صبغ الثقافة بالعلم:
إنشاء ماهية المرأة المصرية في إطار طب الاستعمار
1893 – 1929*
عند منعطف القرن التاسع عشر، كان ثمة خطاب معني بتكريس ارتباط المرأة بالحياة المنزلية – ناشئ عن رؤية الطبقة المتوسطة – يفرض وجودًا مهيمنًا في القاهرة. وعلى الرغم من أنه كان ينتشر عبر إيديولوجيات متنافسة – من ضمنها القومية– ظلت الطبقات المميزة في مصر مصدره الثابت. وثمة أطباء – من بين صفوف القوميين العلمانيين على الأخص– أعطوا هذا النوع من الخطاب القومي مستوً إضافيًا من المشروعية والمصداقية، عبر سلطة مرجعية أخذت تتكون لهم بفضل أهمية الطب الحديث الصاعدة. ومن المؤكد أن اللقاء مع الاستعمار البريطاني له دور محوري في خلق هذه السلطة الطبية المكتشَفة حديثًا، بل وفي صب قالب جديد لـ “الطبيب المصري العصري“.
هذه المقالة – وهي جزء من دراسة أوسع نطاقًا – تسعى إلى تحليل السيرورات التاريخية المحتملة، التي تفسر الأمور الآتية: ( أ ) المكانة البارزة التي أنشأت حديثًا “للطبيب المصري العصري“، والسلطة الاجتماعية – السياسية لهذا الطبيب الذي أصبح – بصورة شبه حصرية– ذكرًا، حضريًا، من صفوف الطبقة العليا وناطقًا بالانجليزية، وذلك على حساب الحكيمة المصرية. (ب) الدور الذي لعبته المؤسسة الطبية المصرية وسلطتها في إعادة تشكيل “المرأة المصرية العصرية” في الخطاب القومي. وأخيرًا، (ج) كيف أن هذين التشكيلين تركا في أعقابهما خطابًا ذا شعبية لم يكن فقط يشرح دور المرأة، ويمنطق الحياة المنزلية، وإنما أيضًا أعطى الثقافة صبغة علمية.1 تقع في قلب هذه المقالة – إذن – مسألة كيفية تورط النساء المصريات، اللاتي يُقدمن هنا بصفتهن ذواتًا فاعلة طبيًا medical subjects (الحكيمات مثلاً) – وكذلك بصفتهن موضوعات للصياغة أو المعاملة الطبية medicalised objects (ربات البيوت مثلاً)- في قلب العمليات التاريخية المتقاطعة المتعلقة بالاستعمار والتحديث والقومية، وهو تقاطع يفسر أيضًا تحويل الثقافة المصرية وممارساتها إلى شأن للتدخل العلمي.
فيما يخص آثار تجربة اللقاء مع الاستعمار، ظلت مصر طويلاً حقلاً دراسيًا مميزًا، لاسيما فيما يتعلق بالتغيرات في التعليم2. فمناقشة أحوال مصر على صعيد الممارسات الثقافية والاجتماعية التي بدأت في الظهور بفضل اللقاء مع الاستعمار ليست مما بعد فكرة مبتكرة. وتجدر الإشارة على الأخص إلى كتاب استعمار مصر Colonising Egypt الذي كتبه تيموثي ميتشل Timothy Mitchell. 3 كما أن بعض مؤرخات (النوع) – مثل ليلي أحمد ومارجو بدران Margot Badran وبث بارون Beth Baron – قد تطرقن إلى عرض كيفية تأثر النساء المصريات، وتأثر علاقات (النوع)- على وجه أكثر تحديدًا – بالقومية المصرية التي حفزها الوجود البريطاني الاستعماري 4. في الواقع، قادت مصر بوصفها ميدانًا دراسيًا الطريق في النقاشات البحثية حول الروابط الوطيدة بين المرأة والقومية في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحت الحكم الاستعماري، ومنها أخذ آخرون من الباحثين أو الباحثات ما أفادهم في كتابة سردياتهم التاريخية.
بيد أنه يغيب عن هذه المعرفة البحثية الإقرار بالدور الذي لعبه الطب في التغيرات الثقافية التي أتى بها الاستعمار البريطاني والقومية المصرية. ببساطة، كانت السرديات التاريخية تولي – تقليديًا – اهتمامًا كبيرًا بالطرق المتعددة التي دخلت عبرها مصر إلى العالم الحديث (المقصود هنا العالم الغربي)، العقلاني، من خلال إدماجها في النظام الرأسمالي العالمي، وما كان لذلك من آثار لا تنمحي، في حين أنه لم يُكتب الشيء الكثير عن الطرق التي أسهم بها الانتشار الإمبريالي للطب الحديث، الذي يُطلق عليه دافيد آرنولد David Arnold “طب الاستعمار” (colonial medicine)، في تسهيل هذا الإنتاج. إذ أدى حقًا ذلك المسار التاريخي للتحديث الطبي تحت إشراف الاستعمار – الذي صاحب تحول مصر الاقتصادي – إلى منطق مختلف في عقلنة تنظيم علاقات (النوع)، وعليه تنظيم المجتمع المصري. هذا التوجه المنظم والقوى لإعادة التنظيم الاجتماعي – أو بالأحرى إعادة تحفيز أدوار (النوع) التقليدية مبررةً بلغة الطب الحديث – هو الأساس الفكري لتعبير “صبغ الثقافة بالعلم” (“scientisation of culture”).
تسعى هذه المقالة – إذن – إلى الكشف عن رؤية المنطق الطبي للأعراف المصرية المتعلقة بـ (النوع) عند منعطف القرن التاسع عشر بوصفه سبيلاً إلى فهم كيفية تأثر هوية (النوع) وعلاقتها بالتحولات الرأسمالية، التي كان أبرز ما يميزها تغير أنماط الاستهلاك والنمو الحضري، وما استتبع ذلك من تحولات في المفاهيم عن الحيز الاجتماعي، كما صاحب هذه التحولات الرأسمالية أيضًا عملية تمهين الطب، أي تحويل الممارسة الطبية إلى مؤسسة مهنية رسمية لها قواعدها (the professionalization of medicine)[ يشير هذا المصطلح “professionalization” إلى عملية اجتماعية يتحول عبرها ].
إن تحديد الطب بوصفه مُنشأ تحليليًا أوَّليًا لتفسير التغيرات التاريخية في المجتمع الحديث ليس بالأمر الجديد تمامًا على الأبحاث المتعلقة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومصر بصفة خاصة. إذ ظلت الدراسات حول تقاطعات السياسات الإمبريالية والطب الحديث و(النوع) في حالة نشاط وازدياد مستمر، فيما يخص المغرب وتونس وفلسطين وإيران على وجه التحديد.5 بيد أنها كانت مصر هي التي وضعت معالم الطريق بواسطة باحثين مرموقين من أمثال لافرن كونكِ Laverne Kuhnke، أميرة سنبل، نانسي جالاجار Nancy Gallagher، وخالد فهمي، وكذلك المؤرخيْن الفرنسيين سيرج جاجايو Serge Jagailloux وسيلفيا شيفولو Sylvia Chiffolean، الذين سعوا مبكرًا إلى فهم المكان المسيَّس للطب المصري في عمليات بناء الدولة الحديثة.6 وتتلاقى هذه الأبحاث حول نقطة حيوية، ألا وهي “دور الطب الحديث في إكساب واكتساب الشرعية عبر سياسات الدولة، أو بتعبير بسيط التقاء الطب مع السياسة. إجمالاً، وعند منعطف القرن، أصبح العلمُ الحديث – بصورة متزايدة – في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كما في غيرها، المرجعية العقلانية غير الرسمية للثقافة. إن إضافة (النوع) بوصفه عنصرًا تحليليًا إلى هذه المصفوفة المكونة من عمليات بناء الدولة والطب الاستعماري، يجعلنا نرى بوضوح أكبر كيف أصبحت الثقافة شأنًا علميًا، ليس فقط بمفردات الطب الحديث وإنما أيضًا بمفردات (منوَّعة gendered) كذلك.
