الجنون والمرأة في مصر نهاية القرن التاسع عشر
رقم الايداع:
200516828
الترقيم الدولي:
977-5895-16-2
رقم العدد:
3
رقم الطبعة:
الطبعة الأولى
تاريخ النشر:
2005
اعداد بواسطة:
مراجعة:
المقدمة
مر المرض العقلي في مصر بتغيرات جذرية بحلول نهاية القرن التاسع عشر، وبدأت الأعراف والتعاريف الأوروبية للجنون التي استقت أصولها من الطب النفسي الجديد في التغلغل إلى داخل البلاد نتيجة للتدخل الأوروبي لتحل محل الأعراف المحلية، وأدى ذلك إلى إحداث تغييرات في تعريف الجنون وفي نظرة المجتمع للجنون وطرق التعامل معه. كانت النظرة الغربية– بخصوص المرض العقلي– ذات صفه تمييزيه بناء على النوع، ولقد اتت الى مصر على أيدي جيل من الأطباء من أبناء الطبقة الوسطى ثم انتقلت منهم وعبر الجيل الذي تعلم على أيديهم إلى العامة من الشعب الذين بدءوا يسلموا ذويهم إليهم، لقد حدث تفاعل بين الثقافة العامة والثقافة الغربية كان في مصلحة الأخيرة، وبدأت الأعراف الغربية الجديدة تحل تدريجياً محل الأعراف والثقافة المحلية. وهذه الدراسة هي محاولة للتعرف على تأثير هذه الأعراف والتعاريف الأوروبية العلمية للمرض العقلي على نظرة المجتمع في مصر للجنون، وأنعكاس ذلك على وضع النساء في المجتمع سواء المريضات أو المعالجات، وذلك ما إهتمت به المقالة الأولى من هذا الاصدار، وعلى المستوى النظري كان من المفترض أن تكون هناك قراءة مزدوجة بين مصادر للثقافة المحلية ومصادر للثقافة الغربية الوافدة، لكن لأن المصادر المتاحة للدراسة من العوامل التي تكون محددة لخط سير البحث، ولأن عدم وجود مصادر أصيلة توفر معلومات عن الثقافة المحلية السائدة في المجتمع المصري في فترة القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، مما إضطر الباحثة في المقالة الأولى إلى الاعتماد على قراءة الخطاب الوافد فقط، لكنها حاولت – في حدود الموجود من المصادر التعامل بمنهجية مختلفة، تمكنها قدر الامكان من سد هذه الثغرة في المصادر، فعملت على إعادة صناعة الجداول نتيجة للإحصاءات المستقاة من تقارير مديري مستشفى فأعادت صناعة علاقات القوى بين الفاعلين في الاحصاء.
وجائت الورقة الثانية لتتكامل مع الأولى، وليحاول الباحث إعادة إختبار الفرضيات الأساسية للموضوع على مستوى موازي من خلال معرفة مقدار تفاعل مؤسسة العدل مع تلك الأفكار، كما أنها تكاملت من ناحية أخرى في التغلب على مشكلة المصادر التي عانت منها الباحثة في الورقة الأولى، فحاول الباحث تلمس صوت الفرد –المفعول به– ومعرفة مقدار قبول أو رفض هذه الأفكار الحداثية، وبالتالي قدرة الأفكار المحلية للصمود أمام أفكار حداثية تدعمها السلطة، والباحث وإن لم يستطع الجزم بأنها منعت بالكلية الأفكار الحداثية من التواجد بشكل أكبر في النهاية، كما ناقشت الورقة الأولى، إلا أنه أوضح بشكل جلي، أن المجتمع قلل قدر الامكان من أثر هذه الأفكار على المجتمع.
تغير مفهوم الجنون وتأثيره على المرأة والمجتمع في مصر
في نهاية القرن التاسع عشر
مر المرض العقلي في مصر بتغيرات جذرية بحلول نهاية القرن التاسع عشر وبدأت الأعراف والتعاريف الأوروبية للجنون التي استقت أصولها من الطب النفسي الجديد في التغلغل إلى داخل البلاد نتيجة للتدخل الأوروبي لتحل محل الأعراف المحلية، وأدى ذلك إلى إحداث تغییرات في تعريف الجنون وفي نظرة المجتمع للجنون وطرق التعامل معه. فنجد أن النظرة التي كانت سائدة عن المجانين في المجتمعات قبل الحديثة والتي غالبًا ما اتسمت بالتسامح والقبول واعتبار المجنون مثله مثل أي مريض آخر قابل للشفاء، قد تغيرت لتحل محلها نظرة أكثر صرامة واستبعادية للمجنون تتعامل معه بحذر وخوف وتعتبره خطر على المجتمع يجب استبعاده وكانه مريض بأحد الأمراض المعدية. لقد كانت البيمارستانات في العصور الإسلامية الأولى والوسيطة مكانًا لعلاج المجانين لم تكن مؤسسات لاستبعاد المجنون عن مجتمعه. كان يتم بناؤها دائمًا في قلب المدينة، تضع المجنون بالقرب من ذويه وتيسر عليهم زيارته(1).
كانت البيمارستانات الإسلامية تقدم خدمات طبية لكافة أنواع المرضي معظمها مخطط تخطيطًا جيدًا مقسم لأقسام أو عناير لعلاج الأمراض المختلفة التي كان من ضمنها دائمًا قسم خاص لعلاج المجانين(2). استمر بناء البيمارستانات بل زاد عددها في العصر العثماني وأصبح الكثير منها مخصص لعلاج المجانين حتى أن كلمة بيمارستان أو مارستان أصبحت مرادفة لمستشفى الأمراض العقلية في العصر الحديث (3)، فتجد أن محمد على عند بناء دولته الحديثة يأمر بإنشاء بيمارستان خاص بعلاج المجانين، تعالج فيه الأمراض العقلية فقط دون غيرها من الأمراض. إلا أن هذا البيمارستان لم يكن يهدف لعزل المرضى عن ذويهم أو استبعادهم عن المجتمع حيث أن محمد على كان قد أمر ببناؤه في ميدان الأزبكية في قلب القاهرة في ذلك العصر (4)، كذلك نجد أنه في سنة 1850م تم تحويل مخزن على ميناء بولاق إلى مستشفى لعلاج المجانين(5).
إن بناء مستشفى الأمراض العقلية في منطقتي الأزبكية وبولاق، وهو دليل على أن دولة محمد على الحديثة كانت تنظر إلى المجانين على أنهم جزء من نسيج المجتمع، ليسوا بمنأى عنه بل في قلبه. لكن هذه النظرة بدأت تتغير تدريجيا مع نهاية القرن التاسع عشر مع قدوم النفوذ الأوروبي للبلاد بأعرافه وتقاليده وتعاريفـه للجنـون ففي سنة ۱۸۷۷م، ۱۸۷۸م قامت بعثة بريطانية تتضمن عددًا من الأطباء والمسئولين البريطانيين بزيارة مستشفى الأزبكية بالقاهرة، وقدموا تقرير عن حالتها أشاروا فيه إلى سوء الأحوال بها وإلى تردي حال المرضى وأرجعوا هذا كله إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في مصر وإفلاس خزانتها مؤكدين إلى إنه لا يمكن لهذه الأمور أن تعتدل إلا بتدخل الحكومة البريطانية وسيطرتها على مقاليد الأمور في مصر. وبناء على هذا التقرير، تم إغلاق مستشفى بولاق سنة ١٨٨٠م وأنشئت مستشفى جديدة لعلاج الأمراض العقلية على أطراف الصحراء في منطقة العباسية وقد بنيت هذه المستشفى في مكان قصر عباس الأول والى مصر(6)، كان قد تعرض للحريق سنة ١٨٧٨م،. وانتقلت هذه المستشفى للسلطة البريطانية في سنة ١٨٨٤م بعد الاحتلال البريطاني للبلاد حيث أصبح يديرها أخصائي إنجليزي، وبدأ البريطانيون في وضع مقاييس لتشخيص المرض العقلي في مصر وطرق علاجه(7). وأصبحت مستشفى العباسية هذه مركزًا هامًا في إدخال ونشر الأعراف الغربية المتصلة بالمرض العقلي إلى البلاد، لكن المثير للاهتمام هنا أن نشر الأفكار والأعراف الغربية لم يتم من قبل الأطباء البريطانيين فقط بل نجد أن الأطباء المحليين داخل مستشفى العباسية ممن تدربوا وفقًا للأسلوب الأوروبي قد لعبوا دورًا أكبر في إقحام الأعراف الغربية على الخطاب الوطني حيث شرعوا في إعادة صياغتها والتفاعل معها.
إن تأثير الأعراف والمفاهيم الغربية على مفهوم الجنون في مصر ممكن أن يقرأه المرء بمجرد النظر إلى هذه الخريطة (8).
فهذه الخريطة توضح كيف أن المستشفى كانت تقع في أطراف العاصمة بعيدة عن العمران تجاورها مستشفى الأمراض العفنة، مما يدل على أن المجنون في هذا العصر وضع في نفس خانة مريض الأمراض العفنة أو الأمراض المعدية، وليس كما كان في السابق حيث كان ينظر إليه كمريض قابل للشفاء. لم تكن المستشفى بعيدة فقط من العمران، ولكن كان يفصلها عن العمران ويحجزها عن السكان قشلاق جيش الاحتلال ومدرسة للبوليس مؤكدًا لعملية الاستبعاد والفصل بين المجنون وذويه. فكل هذه الحواجز كانت تجعل زيارة المجنون عملية شاقة بل في بعض الأحيان مستحيلة.
استمرت هذه النظرة الاستبعادية بل كانت أكثر وضوحًا عند إنشاء ثاني مؤسسة علاجية للأمراض العقلية في البلاد سنة ١٩١٢، وهي التي عرفت باسم مستشفى الخانكة. وقد أنشئت الخانكة أيضًا في منطقة صحراوية متطرفة في محافظة القليوبية، يفصلها عن العمران صحراء شاسعة يسكنها قبائل عرب العبابدة ويمر بها خط للسكة الحديد يفصل المستشفى عن العمران.
الخريطة التالية توضح موقع المستشفى من العمران مؤكدة بفكرة الاستبعاد وفصل المجنون عن ذويه (9).
