فهم النوع الاجتماعي
کاملا بهاسين*
إن “الجنس” أمر، و“النوع الاجتماعي” أمر آخر مختلف تماما، فمن المعروف أن الشخص بولد ذكرا أو أنثى، وأن جنسنا يمكن أن يُحدد ببساطة بالنظر إلى الأعضاء التناسلية، ولكن لكل ثقافة طرقها في وضع قيمها الخاصة بالبنات والأولاد، ومن ثم تحدد لكل منهما أدوارا، واستجابات، ومزايا مختلفة، فالقالب الثقافي والاجتماعي الذي يصمم للبنات والأولاد منذ النشأة الأولى هو ما يعرف بتحديد النوع الاجتماعي (الجندرة). فكل مجتمع يحول تدريجيًا الأنثى أو الذكر إلى امرأة أو رجل، ومن ثم إلى فهم للأنوثة أو الذكورة، وذلك عبر مستويات مختلفة من أنماط السلوك، والأدوار. والمسؤوليات، والحقوق والتوقعات، ويتم هذا على خلاف “الجنس“، الذي هو أمر بيولوجي، فهوية النوع الاجتماعي (الجندر) للنساء والرجال يتم تحديدها نفسيًا واجتماعيًا، بما يعني أن النوع الاجتماعي (الجندر) يحدد تاريخيًا وثقافيًا.
تعتبر آن أوكلي Ann Oakley من الأوائل في مجال الفكر النسوي ممن تناولن مفهوم النوع الاجتماعي (الجندر) قائلة “إن النوع الاجتماعي (الجندر) يعتبر أمرًا ثقافيًا، فهو يعود إلى التصنيف الاجتماعي للرجال والنساء على نحو ذكورة وأنوثة. فالناس عادة يحكم على أنهم ذكور أو إناث بالرجوع إلى المدلول البيولوجي، ولكن الحكم على كون الرجل رجلا والمرأة امرأة لا يمكن أن يتم بالطريقة نفسها. فالمعيار هنا ثقافي يختلف باختلاف الزمان والمكان معا. وعليه فإن ثبات الجنس يجب الإقرار به، ولكن يجب أيضا الإقرار بالتغير في النوع الاجتماعي (الجندر).”1
خلصت آن أوكلي في النهاية، إلى أن النوع الاجتماعي (الجندر) ليس ذا أصل بيولوجي، وأن الارتباط بين “الجنس” والنوع الاجتماعي (الجندر) ليس في الحقيقة علاقة طبيعية على الإطلاق.
والجدول أدناه يوضح الاختلافات الأساسية بين مفهومي النوع الاجتماعي (الجندر) والجنس:
النوع الاجتماعي |
الجنس |
“النوع الاجتماعي” (الجندر) عبارة عن ثقافة اجتماعية من صنع الإنسان. |
“الجنس” شيء طبيعي. |
“النوع الاجتماعي” (الجندر) ثقافة اجتماعية تعود لقيم الذكورة والأنوثة، وأنماط السلوك، والأدوار والمسؤوليات.. إلخ. |
“الجنس” خاصية بيولوجية تعود للاختلافات البائنة في الأعضاء التناسلية المتعلقة بعملية الإنجاب ووظيفته. |
“النوع الاجتماعي” (الجندر) متغير، ويتحول من وقت لآخر ومن ثقافة لثقافة، بل حتى بين أسرة وأخرى. |
“الجنس” ثابت ويظل ثابتًا في أي مكان. |
“النوع الاجتماعي” (الجندر) يمكن أن يتغير. |
“الجنس” لا يمكن أن يتغير. |
كيف يمكن ترجمة كلمة نوع اجتماعي “جندر” للغات جنوب آسیا؟
هذه مشكلة حقيقية، بينما توجد كلمتان مختلفتان في اللغة الإنجليزية للتعبير عن “الجنس” و“النوع الاجتماعي” (الجندر)، تجد في معظم لغات جنوب آسيا كلمة لينقا linga للدلالة على مفردتي “الجنس” و“الجندر“، ونجد في لغات جنوب آسيا كلمة براكرينيك لينقا Praakritik Linga، بمعنى الجنس البيولوجي، للتمييز بين الجنس والنوع الاجتماعي (الجندر)، بينما تدل كلمة ساماجك لينقا Saamaajk Linga على النوع الاجتماعي (الجندر) أو مفهوم الجنس الاجتماعي. وفي الحقيقة تعتبر تعريفات لغات جنوب آسيا أفضل من تعريفي “الجنس” و“الجندر“، لأن المفردتين تحملان معنييهما مباشرة ولا تحتاجان إلى مزيد من التوضيحات.
لكن، ألا يعتبر النوع الاجتماعي (الجندر) ذا علاقة وثيقة “بالجنس“؟ وأن الأدوار والسلوكيات المحددة للنساء والرجال تعتبر قائمة على الاختلافات الجنسية بينهما؟
يعتبر هذا صحيحا إلى حد معين، فيسبب التكوين الجسدي للنساء، وليس النساء كلين فإنهن يحملن الأطفال وبطعمين، وبأنين الطمث، ولكن خلاف هذا ليس هنالك ما يفعلنه ولا يقدر عليه الرجال، كما لا يوجد شيء يقوم به الرجال ولا تقوى عليه النساء، فالعمل لا يعني أن النساء وحدهن القادرات على رعاية الأطفال أو الملزمات بهم/ ن، فالرجال بالقدر نفسه يمكنهم القيام برعاية الأطفال، وعلى هذا الأساس، فليس بالضرورة أن يكون التكوين الجسدي للرجل والمرأة هو المحدد لصفاتنا، ومهامنا ومصائرنا.
لكن في الواقع يصعب جدًا تثبيت ما هو مشكل طبيعيا وما هو مفروض اجتماعيًا، فبمجرد ولادة الطفل(ة) تبدأ الأسرة والمجتمع في عملية تحديد النوع الاجتماعي (الجندرة)، فكثير من ثقافات جنوب آسيا تحتفل بقدوم المولود الولد، حيث يمطرونه بالحب والتقدير وأفضل الرعاية الغذائية والصحية، بينما تصبيهم/ ن الحسرة حالة يكون المولود بنتا. فالأولاد يتم تشجيعهم ليكونوا أقوياء وقادرين على التعبير، أما البنات فيتم تشجيعهن على الاحتشام والبقاء بالمنزل.
ليس ثمة ما يوجد في جسد البنت يمنعها من ارتداء الملابس القصيرة أو تسلق الأشجار أو ركوب الدراجات، كما ليس هنالك ما يمنع في جسد الولد من اللعب بالدمى أو رعاية أشقائه الصغار أو المساعدة في الطبخ أو نظافة المنزل فكل الاختلافات ما هي إلا اختلافات قائمة على النوع الاجتماعي (الجندر) تم ابتداعها بواسطة المجتمع، والبرهان على حقيقة أن النوع الاجتماعي (الجندر) يعزى تحديده إلى الاختلافات الثقافية والاجتماعية، وليس أمرا يعود إلى الطبيعة، إن النوع الاجتماعي (الجندر) يظل في تغير دائم بتغير الأزمنة، واختلاف الأماكن، وبين المجموعات الاجتماعية المختلفة. ومثال ذلك حالة ابنة الطبقة الوسطى التي تظل مقيدة بالبقاء داخل البيت أو المدرسة، بينما الفتاة القروية تتجول بحرية في الحقول وترعى الماشية وتتسلق الأشجار لجني الثمار. فكلتاهما فتاتان، لكن ما اكتسبتاه من قدرات وطموح وأحلام يختلف، بالرغم من أن جسديهما يتشابهان، وبالمثل، فالعديد من العائلات لا يسمحون للبنات بالذهاب إلى المدرسة أو الخروج من المنزل بعد سن أو سنة، حسب التقاليد، وفي معظم الأحايين يزوجن في سن البلوغ.
لكن الكثير من الأشياء قد تغيرت الآن، بما فيها التعليم، وتقسيم الأدوار والمسؤوليات، وبالنسبة للرجال قد تغيرت أيضا، ولكن قد يكون بنسبة محدودة. وهذا ما تعنيه عندما نقول إن النوع الاجتماعي (الجندر) متغير ومختلف، ويمكن أن يختلف باختلاف الأسر، والمجتمعات، كما يمكن أيضا أن يكون مختلفا باختلاف الأزمنة في الأسرة الواحدة.
إن أجسادنا نفسها يمكن أن تتشكل أو تتغير، سواء بأنفسنا أو المجتمع والثقافة. حيث يمكننا أن تغير حجم أجسادنا، أو أشكالها، أو تقويها. ويتم ذلك بالتدريب، أو الاستخدام. أو عدم الاستخدام، أو سوء الاستعمال. والأمثلة الواضحة على ذلك: أجساد المصارعين رجالاً ونساء، بناة كمال الأجسام، الرياضيون والرياضيات، الراقصون والراقصات وممارسة اليوقا… إلخ. وبالمثل، فإن أجساد النساء لها القدرة على الحمل والإنجاب، ولكن النساء يمكن أن يخترن إذا ما كن يردن الإنجاب، وعدد الأطفال الذين يرغبونهم، والتباعد الزمني للإنجاب. فالإنجاب ليس أمرًا حتميًا على النساء كما هو على إناث الحيوانات، “إذا ما كانت المرأة تستطيع أن تطبخ، فإن الرجل يمكنه الطبيخ أيضا، لأن المرأة لا تطبخ برحمها“.
