامات هذا المفهوم منذ نشأته.
ومما لا شك فيه أن كلمة “gender” قد نالت حظها من النقاش والنزاع في الإنتاج المعرفي العربي أيضًا، وفي حين يضيق المجال عن محاولة التعرض لمشكلة الرفض أو العداء للمصطلح من أساسه بوصفه مصطلحًا دخيلاً على “الثقافة العربية” (وهي القضية التي تتصدي لها د.هدى الصدة في مقابلة معها منشورة في هذا الكتاب)، لا بد من الإشارة إلى ممارسات الخلط بين الاختلاف حول مضمون هذا المفهوم وإصدار الأحكام القيمية عليه وبين ضرورة إيجاد مقابل – أو أكثر – له اللغة العربية، وهي ضرورة علمية كما أنها سياسية. أذكر هنا في اختصار شديد أن نطاق الاستخدامات الأكثر شيوعًا يشمل “النوع” و“النوع الاجتماعي” و“التشكيل الثقافي للاختلافات بين الجنسين” و“الجندر” ومؤخرًا “الجنوسة“؛ وإذ وجدت نفسي في مواجهة الاختيار بين هذه البدائل الخمسة رأيت نقصًا أو عيبًا يحول بيني وبين استخدام أي منها على نحو يؤدي الدور المطلوب منه في: 1- الوفاء بالمعنى المعادل لشتى استخداماته في المقالات التي يضمها هذا الكتاب (“النوع الاجتماعي” و“التشكيل الثقافي..”، وكل منهما يفترض مسبقًا أين يكمن أصل الاختلاف أو من أين آتی)، ۲– عدم اللجوء إلى التعريب إلا في حالة تعذر وجود مقابل من داخل اللغة المترجم إليها (“الجندر” كلمة معربة ترسخ فكرة أن المفهوم أجنبي ودخيل على ثقافتنا)، 3- عدم الخلط بينه وبين استخدام آخر موجود للكلمة نفسها في العربية. (“النوع” كلمة شائعة تحيل إلى مفهوم “الصنف” أو “الفئة” مثلاً أو تستدعي النوع “genre” في التخصصات الأدبية) 4- إمكان إيجاد اشتقاقات منه تقابل الصيغ التي يصرف عليها في اللغة الإنجليزية (كيف يمكن توليد gendered” أو “gendering” من “الجنوسة” مثلا؟)
ومن خلال عملية البحث عن مقابل يتلافى هذه المشاكل تراءى لي مصطلح اللغة وجدته مناسبًا، ولكنني انتهيت إلى قرار بألا استخدمه في هذه الترجمة وأن أكتفي بتقديمه وطرحه للنقاش حتى ينال حظه من الجدل والنزاع، حتى “تصطلح” عليه فئة وترفضه أخرى. وعلى ذلك أطرح هنا كلمة “الاستجناس” التي وجدتها مصطلحًا له المزايا الآتية: 1- “الاستجناس” صيغة نحوية عربية (استفعال) تبرز جانب السيرورة في تشكيل العلاقات بين الجنسين والاختلافات بينهما وتستدعي تصورًا عن معانی فئات “الجنس” مثل “الأنوثة” و“الذكورة بصفتها محلاً للنزاع والتفاوض على المستويين الذاتي والاجتماعي. ٢– ثم إنها كلمة مشتقة من جنس” وبالتالي تتلافي مشكلة التعسف في الفصل بين “الجنس” و“النوع” على أساس أن الشق الأول يحيل إلى الطبيعة والثاني إلى الثقافة، أو إلى البيولوجي مقابل الاجتماعي. وعلى ذلك، بدلاً من إعادة إنتاج ثنائيات التضاد التي يحفل بها الفكر الفلسفي والسياسي الغربي والفكر الحداثي بشكل عام، يتركنا هذا المصطلح بدون موقف مسبق، ويسمح لنا بمساحة لتنظير العلاقة بين الطبيعة والثقافة بصفتها هي الأخرى علاقة تصلح للتأريخ. 3 – بالرغم من أن “الجنوسة” مشتقة من “الجنس” مثلها مثل “الاستجناس” إلا أن المصطلح الأخير يتميز عن الأول من ناحيتين. أولاً: وزن “الاستفعال” يوحي – كما سبق وأشرت– بالسيرورة، على عكس وزن “الجنوسة” (الفعولة) التي تبدو منتجًا نهائيًا، وفي تبسيط مخل يمكننا أن نعبر عن الفارق بينهما وكان الاستفعال يستدعي عملية/عمليات “إكساب“/ “اكتساب” الجنس، في حين أن “الجنوسة” توحي بجنس “مكتسب“. أما الناحية الثانية فهي تتعلق بصلاحية صيغة “الاستجناس” للاشتقاق منها، فيمكننا بسهولة أن نولّد منها الهوية “المستجنسة” لنقل “gendered identity”.