لقد لعبت السلطة البريطانية والأطباء البريطانيون دورًا كبيرًا في إرساء سياسة استبعاد المجانين عن ذويهم، وفي إدخال ونشر أعراف وتعاريف جديدة للجنون أثرت على الأعراف المحلية وغيرتها، ولكن كما ذكرنا سابقًا ما كان لهذه الأعراف الغربية أن تتخلل في البلاد وتغير أعرافه المحلية لو لم يتبناها الأطباء المحليون ويتفاعلوا معها ويعيدوا صياغتها فيكون لها تأثير أقوى وصدي أوسع عند أبناء جنسهم، فقد كانوا بمثابة الجسر بين الطب الغربي بمقاييسه الغربية وأبناء الوطن بأعرافهم المحلية.
ولذا تركز هذه الورقة أولاً على دور هؤلاء الأطباء المحليون الذين تدربوا في أوروبا ومدي تأثرهم بالغرب في فهمهم للجنون، ولجنون المرأة بوجه خاص – وكيفية تصويرها في كتاباتهم. ثانيًا تبحث الورقة في تأثير تلك الآراء والمفاهيم الغربية على نظرة المجتمع المصري وردة فعله تجاه النساء سواء مريضات أو معالجات. وتركز الدراسة على ثلاثة مصادر طبية نشرت في نهاية القرن التاسع عشر، وهي من أوائل الكتب التي ألفها أطباء مصريون في مجال المرض العقلي وصحة المرأة.
وهذه المصادر الثلاثة هي “أسلوب الطبيب في فن المجاذيب” للدكتور سليمان نجاتی ونشر سنة 1896م(10) وكتاب “صحة المرأة في أدوار حياتها” للدكتور أحمد عيسى ونشر سنة1904م(11)، و“طب الركه” للدكتور عبد الرحمن إسماعيل والذي نشر عام ١٨٩٤م(12). لقد أوضح هؤلاء الأطباء الثلاثة جليًا في مقدمات كتبهم أنهم مسئولون عن إدخال الأعراف والأفكار الطبية الأوروبية إلى المجتمع المصري من أجل إخراجه من الظلام إلى النور. وكان ذلك الأمر يعد من وجهة نظرهم جميعًا قضية وطنية ومسئولية ملقاه على كاهلهم من أجل خير شعبهم، لقد تبني الأطباء الثلاثة وجهة نظر الرجل الغربي الأوروبي.
ويعد كتاب “أسلوب الطبيب” أول ما نشر في طب النفس باللغة العربية حيث يعتبر دكتور سليمان نجاتي أول مصري يمارس الطب النفسي ويقوم بتدريسه في مدرسة الطب، فلقد كان مرسلاً أساساً للتخصص في علم الباطنة واسترعي انتباهه هذا التخصص الذي قال عنه أنه لم يطرق لمصر بابًا“، فحرص على أن يكون أول من عمل من المصريين بهذا الفرع وصرف وقته كله لتحصيل هذا العلم حتى أتم دراسته وعاد إلى مصر وهو مؤهل لتدريسه في مدرسة الطب(13). لقد كان الدكتور نجاتي غارقًا في النظريات الغربية للمرض العقلي وعبر في كتابه “أسلوب الطبيب“عن ولهه وانشغاله بالنظريات والأعراف الأوروبية السائدة في ذلك الوقت، وأفاد انه نتيجة لعدم وجود مصادر باللغة العربية حول الطب النفسي، فقد اضطر إلى الخوض في غمار عملية مرهقة وشاقة من ترجمة المصادر الغربية سواء القديمة أو الحديثة إلى العربية وعرضها بعد ذلك على طلاب الطب من خلال محاضراته وكتاباته. وهنا نرى أن الدكتور نجاتي قد تجاهل كافة الكتابات الطبية حول الأمراض العقلية التي ألفها الأطباء خلال الحقبة قبل الحديثة لأنها لا تتناسب مع الأفكار التي أخذها من الغرب، أفكار الحداثة(14).
يقسم الدكتور نجاتي المرض العقلي إلى عدة أنواع في كتابه هذا – ويشير إلى أن هناك بعض الأنواع التي لا تصيب سوى النساء، فهو يرى أن المرض العقلي في النساء يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتركيب البيولوجي للمرأة، فالتغييرات الفسيولوجية تؤدي إلى تغييرات في الحالة العقلية للمرأة وتؤثر على استقرارها العقلي ويشرح بالتفصيل كيف أن فترة الحيض تصحبها بعض ظواهر عدم التوازن الاجتماعي والعقلي والتي تتراوح ما بين أمراض بسيطة تتمثل في القلق والإثارة إلى أعراض حادة مثل المس والمنخوليا. و هو يرى إنه إذا نجت النساء من الإصابة بالجنون من جراء الحيض فإنها لا تزال مهددة بالإصابة بالانهيار العصبي خلال فترات الحمل والولادة والرضاعة والتي تتراوح أيضًا من أعراض الاكتئاب العرضى إلى مرض الذهان الذي لا شيماء منه وكذا الانتحار. ويعتبر انتهاء حياة المرأة الإنجابية أحد عوامل الهيجان العقلي، فإن موت الجانب الإيجابي أو أي خلل في الأعضاء الإنجابية مثل المبايض والرحم يخلخل من استقرار المخ مما يؤدي إلى هلوسة ونوبات هيجان(15)، ومن هذا فلا يمكن للمرأة أن تأمل في التمتع بالصحة العقلية مدى الحياة. ففي كل مرحلة من حياة المرأة يجب عليها أن تحزر من حدوث اضطراب في استقرارها الذهني. ويرى الدكتور نجاتي أن علاج المرض العقلي لدى النساء يجب أن يبدأ بتحليل أسباب المرض التي دائمًا ما تكون بيولوجية أو فسيولوجية، مما يحقق ربطًا بين علم النفس وعلم أمراض النساء. وعلاوة على الأنواع المختلفة للمرض العقلي في النساء، فهو يقوم بمناقشة العديد من الأنواع الأخرى للجنون التي تصيب كلا من النساء والرجال غير أنه يزعم أن النساء عادته يكن أكثر عرضة للإصابة بتلك المجموعة من الأنواع مقارنة بالرجال(16).
ولم يكن من المستحيل على النساء تجنب الإصابة بأمراض عقلية من شأنها أن تتسبب في خلل لاستقرار المخ فحسب بل ساد الاعتقاد أن الأبناء يرثون المرض العقلي من أمهاتهم. فيري الدكتور نجاتي أن نسبة توريث المرض العقلي في النساء تفوق مثيلتها في الرجال بثلاثة أضعاف. مما يجعل المصابات بالمرض العقلي أكثر تهديدًا للمجتمع من المرضى الرجال(17).
والدكتور نجاتي ليس هو الطبيب الوحيد الذي تبني وعبر عن تلك الأفكار الغربية التي تضع المرأة في قالب الهوية البيولوجية الجامد. فتتضح نفس النظريات لدى الدكتور أحمد عيسى أحد الأطباء الممارسين في مصحة العباسية. لقد عبر الدكتور عيسى عن أفكاره وآرائه في كتابه صحة المرأة في أدوار حياتها“. والكتاب كما يتضح من عنوانه يدور حول القواعد الصحية الواجب على المرأة إتباعها خلال مراحل حياتها. ويعتبر الدكتور عيسى كتابه محاولة لإصلاح وتغيير المفاهيم المجتمعية حول الصحة البدنية والطبيعية البيولوجية للنساء، فهو يشير إلى أن الشعب المصرى يتسم بالجهل ونقص الوعي الصحي، وإنه قد أخذ على عاتقه مهمة إخراجه من حالة غياب الوعى هذه حتى يتمكن من التنافس مع الأمم الغربية. يعرب الدكتور عيسي بشدة عن إعجابه وانبهاره بالغرب وببريطانيا على الأخص حيث يعدها مثالاً يحتذى فتجده يحذو حذو الدكتور نجاتي في الاعتماد كلية “على المصادر الغربية مدخلاً النظريات الغربية على المجتمع المصرى“(18)، وتبدو النظريات الغربية للفروق البيولوجية التي قدمتها مدرسة داروين جلية في ـعمال الدكتور عيسى، فهو يشير إلى أن النساء أقل مكانة من الرجال نتيجة لطبيعتها البيولوجية، فيقول “ثبت لنا جليًا انحطاط المرأة عن الرجل في الجسم والعقل، وذلك لأن خلقها من الرجل يستلزم عدم مساواتها له ولأن جميع هذه المظاهر الحيوية مما يؤثر على جسمها وعلى نظامها العصبي ويجعلها في حالة من التهيج والانفعالات النفسية والاضطراب العقلي لا تساوي بها الرجل، وهذا مشاهد من حيث أن أي اضطراب في وظائف الجسم يجعل الإنسان غير متحكم في قوام العقلية تمامًا(19). كما أنه يزعم أنه من الطبيعي أن يؤدي عدم الاستقرار في دورة حياة المرأة إلى إضعافها جسديًا وعقليًا وعاطفيًا مما يجعلها عرضة للمرض طول الوقت، وعليه تظل المرأة على مرتبة أقل من الرجل ويجعلها عرضة دائمًا لبعض الأمراض مثل الهيستيريا والأنيميا(20).
ويحاول الدكتور عيسى أن يدعم تلك النظريات المستوردة من العرب بأدلة من الدين. فلقد أساء فهم وتفسير بعض آيات القرآن الكريم التي أخرجها من سياقها، لقد استشهد دکتور عيسى بآيات لم يكن لها أي دلالة بيولوجية ولم تشر إلى أي تفاوت بيولوجي مثل “حملته أمه وهنًا على وهن وفصاله في عامين“(21) و“حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا حمله وفصاله ثلاثون شهرًا). ليعضد نظريته بأن المرأة في حالة قلق دائم بسبب الحمل الذي على حد قوله “يؤثر على جسمها ونظامها العصبي، ويجعلها في حالة من التهيج والانفعالات النفسية والاضطراب العقلي لا تساوي بها الرجل“(22). لقد حاول دكتور عيسى إيجاد دليل ديني ولكنه في الحقيقة لم يقم سوى بتزييفه.