ما يستنتج من هذا أن الأوضاع المختلفة التي يتمتع بها النساء والرجال في المجتمع يتم تحديدها اجتماعيا وثقافيا، وهي من صنع الإنسان، وتأثير الطبيعة في ذلك محدود. فالنوع الاجتماعي (الجندر) على خلاف الجنس هو الذي يحدد، وفي كل مكان تقريبا، أن النساء، بوصفهن مجموعة، يعتبرن أدنى مكانة من الرجال. فالنساء يتمتعن بحقوق أقل، ويمتلكن مصادر أقل، ويعملن لساعات طويلة بالنسبة للرجال إلا أن عملهن أقل تقييما أو أقل أجرًا. إضافة لذلك، فالنساء يواجهن عنفًا منظمًا سواء من الرجال أو عبر المجتمع، كما يمتلكن القليل من السلطة لاتخاذ القرار في المؤسسات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. وقد صورت كلاوديا فان ويرلوف Claudia Werthof النظام الاجتماعي القائم على تحديد علاقات النوع الاجتماعي (الجندر) أنه:
” لا يوجد نظام اجتماعي في التاريخ تمادى وشوه الاختلاف الطبيعي بين الجنسين واستغله بشكل وحشي ومنظم كما فعل نظامنا الاجتماعي. فقد حول الجنس بوصفه تكوينًا طبيعيًا إلى نوع اجتماعي “جندر” مصطنعًا، حيث جعل الرجال من “الذكورة” والنساء من “الأنوثة“، وهو في الحقيقة قد حول الرجال إلى فئة بشرية، بينما ينظر إلى النساء بوصفهن جنسا فحسب. في النهاية، وبعد تفصيل هذه الاختلافات الاجتماعية قام النظام الاجتماعي بطرح هذه الاختلافات على أساس أنها طبيعية، من ثم يتم تذويبها في صور الاستغلال الاقتصادي“.2
وبالنظر إلى هذه الاختلافات بصورة مفصلة، فإن أي مجتمع يفرض معايير مختلفة للبنات والأولاد، والنساء والرجال، وتحدد هذه المعايير تقريبا معظم أوجه حياتهم ومستقبلهم، ويمكن النظر إلى هذه المعايير بصورة أوضح فيما يلي:
الملبس
ترتدي البنات والأولاد، والنساء والرجال ملابس مختلفة في معظم المجتمعات. وفي بعض الأماكن ربما تكون هذه الاختلافات طفيفة، ولكن في بعضها تبدو صارخة. وفي بعض المجتمعات، تغطي النساء أنفسهن من الرأس حتى أخمص القدمين بما في ذلك الوجه، إن طريقة اللبس يمكن أن تؤثر على الحركة بالفعل والشعور بالحرية والكرامة.
المميزات
يُتوقع من النساء في معظم المجتمعات أن يبدين طبائع مضبوطة كالرقة، والعناية، والتغذية والطاعة، بينما يتوقع من الرجال أن يظهروا أقوياء. ذوو ثقة بالنفس، ومنافسين وسليمي التفكير وقد ذكرت فاسانت کاتابیران Vasanth Kannabiran إحدى النسويات الهنديات، أن “تربية الأطفال افترض أن تكون طبيعية، كحال المرأة الموروث في الإنجاب. وهي ليست فقط في العلاقة بالأطفال الذين ننجهم، ولكن افترض بأن الحب أو الأمومة كامنة بداخلي منتظرة لنفيض كالنهر لأي إنسان يحتاج لها، وتصبح بذلك أمهات أبديات، أعطي الأمومة لطفلي، وأطفال آخرين، زوجي، إخواني، أخواتي، أبي الذي في القلب يناديني بأمي الصغيرة!، وعلى هذا الأساس أصبح أمًا للجميع، بهذا المفهوم الواسع، فإنه يتوقع منك أن تفيضي بإحساس الأمومة لعموم الكون. ويفترض في هذا أن يكون طبيعيًا، يتم تعلمه بسهولة كالتنفس والأكل والنوم“.3
عادة ما يعتبر الرجال أربابًا للأسر، وملّاكًا ومديري الممتلكات، ونشطاء في السياسة والدين والأعمال والمهن المتخصصة، وفي الجانب الآخر، فإن النساء يتوقع منهن الإنجاب، العناية بالأطفال، وتمريض كبار السن والعاجزين مع القيام بكل الأعمال المنزلية وغيرها من مهام، بل ويدرين على ذلك كله، وهذه الأدوار، عادة ما تحدد تعليمهن من عدمه، وتدريبهن على العمل وطبيعته. ويعرف أن مقدار الاختلاف بين أدوار الرجل والمرأة بعامة تختلف بدرجة واسعة. فالقواعد التي تحكم هذه الأدوار، في بعض الأحابين، ليست سوى تمييزية، وتظهر القليل من القلق بين الجنسين حول التبادل المؤقت لأدوارهما.
طرحت کورا ديبويس Cora Du Bois مؤكدة أنه:
“بالرغم من وجود فوارق في الأدوار الاقتصادية بين الجنسين، ليس من باب التفكير غير السليم أن يؤدي أحدهما دور الآخر، وبالأحرى فإنهم يحظون بالإعجاب بامتلاك مهارة إضافية، فالمتعارف عليه أن النساء ينظمن الاقتصاد المعيشي، بينما الرجال يهتمون بالإجراءات المالية. لكن العديد من الرجال يتحمسون لأعمال البساتين. كما العديد من النساء يمتلكن مهارات مالية. ففي بعض الثقافات تعتبر أعمال البساتين من الحرف النسائية، وانخراط الرجل فيها يعتبر برهانا على الانحراف الجنسي. وفي ثقافات أخرى فإن مهارات وأدوارًا خاصة يمكن تصميمها للإناث المتفوقات في مهام مصممة للجنسين.”4 وبالمقابل فإن “بعض المجتمعات تفرض أدوارا صارمة على كل جنس، ففي حالة الهنود المنروكو في وسط البرازيل الذين اتخذتهم أن أوكلي نموذجا لمجتمع تجد فيه استقطاب الأدوار على أساس الجنس والتقسيمات الجندرية يعتبر عنصرًا اجتماعيا أساسيا. حيث نجد أن الفصل المكاني والاجتماعي بين الجنسين مكتمل فعلها، فالرجال والأولاد يسكنون في منازل خاصة بهم منفصلة عن النساء والبنات، فكل مجموعة جنسية، باستثناء الأطفال، تتفاعل فقط داخل مجموعتها. والتنافر بين الجنسين يظهر في العديد من الشعائر والمناسبات كما نجد أن الاستقطاب الجنسي ينتشر، ليس فقط في المهام الاقتصادية والأدوار الاجتماعية بين الجنسين، ولكن أيضا يشمل المساحة الشخصية؛ حيث يأخذ شكل السيطرة والخضوع، ونجد أن التعبير عن القلق حول مقدرة الناس في البقاء داخل الأدوار الجندرية وأنماط الشخصية المفروضة، ومقدرتهم في تجاوز رغباتهم الحقيقية والخيالية، كل هذا يتم التعبير عنه في العديد من صور الفولكلور والشعائر“.5
يجد المتابع من الخارج، أن اختلافات النوع الاجتماعي (الجندر) في المجتمعات الغربية تبدو طفيفة، ولكن كما أشارت آن أوكلي أن الجنس يعتبر الأساس المنظم للبنية الاجتماعية في المجتمعات الغربية اليوم، وبالرغم من الاعتقاد العام بخلاف ذلك فإن نوع الجنس يلعب دورًا كبيرًا في تحديد الأدوار الاجتماعية. من ثم ليس من المستغرب أن نجد قلقا عميقا، كما هو الحال لدى المندكورو، في الثقافة الغربية، له جذوره في المطالب حول الأدوار القائمة على النوع الاجتماعي (الجندر). كما أن العديد من الأطباء والطبيبات النفسيين/ات يرون أن جزءًا كبيرًا من استقرارنا النفسي باعتبارنا ناضجين يأتي من معايشتنا داخل حدود هذه الأدوار، التي يجب أن نعايشها إذا أردنا المحافظة على قوانا العقلية “.6
في الحقيقة إذا ما تحدثنا من الناحية البيولوجية، نجد الرجال يعتبرون الجنس الأضعف. فالكروموسوم Y، الموجود عند الرجال فقط، يعتبر المسؤول عن كثير من الإعاقات، كما تضمنت في القائمة التي وضعها أشلي مونتاجو Ashley Montagu في كتابه “التفوق الطبيعي للنساء” أن هنالك ٦٢ اختلافًا محددًا ترجع معظمها أو كلها للجينات المرتبطة بالجنس. وغالبها متصلة بالذكور. فهو يرى أن نصف هذه الاختلافات تقريبا تعتبر خطيرة، منها عدم تجلط الدم، وتشوه القلب وبعض الاختلال العقلي، ونجد في أي مرحلة عمرية، ومنذ بداية الحمل، أن معظم جينات الذكور تموت مبكرا مقارنة بجينات الإناث، وفي المقابل نجد معدلات الذكور أكثر من الإناث في الولادة. والحقيقتان عن أكثرية الموت والإنجاب بين الذكور والإناث تبدوان متوافقتين. ويذهب أشلي مونتاجو في التأكيد على الضعف البيولوجي للذكور قائلاً إنه:
بالرغم من أن الحيوانات المنوية Y و X تبدو متساوية في العدد، إلا أن الحمل يكون ما بين ١٢٠ إلى ١٥٠ للذكور مقابل 100 للإناث، وعند الولادة تنخفض نسبة الذكور للإناث بنسبة 106: 100 في الولايات المتحدة بين مجموعات البيض فقط، وفي بريطانيا تنخفض بنسبة نحو 100: 98، كما أن إجهاض الجنين أو موته بشكل نسبة أعلى لدى الذكور بسبب صدمة الولادة. كما أن نسب ٥٤% من المواليد من الذكور يموتون جراء الجروح أثناء الولادة، 18% منهم يولدون بتشوهات خلقية، وفي الحقيقة، فإن توقعات عمر الإناث عند الميلاد عالميًا تعتبر أعلى من الذكور، ففي بريطانيا توقع متوسط العمر للإناث يساوي 74.8 عامًا، بينما للذكور يعادل 68.1 سنة، وفي الصين بنسبة 65.6 للإناث و61,3 للذكور، وفي البرازيل 45.5 للإناث و41.8 للذكور.7
قدمت آن أوكلي، في السياق ذاته، إحصائيات وافية من دراسات بحثية أوضحت فيها أن الرجال أكثر قابلية للأمراض المعدية وعرضة للوفاة. واستنادا على ما طرحته فهي ترى أن “هذه القابلية مرتبطة مباشرة بالاختلاف في الكروموسومات بين الذكر والأنثى، فالجينات المتحكمة في عملية مقاومة الجسم للإصابة يتم نقلها عن طريق كروموسوم X، وتعتبر قابلية الذكور أعلى في الإصابة ذات أسس بيوكيميائية محددة.”8 وفي حالة جنوب آسيا مثلا فإن التفوق البيولوجي للنساء يتم حجبه بالدونية الاجتماعية والثقافية المفروضة عليهم، فين اليوم يتخلفن تقريبا في كل الأوضاع عن الرجال.