وأخيرًا، كما أشرت فإن المصطلح مطروح هنا للنقاش، إذ إنه يعكس في النهاية منظور (المترجمة) عن المفهوم نفسه؛ ولذلك وجدت من الأنسب عدم استخدامه في ترجمة هذه المقالات، وإرجاء ذلك إلى مجال البحث. ومن هنا وقع اختياري على صيغة لنقل مفهوم (gender) تتلافي المشاكل الأربع المذكورة أعلاه وتظل منفتحة على النقاش: (النوع).
إن وضع كلمة “النوع” بين قوسين لتصبح (النوع) يحقق الأهداف الآتية:
أولاً، يفصل بينه وبين الاستخدامات اللغوية الشائعة له، مثل كلمة “نوع” في العبارات الآتية مثلاً: “تاريخ من نوع جديد” أو “نوع من الخطأ” أو “نوع القراءات“. وإذ يبدو الفارق واضحًا في الأمثلة السابقة، فهو ليس كذلك في سياقات أخرى. فنحن إذا كتبنا عبارة “هوية من نوع جديد” من الطبيعي أن يتساءل القارئ عن المقصود بالضبط، وبدون الأقواس لا يوجد فارق بين “نوع النساء” (the kind of women) و“(نوع) النساء” (the gender of women).
وثانيًا، الأقواس تذكّر بأن المفهوم غير مستقر ولا نهائي، وبالتالي منفتح على قراءات مختلفة ودراسات جديدة.
ثالثًا، تستدعي الأقواس موقعه الحقيقي في سياق الفكر العربي أو وضعه المعلق، في الوقت نفسه الذي تفسح فيه مجالاً أمام إمكان تثبيت وجوده (وليس تثبیت معناه) عبر تكراره في هذا الشكل المبرز.
رابعًا، يسمح بتوليد اشتقاقات دون أن يجري الخلط بينها وبين الاستخدامات الشائعة الأخرى لهذه الصيغ، فنقول الهوية (المنوّعة) في إشارة إلى “gendered identity” و(تنويع) الذات مقابل “gendering the subject”، والهوية (النوعية) أو هوية (النوع) مقابل “identity gender”.
ويبقى أن هذا الحل لا يعكس أصداء السيرورة، كما أنه يصبح عسيرًا في حالة النقاش الشفاهي بعيدًا عن الكلمة المكتوبة، أي وهي مرئية بين الأقواس.
وأخيرًا، مشكلة إيجاد مقابل لمصطلحات متخصصة مرتبطة باللغات المفاهيمية في مدارس بعينها. وأعني هنا اللغات المفاهيمية والمصطلحية المرتبطة بعدد من المدارس الفكرية والمذاهب النظرية الحديثة نسبيًا، في تخصصات من قبيل علوم الاجتماع والفلسفة واللغويات ودراسات (النوع)، وكذلك في مجالات النشاط السياسي وخصوصًا النسوي. وأود أن أشير سريعًا إلى بعض القضايا:
أولاً، وجود نقص هائل في المعاجم والمصادر التي يمكن الاستعانة بها.