استولى الإنجليز على مدرسة الطب الوحيدة في القاهرة وعلى المستشفى التابعة لها، المسماة بالقصر العيني، في عام 1893، أي بعد قرابة عقد من احتلال مصر في عام ١٨٨٢. لم يرجع القصر العيني إلى وضعه تحت السيطرة المصرية حتى عام ١٩٢٩. وفي هذه الفترة القصيرة – وإنْ كانت أيضًا كثيفة النشاط – من تاريخ الطب المصري، أدخلت – وتأسست – بعض الإصلاحات الاستعمارية التي كان لها – في نهاية المطاف – أن تحدد وتغير التركيبة الخاصة بنوع المصريين الذين سيصبحون أطباء، وكذلك نوع الطب الذي سوف يمارسونه. أي أن الإصلاح الاستعماري القائم على فلسفة “الأنجلزة” (anglicisation) قد أسهم في دق قالب النشاط العملي/ التجاري في مجال ما إلى مهنة أو مؤسسة مهنية مغلقة على أعضائها، وفقًا لقواعد وشروط مثل حمل مؤهلات معينة والخضوع لتدريب معين، بحيث يتم التمييز بين الأشخاص المؤهلين (أي المهنيين) والأشخاص “الهواة” الذين لا يحصلون على اعتراف بهم ولا ينالون ما يتمتع به أعضاء المهنة المعترف بهم من مكانة وسلطة ومزايا وعائد مادي. وتتضمن تلك العملية خطوات مثل تكوين نقابة أو رابطة تشرف على سلوك الأعضاء وتعتني بمصالحهم. “الطبيب العصري” الذي استمد سلطته مما أصبح يمثل – وقتئذ – المعرفة الطبية العصرية.
تشير الأنجلزة، هنا، إلى عملية مؤسسية لتمهين الطب، التى آتى بها الإصلاح الاستعماري، وكان أهم ما فيها هو مأسسة الطب السريري (clinical medicine). ولا يراد بالمصطلح أن يوحي بتحول ثقافي لحق بالأطباء المصريين عبر توليد – أو إدخال – وجهة نظر بريطانيا العصر الفيكتوري إزاء الطب أو المهنة الطبية 7، وإنما أن الأنجلزة كانت عملية هيكلية من حيث إنها هدفت إلى إصلاح المؤسسات الطبية المصرية على نحو نموذج مصوغ في لندن. وقد خطط هذا النموذج السير إ. كوبر بيري E، Cooper Perry، المشرف على مستشفى جاي Guy في لندن، حيث كلفه النظام الاستعماري بإعادة تنظيم القصر العيني 8. وأصبح تقريره، الذي كان يشار له بإنجيل بيري (Perry’s Gospel) [ بمعنى أنه يمثل المرجع الذي له الموثوقية والسلطة النهائية والذي تصبح تعليماته موضع تنفيذ بلا نقاش.]، هو ما تم على أساسه بناء دستور المدرسة الطبية والمستشفى الطبي حتى عام ١٩٢٧، حين أصبح القصر العيني مؤسسة أكاديمية، وصدر قرار رسمي بجعله الكلية الطبية بالجامعة المصرية (فيما بعد جامعة القاهرة). بيد أن هذا العام لم يشهد نهاية تأثير بيري في الشئون الطبية إذ كلُف ثانيةً بكتابة تقرير عن كيفية تحويل القصر العيني إلى كلية جامعية، وباختصار لا يجوز التقليل من أهمية كلا التقريرين في تشكيل طب الاستعمار في مصر.
كان تأسيس منهج طبي تغلب عليه نزعة سريرية جزءًا من هدف أكبر يتمثل في تحويل الطب إلى مؤسسة مهنية رسمية؛ وهي رؤية وطدها تقرير بيري. بيد أن الطب السريري الحديث لم يكن جديدًا على مصر، ففي الواقع لم يكن التدخل البريطاني الاستعماري يشكل المناسبة الأولى التي يتم فيها تحديث مصر طبيًا طبقًا لنموذج غربي. ففي أوائل القرن التاسع عشر، وتحت حكم الوالي العثماني محمد علي (١٨٠٥– ١٨٤٨)، مر القصر العيني بتغييرات تحديثية واسعة تحت إشراف مديره الفرنسي أنطوان برتيليمي كلوت Antoine Bertelemy Clot (۱۸۲۷ – 1849) المعروف بكلوت بك، الذي جيء به من مرسيليا لتنظيم النظام الطبي في مصر. في حين أنه ثمة جدل بحثي حول دوافع سياسات بناء الدولة، التي تبناها محمد على، يظل من الواضح بدون شك أن طريقته في الحكم الأوتوقراتي لم تمنعه من الاستعارة من النماذج التحديثية الغربية وبخاصة الفرنسية. وعلى الرغم من نظرة كلوت بك الإمبريالية الفرنسية إلى مصر، لم يكن الهدف من الإصلاحات التي تمت بإشرافه هو “فرنسة” الطب المصري، وإنما كان الهدف بالأحرى استيراد المعرفة والتقنيات الطبية الفرنسية بطرق لا تقلقل النظام الطبي المصري، وفي الوقت نفسه محاولة تأميم الممارسة الطبية عبر وضع الرعاية الوقائية في أيدي الأطباء المدربين في القصر العيني. في كلمة قصيرة، قام كلوت بك بمحاولة تحديث نظام مصر الطبي دون اللجوء إلى تغريبه بالضرورة. وبالتالي، فإن إصلاحاته التي تمثلت في تعيين وظائف إدارية داخل القصر العيني، وجذب المزيد من الطلاب، وتحديث المنهج الطبي والاعتماد على العربية والفرنسية بالتوازي بوصفهما لغتي التدريس، تُعَدُّ دالة على طريقته الأوسع في التحديث9. وفيما يخص أهداف هذا البحث، ما يعنينا من إصلاحات كلوت بك هو أنه قام بوضع منهج دراسي طبي مدته أربع سنوات، قائم على الطب السريري ومصوع على نحو المنهج المطبق وقتها في فرنسا، ويتميز في الوقت نفسه بمراعاة الثقافة المحلية. لم يكن الطب السريري – إذن – بالأمر الجديد على مصر، فقد كانت بداياته تحت إشراف حاكم مصر في أوائل القرن التاسع عشر.
إن وجه الاختلاف في نوع الأهمية التي أوليت من جديد للطب السريري في مصر عند منعطف القرن، الواقعة تحت السيطرة الإنجليزية، تَمَثَّلَ – ببساطة – في السياق. أولاً، كانت مصر وقتها تحت حكم الاستعمار، وبالتالي كان إصلاح القصر العيني يتم تحت الإشراف الرسمي المباشر، ليس للسلالة العثمانية لمحمد علي – الخديوي توفيق (۱۸۷۹– ۱۸۹۲) وعباس حلمي الثاني (١٨٩٢ –١٩١٤)، وإنما للمدير المعين من قبل البريطانيين، د. هنري بوتينجر كيتِنج Dr Henry Potinger Keating. ثانيًا، ومترتبًا على أولاً، اختلفت عملية مأسسة الطب السريري على الطراز الإنجليزي من حيث المضمون، إذ كان الطب الحديث هو نفسه في مرحلة تطور في أنحاء أوروبا على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن هنا تم استيراد الطب السريري إلى المستعمرات في شكله المتطور. ثالثًا، وارتباطًا بما سبق – في ظل سياسة بريطانيا الإمبريالية الصريحة – كان الهدف المزمع من المنهج الدراسي للطب السريري الذي تم توريده إلى المدرسة الطبية المصرية من لندن، هو “أنجلزة” الطب المصري.