بوجه عام يعد اللغو حول الهوية البيولوجية وطبيعة المرأة نغمة مكررة مستوردة في الكتابات الطبية لكلا من الدكتور نجاتي والدكتور عيسى اللذين استقياها من اتصالهما بالغرب وقاما بعد ذلك بنقلها إلى المجتمع المصري عبر قنوات متعددة مثل كتاباتهما ومحاضراتهما وممارساتهما.
لقد واجه سيل الأفكار الغربية القادمة إلى مصر في نهاية القرن التاسع عشر الثقافة المحلية التي تعتمد على تقاليد وممارسات راسخة في وجدانها. ونجد أنه خلال تلك الفترة اتخذ كثير من الأطباء المصريين الذين اتصلوا بالثقافة الغربية موقفاً عدائياً انتقادياً ضد الثقافة المحلية. ولقد كان كتاب “طب الركه” لمؤلفه الدكتور عبد الرحمن إسماعيل من أكثر الكتب انتقادًا للثقافة المحلية حيث هاجم الدكتور إسماعيل بقسوة ممارسات المداوة المحلية ونعتها بالتجارة المتدنية والمهنة الوضيعة التي يمارسها الدجالين والأفاقين(23).
وحيث أن طلب الركه يعني طب العجائز ذوات الذهن الضعيف(24). فلقد جاء الكتاب لينتقد بصفة أساسية النساء اللاتي يمارسن الطب ويهاجمهن. فالنساء وبالأخص العجائز قد لعبن دورًا حيويًا في الطب التقليدي وكن يتحملن مسئولية علاج المرضى واكتساب الخبرات والتجريب، ولقد عمل ذلك الدور الذي لعبته المرأة في الطب التقليدي على تمكينها(25)، ولكننا نجد الدكتور عبد الرحمن إسماعيل يعارض ذلك الدور العلاجي للمرأة ويحاول أن يضع حدًا له متهمًا النساء بأنهن مصدر الخرافات قديمًا وحديثًا(26) مما يضعف دورهن العلاجي ويقلص أحد مصادر قوتهن في المجتمع.
ومن كل ما سبق ذكره يتضح لنا أن الخطاب الطبي النفسي في أواخر القرن التاسع عشر في مصر كان إعادة صياغة للأعراف والنظريات الغربية، فلقد عظم الأطباء المصريين من شأن الأعراف الغربية وروجوا لها بينما هاجموا بضراوة الأعراف المحلية وحقروا من شأنها. وفيما يلی سنحاول دراسة تأثير هذا الخطاب على المجتمع وإلى أي مدى استطاع أن يبدل الأعراف المحلية بأعراف أوروبية جديدة، وكيف استطاعت تلك الأعراف والتعاريف الأوروبية العلمية للمرض العقلي أن تؤثر على وضع النساء في المجتمع سواء المريضات أو المعالجات. ولبحث هذا التأثير اعتمدت الدراسة على التقارير التي أصدرها الأطباء الذين عملوا في مستشفى العباسية في أوائل القرن العشرين إلا أنه لم يتم العثور سوى على تقارير تغطي فترة الثلاثينيات، ولم يتم إيجاد أية تقارير لفترات سابقة غير أنه من خلال استجوابات مقدمة من أحد أعضاء مجلس النواب – “نجيب اسكندر” – لوكيل وزارة الداخلية للشئون الصحية سنة 1930 جاء ذكر التقارير لسنوات ۱۹۱۷–۱۹۱۸ حيث جاءت في الاستجوابات إشارات لعدد المرضى الذين تم إخراجهم من المستشفى دون شفاء(27).
ولأنه يجب أن تمر فترة كافية من الزمن ما بين عشرين إلى ثلاثين عامًا حتى يتسنى التعرف على تأثير أي أفكار جديدة، فلقد وجدنا التقارير التي تغطي فترة الثلاثينات كافية ليبان تأثير هذا الخطاب الطبي على المجتمع وللتعرف على رد فعل المجتمع تجاه هذا الخطاب وطبقَا التقارير الثلاثينات (28) هذه يتضح لنا ما يلي:
إن هناك تزايد في عدد النساء اللاتي يتم إيداعهن بالمصحات، وهو الأمر الذي يشير بدوره إلى أن المجتمع قد بدأ يتقبل فكرة إيداع النساء في المستشفيات وتركهن تحت تصرف رجل غريب. فالنساء المجنونات يسلمن للأطباء الذين تسنح لهم الفرصة لممارسة مفاهيمهم الثقافية وتطبيق نظرياتهم الغربية عليهن. إن تزايد عدد النساء بالمصحات لهو مؤشر لتزايد الثقة بين العامة والمؤسسة العلاجية وعلى رأسها هذا الطبيب ذو الثقافة الغربية.
الزيادة في اعداد النساء في مستشفى الأمراض العقلية
الرسم البياني من عمل الباحث اعتماداً على إحصائية سنة 1911، ١٩٢٥، وعلى تقارير قسم الأمراض العقلية لسنة ١٩٣٠ – ١٩٣٦
غير إنه مع تزايد عدد النساء في المصحة حدث تزايد في التدابير الصارمة والسياسات التمييزية ضدهن. فعلى الرغم من تزايد عدد المرضى وبالأخص النساء وجد أن كان هناك نقص في عدد الأسرة في المصحة وتدهور في نوعية الخدمة المقدمة. ولذا نجد أن النساء كانت الفئة الأكثر تضررًا من ذلك الوضع المتدني نتيجة لأن عددهن يفوق عدد الرجال في المصحة، إذا استثنينا مدمني المخدرات الذين كان يتم إيداعهم في المصحة مما غير من طبيعتها من مكان للعلاج إلى مكان للحجر.
ويوضح الرسم البياني التالي رقم (۲) كيف أن عدد الأسرة لم يكن يتوافق مع الأعداد المتزايدة داخل المصحة.
الرسم البياني من عمل الباحث اعتماداً على تقارير قسم الأمراض العقلية لسنة 1934-1936
لقد فرضت الأعداد المتزايدة المرضي مشكلة أخرى أقرها الأطباء في تقاريرهم ألا وهي عدم القدرة على إيجاد مكان لكل هؤلاء المرضى، ولقد حاول الأطباء حل هذه المشكلة بالاستغناء عن المريضات قبل استكمال علاجهن(29). لقد فضلوا تسريح النساء وليس الرجال كحل لمشكلة نقص عدد الأسرة غير أنهم أقروا في تقاريرهم مشكلة أخرى يصعب حلها أدي إليها هذا الإجراء، وهي أن هؤلاء النساء يخرجن إلى المجتمع يتزوجن وينجبن أطفالاً مصابين بمرض عقلي، مما يؤدي إلى المزيد من الانتشار للمرض العقلي في المجتمع. فطبقا لأفكار الجيل السابق من الأطباء كالدكتور سليمان نجاتي وغيره فإن النساء ينقلن الأمراض العقلية أكثر من الرجال ثلاثة مرات من خلال الوراثة(30). وحيث أنه لا يمكن التخلص سوى من المرضى في القسم المجاني تخلص إلى أن عدد النساء في ذلك القسم كان كبيرًا. وعلى الرغم من أن التقارير الطبية لا تشير إلى أي تقسيم للمصحة على أساس الوضع الاجتماعي والاقتصادي إلا أن الفئة الأكثر تضررًا في النظام هي فئة النساء الفقيرات اللاتي يتم تسريحهن.
إن تسريح النساء دون الرجال لم يكن الشكل الوحيد للتمييز الذي مارسه الأطباء ضد النساء، فلقد أقروا في تقاريرهم أن المغاسل والمطايخ القديمة كانت تحول إلى أقسام الإناث بينما كل المعدات الجديدة كانت من نصيب عنابر الرجال(31). وهنا نجد أن النساء قد وقعن فريسة لوضع غاية في الصعوبة، ففي داخل المصحة يتم إعطاء أولوية العلاج للرجال، وهي خارجها يتم اتهامهن أكثر من الرجال بتوريث المرض العقلي وإفساد المجتمع.
الرسم البياني التالي رقم ( 3) يظهر الأعداد المتزايدة المريضات اللاتي كان يتم تسريحهن دون استكمال العلاج.
عدد من خرج من النساء دون شفاء
الرسم البياني من عمل الباحث اعتماداً على تقارير قسم الأمراض العقلية لسنة 1936
ولم تقتصر سياسات التمييز على المريضات فحسب بل امتدت لتصيب المعالجات أيضاً. فبينما كانت المرأة تتمتع في مجال الطب التقليدي بمكانة رفيعة كمعالجة وكان الناس يلهثون ورائها للتداوي، فإن مصحة العباسية الحديثة قد قلصت هذه القوة العلاجية للمرأة وقصرت دورها على تقديم خدمات التمريض للمرضى من النساء فحسب. الجدول رقم (1) الذي سيأتي فيما يلي يظهر بوضوح أنه لا توجد طبيبات في المصحة، فقط ممرضات في أدنى درجة من درجات السلم الوظيفي. يرصد الجدول كافة العاملين والفنيين والإداريين في المستشفى العقلي ودرجاتهم الوظيفية. فنلاحظ منه أن رئيس الكتبة على الدرجة الخامسة بينما رئيسة الممرضات كانت على الدرجة السابعة، مما يشير إلى أن دور النساء في توفير الرعاية الطبية قد اقتصر على التمريض في درجات متدنية ليس لها قيمة في المؤسسة العلاجية.