من ناحية أخرى، نجد أن أرسطو Aristotle يطلق على الذكر العضو النشط، بينما يطلق على الأنثى العضو السلبي أو غير الفعال فهو يرى أن الأنثى عبارة عن “ذكر مشوه“، وأن المرأة شخص ليس له روح، وأن دونيتها البيولوجية تجعلها أقل في القدرات، والمقدرة على التفكير، وبالتالي اتخاذ القرارات. ويخلص إلى أن السبب في أن الذكر متفوق والأنثى أقل، لأن الرجال ولدوا كي يحكموا والنساء ولدن كي يقع عليهن الحكم. وقد لخص أرسطو رأيه في مقولة “شجاعة الرجل تظهر في أنه الأمر، وشجاعة المرأة في الطاعة. “9
أما سيجموند فروید Sigmond Freud فيطرح أن “التكوين الجسماني للنساء يعتبر قدرهن“. وهو يرى أن الإنسان الطبيعي هو الذكر، وما الأنثى إلا كائن بشري منحرف. تفتقد للعضو الذكري، ونفسيتها الداخلية يفترض أن تركز حول الصراع لتعويض هذا النقص، ومن جانب آخر يری داروین Darwin أن “النساء يبدو عليهن الاختلاف عن الرجال في الوظائف الذهنية، وبخاصة في الرقة الزائدة وقلة الأنانية… وعموم الاقتناع بقوة القدرة الحدسية للنساء، أو سرعة إدراكهن ومقدرتهن على التقليد مقارنة بالرجال، فإن بعض هذه القدرات تعتبر من خصائص الأعراف الدنيا والحالات التاريخية والمدنية من الحضارة. “10
نحن لا ننفي أن هناك بعض الاختلافات البيولوجية بين الذكور والإناث، لكن حقيقة أن الأدوار القائمة على النوع الاجتماعي (الجندر) تتفاوت كثيرًا بين الثقافات، بما يوضح أن هذه الأدوار لا يمكن أن تستند على نوع الجنس أو تفسر به فحسب، والحقيقة العلمية البسيطة التي علينا تذكرها أن المتغيرات –كالأدوار القائمة على النوع الاجتماعي (الجندر) –لا يمكن تفسيرها بالثوابت –كالأعضاء التناسلية والكروموسومات أو الجنس. هذا يعني إذا ما كان التكوين البيولوجي وحده يحدد أدوارنا الاجتماعية، فكل امرأة في العالم يفترض أن تطبخ وتغسل وتحيك الملابس، لكن من الواضح أن هذا ليس الوضع الحقيقي، فمعظم المحترفين في الطبخ والغسيل والحياكة من الرجال.
ما نريد أن نقوله هو أن الجنس والطبيعة البشرية ليسا مسؤولين عن عدم العدل وعدم المساواة الموجودة بين النساء والرجال، فالوضع مماثل في حالة عدم المساواة بين الطوائف. والطبقات والأعراق التي تعتبر أيضا من صنع الإنسان، يتم تشكلها تاريخيا، وعليه يمكن إعادة طرحها للتساؤل والتحدي والتغيير، فالمرأة يمكن أن تنجب أطفالا، ولكن هذا لا يمكن أن يكون سببا لدونيتها وخضوعها، كما يجب ألا يحدد تعليمها وتدريبها أو فرص عملها، والسؤال هو لماذا يقود اختلاف التكوين الجسدي واختلاف الوظائف إلى عدم المساواة؟ فليس من الضروري أن تكون متشابهين لنكون متساوين، ولنا حقوق وفرص متساوية، كتبت ماريا ميس Maria Mies الباحثة والناشطة في مجال العمل النسوي حول الأصول الاجتماعية لتقسيم العمل:
الذكورة والأنوثة ليست معطيات بيولوجية، لكنها نتاج لعملية تاريخية طويلة. ففي كل فترة تاريخية تتخذ الذكورة والأنوثة تعريفا مختلفا، يعتمد فيها على نمط الإنتاج في تلك الفترات… وعليه يطور الرجال والنساء علاقة مختلفة نوعيًا بأجسادهم لذلك ففي المجتمعات الأمومية تم تفسير الأنوثة بوصفها نموذجًا اجتماعيًا للإنتاج باعتباره العنصر الفاعل الأساسي في تكوين الحياة، فكل النساء يصنفن أمهات، لكن مفهوم الأمهات هنا له معان مختلفة، حيث إنه في ظل النظام الرأسمالي كل النساء يتم تصنيفهن اجتماعيًا ربات بيوت، بينما كل الرجال يصنفون أرباب أسر. والأمومة هنا تعتبر جزءا من مفهوم ربة المنزل، عليه، فالفرق بين التعريف المبكر للأنوثة في المجتمعات الأمومية والتعريف الحديث لها، أنه في التعريفات الحديثة تعتبر الأمومة فرعا لكل نشاط وإبداع وقيمة إنتاجية للإنسان.11
يحدث هذا من خلال عملية التنشئة الاجتماعية أو تحديد النوع الاجتماعي (جندرة)، وهي عملية مستمرة داخل الأسر والمجتمع، فكلنا نعلم أن الطفل حديث الولادة لا يصنف فقط بنوع جنسه، وإنما يحدد كذلك النوع الاجتماعي (الجندر)، فقد لاحظنا كيف يكون الترحيب مختلفًا بالنسبة للطفل المولود في بعض الثقافات، يتبع ذلك الاختلاف في التوجيه، والمساعدة، والمعاملة. وطريقة اللبس، فمن خلال هذه القواعد يتم تعليم الأطفال السلوك ليصبحوا جزءًا من المجتمع الذي ولدوا فيه، وتسمى هذه العملية بالتنشئة الاجتماعية، وتسمى عملية التنشئة الاجتماعية –التي يقع عليها تعليم الأطفال لأدوارهم الاجتماعية –عملية تحديد أو تلقين النوع الاجتماعي “جندرة” ويتم هذا عبر مختلف الآليات الاجتماعية التي تعلم الأطفال خصائص ذكورة وأنوثة الشخصية، بما يجعلهم يوجهون ذلك في سلوكياتهم ومواقفهم وأدوارهم. وتبعا لما ذكرته روت هارتلي Ruth Hartley فإن “التنشئة الاجتماعية تتم عبر أربع عمليات، هي الملاعبة، والقولية، والتلقين اللفظي والنشاط المكشوف، وكما هو موضح أدناه، فالعمليات الأربع يفرق بينها عادة على أساس الجنس، وكلها ملامح لتنشئة الطفل اجتماعيا منذ الولادة.”12
-
عملية الملاعبة والتشكيل: تعني كيفية التعامل مع الطفل(ة). فمن الملاحظ أن الأولاد يعاملون باعتبارهم أشخاصًا أقوياء، مستقلين ذاتيًا منذ البداية. وتنشغل الأمهات في بعض الثقافات بشعر الطفلة وإلباسها أزياء أنثوية. ويشدن بجمالها أمامها، وتعتبر هذه التجارب العملية في مرحلة الطفولة المبكرة ذات أهمية في تشكيل الإدراك الذاتي للبنات والأولاد.