رابعًا وأخيرًا، ومثلما حدث أيضًا في أوائل القرن التاسع عشر، كان الهدف من تأسيس برنامج قائم على الطب السريري هو نظم الممارسة الطبية في سلك مِهَنِي. وليس من الممكن فصل هذا الهدف في بواكير القرن العشرين عن حركة صعود الإملاءات الرأسمالية التي أعادت تشكيل الطبيعة نفسها للعمل المهني/ الاحترافي في مصر خلال هذه الفترة. ومن ناحية أخرى، لم تكن لممارسي الطب في أوائل القرن التاسع عشر الدلالة نفسها في قلب المجتمع، وبالتالي الأهمية نفسها، التي صارت لأعضاء لمهنة الطب في نهايات القرن؛ وذلك بسبب التغيرات التي أتت بها التحولات الرأسمالية إلى الطب الحديث، وتحديدًا فيما يخص المهنيين الطبيين. إن ما تزعمه هذه المقالة هو أنه حالما أصبح أعضاء هذه النخبة من الممارسين المصريين واعين بذاتهم بوصفهم طبقة مستقلة من المهنيين في العشرينيات من القرن التاسع عشر، صارت لديهم القدرة على ممارسة سلطة اجتماعية – سياسية جعلت منهم وسطاء اجتماعين بين الدولة والمجتمع، بصورة غير مرئية لكنها على قدر كبير من قوة التأثير، وحتى يتسنى لنا أن نفهم كيف حولت الأنجازة الأطباء المصريين إلى رجال مهنيين عربين، سوف نناقش عددًا من هذه الإصلاحات، التي تؤلف في مجموعها عملية صناعة طب الاستعمار في مصر. خلاصة القول، إن تلك المراجعة الإدارية الكاملة التي جرت القصر العيني من قبل البريطانيين جعلت من الطب معرفة متخصصة، مقصورة على فئة دون سواها، معرفة انتهت حكرًا على أطباء القصر العيني، بصفتهم مزاولي الطب المجازين وحدهم دون غيرهم، وبالتالي صاروا هم وحدهم أصحاب الشرعية المعترف بهم من قبل المستعمر ثم من الإدارة المصرية فيما بعد. وبمعنى آخر، لم تمنع حقيقة طب الاستعمار ممتهني الطب المصريين من وراثة فاعليتهم الاجتماعية، وهو أمر يحتاج إلى شرح.
في عهد القنصل العام البريطاني لورد كرومر (۱۸۸۳ –۱۹۰۷) الذي كان يخشى “صناعة الديماجوجيين“، تم جعل نظام التعليم المصري بشكل عام: ( أ ) مقيد، نتيجة للسياسات الجديدة التي تحكمت فيمن يدخل المدارس ومن يتخرج منها، (ب) اقتصاري، إذ تم فرض مصاريف مدرسية لأول مرة في تاريخ مصر الحديث، (ج) ظاهرة حضرية، إذ كان العديد من المدارس الثانوية بالإضافة إلى المدارس المهنية الثلاثة (القانون والطب والهندسة)، متمركزًا في القاهرة. كان معنى ذلك، بصورة أشمل، أن عدد المصريين الذين التحقوا بالمدارس أصبح أقل حجمًا، وأن هؤلاء الذين التحقوا بالفعل جاءوا من صفوف الفئات الطبقية الأكثر ثراءً وكان معظمهم متواجدًا في المناطق الحضرية.10
وكما يسهل التنبؤ به، فقد تم اجتذاب طلبة الطب من نبع محدود أصلاً من الطلبة المصريين، ومن بين هؤلاء – ونتيجة لمتطلبات التقديم القاسية ثم المنهج الطبي الصارم – كان أولئك الذين ينجحون في التخرج يشكلون بدورهم عددًا أقل. لم يكن عدد خريجي القصر العيني، على سبيل المثال، يتجاوز الخمسين في أي عام من أعوام فترة الاستعمار، كما كان المتوسط السنوي لعدد الخريجين هو عشرون، في وقت كان عدد سكان مصر يبلغ على الأقل تسعة ملايين بداية من أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر. 11
تبرز هذه الأرقام في تباين ملحوظ مع عدد المتقدمين إلى المدرسة الطبية في عهد الاستقلال، حين جرت عملية تمصير المدارس وأعضاء هيئات التدريس على جميع المستويات، وصار عند متنامٍ ينشد الدراسة المهنية. فبحلول عام ١٩٢٥ على سبيل المثال، كان عدد طلاب الطب في جامعة القاهرة يبلغ 544 من بين إجمالي 3368 طالب، وهو ثالث أكبر عدد بعد طلاب القانون (۱۳۱ طالب) وطلال على الهندسة (574 طالب).12 باختصار، ونتيجة لقدرة الطب بعد استقلال مصر على اجتذاب الطلاب بمعدل ثابت، يسهل أن نرى بالمقارنة مع أرقام عهد ما قبل الاستقلال، ما يوضح صرامة التعليم الطبي في فترة الاستعمار، وبالتبعية نخبويته.
ولم تكن تلك الإصلاحات الأكثر تركيزًا على الأنجلزة تقل في أهميتها بالنسبة إلى خلق “الطبيب المصري العصري“، التي بدأت من بعد عام ١٨٩٢، حين حُسمت قضية الانسحاب الإنجليزي وثبَّت لورد كرومر نفسه جنبًا إلى جنب تثبيت الإمبريالية البريطانية بعزم أكبر داخل الإدارة الحكومية في مصر. وينعكس هذا الحضور الإمبريالي الطاغي بوضوح في كمية ونوعية التعديلات التي أجريت على المراكز الوظيفية وعلى المنهج الدراسي في القصر العيني.
أصبحت إدارة القصر العيني بعد عام ١٨٩٢ تقع حصريًا في أيدي الإنجليز. د. كيتنج، على سبيل المثال، كان صاحب أطول فترة إدارة إبان فترة الاستعمار (مثلاً ۱۸۹۳– ۱۹۱۹)، وقد أولى أهمية كبرى إلى عملية الأنجلزة،13 فخصص أعلى المواقع الوظيفية التدريسية والإدارية – التي صارت لها رتب وحقوق والتزامات وسقف رواتب جديدة – لأطباء من الإنجليز استجلب الكثيرين منهم من لندن. وهنا، من المهم أن نذكر أنه في الشبكة الجديدة لطب الاستعمار كانت رتبة الشخص تتحدد بنوع الطب الذي يزاوله، وقد حظي مجالاً الطب السريري والطب الجراحي بأعلى مستويات الأهمية والسلطة.