الدرجة |
الوظيفة |
1 |
مدير قسم الأمراض العقلية |
3 |
مدير قسم الأمراض العقلية بالخانكة |
4 |
مدير قسم الأمراض العقلية بالعباسية |
4 |
وكيلا مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية والخانكة |
6.5 |
أطباء |
6.5 |
صيدلي |
5 |
رئيس كتاب |
6، 7، 8 |
كتاب |
6، 7، 8 |
كهربائي |
6 |
ملاحظ |
6، 7، 8 |
أمين مخازن |
8 |
معاون |
7 |
رئيسات ممرضات |
8 |
مساعدات ممرضات |
الجدول من عمل الباحث معتمدًا على التقارير الطبية بقسم الأمراض العقلية سنة 1936
علاوة على ذلك، اقتصر عمل الممرضات على خدمة المرضى من النساء فقط، فنجد أن الممرضات كان يتم تعيينهن في مستشفى العباسية حيث كانت تضم مرضى من الرجال والنساء، بينما خلت مستشفى الخانكة التي كانت تستقبل المرضى الرجال فقط من أي ممرضات. وعليه يمكن الجزم بأن توظيف الممرضات كان بغرض خدمة المريضات وليس استناداً إلى المهارات التقنية أو المهنية. وتتناقض تلك المكانة المتدنية للمرأة في المؤسسة العلاجية مع الدور الأساسي التي كانت تلعبه في الثقافة المحلية من خلال طب الركة الذي قامت من خلاله المرأة بعلاج الرجال والنساء في مجتمع كان يضفى عليها حالة من التوقير والاحترام ويكسبها تقدير الأسرة والمجتمع الجدول رقم (۲) يوضح هيئة التمريض في مستشفى العباسية والخانكة.
السنة |
1934 |
1935 |
1936 |
|||||||||
ممرضون |
صيادلة |
أطباء |
ممرضون |
صيادلة
|
أطباء |
ممرضونئ |
||||||
نساء |
رجال |
نساء |
رجال |
نساء رجال |
صيادلة |
أطباء |
||||||
العباسية |
230 |
140 |
1 |
10 |
282 |
159 |
1 |
11 |
242 |
157 |
1 |
12 |
الخانكة |
265 |
1 |
10 |
283 |
1 |
10 |
|
282 |
1 |
10 |
الجدول من عمل الباحث اعتمادًا على الإحصاء السنوي العام لسنة ١٩٣٥، تقرير قسم الأمراض العقلية لعامي ١٩٣٦،١٩٣٤
كافة الجداول والرسوم البيانية السابقة تشير بوضوح إلى أنه كان هناك تمييز صريح ضد المرأة المريضة والمعالجة من قبل أطباء أوائل القرن العشرين. ولقد فرض الأطباء الممارسين تلك السياسات التمييزية والتدابير الصارمة على المرأة بكل فئاتها.
وفي النهاية يمكن القول بأن نظريات العرب وأعرافه قدمت إلى مصر على أيدي جيل من الأطباء من أبناء الطبقة الوسطى وانتشرت أولاً بين طلاب مدرسة الطب الذين كونوا جيلاً ثانيًا من أطباء الأمراض العقلية بعد أن كانوا قد تشربوا بأفكار الجيل الأول وبدءوا يطبقونها عند ممارسة عملهم الطبي. إلا أن هذه الأفكار لم تقتصر على الطبقة المتعلمة المتوسطة بل الجداول السابقة كلها توضح كيف أن الأفكار بدأت تدريجيًا تنتشر بين العامة من الشعب الذين بدءوا يسلموا ذويهم لهؤلاء الأطباء ويأتمنوهم على علاجهم طبقاً لثقافتهم الخاصة ونظرياتهم الغربية. إن ازدياد أعداد الذين يتم إيداعهم في المستشفيات يعد مؤشراً على أن التفاعل بين الثقافة العامة والثقافة الغربية كان في مصلحة الأخيرة، وأن تلك الأعراف الغربية الجديدة كانت قد بدأت تدريجيًا في الإحلال محل الأعراف والثقافة المحلية.
ونحن لا نقول أن المصحات الحديثة لم تدخل أية تحسينات على المنشآت السابقة كل ما تقوله هو أن تلك المصحات قدمت مصحوبة بعدة أوجه تمييز وتدابير صارمة لم توجيهها مباشرة وبصفة أساسية ضد المرأة .
1 Dols, Miccheal W: Majnun – The Madman in Medieval Islamic Society, ed. By Dina E. Immisch. ((Oxford: Oxford University press, 1992).
2 هناك دراسات كثيرة تناولت البيمارستانات بالوصف والدراسة أنظر: محمد بن أحمد بن جبير، رحلة ابن حبیر (بیروت: دار صادر ١٩٥٩) ص ٢٦، ٢٥٥–٢٥٦. محمد بن عبد الله المسيحي، أخبار مصر في سنتين (414-415)، تحقيق وليم مبلورد ( القاهرة الهيئة المصرية للكتاب، 1980)
Ahmed Issa Histoire de Bimaristan a l’epoque Islamique, (Caire: n.p, 1921).
3 Micheal Dols, “Insanity in Byzantine and Islamic medicine”, Dumborton Oak papers, v. 38 (1984) p.148.
4 أمین سامي تقويم النيل (القاهرة: مطبعة دار الكتب والوثائق ۲۰۰۳) ، ط۲، ج ۲، ص ۵۱۸.
5 Eugene Rogan, “Madness and Marginality: The Advent of the Psychiatric Asylum Egypt and Lebanon”, Outside in: On the Margins of the Modern Middle East, ed. by Eugene Rogan (London I.B. Tauris, 2002) p. 110.
6 عباس الأول والى مصر من سنة ١٨٤٨ – ١٨٥٤ م
7 Eugene Rogan, “Madness and Marginality: The Advent of the Psychiatric Asylum Egypt and Lebanon, p. 111
8 خريطة من مصلحة المساحة المصرية خريطة القاهرة ١٩٠٩ مقیاس رسم 1/50000
9 خريطة من مصلحة المساحة المصرية موقع مستشفى الخانكة عام ۱۹۰۷م مقیاسی رسم ۱/ ۵۰۰۰۰
10 سليمان نجاتي، أسلوب الطبيب في فن المجاذيب (مصر: المطبعة الطبية الدريه ١٣٠٩هـ).
11 أحمد عيسى، صحة المرأة في أدوار حياتها (مصر: مطبعة المؤيد ١٣٢٢هـ / ١٩٠٤م) ط۱
12 عبد الرحمن إسماعيل، طب الركه (مصر: مطبعة العاصمة ١٨٨٤م).
13سليمان نجاتي، أسلوب الطبيب، ص 4- 5
14سلیمان نجاتی، أسلوب الطبيب ص ۵.
15 سلیمان نجاني، أسلوب الطبيب ص ص ۱۱۵–۱۱۹
16 سلیمان نجاتی، اسلوب الطبيب، ص ۲۰، ۵۸، 68.
17 نفس المصدر السابق ص ۱۹.
18 أحمد عيسى، صحة المراة، ص ص2-4.
19 أحمد عيسى صحة المرأة، من 7.
20 نفس المصدر السابق ص ۸.
21 آية 14سورة لقمان.
22 آية 15 سورة الأحقاف.
23 أحمد عيسى، صحة المرأة ص 7.
24 عبد الرحمن إسماعيل طب الركه من 4-8.
25 Das Majauh, p. 30.
26 عبد الرحمن إسماعيل، طلب الركه، ص ۰۸
27 مضبطة الجلسة الحادية والثلاثين يوم الثلاثاء ٢٣ ذي القعدة سنة ١٣٤٨هـ، الموافق ۲۲ ابريل سنة ١٩٣٠.
28 تقارير قسم الأمراض العقلية عن سنة ١٩3٠ – ۱۹3۲ – ١٩٣٤ – ١٩3٦ وهي تقارير صادرة من وزارة الصحة العمومية وتعود أعمال مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية والخانكة ومستشفى المجرمين بالخانكة.
29 تقرير قسم الأمراض العقلية عن سنة 1934-١٩٣٦.
30 سليمان نجاتى، أسلوب الطبيب،ص ۱۹.
31 تقرير قسم الأمراض العقلية عن سنة ١٩3٠
1- إسماعيل: عبد الرحمن، طب الركه (مصر: مطبعة العاصمة ١٨٩٤م).
2- تقارير قسم الأمراض العقلية عن سنة ١٩٣٠ – ۱۹۳۲ – ١٩٣٤ – ١٩٣٦ وهي تقارير صادرة من وزارة الصحة العمومية ووزارة الداخلية وتحوى أعمال مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية والخانكة ومستشفى المجرمين بالخانكة (طبع بالمطبعة الأميرية ببولاق سنة ١٩٣٤، ١٩٣٥)
3- جبیر : محمد بن أحمد، رحلة ابن حبير (بیروت: دار صادر ١٩٥٩) ص ٢٦ ، ٢٥٥–٢٥٦ .
4- سامي: أمين، تقويم النيل (القاهرة : مطبعة دار الكتب والوثائق ۲۰۰۳)، ط۲، ج ۲، ص ۵۱۸.
5- عيسي: أحمد، صحة المرأة في أدوار حياتها (مصر: مطبعة المؤيد ١٣٢٢هـ/١٩٠٤م) ط 1.
6 – القرآن الكريم سورة لقمان آية ١٤.
7- القرآن الكريم سورة الأحقاف آية 15.
۸ – المسبحي: محمد بن عبد الله، أخبار مصر في سنتين (٤١٤–٤١٥)، تحقيق وليم مبلورد
(القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، ۱۹۸۰) ص ٥٧.
9- مضبطة الجلسة الحادية والثذلاثين من مجلس النواب يوم الثلاثاء ٢٣ ذي القعدة سنة 1348هـ، الموافق 22 من أبريل سنة 1930.
10- نجاتی سليمان، أسلوب الطبيب في فن المجاديب (مصر: المطبعة الطبية الدريه ١٣٠٩هـ).
1. Dols, Micheal W: Majnun – The Madman in Medieval Islamic Society, ed. By Dina E. Immisch. (Oxford: Oxford University press, 1992).