-
عملية القولبة: وتعني توجيه انتباه الأطفال ذكورًا وإناثًا إلى الأشياء ومظاهرها. مثلا إعطاء البنات لعنا كالعرائس أو أدوات المطبخ، وتشجيع الأولاد للعب بالبنادق والعربات والطائرات، ففي منازل العمال في جنوب آسيا نجد أن البنات لا يلعبن بالعرائس بل بالأواني والمنازل الحقيقية ورعاية الأطفال الحقيقيين منذ الطفولة، بينما يرسل الأولاد للمدارس أو يعملون خارج المنزل، وعبر هذه المعاملة المختلفة تتم قولبة رغبات واهتمامات البنات والأولاد وتوجيهها بطريقة مختلفة، وبالتالي يكتسبون وتكنسين قدرات وتوجهات وطموحات وأحلاما مختلفة، والتعود على أشياء بعينها يقوم على توجيه الاختيارات.
-
عملية التلقين اللفظي: وهي تختلف أيضا بين الأولاد والبنات، مثلا نقول للبنت “ما أجملك“، وللولد “تبدو كبيرًا وقويًا“، وقد أوضحت البحوث أن مثل هذه الإشارات تشكل الهوية الشخصية للبنات والأولاد كما للرجال والنساء، حيث يتعلم الأطفال التفكير في أنفسهم باعتبارهم أنثى وذكر، ومن ثم يتماهون مع الإناث والذكور الآخرين، وخلال هذه العملية يقوم أعضاء الأسرة بالإشارة إلى استمرار لدور النوع الاجتماعي (الجندر) للأطفال عن طريق الكلام، ويشيرون في ذلك للأهمية الممنوحة لكل طفل.
-
عملية النشاط المكشوف: كل الأطفال الذكور والإناث يتعرضون لمعرفة الأنشطة التقليدية الذكورية والأنثوية منذ مرحلة الطفولة المبكرة، حيث يطلب من البنات مساعدة أمهاتهن في الأعمال المنزلية، بينما الأولاد يرافقون آباءهم خارج المنزل. وفي المجتمعات التي تفصل بين الجنسين عن بعضهما البعض، فالبنات والأولاد يعيشون في أماكن منفصلة ويوجهون نحو أنشطة مختلفة كذلك ومن خلال هذه العمليات يتشرب الأطفال بمعنى الذكورة والأنوثة، ويتم استيعاب هذه المعاني في داخلهم غالبا بطريقة غير واعية.
إذا ما كانت التنشئة الاجتماعية تعتبر عملية مستمرة، فلماذا استمر الجدال بين الطبيعة والتربية؟ أليس واضحا أن التنشئة هي المسؤولة عن الاختلافات بين البنات والأولاد؟
من المدهش حقا أن العديد منا لا يدرك ما نقوم به دائما تجاه أطفالنا، وفي الحقيقة نحن تعتقد أننا تعامل البنات والأولاد بطريقة مختلفة لأنهم في الواقع يختلفون، وقد لا تقبل بأن بناتنا وأولادنا يتمون مختلفين نتيجة لطريقة التعامل في المدارس والمجتمعات ومعاملتنا لهم أيضا والأطفال أيضا يتعلمون هذه الأدوار دون أن يدركوا حقيقة أنه تم تشكيلهم/ن. وإذا لم تكن هناك اختلافات بين البنات والأولاد، ولو أن كل البنات والأولاد في كل مكان يتصرفون بطريقة متشابهة تزيد أو نقل، لجادلنا بأن الأدوار القائمة على النوع الاجتماعي “الجندر” تستند إلى الجنس، ولكن مما سبق يتضح أن ذلك ليس هو الوضع.
يمكن النظر إلى العقوبات وعدم القبول للأطفال والبالغين عندما ينحرفون عن الأدوار الاجتماعية القائمة على نوعهم (المجندرة) بوصفها إحدى الطرق القوية التي تجعل كل واحد يتكيف مع السلوك المتوقع للأنثى أو الذكر. وتعتبر العقوبة الأكثر تعارفًا هنا هي السخرية الاجتماعية ومن أسوأ الأمثلة التي مررت بها مثال يجسد العنف والسخرية الاجتماعية ضد بعض النساء في قرية كيرالا Kerala، حيث لاحظت ثلاث عاملات شابات أن زميلاتين يذهين يوميا إلى إحدى الحانات، فقررن في أحد الأيام أن يفعلن الشيء نفسه بغرض المرح والمزاح، أدى ذهابهن إلى الحانة أن قام الرجال بمتابعتهن والتقرب إليهن بغرض ممارسة الجنس، لا لشيء سوى أنهن تجرأن على الذهاب لمكان ليس للنساء “القويمات” أن يدخلنه، ولا يذهب إليه من نساء سوى من يوصمن “بالسيئات“، جاء منطق التعامل مع الشابات الثلاث قائما على أن ذهابهن إلى الحانة لابد أن يكون مرتبطًا أيضًا بتهيؤهن لتوفير المتعة الجنسية. وقد أدى هذا الموقف أن أقدمت اثنتان من الشابات الثلاث على الانتحار لعدم تحملين سخرية ومضايقة المجتمع.
توجد أيضًا، إضافة إلى العقوبات الاجتماعية، نماذج للعقوبات الاقتصادية. واستنادا إلى آن أوكلي إن النساء غير المتزوجات ولديهن أطفال يواجهن العديد من المصاعب الاقتصادية، الأمر الذي يعد مؤشرًا لرفض المجتمع لهن. وغالبا ما تقوم الأسر بتهديد أو رفض تقديم الدعم المادي للأطفال الذين يتم إنجابهم خارج المعايير المألوفة.
أصبح هنالك ثنائيات محددة عن طريقها يعرف الذكر والأنثى، بالرغم من عدم ضرورة ذلك ويمكن توضيح هذا في القائمتين أدناه:
عقل |
جسد |
ثقافة |
طبيعة |
عقلانية |
عاطفية |
موضوعية |
عدم موضوعية |
عام |
خاص |
تمثل هذه القوائم بعض الثنائيات التي يعرف بها الذكر والأنثى. ففي القائمة اليمنى تعريف بالذكر، بينما في القائمة اليسرى تعريف بالأنثى.
لا تمثل هذه الثنائيات ترتيبًا متعارضًا فحسب، بل هناك درجات متفاوتة من التراتب بين هذه الخصائص، فالعقل من المفترض أن يكون متفوقا على الجسد، كما أن الثقافة تمثل تطورًا وتفوقًا على الطبيعة، والذين يتصفون بالمعقولية والموضوعية تقييمهم أرفع من العاطفيين وغير الموضوعيين والنساء. في هذا السياق، يمثلن الأجساد تقريبا كالطبيعة، فهن ينجبن كالحيوانات. أما الرجال فيمثلون العقول، فهم يفكرون، وعقلانيون وإيجابيون، ويعملون في الطبيعة ويحولونها إلى الثقافة. وعليه فالرجال متفوقون على الطبيعة، ويفعلون بها ما يريدون.
لا تنتمي النساء فحسب إلى الجانب الأيسر من الثنائيات أعلاه، ولكن ينتمين أيضًا إلى الفقراء والمحليين المنتمين إلى القائمة ذاتها. وعلى هذا الأساس، فإن سكان الغابات، وصغار المزارعين والصيادين، معظمهم مثل النساء لا يجدون اهتماما من مخططي التنمية، بل على العكس، فإن غاباتهم يتم قطعها، وتنتزع أراضيهم دون علمهم أو موافقتهم، الأمر الذي جعل الملايين منهم يعيشون نازحين، وينتهون إلى المساكن العشوائية البائسة في المدن، ويكدحون من أجل معيشتهم في ظروف لا إنسانية.