في هذه المنظومة الجديدة، صار طبيب المعالج (physician)، ويليه الجراح، هما أصحاب السلطة الطبية العليا، حيث كانا وحدهما القادرين على تحديد مصدر مرض ما أو التعرف على طبيعة الإصابة وعلاجها. فضلاً عن ذلك، وتحديدًا بسبب الأهمية التي أضفيت على هذين المجالين الطبيين، فقد تم، طبقًا لتقرير بيري، إعطاء الطبيب المعالج والجراح سلطة إدارية إضافية، فكان لهما وحدهما الحق في الفصل في الأمور الحيوية، مثل العلاج داخل المستشفى وتخصيص الأسرَّة. على الجانب المقابل، تم تعيين الأطباء المصريين برتبة طبيب “مساعد” – وهي رتبة مخصص لها أكثر الرواتب انخفاضًا ويمنع أصحابها من فتح عيادة خاصة أو العمل لحسابهم الخاص – باستثناءات قليلة جدًا. 14 بيد أن الوضع تغير إبان الحرب العالمية الأولى حين رحل الأطباء الإنجليز من مصر للتطوع في خدمة جيشهم تاركين الأطباء المصريين يشغلون مواقعهم الإدارية والطبية.
ومن ثم، يمكن القول إن الطب السريري نفسه لم يكن جديدًا على مصر، في حين أن تلك الإصلاحات التي أجرتها إدارة الاستعمار على المنهج الدراسي هي ما يعد بالشيء الجديد، وقد تناولت تلك في معظمها إدخال مواد طبية جديدة أو معدلة (مثل الطب السريري الأساسي، علم البكتيريا، الجراحة، الطب النسائي والطب الشرعي)، وذلك اعتمادًا على نصوص طبية بريطانية مستوردة. 15 كما أن فرض الإنجليزية بوصفها لغة التعليم الوحيدة في المدارس المتخصصة أدى – في النهاية – إلى تحديد فاصل للفئة التي لها فرصة الالتحاق. ومما له أهميته أيضًا أنه كان يجري إرسال الطلبة المصريين النابغين في بعثات طبية إلى لندن، على نفقاتهم الخاصة، لمواصلة الدراسات العليا في الطب، وكان معظمهم يختار أحد مجالات الطب السريري.
باختصار، كان لهذه الإصلاحات العاملة على الأنجلزة أثر لا ينمحي؛ ألا وهو تحويل الطب المصري إلى امتياز خاص بمجموعة نخبوية من المصريين، أعضاؤها ذكور، من الطبقة العليا، ومن الحضر، ويتكلمون الإنجليزية. وبالتحديد، تميزت الإصلاحات التي كان لها دور أكبر من حيث التحكم في تركيب مجموع الطلبة – ومن حيث مراجعة المنهج الدراسي– بفعالية خاصة في تحويل الطب المصري إلى طب استعماري، إذ قام هذان النطاقان من الإصلاح بإعادة صياغة مسألة مَن المسموح له بمزاولة الطب وماذا يزاوَل باسم الطب، فيما آل إلى تشكيل قالب “الطبيب المصري العصري“.
كانت سلطة رجل الطب هذا مشروطة بالمدرسة الطبية الوحيدة التابعة للدولة، حيث كانت هي وحدها التي تمنح الشهادات الطبية وتصدر رخص مزاولة المهنة. وبالإضافة إلى السلطة المؤسسية، أدى التوظف عن طريق الحكومة إلى ضمان – وتعميق – استثمار الأطباء المصريين في مصير جهاز الدولة وفي بقائه. وحقيقة الأمر أن تلك العلاقة من المنفعة التبادلية بين الطب العصري والدولة هي التي يمكنها تفسير كيف أصبح الخطاب الطبي المصري مستقرًا في إطار القومية. إذ أدى تمكُّن الأطباء المصريين من وضع أكثر تميزًا اقتصاديًا – بفضل حيازتهم للمعرفة الطبية المتخصصة والعصرية – إلى تدعيم سلطاتهم، ليس فقط بوصفهم خبراء على مستوى الطب، ولكن – كما يمكن أن ندعى – بوصفهم أيضًا فاعلين على الصعيد الاجتماعي – السياسي، لحساب الدولة. فهم على أية حال، كانوا ينشرون عملية التحديث التي ترعاها الدولة، عبر الممارسة الطبية اليومية في مجتمع يسعى بكل قواه إلى العلاج والبرء من ثلاثي الأمراض القاتلة: الكوليرا والطاعون والجدري. 16
بفضل المكانة الصاعدة للطب الحديث بشكل عام، وبفضل السلطة المرجعية التي صارت لعلم بعينه قد تم تشكيله مؤخرًا – وهو طب النساء والقبالة – كان من الطبيعي أن يتم إخضاع النساء المصريات – بوصفهن حكيمات وزوجات – إلى السلطة الحصرية للطبيب المصري. فقد اقتضى إدخال طب النساء إلى برامج طب القصر العيني – القائم أساسًا على الطب السريري – إعادة تنظيم مدرسة الحكيمات، فتم مركزتها وإخضاعها مؤسسيًا لمدرسة الطب، مثلما أوصى تقرير بيري. مجمل القول، أدى أنجلزة المدرسة الطبية – بالضرورة وبالتبعية – إلى أنجلزة مدرسة الممرضات والحكيمات كما أطلق عليها وقتئذٍ.
كان لهذه العملية تأثيرات بالغة وواسعة النطاق في وضع النساء، مثلما كان لها تأثيرها في وضع الأطباء، فيما عدا أنه في حالة النساء الممارسات المهنة لم يؤد التحديث الطبي إلى المزيد من تمكينهن (empowerment)، وإنما إلى العكس تمامًا. فقد اضطرت الحكيمات المصريات إلى التنحي – على الصعيد المؤسسي – عن دورهن الطبي السابق بوصفهن ممارسات لهن استقلاليتهن، أو بوصفين “دكتورات” (“doctresses”)، وإلى الامتثال للطبيب المصري. كانت تلك الدكتورات، قبل التدخل الاستعماري، يمارسن – إلى جوار القبالة – مهامًا إضافية بوصفهن حكيمات، يعالجن الاعتلالات الشائعة مثل عدوى العين، الجرب، الزهري، ويَجبرن الأطراف المكسورة أو المخلوعة. كن يقدمن استشارات مجانية لكل سكان المدينة، ويقمن بإسعاف حالات الطوارئ مثل ضحايا الغرق والاختناق. وكن يضمدن الجروح، ويقمن بالتطعيم المجاني، ويَعُدن الحالات التي لا يمكنها الانتقال، ويقمن بالتحقق من أسباب وفاة النساء، ويوقعن شهادات الوفاة.17 وبالتالي، فإنهن كن – واقعيًا وعمليًا – يقمن بدورهن على الصعيد الطبي والاجتماعي بصفتهن ممارسات مستقلات للطب.
بيد أن إصلاحات الاستعمار أعادت تركيب وضع الحكيمة؛ بحيث أصبحت أدوارها الطبية غير خاضعة للطبيب فحسب، ولكنها مبنية على أساس طبيعة المرأة المفترضة بمنطق الطب، ألا وهي تقديم الرعاية والعناية والأمومة. صارت الحكيمة، بعد أن كانت “دكتورة” مستقلة في المجتمع المصري، ممرضة تابعة، كما في نموذج الممرضات اللآتي تدربن على أيدي فلورنس نايتينجيل Florence Nightingale وخليفاتها. فضلاً عن ذلك، تم استبعاد الدايات من الممارسة الشرعية للقبالة العصرية (مع أنهن، كما يمكن التوقع، ظللن يمارسن عملهن خارج المؤسسة الطبية الرسمية).