2. Issa Ahmed, Histoire de Bimaristan a l’epoque Islamique, (Caire 1921).
3. Outside In: On the Margins of the modern Middle East ed. By Eugene Rogan, (London: I.B. Tauris 2002), p. 110.
المقالات الأجنبية:
1. Dols, Micheal, “Insanity in Byzantine and Islamic medicine”, Dumborton Oak papers, v. 38 (1984) pp 135 – 148.
بعد ظهر يوم الأربعاء، بينما كان كبير الأطباء يتفقد قسم الأمراض العقلية، إذا به يری فتاة شابة جميلة، مقيدة في أحد الأركان، تكاد تكون عارية في ملابسها البالية الممزقة، فهاله حالتها البائسة، وما إن اقترب منها حتى راحت تشكوا إليه حالتها، مع أنها تعرف أنه لا يعرف اللغة العربية، التي لا تعرف غيرها، لكنها لم تيأس، وظلت تشكوا إليه ما تعانيه، وقد استشعر– مع عدم فهمه لغتها – أنها ليست مجنونة، وإن بعض الأشرار قد زجوا بها إلى المستشفى ظلمًا وكيدًا، وصدق حدث الرجل، فتأكد له بعد ذلك، أنها ليست مجنونة، فسعى إلى إطلاق سراحها. هكذا كتب “ديجينت” – كبير أطباء الاحتلال الفرنسي لمصر ۱۷۹۸– ١٨۰۱م– في تقريره عن الزيارة التي قام بها لبيمارستان قلاوون، يوم ٢٦ نوفمبر ۱۷۹۸م، بناء على طلب القائد العام لجيش الاحتلال، وديجينت هذا لم يكتب لنا عن الكيفية التي عرف بها صدق حدثه، والتي تأكد منها أن تلك الفتاة لم تكن مجنونة.
على كل الأحوال فهذه الصورة المفزعة، ليست إلا واحدة من عديد ضمهم البيمارستان والذي عزلت إدارته المصابين والمصابات بالأمراض العقلية، في حجرات خاصة، وكما يكمل لنا الطبيب الفرنسي نفسه، حيث قيدت المرضى العقليين الأربعة عشر بقيود حديدية(1).
يبدو أن تلك الحكاية القديمة، لم تتغير ملامحها كثيراً، مع اختلاف الأوقات والشخوص والأسماء، فلابد أن ذاكرة العديد منا ما زالت تحتفظ بصورة حسونة الفطاطري “إسماعيل ياسين” في واحد من أشهر أفلامه في منتصف القرن العشرين، “إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين” عندما تمكن عليوه “رياض القصبجي” –التمرجي ذو الجسد الضخم– من الزج به إلى مستشفى المجانين، أو العباسية، أو السراية الصفراء كما يطلق عليها في مصر، فقط ليخلوا له الجو مع محبوبته طعمة “هند رستم” التي لها نصيب كبير من اسمها، والتي يتنافس الرجلان في حبها، لكن بطلنا الجديد حسونة الذي زج به الشرير إلى المستشفى لم يجد، من يستطيع أن يخرجه منها، بهذه السهولة، فكما هي شهرة المستشفى “الداخل مفقود والخارج مولود“.
على كل ليس القصد أبدًا التكريس لفكرة أن الطبيب الغربي، بما كان يدعيه من رسالة الرجل الأبيض، لمساعدة الأجناس الأقل شئنا. والملاحظة الأساسية في القصتين، أن المحرك الحقيقي، أو صاحب السلطة، في الأولى كان الطبيب، صاحب القرار في تحديد المرض من عدمه وفي الثانية كان التمرجي هو صاحب الكلمة النافذة، في حبس شخص لخصومة بينهما.
يبدو أن الدولة الحديثة في مصر في القرن التاسع عشر قد تبنت أفكاراً ونظماً، هدفت منها إحكام رقابتها وسيطرتها على المجتمع، ووصل الأمر إلى أكثر من مجرد تغيرات كبيرة في حياة الناس، بل وصل إلى انتهاك الخصوصية أجساد الناس على أيدي الدولة الحديثة كما يرى خالد فهمي: في دراسته الهامة عن الجسد والحداثة(2)، بل يبدو أن الدولة لم تكتف بذلك. بل حاولت أن تواصل سيطرتها أيضًا على عقول البشر، حيث صنفت الناس بين عاقل ومجنون على أساس صحة العقل، أو اعتلاله، وفقا لرؤية محددة، دربت رجالها ليقوموا بها، وليكونوا أداه في إحكام سيطرتها(3 )، هذه الرؤية الجديدة الغربية، لم تحاول السيطرة على العقول فحسب، بل إنها حملت كثيرًا من ملامح التمييز بين البشر وفقًا للنوع ذكر وأنثي– فكما أثبتت الباحثة أن ذللك المنظور كان يرى أن المرأة دائمًا معرضة الجنون بسب تكوينها البيولوجي.
لكن الحديث بهذه الطريقة يفترض أن الدولة أو السلطة دائمًا لديها خطة منظمة محكمة وأن الدولة بالألف واللام شيئًا واحدًا، وجميع رجالاتها يخضعون لنفس الفكرة، وأن هؤلاء الأفراد يمثلون الفكرة المطلقة للسلطة أكثر مما يمثلوا المجتمع، أخيرًا، ولأن هذا كله ليس بهذه السهولة فربما كان السؤال عن الكيفية التي تم بها ذلك، وأيضًا المقدار الذي تم به، على مستوى أكثر من مؤسسة من مؤسسات الحكم، ربما يكون ذا فائدة كبيرة في إعادة تقييم وفهم الحالة موضوع الدراسة.
لذلك تقترح هذه الدراسة، أن تركز – إلى حد ما– على ميكانيزم التفاعل أو الصراع – إذا جاز استخدام هذا التعبير دون تحميله بأی دلالات أيديولوجية– بين الثقافة الوافدة، والثقافة المحلية، وأقترح لدراسة هذه الحالة الابتعاد النسبي – ابتعادًا إجرائيًا– عن الدخول إلى المؤسسة أو الممارسة الطب عقلية، كمحاولة لإيجاد معيار آخر، أو معیار موازی، وأيضا كمحاولة لتلاقي أزمة المصادر المتاحة، التي ذكرناها في المقدمة.
هذا المعيار الموازي لابد أن تتوافر فيه سمات تربط بين المرض العقلي، والمؤسسة الطب عقلية، وأيضًا يوفر لنا تراثًا من الممارسات التي تتماس مع الحياة الاجتماعية إلى حد بعيد يمكن أن تجد فيها صوت المؤسسة، وصوت الفرد، أيضًا أن تكون إحدى مؤسسات الدولة الحديثة التي عملت من خلالها على إحكام قبضتها على أفراد المجتمع، وأولاً وأخيرًا، تأثرت كثيرًا بالأفكار الغربية، وأقترح أن تكون المؤسسة القانونية والقضائية، فهي من ناحية مؤسسة قانونية “مستوى نظري“، وهي مؤسسة قضائية “مستوى إحتكاكي مع أفراد المجتمع“.
وسيكون تركيزي في تلك المقالة على رؤية ذات تاريخ طويل في التعامل مع المجنون، والتصرفات المتاحة له، وبالتالي ما هي التصرفات المسموح بها للشخص، وفقًا للمكانة التي يمكن أن يصنف فيها بين الصحة والاعتلال العقلي، وكيف تغلغل نظام الطب الحديث الذي تبنته الدولة في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين في نظم المجتمع حتى بات مؤثرًا، ثم المؤثر الوحيد في اتحاد المؤسسة القانونية (الشرعية) أحكامها، وفقًا لهذا النظام الطبي، وإسقاطًا لتراث من الخبرات التاريخية الطويلة في التعامل مع هذه الإشكالية.
العناصر:
أولا على مستوى المفهوم:
1 – الجنون بين الفقه والقانون.
٢– التعريف الطبي للجنون .
3- الطب العقلي والقانون.
الأهلية الشخص المجنون
٢– الإجراءات التي يمكن بها تحديد المجنون.
3- النساء والجنون.
أولاً على مستوى المفهوم:
1-الجنون بين الفقه المصادر القانونية:
عندما سئل شيخ الإسلام الإمام محمد أحمد المهدي مفتي الديار المصرية في ٢٢ شعبان سنة ١٢٧١هـ أي في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، عن رجل يملك حصة في دار بطريق الإرث عن أبيه فجن والعياذ بالله تعالى جنونًا مطبقًا، واستمر في جنونه مدة تزيد على عشرين سنة، ثم بعد ذلك، أدعى رجل من أهل البلد بأنه اشترى منه الحصة المذكورة، فهل والحالة هذه إذا ثبت وقوع البيع من المالك في مدة جنونه بالبينة الشرعية، ولم يثبت وقوعه في الصحة، لا يصح البيع، ولا ينفذ وتكون الحصة باقية على ملكه ( فأجاب) فضيلته “يشترط لصحة البيع أن يكون كل من المتعاقدين عاقلاً فلا يصح بيع مجنون ولا شراؤه (4).
هكذا أنهى فضيلة المفتي القضية بإيجاز، وبشكل شديد العمومية، دون التدخل في أي أمر متعلق ب “الجنون” ، وأهمية هذه الفتوى أنها تمثل نموذج لأحكام القاضي، والمفتى في المسائل المماثلة (5)، وهو ما يدفعنا إلى البحث في مصادر أخرى أو في كتب التعاريف والمصطلحات لنحاول التعرف أولاً على معنى الجنون لدى رجال الشريعة الإسلامية.
يبدو أن التعريف الأبسط هو أن “الجنون هو فقد العقل” إذا فالجنون غير معروف بذاته والسؤال ما هو العقل؟ العقل هو “شئ غير محسوس يمكن الاستدلال من الشاهد على الغائب والإطلاع على عواقب الأمور، والتمييز بين الخير والشر، ومحل العقل هو الدماغ” (6)، وعليه لا يمكن الاستدلال الحسي عن العقل، أو عن الجنون إذ لا يمكن معرفة الجنون إلا استدلالاً، وبهذا فقد عرف الفقهاء الجنون شرعًا بأنه “ذهاب المعنى الذي يدرك به عواقب الأمور والتمييز بين الخير والشر“(7)، هكذا يقف التعريف أيضاً على المعنى الاستدلالي غير الحسي بشكل شديد العمومية.
وخارج إطار هذا التعريف الاصطلاحي، نجد أن الفقهاء قد قسموا الجنون إلى:
1- الجنون المستمر، وهو ما يستوعب جميع أوقات المريض ويسمى الجنون المطبق.
۲– والجنون المتقطع، وهو الذي يتخلله فترات إفاقة “(8).
كما فرق الحنفية بين المجنون والمعتوه، حيث يرون العته ينقص العقل، والجنون يعدم، والمعتوه قليل الفهم مختلط التصرف، يشبه العقلاء، في بعض تصرفاته، ويشبه المجانيين في تصرفات أخرى، كما يذكرون أن العته لا يصحبه هياج، كالذي يصحب الجنون(9)، الأمر الذي يمكن الاستفادة منه، في أنهم لا يعرفون من سمات الجنون إلا الهياج، وهي سمات ربما اشتركت مع العديد من الأمراض الأخرى.