أما على المستوى العالمي، فيمكن اعتبار العالم الثالث أو الجنوب مقام الجسد والعالم الأول مكان العقل، ويمثل العالم الثالث الطبيعة بينما العالم الأول يمثل الثقافة. كما يعتبر العالم الثالث عاطفيا وغير عقلاني، بينما يعتبر العالم الأول عقلانيًا وعلميًا ومتطورا، وتمثل العلاقة بين النوع الاجتماعي “الجندر” والتراتب الهرمي للطبقة، والطائفة، العرق، العالم الأول والعالم الثالث وغيرها من تراتبيات أهمية كبيرة في فهم هذه الارتباطات، وقد صورت كلاوديا فان ويرلوف هذه الارتباطات قائلة:
كان لا بد من ثلاثمائة سنة من اصطياد السحرة جنبا إلى جنب مع استعمار العالم لانتزاع قوة واقتصاد ومعرفة النساء وكذلك العالم الثالث، وترويضهن ليصبحن ما هن عليه اليوم: ربات منازل، وعالم متخلف. فربّة المنزل، ومعها العالم المتخلف، يعتبران الناتج المزيف وليد التنمية المبنية على العنف غير المتصور، الذي عليه قام البناء الخاص بالاقتصاد، والقانون، والدولة، والعلوم، والفنون، والسياسة، والأسرة، والممتلكات الخاصة وكل المؤسسات الحديثة. فالعالم الثالث يعتبر الساحر أيام اصطياد السحرة، وهو ربّة المنزل في عمومها، أو ربة منزل لعالم اليوم بما فيه من رجال العالم الثالث. فالعلاقة بين الزوج والزوجة تستعاد في العلاقة بين العالم الأول والعالم الثالث.13
يؤكد هذا التصور أن الخصائص والصفات ليست ما تم تشكيلها وفقًا للنوع الاجتماعي (جندرتها) فحسب، بل تستوعب أيضا الأماكن والمساحات، ويشمل هذا الحانة، وملعب كرة القدم وركن الشارع، والمقهى، وقاعة السينما، حيث أصبحت كلها أماكن للرجال. وعادة تذهب النساء إلى هذه الأماكن بصحبة الرجال. وإذا استدعى الأمر ذهابهن وحيدات إلى مثل هذه الأماكن، يأتي خروجهن منها سريعًا تفاديا للمضايقات والمشاكل المتوقعة. وتحت أي ظروف، ليس متوقعا من النساء التسكع كالرجال.
قياسًا على هذه الأمثلة، يكاد المطبخ أو البور العامة أن تكون كلها للأنثى. فأنا احتار حتى أجد مكانا اجتماعيا مخصصا كليا للنساء، فالنساء ليس لهن أماكن للترفيه خاصة بهن –أو حتى للعمل وتحضرني قصة بعض النساء في داكا Dhaka حيث ابتدأن الاجتماع أسبوعيا لما يسمى بالأدا adda. التي تعني عادة تجمع الرجال للأنس والأكل والشرب والاستمتاع، إلا أن الكثير من الرجال والنساء اعترضوا على تجمع النساء؛ ذلك لأن مفهوم الأدا adda تعني الذكر، بما يعني أنه غير “محترم” بالنسبة للنساء، كما أن هنالك مفردات وأنشطة تعتبر مقبولة للرجال “المحترمين“. وفي الوقت نفسه فهي غير مقبولة للنساء “المحترمات“، ويعبر هذا عما يطلق عليه بالمنطق الأبوي. وينطبق هذا أيضا على المنزل، حيث تخصص الغرف الهادئة للرجل كي لا يزعجه الآخرون ممن بالمنزل، وقد علمت في بعض ورش العمل أن بعض مصادر ومعدات المنزل أيضا يتم تشكيلها على أساس النوع الاجتماعي (الجندر)، مثلا الكوب الكبير، والكرسي، أو السرير، وتخصص للرجل رب الأسرة، كذلك في منازل العمال، فإن الدراجة والراديو والساعة كلها أدوات متعلقة بالرجال.
بالتأكيد إن اللغة تمت صياغتها على أساس النوع الاجتماعي (مجندرة)، فهي أبوية، وعلى هذا الأساس فهي تحمل الانحياز وعدم المساواة وتعكسهما. فللرجال دائما ذخيرة لغوية خاصة بهم نادرًا ما تستخدمها النساء. وأوضح مثال على ذلك السباب الذي يتضمن إيحاءات جنسية عامة يستعملها الرجال، وبالرغم من استعمال الرجال لها دون تردد، فإنهم ينزعجون جدا إذا ما استعملت من قبل النساء.
إضافة لذلك، فإن لغتنا مليئة بالأمثلة والأقوال التي تعكس دونية المرأة بالنسبة للرجل. ويشيرون عبرها إلى الخطيئة والمشاكل المتصلة بالنساء، حيث توجد مقولة شائعة في اللغة الهندية تقول إن الطفل، والشخص الأمي، ومن في الطائفة الدنيا، والنساء كلهم/ن يستحقون الضرب إضافة للمثل الذي يردد كثيرًا: “جنة المرأة تحت أقدام زوجها“. وتردد في بانقلا Bangla مقولة أخرى لقول: “الرجل تعيس الحظ هو من تموت بقرته، أما الرجل المحظوظ هو من نموت زوجته“.
فضلاً عن هذه المقولات والأمثال الأبوية في اللغة، فهناك أيضا استخدام تعبير الذكورة بوصفه معيارا أو عرفا، فتعبير الإنسان مثلا الذي تعود إليه الضمائر “هو” و “له“. وتستخدم مثل هذه الضمائر التي تعود على الذكر حتى لو كانت الإشارة إلى امرأة أيضا توجد أسماء الوظائف مثل رئيس، قاضي، منيع، رياضي، مسرح الرجل الواحد، والمئات من التعابير الأخرى التي تستعمل للنساء المتخصصات في مثل هذه الوظائف، بالرغم من أن هذه الممارسات أخذة في التغيير، وقد ذهبت جيردا لونر Gerda Lerner أبعد من ذلك في مسالة اللغة. حيث توضح أن:
اللغة المستخدمة في العلوم الاجتماعية، الفلسفة وفروع المعرفة الأخرى مستمرة في الطابع الأبوي، متجاهلة بذلك ومهمشة، أو غير ممثلة للنساء، فالطريقة التي يعكس بها الفكر المجرد، واللغة التي يعبر بها نجدها مفصلة لترسخ تهميش المرأة. فنحن النساء فرض علينا أن نعبر عن أنفسنا، من خلال الفكر الأبوي، عبر اللغة ذاتها التي تم إخضاعنا لها تحت ضمير الذكر، الذي يعكس في معناه المفهوم الشامل للإنسان باعتباره ذكرًا، عليه، من المفترض علينا بوصفنا نساء أن نستخدم “مفردات قذرة” أو “كلمات خفية” لنصف تجارب جسدنا، فمعظم الإساءات القبيحة في أي لغة تشير عادة إلى أجزاء من جسد الأنثى أو الجنس عند المرأة.14
النقطة الأخرى الجديرة بالتناول في مسألة اللغة، أن بعض الاصطلاحات والأدوار في لغاتنا تنسب للنوع الاجتماعي، مثل ألقاب عم/ خالة، أخ/ أخت، أب/ أم، لأنها تشير إما إلى النوع الاجتماعي (الجندر) أو الجنس. لكن يوجد أيضا الكثير من المفردات لم تنسب إلى النوع الاجتماعي، بقدر ما تفترض أنها تشير إلى الرجل أو المرأة. ومثال ذلك: سكرتيرة، ممرضة، معلمة رياض الأطفال، وكلها تشير إلى وظائف تقوم بها النساء، بينما صفات مثل: رئيس، طيار، مدير، سياسي، جراح، أو مزارع، معظمها وظائف وأدوار تشير إلى الرجال. هذه الافتراضات في نسب الوظائف للنوع الاجتماعي (الجندر) أو الجنس تؤكد استمرار هيمنة الرجال على الأماكن والوظائف العامة، بينما النساء فوجودهن محدود وبعيد عن مواقع اتخاذ القرار والمسؤوليات الإدارية.
برد اصطلاح “نظام أبوي” كثيرا، ويفهم ضمنيا أن “النظام الأبوي” هو السبب في عدم المساواة وإخضاع النساء. هل يمكن توضيح هذا الاصطلاح؟
من المهم معرفة مفهوم “الأبوية” لكي ندرك العلاقات الآنية بين النساء والرجال، فالعلاقات المؤسسة على النوع الاجتماعي (الجندر) نجدها مشوهة لاستنادها على النظام “الأبوي“. وفي التعبير العام يعني مفهوم “الأبوية” مباشرة هيمنة الرجل، فالمفردة نفسها تعني حرفيًا حكم الأب أو “الأبوية“. كما تم استعمالها في الأساس لوصف النمط المحدد لهيمنة الرجل على الأسرة. وتشمل الأسرة بمعناها الواسع النساء، والرجال الصغار، والأطفال، والرفيق، وخدم المنازل حيث نجدهم/ ن كلهم/ ن تحت هيمنة رب الأسرة. وتستخدم المفردة الآن بعمومية أكثر لتدل على هيمنة الرجل، ولعلاقات القوة التي من خلالها يسيطر الرجال على النساء، كما يوظف استخدام مفهوم “الأبوية” في تحديد الطرق المختلفة للنظم التي تؤيد خضوع النساء. وللمفهوم عدة مسميات تختلف أو تتشابه بين اللغات، ففي جنوب آسيا مثلا تستخدم كلمة أبوية Patriarchy في اللغة الهندية باسم بترساتا Pitrsatta، وفي لغة الاوردو باسم بیدرشاد Pidarshad، وفي لغة البنقلا فهي تعرف بـ “البترتنتنرو“.