إن التبعية المؤسسية للحكيمة تتمثل – على أفضل وجه – في استخدم الملقاط الطبي، فقد كان الأطباء فقط هم المسموح لهم طبيًا – وبالتالي قانونيًا– باستعمال هذه الأدوات الخاصة بطب النساء، حيث كانت الولادات التي تتطلب استخدام الملقاط تُعَدُّ مشكلة طبية تقتضي الاستعانة بطبيب مؤهل. ولأن الممرضة – الحكيمة غير مدربة في الطب السريري بدرجة تدرب أطباء القصر العيني نفسها، كانت تتولى فقط عمليات الولادة “الطبيعة“، وبالتالي لم يكن مصرح لها طبيًا باستخدام الملقاط وكذلك بالنسبة إلى الداية.18 إلا أنه بسبب تفجر النمو السكاني في مصر، وقلة عدد مزاولي الطب، اضطرت الدولة إلى تقديم التنازلات؛ فسمحت للدايات بتولي حالات الولادة “الطبيعية” في المناطق الريفية، على شرط أن يتلقين تدريبًا سريعًا على أيدي الحكيمات في أسس القبالة الحديثة حتى يصبحن شبه حاملات شهادة، برغم أميتهن. ومع ذلك، لم يكن لتلك الداية المُجازة درجة تذكر في التسلسل الوظيفي المعدّل، الخاص بالمهنيين الطبيين العصريين. وهكذا، وبسبب أن القبالة تم جعلها في وضع التبعية المؤسسية لطب النساء والولادة، فإن العملية التي قصدت إخضاع الطب لقواعد المؤسسات المهنية، كانت نتيجتها تذكير(masculinisation) الطب النسائي المصري.
ومن باب المفارقة، بالرغم من وضع الحكيمة التابع، يمكننا الزعم بأنها أسهمت في الطب الواقع تحت رعاية الدولة، بقدر أكبر مما فعل الطبيب. ففي الواقع، توضح الأرقام أن الحكيمات تفوقن على الأطباء من حيث عدد الولادات التي تمت على أيديهن، إذ كانت الولادات المصرية التي تتم في منزل الأم أو في عنابر مدرسة الأمومة على أيدي دايات مدربات أو ممرضات – حكيمات أكبر عددًا من الولادات التي يتولاها أطباء القصر العيني. فقد بلغ عدد الولادات التي تمت بإشراف حكيمة 4419 حالة، من بينها ١٨٢ حالة ولادة “غير طبيعية” (مثلاً، ثلاثة توائم، ولادة قيصرية، ووجود عيب خلقي في جمجمة الوليد) تمت بمعاونة طبيب. وبلغ العدد المسجل للزيارات المنزلية 40660 زيارة. وبحلول عام ١٩٢٧ بلغ إجمالي عدد زائرات العيادة الخارجية 67135، بينما في عام ١٩٢٢ كان عدد نزيلات قسم الولادة 367، منهن 67 سيدة حامل موضوعة تحت الملاحظة، وكان العدد المسجل لنزيلات قسم أمراض النساء والقبالة هو ٩٢٤. 19 باختصار، يمكن القول إن معظم السيدات من سكان مصر، المتركزات بشكل عام في المناطق الريفية، كن يفضلن الولادة في المنزل أو في عيادات تابعة للدولة، بمساعدة حكيمات محترفات، أكثر من اللجوء إلى الأطباء في المستشفيات.
وبرغم الدور الرئيس للحكيمات بوصفهن فاعلات لحساب الدولة، كان الأطباء هم الذين استفادوا بأكبر قدر من معرفتهم بطب النساء، وإن لم يكن بفعل الإشراف على الولادة الطبيعية. فقد كان المصدر الذي استمد منه الطبيب وضعه المتميز هو قدرته على تقديم حلول طبية لمشاكل المرأة الجسمانية، مثل الولادة غير الطبيعية أو الأمراض والمشاكل النسائية، عبر التدخل بصور مقرة طبيًا، خصوصًا الجراحة. وقد ازداد عدد العمليات الجراحية بصورة ملحوظة عبر الفترة بين عام ١٩١٠ وعام ۱۹۳۰، وازدادت كذلك مكانة الجراح رِفعة واحترامًا بسبب مهنته. ومن بين النخبة، نجد جراحي النساء قد نالوا النصيب الأكبر في هذه الفوائد، إذ ارتفع أيضًا عدد العمليات الجراحية النسائية بصورة كبيرة في هذه الفترة. ففي عام ١٩٢٧، على سبيل المثال، تم إدخال ٩٢٤ حالة تابعة لأمراض طب النساء والقبالة إلى المستشفى؛ وهو ما يمثل زيادة يعتد بها مقارنة بالعقد السابق حيث كان هذا العدد ١٤٢ حالة فقط. 20 ومن بين إجمالي عدد النزيلات (٩٢٤) خضعت 401 حالة (34%) لعملية في نطاق أمراض النساء أو نطاق القِبالة. كانت في الواقع خبرة الجراح مطلوبة بوضوح، ووجد طب أمراض النساء والولادة سلطته الطبية العليا في أيدي – مجازيًا وحرفيًا – الطبيب الرجل.
وكما أن عملية تمهين الطب قد أعادت تكوين الفئة الأنطولوجية للحكيمة المصرية، جعلت بالمنطق نفسه من المريضة المصرية موضوعًا للنصيحة والإرشادات الطبية. المريضة في هذه الحالة هي ربة البيت المصرية التي تَوجه لها الأطباء المصريون بالخطاب مباشرةً من خلال الصحافة المصرية بعد الحرب العالمية الأولى. فعلى صفحات الأعداد الهائلة من المجلات الطبية الشعبية وباب المرأة في الصحافة العامة، صارت ربة البيت المصرية موضوعًا للتناول الطبي الذي ركز فيه الأطباء المصريون خبرتهم الطبية، لتشخيص حالتها وعلاجها – لو لزم الأمر– من خلال نصائحهم الإرشادية. بل والأكثر من ذلك، كان الأطباء ينتظرون من كل أم مصرية، نتيجة لنصائحهم الطبية، أن تتدرب على ما يعد في النهاية رعاية وقائية على الجبهة المنزلية، أو ما أطلق عليه الطب المنزلي، وهو يُعنى بتدريب الأم على علاج أطفالها من الاعتلالات الصحية وتنشئتهم في بيئة آمنة من الناحية الطبية. وهكذا، أُسندت إلى ربات البيوت المهمة الأساسية نفسها التي خُصصت للحكيمات بوصفها دورهن الطبي، ألا وهي رعاية المرضى. إلا أن ما يلفت النظر هو كيف أن هذا الخطاب الطبي المَعني بالحياة المنزلية قد صيغ بلغة القومية وبرموزها.
بحلول الحرب العالمية الأولى، كان الأطباء المصريون قد تشكلوا بالتدريج بوصفهم هيئة المهنة الطبية، وهي فئة نظر إليها المصريون بوصفها مستقلة عن معلميهم من المستعمرين. ثمة دلائل تاريخية تثبت أنه بالرغم من كون الأطباء المصريين قد تلقوا تدريبهم في إطار الإصلاحات الطبية البريطانية، وبالرغم من تبعيتهم لها، فإنهم وجدوا في الطب المصري ملاذًا، بل حتى نوعًا من “الحرم” الثقافي الذي يسمح لهم – من خلال السلطة التي مُنحت لهم من قبل الحكومة وبفضل مهنتهم – بصياغة تصوراتهم الشخصية عن الطب، بوصفهم جماعة يمكن تمييز هويتها، من حيث إنها جماعة مصرية الثقافة.