إن كان هذا التعريف، هو ما ذكره علماء الشريعة الإسلامية في القرون الأولى للدولة للإسلامية، وهو ما يمكن اعتباره منطبقاً على تلك الفترة، لكن ماذا عن فترة القرن التاسع عشر فترة بناء الدولة الحديثة المركزية، هل حدث إختلاف أو تغيير من نوع ما من التعريف الفقه قانونی؟
في واحد من أهم المصادر للتأريخ الفقه قانوني في تلك الفترة وهو “مجلة الأحكام العدلية” والتي صدرت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، والتي يمكن اعتبارها نقلة نوعية – على مستوى ما– بين الفقه والعمل القانوني، فيذكر أحد أبرز المتخصصين في تدريس الشريعة الإسلامية في الفترة المعاصرة، وهو د. محمد سراج أنها “أهم التقنينات التي ظهرت في عهد الدولة العثمانية على الإطلاق، حيث تعد تقنينًا مدنيًا شاملاً لا يقل بحال من الأحوال من حيث الصياغة والشكل والموضوع عن أرقى القوانين المدنية الصادرة في عصرنا (10).
ومجلة الأحكام العدلية تلك أصدرتها لجنة من العلماء في الشريعة الإسلامية، أمرت الدولة العثمانية بتشكيلها، لتكون هذه المجلة كعنوانها بمثابة وحدة قانونية شرعية أمام قضاة الشرع الإسلامي، تيسر عليهم عملهم في الأخذ بأحكام الشريعة في القضايا المعروضة عليهم. وفي مقدمة خصصت للتعريف بالاصطلاحات الشرعية المتعلقة بالحجر والشفعة، نجده عند تعريفه للجنون اصطلاحيًا، يذكر أن “الجنون قسمين، أحدهما الجنون المطبق وهو الذي يستوعب جنونه جميع أوقاته، والثاني وهو الجنون غير المطبق وهو الذي يجن في بعض الأوقات ويفيق في بعضها(11)، وفي شرحه لذلك يقول لا يعد الجنون مطبقًا إلا أن يمتد شهرًا وقيل سنة والأولى للإمام وأبي يوسف وعليه الفتوى، وقد نقل هذا التعريف عن مجمع الأبحر، وفتاوي قاضيخان، وبالتالي لم يخرج تعريف هذا المصدر القانوني شديد الأهمية عن تكرار ما ذكره الفقهاء في الدولة الإسلامية، منذ عدة قرون، دون أن يواكب ذلك أي تغير أو تطور مع المتغيرات، أو التعريفات الطبية الجديدة.
٢– أما التعريف الطبي للجنون:
“الجنون هو أفة مخية مزمنة عديمة الحمى تتصف بعدم انتظام كل من قوى الحس والعقل والإرادة، لا فرق في ذلك بين أن تكون الإصابة به جزئية، أو كلية، سواء فطن المصاب بحالته أو لم يفطن، إذ الإرادة تكون في هذه الحالة عاجزة عن تنويع السير الغير طبيعي، ومنقادة تحت سلطة عارض لا قدرة لها على مقاومته.. وبناء على ذلك لا يتأتى لمن تطرقت دسائس تلك الآفة قواه الحسية والعقلية والإرادية أن يمانع أو يثبت أمام هجماتها بمجرد كونه فطنًا لحالته، إذ لا يفيد التفطن متى كانت الارداة عاجزة عن تفنيد ما تريد .. وبالجملة تجعله غير مسئول عما يصدر منه أسوة بالحيوانات بل أضل سبيلا“(12).
وفي موضع آخر عرفها الطبيب ذاته بأنها “حالة غير طبيعية للعقل تتصف بتكدر كل من قوى الحس والعقل والإرادة إلا أن تكدر هذه القوى لا يكون بنسبة واحدة في الجميع “(13)، كما يبدو أن هذا التعريف تعريف طبي بحت، لكن ربما كان المهم فيه أنه يشترك مع التعريف الفقهي في أنه لا يذكر شيئًا على المستوى الحسي، بل فقط يحيلنا إلى أمور استدلالية، إدراكيه.
3- الطب العقلي والقانون:
ولما كان التشخيص أصعب مبحث في الأمراض العقلية، تحار دونه العقول من ضرورة لزومه وشدة الحاجة إليه في كثير من الأحوال، رأى دكتور نجاتي صاحب الكتاب الأول في طب الجنون، من الواجب الاعتناء به رغبة في التوصل إلى ما يتأتي معه استقصاء كنة حقائق تلك الأمراض. وليست الصعوبة من حيث عدم إمكان التمييز بين سليم العقل، ومخبوله، “إذ ربما سهل على الخاص والعام بالبداهة” وهي نقطة جديدة يمكن أن تشترك بين القانون والطب فيما يتعلق بالجنون، فكما يشير الطبيب ليس من الصعب أن يتوصل أي فرد إلى حالة إنسان ما عقليًا، إذا، متى تكون المشكلة؟ يكمل د. نجاتي “بل هي من حيث معرفة ما إذا كان تصنعيًا أو حقيقها لشدة الافتقار إلى أشياء من هذا القبيل يوميًا لدى المحاكم“، لكن لماذا يكون التصنع؟ يبدو أن الأمر بعيد عن مجرد مرض، ومحاولة للعلاج، لكن هذا المرض، ليس دائمًا سيئًا، وإلا لماذا يحاول البعض أن يتشبه أو يدعيه، ويتفنن في إتقان دوره، وهنا تكون الرابطة الأكثر قوة بين الطب العقلي والقانون، فيضيف د. نجاتي وغير خاف ما يترتب على تخفيف وتشديد الأحكام ارتكاناً على صدق تحرى الطبيب الموكل إلى عهدته الكشف عن الشخص “الجاني” ثم تصنع الجنون طمعًا في التخلص من المسئولية“، وهذا هو المصدر الحقيقي لقوة الطبيب العقلي، إذ لن يكون من السهل على أي فرد، البت في تلك الحالات إلا هو، بناء على التدريب الذي تلقاه، “حيث أن استقصاء الحقيقة رهن قول الطبيب الشرعي، حيث عليه الوقوف على الحقيقة، خيفة أن يكون مدان الذمة والحق فيما إذا رتب على ذلك المبحوث عنه عقابًا أخف مما كانت تقتضی به جنایته حملاً على أنه غير متصنع، والحال أنه من هذا القبيل، أو يشدد عليه باعتباره متصنعًا مع أنه في الحقيقة مجنونًا (14).
ثانيًا: الأهلية وما هي موانع الأهلية:
الأصل في الإنسان العقل، أو حسب التعريف الطبي، الصحة العقلية، وعليه فالأصل أيضًا أن يكون الإنسان أهلا للتصرفات المختلفة في العبادات والمعاملات. “ولأن زوال الأهلية هو الاستثناء، لذلك لابد من حكم قانوني لزوالها “(15)، وقد كانت الشريعة الإسلامية سباقة في الاعتناء بموضوع الأهلية، حيث جاء في الحديث الشريف “رفع القلم عن ثلاث: الصبى حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ” ليوضح أن المجنون منعدم الأهلية شرعاً، وقد عنى الفقهاء ببيان أحوال الأهلية في فروع الفقه جميعًا من عبادات و معاملات و عقوبات، وأسباب عدم الأهلية الشرعية “راجعا إلى الصغر والحجر على المعتوهين والمجانين، والحجر على المحكوم عليهم بعقوبة جنائية ارتكبوها “(16)، كما تنعدم الأهلية في الجنون النوعي أو الجزئي وفي الإفاقة الجزئية من الجنون الكلي، وذلك فيما لا يعقله المريض من أشياء، “ويجوز القول إن النص ينفي الأهلية عن المجنون حتى يفيق، فعارض الأهلية يظل قائمًا حتى تتم الإفاقة، ولا يعتبر المجنون، ولو عقل بعض الأشياء مفيقًا في شأنها، مادام يعاني أعراض مرضه، ولا يدرك سائر الأشياء وهو لا يعدوا المعتوه، كما عرفه الحنفية، أنه يعقل أمورًا ولا يعقل أخرى، ولا خلاف في انعدام أهلية المعتوه مطلقًا، كما يمكن القول أن ذلك الشخص تثبت له الأهلية فيما يعقله، لأنه يكون مفيقًا بالنسبة إليه، ولكن هذا القول قد لا يتفق، وما يقتضيه التزام العقوبة من احتياطات في إثبات الأهلية“(17).
أما على المستوى القانوني فلم تظهر الأهلية في الفقه الجنائي الفرنسي، في فترة الدراسة، وعليه فقد توارت في الفقه المصري، حيث أحدث مصر تشريعها عن القانون الفرنسي، كما أغفلت الفكرة فيما كتب في السنين الأخيرة على نسق هذا القانون في الأحكام الجنائية الشرعية“(18).
ثالثًا: الإجراءات التي يمكن من خلالها تحديد المجنون:
جاء في حكاية رجم ماعز، أنه أقر بالزني، فسأله الرسول (ص) عما إذا كان يشكو الجنون، فلما نفى ذلك، بعث إلى أهله ليعلم هل ينكرون من عقله شيئًا، قالو إنه لصحيح(19)، من هذه الحكاية ، ربما يمكن معرفة الأسباب في عدم وجود نصوص أو اجتهادات شرعية حول الإجراءات التي يمكن من خلالها التثبت من حال الإنسان، وصحة عقلة، إذ يبدو أنهم جعلوا في ذلك كفاية، فسؤال المتهم، ومناقشة أهله، ربما كان فيها ما يوضح سلامة عقله.
لكن الأمر على المستوى الطبي يبدو انه أكثر تعقيدًا، وسبب ذلك أن الجنون من أكثر أنواعه الأمراض التي يدعيها أصحاب الجنايات، وذلك رغبة في التخلص من الحكم بما جنوه“(20)، وحتى نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن هناك مؤلف كتب باللغة العربية في هذا النوع من الأمراض التصنعيه والادعائية، مع كثرة وقوعها في المشرق وخاصة من العساكر ومن أصحاب الجنح والجنايات.