ثانيًا، ثمة مفاهيم دخلت إلى مفردات المجال الفكري في اللغة العربية وعرفت طريقها إلى الكتب والأبحاث والدراسات والندوات، بعضها مستقر وبعضها “يتمتع بـ” أو “يعاني من” وجود أكثر من معادل، بعضها شائع وبعضها أقل شيوعًا، فنجد مثلاً أن كلمة “التفكيك“4 بوصفها مقابلاً لكلمة “deconstruction” غدت شائعة ومستقرة ومتفق عليها، في حين أن مفهوم “construction” المشتق منه المفهوم الأول ليس له الحظ نفسه، إذ نجد له بدائل متعددة، منها “بناء” و“تشكيل” مثلاً5. كذلك ثمة مصطلحات تكاد تكون غير موجودة بالمرة، منها مفهوم “subject position” (موقع الذات) المرتبط بالمصطلحات السابقة، والذي له أهمية محورية في التحليلات التي تناقش دور “الخطاب” (discourse) في “إنشاء” (construction) معنى العالم– وحس “الذات” بهويتها– من موقع معين أو في سياق معين.
واعتقد أن هذا الوضع وتأثيراته في التداول والإنتاج والتواصل المعرفي العربي يستحق الدراسة في حد ذاته.
ثالثًا، العديد من هذه المصطلحات (وخصوصًا في مجال النظريات النسوية) يواجه مشكلة ألمحت إليها سابقًا، مشكلة إيجاد مقابل له في اللغة العربية في هيئة تعبير مقتصد، مثلما هو مقتصد في لغته الأصلية، ويفي في الوقت نفسه بنقل المعنى المعادل في وضوح، (من أمثلة ذلك:
(positionalization, situated knowledges, politics of location, standpoint theory eccentric subjects)
وهي مرة أخرى مسألة متعسرة بسبب غياب تاريخ الاستعمال والتداول والنزاع والتأويل والجدل والتكرار المرتبط بالمصطلح في البيئة الثقافية أو الفكرية أو السياسية أو الأكاديمية التي نشأ وتطور فيها.
من المؤكد أن نقل هذه المصطلحات وطرحها في ساحة الفكر والدراسات العربية يمثل خطوة على طريق صنع تاريخ لغة مفاهيمية يثير وقعها أصداءً؛ قد تقترب أو تبتعد عن نطاق أصدائها وظلال المعاني التي تستدعيها في لغتها، ولكنها تصبح أصداءً تتردد في فضائنا.
1 – هذه الصيغة تطمس الفارق مثلاً بين “oppressions” و “forms of oppression”.
2 – العبارة الآتية توضح صعوبة أن نستند إلى مصطلح “علاقات القوة” فنترجم “power” إلى “القوة فقط، إذ لا يوجد بديل عن “القوة” مرادفًا لـ“force” في العبارة نفسها: “مفهوم فوكوه عن القوة/ السلطة (power) بوصفها كوكبات متناثرة من علاقات غير متساوية تكوَّنت بواسطة خطابات، في سياق “حقول من القوة” (“fields of force”) الاجتماعية“. (انظر/انظري المقالة الأولى ص 44).
3 – ثمة عدد لا بأس به من هذه المفردات المتقاطعة يحتشد في عبارة واحدة (في المقالة الأولى ص 49):
“في كل هذه الحالات سعى الحكام الجدد إلى تأكيد شرعية مظاهر السيطرة (domination) والقوة (strength) والسلطة المركزية (central authority) وسلطة الحكم (ruling power)، بوصفها خصائص ذكورية“.
4 – المدرسة التفكيكية المرتبطة باسم المفكر الفرنسي جاك دريدا.
5 – تجدر الإشارة إلى أنني اخترت كلمة “إنشاء” (وجمعها “إنشاءات“)، وأجدها الأصلح من وجهة نظري لعدة أسباب، منها أن ثمة إجماعًا على استخدام جذر كلمة “بناء” (بني) لتوليد المصطلحات المرتبطة بـ “structure”، بدءًا من “بنية” إلى “ما بعد البنيوية“، كما أنها من ناحية أخرى تستدعي كلمة “منشأ” الموجودة والمستقرة بوصفها مصطلحًا مقابلاً لكلمة “construct”.