يستخدم دافيد آرنولد تعبير “طب الاستعمار” (colonial medicine) بوصفه مُنشأً نظريًا يشرح بصورة أكبر وضوحًا العلاقة الجدلية بين الأفكار والممارسات العلمية الصادرة من عاصمة المستعمر (metropole) وبين التقييدات والحتميات أو الضرورات المحلية التي عدَلت من الأولى، في حالة الهند. 21 بدورها تقوم هذه الدراسة عن مصر باستعارة وتكملة منشأ أرنولد عبر إظهار كيف أن طب الاستعمار يكشف أيضًا عن الفاعلين الصامتين، الذين وقفوا بين العلم الوارد من بلد المستعمر والطب المحلى، على نحوٍ ما فعل الأطباء المصريون المدربون على يد المستعمر الذين أسهموا في إيجاد صياغة للتعامل مع هذه العلاقة، وبذلك شاركوا في صناعة علم المستعمر. إن استخدام هذا المنشأ هنا هو محاولة لاسترداد مكان الفاعلية التاريخية المصرية في سردية الاستعمار (الطبية).
أصبحت الرخصة الطبية في الأساس الشارة المؤسسية لسلطة الدولة الممنوحة للأطباء المصريين التي تخول لهم حق الكلام – بل، وهو الأهم، حق التدخل – في الشئون الطبية. ومع قيام الدولة بتطوير المرافق الصحية – بما فيها تحسين إمدادات المياه الصرف الزراعي والحراثة، زيادة عدد المستشفيات والعيادات، وإضافة إلى ذلك نظام معقد للتفتيش الصارم في مؤسسات مثل المدارس والمستشفيات – بهدف الحفاظ على الصحة العامة (وبخاصة ضد الأمراض الوبائية)، أدى دور الأطباء في تأمين تنفيذ هذه التدابير على الوجه الأكمل إلى تعزيز سلطتهم، ومن ثم أهميتهم في المجتمع. 22
هذه السلطة المؤسسية التي ارتفع قدرها تشكل نقطة حيوية، حيث إنها كانت الأساس الذي أقام عليه الأطباء سلطتهم الاجتماعية – السياسية بوصفهم طبقة مهنية مستقلة لها – بهذه الصفة – حق الكلام في شئون المجتمع. وفي الواقع، أصبح للأطباء – بوصفهم وسطاء بين الدولة والمجتمع – سهم كبير في مصير الدولة، بينما كانوا يعملون في الوقت نفسه على تأمين مصالحهم الاجتماعية – الاقتصادية. هذه هي على وجه التحديد كيفية عمل الهيمنة (بتعريف جرامشي) في المجتمع، حيث الدولة – بناءً على ذلك– لا تمثل السلطة الشاملة، المنعزلة عن المجتمع، كما هو تصور هذه العلاقة في العديد من السرديات. إن الدولة تقوم بالأحرى – في إطار عملية بناء الهيمنة – بخلق هذه الولاءات والفرص والأسهم التي تتفق مع مصالح جماعات الصفوة المحلية. وتقوم هذه الحوافز بمصالحة الفئات النخبوية مع الدولة، والعكس.
هذا النوع من العلاقة بين المجتمع والدولة هو ما يُكوِّن الفارق الأساس والواضح بين تشكل مهنة الطب في بريطانيا وتشكلها في مصر. إذ كانت المبادرات الحكومية هي التي قد أطلقت – ووجهت – العملية التي من خلالها أتت مهنة الطب في مصر إلى الوجود، بينما في بريطانيا خاضت المهنة المعارك لتشق طريقها إلى تحقيق الاعتراف بها وإلى تحقيق المأسسة القانونية في استقلال عن الدولة.23 كانت العلاقة بين الدولة المصرية والأطباء تمثل – إذن – علاقة اعتماد ومنافع متبادلة.
فضلاً عن ذلك، لعبت المؤسسات الطبية، مثل القصر العيني، دورًا حيويًا في تولید روح الزمالة بين رفاق المهنة، الذين يُلزمهم قسم أبقراط بممارسة عملهم في نزاهة وأمانة وإنسانية. ولا يوجد دليل على هذا التضامن المهني، وعلي ازدياد وعى الأطباء بأنفسهم بوصفهم طبقة مهنية نخبوية، أبلغ من تأسيس الجمعية الطبية (medical association). ففي عام ١٨٩٨، تكونت الجمعية الطبية المصرية، ولكنها ماتت دون سبب واضح، إلى أن بعثت مرة أخرى بعد عقدين، في عام ١٩٢٤. وبحلول عام ۱۹۲۸، كان هذا المجتمع المكون من 450 عضوًا، وجميعهم رجال طب مؤهلون ومصريو الجنسية، قد أصبح مجتمعًا طبيًا اكتسب التقدير الاجتماعي من قبل الحكومة والمواطنين المصريين.24
ثمة تقابل كبير على مستوى الأهداف والتنظيم بين هذه الجمعية ومثيلاتها في بلدان أخرى، مع وجود غرض إضافي للجمعية المصرية يتمثل في الترويج لاستخدام اللغة العربية في أدبيات الطب. ولهذا الهدف تم تأسيس المجلة الجامعية الطبية المصرية، التي كانت تنشر عشرة مرات سنويًا، بالإضافة إلى تأسيس مطبوعة طبية قائمة على اللغة العربية؛ فيما يُعد مثلاً آخر للتناغم مع الثقافة المصرية. وكان ثمة غرض آخر من وراء تأسيس هذه المجلة، ألا وهو تأمين الاعتراف بهؤلاء الأطباء المصريين الذين كانوا يُجبرون فيما سبق على نشر أبحاثهم الطبية في محافل أخرى. ويبدو من الواضح أن الأطباء المصريين لم يشاركوا المستعمر رأيه في عدم توافق اللغة العربية مع العلم الحديث.
إن المؤتمر الدولي للطب الاستوائي والصحة، الذي عَقد في القاهرة في ديسمبر ۱۹۲۸ بمناسبة مئوية القصر العيني، يعطي أفضل مثال على استقلال الطب المصري ومهنيته رغمًا عن السيطرة الاستعمارية. ويوضح المؤتمر كيف قام الأطباء المصريون، في وجود ألفين من رجال الطب يمثلون 44 بلدًا، بتقديم أنفسهم على الملأ بوصفهم مهنيين عصريين، بالإضافة إلى قيامهم بعرض أبحاثهم في الطب الحديث. ومن المثير للاهتمام أن نرى كيف كان المؤتمر يمثل بالنسبة إلى البريطانيين وإلى المصريين فرصًا من نوع مختلف. فعلى سبيل المثال، رأی د. فرانك مادن Dr Frank Madden، الجراح الإنجليزي وعميد كلية الطب بقصر العيني، المؤتمرَ فرصةً من الفرص العديدة المناسبة للاحتفاء بالإمبريالية البريطانية.25
بيد أن المصريين –على عكس البريطانيين – رأوا المؤتمر فرصة ذهبية كي يرى العالم كيف كانوا “بوصفهم أطباء” يرون أنفسهم على قدم الندية المهنية والطبية أعضاء المجتمع الطبي العالمي، كذلك فرصة لتبادل الأفكار، بوصفهم محاورين أنداد، حول الاكتشافات والتطورات والتحديات والأزمات الطبية المحيطة بمختلف الميادين الطبية، وقد قال الرئيس المصري للمؤتمر في كلمته الافتتاحية: “من مصلحة مصر ألا تتخلف عن ركب هذه الحركة البالغة الإنسانية“.26 من الواضح أن زاوية نظر المصريين إلى هذا المؤتمر كانت مختلفة عن تلك التي كانت للبريطانيين.