والطبيب المحكمي “يحتاج إلى علم واسع وتمكن زائد وممارسة عظيمة وتعود على الأحوال التي يدعى لأن يحكم فيها، وهذا يوجب على الحكام أن يدعوا لذلك أكثر الأطباء ممارسة للقضاء والأحوال.. فيقدم الطبيب الذي يكون اجتهد اجتهادًا زائدًا في دراسة الأمراض المخية يدعي في الأحوال التي يحتاج فيها لتقرير حالة القوى العقلية” (21).
لكن مراجعة التقارير الطبية، والطريقة التي يصف لنا بها د. نجاتي كيفية إكتشاف المريض المدعى، والمريض المتصنع، نجدها لا تخرج كثيراً عن أمر مناقشة المريض، ومعرفة العلاقة الوقتية بين مرضه المدعى وجنايته، وإن كان يشير إلى بعض التغيرات على المستوى الشكلي للمريض، إلا أنها تتشابه بين كثير من أنواع لضعف العقلي الأخرى.
النساء والجنون:
من المفيد جدًا البناء على النتائج المهمة التي توصلت إليها السيدة السعدي في مقالتها السابقة، من أن نظرة شديدة العنصرية في الفكر الطبي الغربي قد تسربت إلى الثقافة المحلية عبر عدداً من الأطباء المصريين، مارسوا تلك العنصرية العلمية على النساء، لكن علينا قبل ذلك أن نضيف بعض النقاط بخصوص النساء والطب العقلي في تلك الفترة، وسنعمل على إعادة قراءة تقارير مديري المستشفى من جديد.
فكما أشارت د. السعدي، أن إدارة المستشفى كانت مضطرة إلى إخراج عدداً من المرضى، من مستشفى الأمراض العقلية قبل أن يتم شفائهم، واتضح من رسومها البيانية أن العدد الأكبر من المطرودات قبل أن يتم شفائها كن من النساء، هذه نقطة أساسية ومهمة، لكن سنعود إليها بعد قليل.
لكن من المهم أولاً أن تزيد من التركيز على، ماذا بعد إخراج أو طرد المرضى، في هذه الحالة خاصة أن الأطباء أنفسهم يتخوفون من أن “إخراج آلاف من المرضى من المستشفيات العقلية دون أن يشفوا خطر“(22)، وهذه هي القناعة الطبية الأصيلة التي يمثلها الطبيب متبني النظرية الغربية التميزية ضد النساء، ويبدو أن هذا القناعة مقلقة للطبيب فيكرر التنبيه عليها في سنوات متتالية، و” قد سبق توجيه النظر من عام مضى على خطورة أمر هؤلاء المرضى، إذ أن أمرهم مزعج حقًا “(23)، ولا تخلوا تقارير السنوات التالية من تأكيد بألفاظ تعبر عن انزعاج أكثر، وأيضًا تحتل مساحة أكبر من مجرد جملة في التقرير، فهل نعتبر أن حجزها في المستشفى تميزًا ضدها، وإخراجها منها تميزًا جديدًا، ربما هذا ليس مهما الآن في نقطتنا تلك، لكن الأهم هو أين يكمن موطن الخطر في طرد هؤلاء المرضى قبل أن يتم شفائهم؟ ولماذا يقوم بطردها؟
التقارير الطبية ذاتها تشرح السبب في هذا الانزعاج، والذي هو موطن الخطر من وجهة النظر الطبية أن الكثيرين منهم كانوا في حالة يحتمل معها أن يخلفوا أطفالاً – ومع أنه لا يتحتم أن تكون ذرية الأشخاص المصابين بأمراض عقلية ناقصي النمو العقلي– إلا انه يرجح كثيرًا أن تكون أكثر عرضة لذلك“(24)، وبالتالي فإن المنظور الطبي حسب هذا التقرير يرى احتمالية أن يكون المريض الخارج دون شفاء كامل سببًا لنقل المرض العقلي بشكل وراثي إلى أبنائه، وبالتالي التسبب في الإكثار من المرضى العقلين، لكنه يعود ليؤكد أن هذا لم يعد احتمالاً نظريًا فقط، بل يذهب إلى أكثر من ذلك، فيؤكد على أن هذا الافتراض تدعمه أو تثبته الإحصائيات حسب حقائق بیانات السجلات لدى مؤسسته الطبية ف ” إذا رجعنا إلى سجلاتنا أوضح لنا ما دون بها من حالات كثيرة تثبت أن أحد الوالدين أو كليهما سبق أن كانا في المستشفى، وهذه الحالة من الكثرة بدرجة لا يمكن معها اعتبارها من قبيل المصادفات المحضة، المهم في هذه الملاحظة الأخيرة أنه يذكرها تبريرًا لانزعاجه من خروج مرضى قبل شفائهم، وبالتالي هم السبب الأهم في هذه الحالات الوراثية، بل يضيف في تقرير تالي بعد ذلك بعامين إحصائية فعلاً مفزعة جدًا، مشيرًا إلى الأثر البالغ لدور الوراثة في المرض العقلي “قد يكون من آثاره ما ظهر في الإحصاءات الخاصة بالعته الأولى– وهو نوع من الأمراض العقلية لا مشاحة في أن أصله وراثي – إذ قد ارتفعت نسبة المصابين به في ال٢٥ سنة الماضية من 5% إلى نحو 35% من جملة من أدخلوا إلى المستشفى” (25)، والشكل رقم (1) المبنى على تقارير المستشفى يوضح مدى هذا الخطر، إذ أن نسبة المصابين بمرض عقلي نتيجة للوراثة تجاوزت حولي 71% من إجمالي عدد المرضى لأسباب أخرى، ثم في السنوات التالية حول هذه النسب إلى أرقام فيذكر مثلاً في تقرير سنة 1936 أنه إذا كان متوسط عدد المرضى الخارجين دون شفاء کامل حوالی 1۱۰۰ مريض، فإنهم في عام 1936م بلغوا ١٣٣٧مريض، وبهذا فإن مدير المؤسسة الطبية المناط بها التعامل مع المرضى العقليين يساعدنا کی نصل معه إلى حالة الفزع التي يعيشها نتيجة لهذه المؤشرات التي يذكرها، صحيح أن ذلك الانزعاج من المؤسسة الطبية، تليها مباشرًا تنبيه إلى ضرورة زيادة الأماكن في المستشفى، وتوفير ميزانيات لإنشاء مباني جديدة، وبالتالي فإنه يسوق تبرير مقنع وموضوعي لهذا الطرد نظراً لضيق المكان، لكنه لا يكون أبدًا على أي قدر من تلك الموضوعية أو التبريرية، إذا ما رجعنا إلى النتيجة التي ذكرتها د. السعدي من أن النساء هن أكثر المطرودات، وسيزيد عدم موضوعيته وعنصريته ضد النساء إذا ما عرفنا ما ذكره د. نجاتي من النساء هن المتسببات في الوراثة بنسبة 3/1 مقارنة بالرجال، ولن يغفر له عدم موضوعيته تلك ما ذكره من أن “الدخول إلى مستشفيات الأمراض العقلية مقصورًا على حالات الجنون الحاد دون غيرها“(26)، فهذه الفقرة الأخيرة لا توضح لنا على وجه الدقة هل معناها أن النساء، بما أن نسبة دخولهن إلى المستشفى في تزايد، هل معناها أن نسبة النساء المصنفات كمجنونات، أو مختلات عقلياً والأكثر حده أيضًا في تزايد. أم على النقيض تمامًا، فنظرًا لأن المريضات في المستشفى أقل حدة، وبالتالي يتم التخلص منهن بصورة متنامية، وما معنى الخطر الذي أشار إليه، هل يقصد الخطر على الأمن، بمعنى الضبط والربط؟ وهل الضبط والربط داخل مؤسسته العلاجية أو في المجتمع، خصوصًا أنه ينبه من جراء ذلك إلى أن “هذه البلاد تكون معرضة لخسارة عظمى” (27)، وأيضًا لقد “قيل الكثير عن التعجيل في إخراج مرضى العقل قبل استكمال علاجهم، وعلى النتائج التي تترتب على ذلك فيما يتصل بالنسل وبالأمن العام (أو النظم الاجتماعية)”(28).
الوراثة والمرض العقلي
فالسؤال باختصار، هل النساء المصابات بالجنون من الأكثر تهديدًا للمجتمع من الرجال أم أن هذه السياسة المتبعة في المستشفى بشكل عام، وتجاه النساء بشكل خاص، هي التي تشكل التهديد.
زواج المرضى العقليين:
ثلاثة من ممرضات مستشفى الأمراض العقلية يتزوجن من مرضى بالمستشفى “بالتأكيد ليس هذا إعلانًا مثيرًا في مجلة أو جريدة لغرض تسويقي، فالخبر صحيح فعلاً، وقد ذكره مدير المستشفى عام ١٩٣٢م، على كل لسنا معنيين كثيرًا في إثبات أو التشكيك فيه، إذ ليس هذا في الأهم، بل ربما كان الأهم هو الربط بين هذا الخبر، والنتيجة التي أقرها الأطباء من وجود علاقة أساسية بين المرض العقلي والوراثة من ذويهم، وخصوصًا من الأم، فالفقهاء، لا يختلفون في أن الولى على النفس من واجباته “جواز تزويج المعتوه والمجنون والمعتوهة والمجنونة الكبار“(29) – يرى الباحث أن الجدل الفقهي حول هذه القضية يجب تتبعه، وخاصة الاختلافات بين الفقهاء في اشتراط سلامة العقل، لكي يكون عقد الزواج صحيحًا، وهل سلامة العقل لكليهما؟، وهل عدم صحة العقد، لكون الشخص مجنونًا، أم لكون أنه غير صالح فقط لمباشرة العقد؟– لكن الآن فقط يؤكد على أن الممارسة الفعلية، للزواج لم تعر ذلك اهتمامًا كبيرًا وقد كان هذا دائمًا هكذا فصاحب الخبر السابق يقول أنه “يخشي أن الأمراض العقلية لا ينظر إليها كعائق جدى يمنع الزواج“(30)، والباحث يرى أن الأمر ما زال هكذا، فالنص الموجود في عقد الزواج الحديث من أن المأذون يكون قد “عرفتهما بالموانع الشرعية، والقانونية، وأكدا خلوهما منها، كما قرر كل منهما خلوه من الأمراض التي تجيز التفريق” يظل مجرد نص يعلم الجميع أن الموثق حتى لا يكلف نفسه بذكرها، والأخطر من ذلك أن زواج مثل هؤلاء المرضى كثيرًا ما يتم بين الأقارب حيث يمكن احتواء الموضوع دون ذكر لهذا المرض، مع العلم به، وهو ما يجعل إمكانية ظهوره بين الأبناء بصورة أوضح.