وإذ أردنا تعداد صور الاضطهاد التي تعيشها النساء يوميًا، بغض النظر عن الطبقة التي ينتمين إليها، نجده يأخذ أشكالا متعددة، تشمل التمييز. وعدم الاحترام، والإهانة، والسيطرة. والاستغلال، والقهر، والعنف، ويحدث كل ذلك سواء داخل الأسرة، أو في مكان العمل والمجتمع، وقد تكون تفاصيل الاضطهاد مختلفة ولكن محورها واحد “فالنظام الأبوي” ليس متشابها في كل مكان فطبيعته يمكن أن تكون مختلفة باختلاف الطبقات في المجتمع الواحد، وبين المجتمعات المختلفة وباختلاف المراحل التاريخية، ومثال ذلك اختلاف النظام “الأبوي” في زمن جداتنا عن حياتنا اليوم، واختلافه للنساء القرويات عن نساء الطبقات العليا للهندو Hindu، كما هو الحال في اختلاف النظام “الأبوي” للنساء في الولايات المتحدة عن النساء في الهند. فكل نظام اجتماعي أو مرحلة تاريخية تلقي بظلالها على وظائف عمل “النظام الأبوي“، وعلى كيفية اختلاف الممارسات الاجتماعية والثقافية. إلا أن المبادئ العامة لممارسات “النظام الأبوي” تظل على أية حال متشابهة. كما هو الحال في سيطرة الرجال على معظم مصادر الاقتصاد، وكل مؤسسات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
على المستوى الكلي، نجد أن “الأبوية” تمثل بنية اجتماعية وأيديولوجية، أو نظام للعقيدة يؤكد تفوق الرجال، والأديان –في عمومها –لعبت دورًا كبيرًا في ترسيخ النظام الفكري الأبوي. فعن طريقها انتشرت المفاهيم الخاصة بتفوق الرجال عبر القصص الدينية، مثل أن حواء قد خلقت من ضلع آدم، أو الرجل قد خلق على صورة الإله، وغيرها من مفاهيم، وإذا نظرنا اليوم للإعلام، بل حتى مؤسسات التعليم، نجدها تعمل على نشر النظام الفكري “الأبوي“، وذلك عن طريق إظهار الرحال أكثر حسمًا في مواقع اتخاذ القرار، بينما النساء مستهلكات، ومبذرات. وأكثر اعتمادًا على غيرهن. وغيورات. كما أن النظام الفكري “الأبوي” يلعب دورًا مهمًا في ترسيخ النظم الاجتماعية والسيطرة على طرق تفكير الناس. فمثلا يختزل قيمة النساء إلى مجرد أجساد، ويؤسس لذلك موضوعيًا الأمر الذي يشجع الإعلام على دعم مختلف صور العنف ضد النساء. وبذلك، تجد أن النظام الفكري “الأبوي” يوجد المبررات المختلفة للسلوك والنظم الاجتماعية والاقتصادية التي تؤيد أنماط العلاقات الأبوية تجاه النساء، ويمكن تحديد بعض جوانب حياة النساء والمجتمعات أدناه التي نجد فها سيطرة النظام “الأبوي” واضحة:
-
النظام الإنتاجي وقوة عمل النساء.
-
عملية إنجاب النساء.
-
طبيعة العلاقات الجنسية للنساء.
-
حركة النساء.
-
الممتلكات والمصادر الاقتصادية النساء.
-
المؤسسات الثقافية والاجتماعية والسياسية. 15
وتتأكد سيطرة النظام “الأبوي” بتحليل المؤسسات الأساسية في المجتمع، مثل: الأسرة. والدين، والقانون، والسياسة، والمؤسسات التعليمية والاقتصادية، والإعلام وسبل المعرفة، فكل هذه المؤسسات تشير بوضوح شديد لتشكلها “الأبوي“، ولتدعيمها لينية النظام “الأبوي“. وعلى هذا الأساس، يبدو هذا النظام بنسيجه جيد التداخل وبجذوره ضاربة العمق اجتماعيًا وثقافيًا، تجعل “الأبوية” تبدو أكثر منعة بوصفها نظامًا تم تشكله طبيعيًا، فهذه الطبيعة المفترضة في النظام “الأبوي” أدت إلى استخدام أنواع مختلفة من العنف للسيطرة على النساء وتقليص أدوارهن، إلى القدر الذي اعتبر فيه العنف ممارسة لها شرعيتها، والحقيقة الماثلة كما تعتقد الناشطات في القضايا النسوية أن العنف ضد النساء ليس فقط منتشرا بصورة واسعة، وإنما يعتبر جزءًا منظمًا في طبيعة النظام “الأبوي“.
كل هذا لا يعني أن النساء يفتقرن إلى القوة أو الحقوق على الإطلاق، أو لا يمتلكن التأثير أو الموارد بسبب هيمنة النظام “الأبوي“، ففي الحقيقة ليس هناك نظام لعدم المساواة يمكن أن يستمر دون مشاركة من المضطهدين أنفسهم، بسبب أن بعضهم يستمد بعض المكاسب منه. الأمر الذي ينطبق على النظم “الأبوية“، فالنساء تمكن من الوصول إلى السلطة، وفي بعض الأحيان كانت لهن السيطرة وانتزعن الامتيازات بدرجات متفاوتة، إلا أن كل ذلك لا يغير من حقيقة أن النظام المهيمن يقوم على سيطرة الرجل، وما تبلغه النساء من مراتب ما هو إلا تكيف لهن في النظام “الأبوي“. ومثال ذلك، يلعب العمال في النظام الرأسمالي دورًا مهمًا، إلى درجة مشاركتهم في العملية الإدارية نفسها. ولكن هذا لا يعني أبدا تحكمهم في النظام الرأسمالي. نجد النساء في الوقت نفسه لأسباب معقدة ومختلفة يدعمن ديمومة النظام “الأبوي” ويسهمن فيه. فمن أجل الحفاظ على امتيازاتهن، تقوم النساء باستمرار بالمساومة بقوتهن، بالقدر الذي تكون فيه المساواة أحيانا على حساب نساء أخريات. الأمر الذي يجعل من المهم النظر إلى النظام في كلياته، وأن تحلل أسباب هذا التواطؤ، فالحقيقة الواضحة أن النساء غالبًا يعاملن أولادهن أفضل من بناتهن. فالنساء يحرمن بناتهن من التعليم، ويقيدن حريتهن، كما يسئن معاملة زوجات أبنائهن، وكل هذا يحتاج إلى أن يفهم في سياق القوة والوضع الذي يتمتع به الرجال والنساء سواء في الأسرة أو المجتمع. وقد وضحت إحدى النساء الريفيات هذا الوضع بصورة بسيطة قائلة: “الرجال في أسرنا كالشمس يضيئون ذاتيًا، فهم يمتلكون الموارد، ويتحركون، ولديهم الحرية في اتخاذ القرارات. أما النساء فهم كالأقمار، لا ضوء لہن، بل يضئنفقط عندما ينعكس عليهن ضوء الشمس لذا فالنساء في حالة تنافس مستمر مع بعضهن البعض لنيل أكبر جزء من ضوء الشمس لأنه لا توجد حياة بدون هذا الضوء“.
تؤكد الصورة أعلاه، أن الطريقة الملائمة لوصف سيطرة الرجال على النساء هي سيادة الهيمنة “الأبوية“. وبالرغم من سيادة الهيمنة “الأبوية“، إلا أن النساء يتم إمدادهن بالملجأ والطعام والأمان، بالقدر الذي يظهرهن الغرباء، فسيادة الهيمنة “الأبوية” تقوم على جوانب تضطهد المرأة، لكنها أيضًا تحتوي على التزامات متبادلة، بما يجعل تلك الجوانب لا تعتبر اضطهادًا، الأمر الذي يجعل مختلف صور الاضطهاد صعبة الإدراك والمقاومة.
بالرغم من أن حركات التحرر الوطني خلصت إلى إنهاء السيطرة الاستعمارية وقدمت نظامًا للفصل بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية ونظام العقوبات، إلا أن ذلك لم يؤد إلى تحرير النساء من حكم الأزواج أو الآباء في الأسرة، فما يزال الرجال يحتفظون بالسلطات الاستبدادية في المنزل ليحددوا القواعد، ويحكموا على المظاهر، ويصدروا العقوبات على زوجاتهم وأطفالهم على هذا الأساس أصبح للرجال المقدرة على أن:
-
يتحكموا في الممارسة الجنسية متى ما شاءوا،
-
يمنعوا زوجاتهم من استخدام موانع الحمل،
-
يحددوا لزوجاتهم وبناتهم الكيفية التي يجب عليهم أن يقضوا فيها أوقاتهم، سواء في أعمال المنزل، أو التعليم، أو الفراغ، أو أي نشاطات ثقافية، ويحددوا الأسس التي عليهن اتباعها للدخول في مجالات العمل،
-
يمارسوا العقاب والعنف التأديبي ضد النساء عندما يرون أن النساء يخرقن القواعد، وبالرغم من ذلك فإن الرجال لا يخضعون في مثل هذه الحالات للمساءلة القانونية.