وإذن، يمثل مؤتمر عام ١٩٢٨ لحظة تتويج لجهد المصريين في التدرب والممارسة الطبية؛ إذ يتولون بأنفسهم عرض نتاج هذا الجهد أمام أنظار العالم بصفته إنجازًا مصريًا. كان الطب المصري الحديث – كما عُرض في واجهة المؤتمر – وسيلة تنفيس عن مطامح سياسية، تمثلت بالنسبة إلى الإنجليز في إثبات نجاح الإمبريالية، وبالنسبة إلى المصريين، في البرهنة على إنجازاتهم القومية.
أمكن للأطباء المصريين – بفضل هويتهم المهنية – أن يرتكزوا إلى السلطة الطبية الممنوحة من مؤسسة مُستعمَرة كالقصر العيني – بوصفها قاعدة لبناء ما يُعَدُّ في النهاية خطابًا قوميًا متعلقًا بـ (النوع)، مبررًا بمنطق طبي. يمكننا أن نرى بوضوح هذا الخطاب القومي – الطبي المعني بـ “الأمومة الجمهورية” (republican motherhood) حين نقوم بتحليل النصائح الإرشادية الموجهة للزوجة – الأم المصرية، التي تصبح – إن استمعت للنصيحة – “المرأة المصرية الحديثة” المتخَذة مثالاً نموذجيًا.27
يمكن تصنيف هذه المقالات الطبية الرائجة إلى ثلاث فئات بشكل عام، ألا وهي الأمومة، والحياة المنزلية، وأسلوب تصرف المرأة واعتنائها بزينتها، وسوف تقتصر هذه المقالة على مناقشة جانب الأمومة فقط. لا يوجد أي نقص، بل هناك وفرة مبالغ فيها، في النصائح الطبية الموجهة إلى النساء المصريات، تلك التي تعلمهن كيف يصبحن أمهات يتولين رعاية أطفالهن بكفاءة. بل ولا تخلو أية مقالة من المقالات التي تتناول المؤثرات الحاسمة في صحة الطفل من ربطها بصحة الأم. تشجع التوصيات الطبية الأم على ممارسة الرياضة، والالتزام بنظام غذائي صحي (باستعمال جدول يُفصِّل فئات الغذاء ونسبها)، والابتعاد عن الأطعمة الدسمة المزعجة للهضم، وعلي “العناية الخاصة” بنفسها. وكانت أكثر التوصيات شيوعًا هي دعوة الأم إلى الاهتمام بممارسة رياضة المشي يوميًا في الهواء الطلق، لمدة لا تزيد عن ساعة.
توصَى الأم المرضعة، كما توصَى المرأة الحامل، بالعناية بنفسها، في الأساس لكي تؤَمِّن إنتاج كمية وافرة من لبن الثدي من أجل وليدها الذي هو في طور النمو. إن “لبن الثدي المثالي” لا يجعل الطفل ينام جيدًا فقط، وإنما يمده أيضًا بالغذاء السليم، بشرط أن تكون الأم نشطة وسليمة الصحة. وتقوم مقالات عديدة بتعنيف الأمهات اللآتي لا يتوخين الحرص فيما يتعلق بعاداتهن الغذائية، وتبادر بعرض المخاطر التي تتعرض لها صحة الطفل نتيجة التغذية الخاطئة، مثل التغذية الزائدة أو الناقصة عن الحد، التغذية بدون مواعيد، اللبن غير المطهر، زجاجات الرضاعة غير المعقمة، والتغذية عند بكاء الطفل.
تعطي إحدى هذه المقالات أبلغ ملخص، على النحو الآتي: “إن الحياة في سنوات الطفولة المبكرة مهددة دومًا بسوء الصحة، التي إن لم يتم تداركها، تؤدي إلى الوفاة. إن قمتن أيتها الأمهات بإتباع إرشادات الصحة السليمة فإن هذا سوف يمنع حدوث هذه المخاطر ويوجهكن إلى كيفية تربية أطفالكن، بقدر ما علمتنا التجربة وعلمنا الطب. 28 [ تعذر الحصول على عدد المجلة التي نشرت المقالة المتضمنة للعبارة المقتبسة هنا (انظر/ انظري هامش ٢٨)، ولهذا يرد الاقتباس هنا مترجمًا من الإنجليزية وليس مطابقًا للنص العربي الأصلي.] كما تتولى مقالات عديدة تحذير الأمهات المرضعات من إجهاد أجسادهن بأية “أعمال منهكة” أخرى، مثل تنظيف المنزل، حيث إن هذه تقلل من قوتين، وبالتالي من الفائدة الغذائية للرضيع.
ثمة افتراض ضمني في هذا النقاش بشأن الأم الحامل أو المرضعة، ألا وهو تميز الأمهات بضعف التكوين الجسماني، وهو افتراض كان قائمًا بلا تعذر في علم العصر الفيكتوري.29 ويشرح أحد الأطباء المصريين أن “المرأة في كل البلاد تتميز عن الرجل بضعفها البدني والطبيعي“. 30 وفي الواقع، وبتباين صارخ مع المرأة البدوية التي تضع وليدها في يسر شديد “حتى وهي سائرة على الطريق“، فإن امرأة الطبقة الوسطى في المدن كانت تنصح بأن تقيم في فراشها أربعين يومًا بعد الولادة وإلا “تعرضت صحتها للضرر“.
لم تكن المرأة ضعيفة بدنيًا فحسب، وإنما عاطفيًا كذلك. إن المرأة الحامل أو المرضعة هشة إلى درجة أن الاختلال في توازنها الجسدي أو العاطفي قد يلحق الضرر بطفلها، فإنها “كما تكون صحتها تكون صحة جنينها وطفلها، وكلما يضعفها جسمًا ويتعبها عقلاً يضعف جنينها وطفلها“.31 كما أنه في حالة الأم التي تنتظر مولودًا فإن الطفل يرث ضعف البنية عن أمه، إلا إذا قامت الأم باتخاذ الخطوات اللازمة كي تبقى في حالة استقرار جسدي وصحي ونفسي.32 وبالنسبة إلى الأم المرضع، فإنها “إنْ اضطرب عقلها بالخوف أو الحزن أو الغضب أو أي سبب آخر من الأسباب التي تؤثر في النفس يعد لبنها صالحًا لطفلها وقد يصير سمًا زعافًا يقتله“.