جرائم النساء مرضى العقل:
في عجالة سريعة، فإن الرجوع إلى الشكل رقم (۲) يثبت دون شك أن النساء المريضات بمرض عقلي كن نسبة ضئيلة جدًا في إرتكاب الجرائم، إذا ما قورنوا بالرجال سواء كانت هذه الجرائم من الجرائم الصغرى، بدأ من السرقة، أو وصولاً إلى الجرائم الكبرى مثل القتل، وغيرها. وما يبرز السؤال من جديد، لماذا كل هذه لعدوانية الطبية ضد المرأة نظرًا لتكوينها البيولجي؟ ولماذا هذه المغالطات في الأحكام على مدى الخطر؟
الجريمة وجنس المريض العقلي
كما أن الشكل رقم (۳) سیبرز مقدار جرم الطبيب الذي يتخذ قرارًا بإخراج النساء بنسبة أعلى دون أن يتم شفائهن، فالجرائم التي يرتكبها مجانين بسبب وراثي، كانت أكبر من المجانين
العلاقة بين الجريمة و سبب الجنون
الرسم من عمل الباحث اعتمادًا على تقرير مدير المستشفى سنة 1932م
ولو أن الطبيب لم يقدم على ذلك لما كان مضطرًا إلى الشكوى المريرة من مقدار الإجهاد الذي يسببه له فحص هؤلاء المرضى، كما يشير في تقاريره ولو أن مستشفى العباسية سيستمر في قبول جميع الاشخاص المتهمين في جرائم المشتبه في إصابتهم بأمراض عقلية – ويتولى أمر البت في مسؤولية كل منهم عن الجريمة بسبب النقص في قواه العقلية، أو عدم مسؤوليته، وهذا العمل من الصعوبة بمكان إذ أن متوسط عدد هؤلاء الأشخاص في الثلاثة سنوات الأخيرة يربوا على المائتين، وكانت ملفات قضايا الكثير منهم كبيرة ومعقدة، ولذلك يستنفذ هذا العمل جزءًا عظيمًا من وقت كبار موظفي القسم “(31).
في النهاية فإن الباحث يؤكد أن محاولة البحث عن علاقة بين المؤسسة القضائية، والأفكار الطبية الجديدة بشأن الجنون، وذلك للتوصل إلى الكيفية التي كانت تلك الأفكار الطبية تدخل إلى المجتمع بثقافته المحلية، والتفاعل بينها وبين مؤسسة القضاء ذات التراث الكبير في التعامل مع مريض العقل، فكما يمكن الحكم بأن المؤسسة القضائية، كانت مقصرة في بعض الجوانب ولا سيما الإجرائية منها، إلا أنه من وجهة نظر أخرى يمكن اعتبارها طريقة لعدم قبول هذه الأفكار الجديدة.
السؤال الذي يمكن التأكيد عليه في نهاية هذه المقالة، يدور حول حقيقة كتب الفقه هل يحب أن تدخل إلى حالة الممارسة القضائية،– مع خصوصية كل حالة–، أم أنها كتب شرحيه، تعليمية، تقدم شروحًا دون أن تخوض في الإجراءات؟، هل واجب كتب الفقه أن تخوض في الإجراءات؟ أم أننا نبحث في المكان الخطأ؟
سواء كان الفقيه قاصدًا – في تلك الفترة– أو غير ذلك، فالنتيجة أن المؤسسة القضائية، ذات الثقافة الإسلامية – التي من الممكن أن نطلق عليها ثقافة محلية– قد قللت من الدور التمييزي الذي لعبته المؤسسة الطبية الغربية الجديدة إلى حد ما، إذا لم تجد تعريفًا تميزيًا أو حكمًا تميزيًا بين الرجل والمرأة في حالة الجنون، كما أن القاضي ظل له حق قبول أو رفض التقرير الطبي، ما لم يقتنع هو به، وبالتالي فإنه حد من الروية لتميزية لدور الطبيب.
عدم عثور الباحث حتى الآن – على الأقل – على قضايا تقدم بها رجال من المجتمع للقاضي، للمطالبة بعزل بعض النساء من الوصاية، أو حتى إثبات عدم أهليتهن، أو حتى على الجانب الآخر محاولة تبرئتها من جرم، نظرًا لأنها مصابة بنوع من الجنون لأسباب الحمل أو الرضاعة، أو الوصول إلى سن انقطاع الطمث، كلها أسباب تجعلنا نرى محدودية تغلغل الأفكار الحداثية الطبية التميزية إلى عدد من مؤسسات الدولة .
كما أن الباحث لا يدعى أنه أجاب على كل التساؤلات التي دخل بها إلى البحث، بل إن خطواته البحثية عدلت في عددًا من فرضياته، وطرحت عدد آخر من الأسئلة، ولم يعثر لها بعد على إجابات واضحة – على الأقل في هذه المقالة الأولية– لكنه آثر أن لا يتجاهل تلك الأسئلة في طرحة الأولى، عسى أن يجد بعد الأجوبة في أثناء اكتمال عملة، أو ربما حمست بعض المهتمين الآخرين على البحث والوصل إلى إجابات، أو منهج مختلف في البحث عن إجابة.
1 صحف بونابرت فى مصر ١٧٩٨– ١٠١م، لاديكان ايجيبسيين، جريدة للآدب والاقتصاد السياسي، ترجمة: صلاح الدين البستانى، مصر، دار العرب للبتانى، ط١، ١٩٧١م، ١٠ مجلدات، ص ١٣٢
2 خالد فهمى: الجسد والحداثة فى مصر، الهيئة العامة المصرية للكتاب، ٢٠٠٥م، ص١٥
3 كما يفهم من مقالة د. السعدى السابقة
4 محمد احمد المهدى: الفتاوى المهدية فى الوقائع المصرية، ج٣، ص١٠٤
5 لاكن يبدو أيضاً ان المالك فى حالتنا وهو المجنون كما ذكر فى السؤال، لم يحجر عليه ولم يعين له وليا يكون مسؤولاً عن تصرفات، وإلا لكان سير القضية فى إتجاه اخر، حيث ستكون فى عدم اعتراف الولى او الموصى المعين لمتابعة تصرفاته بعملية البيع التى تمت دون علمه
6 محمد إسماعيل أبو الريش: الحجر وأسبابه فى الفقه الإسلامي، مطبعة الأمانة، الطبعه الأولى، ١٩٨٨م، ص٦٨
7 على بن محمد البزودى: كشف الأسرار على أصول فخر الاسلام، ج٤، ص٢٦٣
8 حسين أحمد توفيق رضا: أهلية العقوبة فى الشريعة الإسلامية والقانون المقارن، القاهره، دار مطابع الشعب، ١٩٦٤م، ص ١٥١
9 نفسه: ص١٥١– ١٥٢
10 محمد سراج: تطور الفقه فى العصر الحديث، ضمن “العدالة بين الشريعة والواقع فى مصر فى العصر العثماني، ترير ناصر إبراهيم، عماد هلال، مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، كلية الآداب، جامعة القاهرة، ٢٠٠٢م، ص٧٥
11 شرح مجلة الأحكام العدلية: ج٢، ص ٥٣٥
12 نجاتى: أسلوب الطبيب فى فن معالجة المجازيب، ص٧– ٨
13 نفسه: ص١٥
14 نفسه
15 هشام محمد مهنا: الأهلية والمجالس الحسبية فى مصر، مطبعة الضياء، الطبعة الأولى، ١٩٣٥م، ص٤١٤
16 نفسه: ص٤١٧
17 رضا: ص١٦٤
18 رضا، ص٤
19 السرخسى، ج٩، ص٩٢
20 الأمراض الادعائية، ص١٢
21 محمد الهراوى: ص ٣١٨
22 تقرير ١٩٣٠م
23 نفسه: ص٨
24 نفسه
25 تقرير سنة ١٩٣٤م، ص٢
26 نفسه ص٣
27 تقرير سنة ١٩٣٢م ص٥
28 تقرير سنة ١٩٣٦ ص١
29 مهنا: ص٢٠٦
30 تقرير ١٩٣٢م، ص٥
31 تقرير سنة ١٩٣٠م، ص١
-
مصلحة الصحة العمومية: تقارير مستشفى الأمراض العقلية، لسنوات ١٩۳۰ – ١٩٣٦م، مصر، سنوات مختلفة.
-
حسين أحمد توفيق رضا: أهلية العقوبة في الشريعة الإسلامية والقانون المقارن، القاهرة دار مطابع الشعب، ١٩٦٤م.
-
صحف بونابرت في مصر ۱۷۹۸–۱۰۱م، لاديكاد ايجيبسيين، جريدة للآداب والاقتصاد السياسي، ترجمة: صلاح الدين البستاني، مصر، دار العرب للبستانی، ط۱، ۱۹۷۱م، ۱۰مجلدات.
-
علی بن محمد البزدوى: كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام.
-
محمد أحمد المهدى: الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية، ج3.
-
محمد إسماعيل أبو الريش: الحجر وأسبابه في الفقه الإسلامي، مطبعة الأمانة، الطبعة الأولى، ١٩٨٨م.
-
محمد سراج: تطور الفقه في العصر الحديث، ضمن العدالة بين الشريعة والواقع في مصر في العصر العثماني، تحرير ناصر إبراهيم، عماد هلال، مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية كلية الآداب، جامعة القاهرة،2002م.
-
هاشم محمد مهنا: الأهلية والمجالس الحسبية في مصر، مطبعة الضياء، الطبعة الأولى،1935م.
-
هدى الصدة: عائشة تيمور.
-
نجاتي: أسلوب الطبيب في فن معالجة المجازيب.