-
يستغلوا ممتلكات زوجاتهم سواء كانت موروثة أم مكتسبة ويتصرفوا فيها،
-
يشتروا زوجاتهم وبناتهم ويبيعونهن، أو يتخلصوا منهن مقابل الديون أو تفادي المعايرة من الرجال الآخرين.
خلاصة استخدام هذه السلطات، أن الكثير من هذه المعتقدات والسلوكيات تم ترجمتها في بنية العلاقات مع النساء في كل من المجتمع الخارجي، ومكان العمل، إضافة إلى المواقع السياسية16
ليس بالضرورة أن تودي هذه الأشياء إلى المساواة فدائما ما تجد أن التعليم نفسه يعبر عن “النظام الأبوي“، فهو يبرر، ويتجاهل عدم المساواة بين النساء والرجال أو يواصله، حيث نجد عند تحليل أي من الكتب الدراسية وأدب الأطفال الانحياز النوعي لمصلحة الرجال، هذا الانحياز يستمر تقريبا في كل الفروع والنظم المعرفية، وهو يعتبر أحد الصراعات الأساسية في كل مكان للحركة النسوية والدراسات المتخصصة في قضايا المرأة.
ينطبق عدم المساواة المتضمن في النظام التعليمي وصور التحديث والتطور أيضا على المجتمعات ذات التعليم الواسع منذ زمن طويل، ويفترض فيها التحضر والعدالة، ولها بنية صناعية مستقرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، حيث يتضح في هذه المجتمعات استمرار الانحياز النوعي لمصلحة الرجل بكل ما فيه من عدم مساواة، فالرجال لا يزالون يعتبرون على رأس الأسر، على الرغم من أنه يوجد في المجتمعين أعداد كبيرة من النساء يعلن ويرأسن أسرهن، والمعروف أن أكثر من 50% من النساء في هذه المجتمعات يعانين العنف الجسدي على أيدي أزواجهن، كما توجد الكثير من حوادث الاغتصاب والعنف الجسدي، كما أنه في الولايات المتحدة ما زال قانون الأجر المتساوي في انتظار إقراره، وما يزال الإجهاض يعتبر جريمة في العديد من الولايات.
نجد في مجال العمل أن أرقام مكتب الإحصاء في الولايات المتحدة توضح أن المرأة الأمريكية العاملة المتخرجة لتوها من الجامعة تحصل على 75% من الراتب المخصص للرجال من دفعتها. وكلما تقدم بها السن تجد نفسها متراجعة للوراء أكثر. ففي تحليل لوكالة الأسوشيتد برس حول إحصائيات التعداد السكاني المنشور عام 1991، أفاد التحليل أنه في أي مستوى تعليمي تعتبر مرتبات النساء أقل من الرجال ذوي المستوى التعليمي نفسه. أيضا قامت آن أوكلي إبراز إحصائيات توضح أن كل الدول الصناعية يوجد بها اختلافات في الوظائف، في معظم المواقع إن لم تكن كلهاء مستندة على اختلاف النوع الاجتماعي (الجندر)، كما هو الحال في وظيفة رب/ ة المنزل التي خصصت للأنثى في أساسها. واستطردت أن أوكلي موضحة أن الصناعة، باعتبارها مثالا، يوجد بها قدر كبير من التفرقة القائمة على أساس الجنس. فمعظم النساء، يمثلن ما بين الثلث إلى الثلثين من النساء العاملات، يتركز عملهن في صناعة النسيج والملابس، وصناعة الأغذية. وفي مجمل الإحصائيات التي أشارت لها أن أوكلي، نجدها تؤكد على سيطرة الرجال على معظم الوظائف ذات التقدير الاجتماعي، واحتكارهم للمهارات والدخل العالي، وهو ما ينطبق على أنحاء العالم الصناعي كله، فمنصب المدير في المؤسسات الكبرى المجدولة في بريطانيا عام ١٩٦٦، مثلا، احتل الرجال فيها نسبة 87% بينما مثلت النساء نسبة 13% فقط. كما نجد أن النساء يمثلن 3% من محامي المحاكم العليا في الولايات المتحدة، و4% في محاكم بريطانيا العظمى و7% في السويد. أما النساء ممن يعملن في الهندسة فيمثلن نسبة 0.06% في بريطانيا، و0.07% في الولايات المتحدة، 3,7% في فرنسا. والملاحظة العامة من هذا، نجد أن النساء المتخصصات متقاضين نفس معدل راتب الرجال في الوظائف العليا، الأمر الذي لا يحدث في الوظائف العليا، الأمر الذي لا يحدث في الوظائف والأعمال الأخرى، وهو ما يؤكد أن المهارات والوظائف ذات التقدير الاجتماعي العالي والعائد المادي، فضلا عن علاقات النوع الاجتماعي (الجندر)، تجدها في إجمالها علاقات متداخلة بطريقة معقدة ودائمة.17
إذا ما نظرنا إلى الفروقات الكبيرة المستمرة في مجال التعليم العالي، فكما ذكرت آن أوكلي يظهر التباين في أعلى مستويات التعليم، حيث كان بين كل مائة فرد أعمارهم بين 20 -24 عاما في التعليم العالي وذلك عام 1965، وكانت نسبة الإناث تمثل 6.6 في المملكة المتحدة، 5.3 في الدنمارك، 2.3 في سويسرا و15.2 في بلغاريا. أيضا يظهر الاختلاف في نسبة قبول الإناث في الجامعات في بريطانيا عام 1967 كان عدد المقبولات يمثل فقط خمسي إجمالي الطلاب، ومن ينلن الدرجات الجامعية منهن أقل الثلث، أما من يحصلن على درجات عليا فكن نحو تُسع الحاصلين على إجمالي الدرجات هذه الحقائق تعكس بوضوح وضع ما يسمى بالدول المتقدمة، حيث يتضح أن التعليم أكثر أهمية للولد عنه للبنت. كما أن المواد التي يدرسها الأولاد والبنات تعكس أيضا هذا التباين، ففي الولايات المتحدة عام ١٩٦٤ نجد نسبة 46% من درجات الماجيستير في مجال التعليم نالتها النساء، ولكن نسبة 10% منها فقط في العلوم الشيء ذاته ينطبق على بريطانيا، فبين كل الذين درسوا الطب، طب الأسنان. والصحة عام 1967 كانت نسبة الرجال تمثل ثلثي الدارسين.18
يحدد النوع الاجتماعي (الجندر) بالتأكيد العلاقة بين الرجال والنساء، فإذا كنا نلحق فيما مختلفة للتمييز بين الذهب والفضة بصورة تلقائية، ففي مقدورنا أيضا تحديد العلاقة بينهما، وهو ما ينطبق كذلك على المجتمع، الذي يقوم بتحديد العلاقات بين الرجال والنساء، ويعرف هذا النوع من العلاقات بالعلاقات المؤسسة على النوع الاجتماعي (الجندر). فاصطلاح علاقات النوع الاجتماعي (الجندر) يشير إلى علاقات القوة القائمة بين النساء والرجال، وتشمل هذه العلاقات ما ينعكس في العديد من الممارسات، الأفكار، والتمثيل بما فيها من تقسيم للعمل والأدوار والموارد بين النساء والرجال، إضافة إلى وصفهم بسمات مختلفة من المقدرات، والتصرفات، والنزعات، والرغبات، والسمات الشخصية والسلوكية. ومن المهم معرفة أن علاقات النوع الاجتماعي (الجندر) جاء تشكيلها في كل الممارسات والنظم الفكرية التي ساعدت في تفاعلها مع بني التراتب الاجتماعي المختلفة مثل الفوارق الطبقية والطائفة والعرق. الأمر الذي يجعل النظر إليها بوصفها علاقات جاء تشكلها اجتماعيًا، أكثر منه كما يعتقد بيولوجيا، ولها أيضا علاقات مستمرة ذات طابع متغير حسب الزمان والمكان.19 فهي ليست متشابهة في كل مجتمع، وليست ثابتة تاريخيًا، على العكس، فعلاقات النوع الاجتماعي (الجندر) تعتبر ديناميكية ومتغيرة عبر الزمان، وعلى أية حال، فإنه يمكن التعميم بالقول إن في معظم المجتمعات تعتبر العلاقات القائمة على أساس النوع الاجتماعي (الجندر) لبست بالعلاقات العادلة.
كما هو واضح أن هذا الفهم لعلاقات النوع الاجتماعي (الجندر) يتحدى الاقتراض القائل إن العلاقات بين الرجال والنساء داخل الحياة الأسرية تقوم على الانسجام دون نزاعات داخلية، إلا أنه في الحقيقة يوجد كل من التعاون والنزاع. الانسجام واللا–انسجام، وبعبارة أخرى يمكن القول إن علاقات النوع الاجتماعي (الجندر) داخل الأسرة تعتمد على المسايسة في إدارة تلك العلاقات، وتعبير مسايسة، في هذا السياق، يشير إلى حقيقة ما تلعبه القوة في التحكم لتحديد العلاقات، وتعتمد عملية المسايسة هذه على الدرجات المختلفة من القوة والسلطة التي تنسب إلى الأفراد، بما يجعلهم يسيطرون على الآخرين أو الموارد واتخاذ القرارات والسمة المميزة لعملية المسايسة هذه، لعبة القوة مرونتها أو فضفاضيتها، بما يجعلها تستوعب علاقات النوع الاجتماعي (الجندر) سواء في الأسرة، أو في مجال العمل، أو في المجتمع بشكل عام، مثلما يحدث بين الطوائف، الطبقات والأجناس المختلفة.
على المستوى النظري، يعني تراتب النوع الاجتماعي (الجندر) هيمنة أحد الجنسين على الآخر، لكن في مستوى الممارسة اليومية فهو يعني دائما الوضع الذي يهيمن فيه الرجال على النساء، فالسمة العامة للعلاقات القائمة على النوع الاجتماعي (الجندر) في مختلف الثقافات خلال التاريخ المعاصر تؤكد خضوع النساء للرجال وعلى ذلك، فإن علاقات النوع الاجتماعي (الجندر) عبارة عن علاقات تحكمها الهيمنة والخضوع، مع وجود عناصر للتعاون والقوة والعنف تقع كلها تحت سيطرة النظام “الأبوي” أو هيمنة الرجل، على هذا الأساس يمكن أيضًا القول إن علاقات النوع الاجتماعي (الجندر) في معظم المجتمعات تنشأ طبيعية في ظل النظام “الأبوي“، ومن ثم تتبع قواعد هذا النظام، بما فيه من نظام فكري ونظام اجتماعي يؤكدان تفوق الرجال على النساء، وهيمنتهم وسيطرتهم على معظم المصادر والمؤسسات الاجتماعية.
من ناحية أخرى، فإننا نجد أن النوع الاجتماعي (الجندر) لا يحدد فقط العلاقات بين النساء والرجال، فهو أيضا يؤثر على علاقة الرجال بعضهم وعلاقة النساء بعضهن. ففي جنوب آسيا حيث تراتب النوع الاجتماعي غير مستقيم بصورة خاصة، تجد أن العلاقات القائمة على النوع الاجتماعي (الجندر) تمثل عاملاً قوتًا في تنظيم ذلك التراتب فمثلا، في شمال الهند نجد أن العلاقات الاجتماعية بين والد العريس ووالد العروس تقوم على اعتبار أن والد العريس أعلى مرتبة وتحظى باحترام أكبر، بينما والد العروس يعتبر دائما في وضع متدن وثانوي، فقط لكونه والد البنت، والمثال الآخر التحديد النوع الاجتماعي (الجندر) للعلاقات الاجتماعية تجده واضحًا بسورة دائمة في العلاقات بين المرأة وزوجة ابنها أو أخت زوجها، وبين المرأة وزوجة أخيها، أو في العلاقة بين “الحماتين“، وفي كل ذلك، نجد أن النساء قريبات العريس، تلقائيًا، يحتللن مكانة ووضعًا اجتماعيًا متفوقًا مقارنة بقريبات العروس. هذا التراتب في العلاقات الاجتماعية المحددة في الأساس على علاقات النوع الاجتماعي (الجندر)، قام بتصويرها توماس فون أكينا Thomas von Aquinas أحد القادة المسيحيين ممن اتصفوا بالذكاء ومخافة الله، عاش في ألمانيا قبل ثلاثمائة عام، قائلاً: “إن النساء كالأعشاب، تنمو بسرعة لقلة قيمتها أما الرجال فبالطبع هم المحصول الرئيسي النقدي في عالم اليوم!”
ماذا تعني تحديدًا عملية “المسايسة” داخل الأسرة، ومقدرة النساء على المساومة والتفاوض حول السلطة أو القوة طوال الوقت؟
كما تبين أعلاه، أن أفراد الأسرة لا يتمتعون بقدر متساو من المقدرة للحصول على الموارد والخدمات والفرص، وعلى ضوء اللا–مساواة هذه، يرى العديد من علماء الاجتماع أن الأسرة تعد مكانًا للمساومة والصراع، كما تعتبر مكانا للتفاوض حول السلطة. نسمي الاقتصادية المعروفة أمارتيا سن Amartya Sen مثل هذه العلاقات داخل الأسرة بنموذج التعاون والنزاع في آن واحد أما بينا أجروال Bina Agarwal. الاقتصادية الناشطة في المجال النسوي، فقد طورت هذا المفهوم أكثر. حيث ترى أن الشؤون الأسرية أو المنزلية تعتبر مجموعة أدوار مركبة من العلاقات يجري فيها تفاوض بصورة مستمرة، ويخضع هذا التفاوض لقيود محكومة بواسطة النوع الاجتماعي (الجندر)، والعمر، ونوع العلاقة، بالإضافة للتقاليد الراسخة وغير القابلة للنقاش، كما ترى أن التفاعلات القائمة على النوع الاجتماعي (الجندر)، سواء كانت داخل الأسرة أم المجتمع أم السوق أم الدولة، تعتبر تفاعلات محملة بكل عناصر التعاون والنزاع، فأي طرفين داخل هذا التفاعل يتفقان على التعاون لمصلحتهما ليكونا في وضع أفضل من حالة عدم التعاون.
تشير بينا أجروال إلى خمسة عوامل لتؤكد على مقدرة الشخص الريفي، باعتباره مثالاً، في المساومة من أجل السلطة، وهو ما يعتمد في الأساس على وضعه أو وضعها المتراجع. وتشمل هذه العوامل:
-
الملكية الخاصة والتحكم في الأصول، وبخاصة الأراضي الزراعية،
-
سهولة الحصول على الوظائف ووسائل الدخل الأخرى،
-
سهولة الوصول إلى الموارد المشاعة للجميع كساحات القرى والغابات,
-
الحصول على وسائل الدعم الاجتماعي التقليدي الخارجي.
-
الحصول على دعم الدولة والمنظمات غير الحكومية.
وترى بينا أجروال أن “هذه العوامل الخمسة تؤثر مباشرة على قدرة الشخص في تحقيق احتياجاته المعيشية خارج الأسرة، وهو ما يعني منطقيا، أن مدى مقدرة الشخص على البقاء خارج الأسرة ترفع من قدراته أو قدراتها في المساومة على السلطة، على الأقل في علاقة المشاركة في الموارد المعيشية داخل الأسرة تعدم المساواة بين أفراد الأسرة، استنادا إلى هذه العوامل، يجعل بعض الأفراد في وضع أضعف في عملية المساومة بالنسبة للآخرين وعلى هذا الأساس، يعتبر النوع الاجتماعي (الجندر) أحد أسس عدم المساواة كما هو الحال مع العمر. “20 ولتأكيد هذه الرؤية يمكن تناول حالة المرأة بوصفها مثالاً. فمقدرة النساء في الحصول على الأجر تكون أقوى عندما يكن في وضع أقوى للمساومة مقارنة بأعضاء الأسرة الآخرين، وبخاصة إذا كان دخلين مخصصا لمعيشة الأسرة. وهو ما يشابه حصولهن على المصادر أو سيطرتهن عليها، كالأرض، والمال أو أي ممتلكات أخرى، فهذا يقلل من اعتمادهن على الآخرين، ويمكنهن من التفاوض لأجل مكانة أفضل داخل الأسرة.
* من كتاب: کاملا بهاسين، فهم النوع الاجتماعي، ترجمة مركز سالمة لدراسات المرأة، الخرطوم: مركز سالمة لدراسات المرأة، ۲۰۰۳، ص 12-44.
1-Oakley, Ann. 1985. Sex, Gender and Society. England: Gower Publishing Company, p. 16.
2-Von Welhof, Claudia. 1998A. “The Proletarian is Dead: Long Live the Housewife”, in Marina Mies et al. Women: The Last Colony, New Delhi: Kali for Women, p. 104.
3-Center for World Solidarity. 1997. Forging Links Hyderabad
4-Ann Oakley, p. 149.
5-Ann Calley p 149 150.
6-Ann Oakley, p. 150.
7-Ann Oakley, pp. 32-34.
8-Ann Oakley, p. 36
9-Barbara Ehrenreich and Deirdre English, For Her Own Good: 50 Years of the Expert’s Advice to Women, London: Pluto Press, 1988, p.19.
10-Barbara Ehrenreich and Deirdre English, p. 19.
11-Marina Mies, “Social Origins of Sexual Division of Labour”, in Women: The Last Colony, 1998. P 73
12-Ann Oakley, pp. 174-175.
13-Von Werlhof, p. 177.
14-Gerda Lerner, The Majority Finds its Past Placing Women in History. Oxford and New York ¹ Oxford University Press, 1979, p. 232.
15-Kamla Bhasin, What is Patriarchy?, New Delhi: Kali for Women 1993.
16-Georgina Ashoworth, Gendered Governance: An Agenda for Change, Gender in Development Monograph Series, New York: UNDP, 1996.
17-Ann Oakley. pp. 152-153.
18-Ann Oakley, p. 156.
19-Bina Agarwal, A Field of One’s Own Gender and Land Rights in South Asia New Delhi: Cambridge University Press, 1996, p.51,
20-Bina Agarwal, pp. 62-63.