تروي إحدى المقالات قصة طفل أصابته الوفاة بسبب لبن أمه الذي تسمم نتيجة لحزنها على أختها التي ماتت فجأة. وأخرى تلخص مقالة نشرت في مطبوعة لندنية تعرض “مزية التربية الإنجليزية و(التي) يليق بكل ربات البيوت المصريات أن يطالعنها” ويستفدن منها، بينما تعطي مقالة أخرى أبلغ مثل دال على السلطة المرجعية التي كانت لطب الاستعمار على جسد النساء المصريات، إذ تحكي قصة امرأة إنجليزية حامل تقوم بزيارة طبيبها الإنجليزي. حيث إن “كثيرًا من السيدات يغلب عليهن في طور الحمل الخمود وفتور القوى…. فإنهن لا شغل لهن فيه سوى مساورة الأوهام ومطاردة الخيالات“، ويقوم الطبيب بإعطاء السيدة الحامل نصيحة تتبعها عادة معظم النساء البريطانيات. ويأتي على لسان السيدة:
قراءتها الانفعالات السيئة الشديدة، كان اليونان أعقل منا لأنهم كانوا يحيطون نساءهم في فترة الحمل بالتماثيل والصور الجميلة المنسوبة لمشاهير الأساتذة في فن التصوير. (لم يجزم الطبيبٍ) بأن هذا كان سببًا في إتيان أولادهم حسان الخلقة، و(لكنه قال)إذا كان مثل هذه الأشياء البديعة الصنع يحدث في(النفوس) شعور الارتياح والانبساط ويكون فيها مدعاة اعتدال الأمزجة وتوافق الطبائع، فلم لا يكون من موجبات حفظ صحة (المرأة الحامل).33
تُقَدَّم نصيحة الطبيب البريطاني ليس فقط بوصفها صادرة عن معرفة طبية مستندة إلى سلطة آمرة، وإنما كذلك بوصفها المفتاح لتشكيل هوية نسائية ناجحة. إذ تكتشف السيدة الإنجليزية الحامل، التي رأت “حكمة ومعرفة” في نصيحة الطبيب، أنه كان مصيبًا في تشخيصه فقد “تغيرت بسبب نصيحته، وبدأت ترى جمال الطبيعة يوم أن خرجت للتنزه، وبدأت تشعر “بالحنان والرحمة“، في حين أنها كانت قبل نصيحته “حزينة الفؤاد متبلبلة الأفكار“. 34
بحديث الأطباء إلى النساء المصريات، وعنهن، بواسطة خطاب طبي رائج، فإنهم ما كانوا إلا يسيرون على امتداد المنطق الذي يرى الطب الحديث تدخلاً ضروريًا لمصلحة الكيان الجمعي المصري أو “الأمة” كما حددوا الكلمة بأنفسهم. في حين لم يكن هذا الخطاب سياسيًا بصورة هم على وعي بها، كان الأطباء بلا شك واعين وفخورين بحسهم الخاص بـ “واجبهم القومي” في علاج المرضى بوصفهم خبراء في الطب، وفي الوقت نفسه واجبهم في تعليم الأمهات المصريات عن كيفية عمل المرض نفسه، وبالتالي تمكينهن من منع المرض عبر سلوكهن اليومي. كان هذا الواجب الطبي يمثل – في آن واحد – جزءًا من طبيعة عمل المهني الطبي، كما أصبح يتطلب باسم العصرية مزيدًا من الواجبات تؤديها الأم المصرية. إن هذا هو الطريق الذي تم من خلاله جعل الثقافة المصرية شأنًا علميًا بلغة عصرية، (ومنوَّعة gendered)، تمنح الصدقية والشرعية لرؤية مرتبطة بطبقة معينة، تخصص أنواع السلوك والقيم “اللائقة” و“غير اللائقة” للنساء والرجال المصريين، بمفردات شديدة القومية.
على سبيل التلخيص، “المرأة المصرية العصرية“- سواء كانت الحكيمة أم ربة المنزل – تم جعلها في وضع تابع عن طريق إعادة تشكيل النظرة التي ترى طبيعة المرأة تتصف بالرعاية والعناية والأمومة، وهي إعادة تمت بفعل التحديث الطبي.
قامت الإصلاحات في سبيل الأنجلزة، التي فرضت من جهة خارجية، وقامت كذلك النخبة الطبية المحلية بمشاركتها الفعالة على الجبهة الداخلية (وهو دور لم يلق الملاحظة من قبل)، قام كل منهما بتأدية دوره في هذا الاستعمار لأجساد النساء المصريات. لقد حاولت هذه الدراسة أن تحلل نقاط التماس بين (النوع) والطب والقومية خلال الحقبة الاستعمارية في مصر، وتساعد هذه المنظومة على تفسير ظهور “الطبيب المصري المصري“، وظهور خطاب قومي – طبي معني بدور المرأة في الحياة المنزلية، وظهور ثقافة من السلوك والقيم القومية مشكلة حسب (النوع) ومبنية على التبرير بمنطق طبي.
ومن خلال مجموعة من الإسهامات النظرية المفيدة في مجال دراسات (النوع) والعلم gender and science)، ودراسات ثقافات ما بعد الاستعمار (postcolonial cultural studies)، وتاريخ الطب الإستعماري (colonial medical history)، حاولت هذه الدراسة طرح ثلاث مزاعم مترابطة. أولاً، إن تجربة مصر في اللقاء مع الإستعمار قد عمقت العلاقة التكافلية بين الطب الحديث وعملية بناء الهيمنة من قبل الدولة، التي بدأت على يد محمد علي، بينما اقتضت طبيعة طب الاستعمار القيام بأنجلزة الطب المصري المؤسسي، وإن لم يحدث ذلك على حساب الممارسين الأهليين تمامًا، وبالتالي، أثبت طب الاستعمار أنه أداة من أدوات الهيمنة، ليس فقط بالنسبة إلى الإنجليز وإنما بالنسبة إلى فئة من الرجال المصريين ذوي أوضاع متميزة.
ثانيًا، قام التحديث الطبي – بصفته عملية تاريخية – بتسجيل وتقنين الامتيازات الذكورية في قلب السيرورات الداخلية للمؤسسات الطبية حتى صارت السبل إلى القوة/ السلطة مطوقة، و(منوّعة gendered) ومتسمة باللامساواة. أي أن التحديث الطبي أعاد تعريف أدوار (النوع) وأعاد تشكيل البنى البطريركية بصورة أدت في النهاية إلى تثبيت أقوى تعريف أنطولوجي للمرأة، ألا وهو الأم (Mother)، بلغة الطب. فكانت هذه الفئة الأنطولوجية لـ “المرأة المصرية العصرية” عند منعطف القرن، في كثير من نواحيها، بمثابة نسخة مُحَدثَّة من الدور المنزلي التقليدي. قامت العقلنة الطبية لـ “الأمومة الجمهورية” بضعضعة دور سالف أكثر نشاطًا للمرأة؛ الأمر الذي يوضح الكثير عن “سياسات الحداثة” أو الطرق التي أدخلت بها الحداثة أشكالاً جديدة وخفية من التحكم الاجتماعي في النساء العصريات، وهي طرق تمر غالبًا دون ملاحظة بفضل افتراض وجود نزعة إلى الخير تصاحب بالضرورة التغيرات العصرية.٣٥
وأخيرًا، لا يكفي في تفسيرنا لفئة “المرأة المصرية العصرية” أن ننحصر في إطار الطب والقومية فقط. وقد حاولت هذه الدراسة أن تُظهر كيف أن (النوع) تأثر أيضًا بالتغيرات الاجتماعية – الاقتصادية، التي كان لها انعكاسات أبعد من مجرد عملية إدخال القواعد المهنية الحديثة، تشمل أنماط استهلاك جديدة، ازدياد نزعة التمدن، وبالتالي تغيرات (أو عمليات تشييء reifications) للحيز الاجتماعي (أي بالتالي الحيز المنوّع gendered space). وتشير دراسة راسل Russel المؤخرة –عن حق إلى أن عملية خلق “امرأة [مصرية] جديدة” – وهي امرأة حضرية تجسد القيم التقليدية إلا أنها تختلف عن جدتها من حيث قدرتها على إدارة بيتها، وتربية أطفالها، والقيام بدور شريكة الحياة لزوجها، وبالتالي خدمة بلدها بأدائها كل هذه الواجبات – ارتبطت هذه العملية – ضمن أشياء أخرى – بأنماط استهلاك جديدة.36 بيد أنه في هذه المنظومة التي تجمع الرأسمالية والقومية و(النوع) لا يوجد ذكر للدور الذي لعبه الطب. إن الدراسة التي بين أيدينا تُظهر كيف هيأ الطبُ السلطة التي تولت تعزيز علاقة الرأسمالية بالقومية في إطار خطاب معين له رواجه، وعلى وجه التحديد عبر تحويل أدوار (النوع) إلى شأن طبي، باسم الأمة المصرية الحديثة.
* Hibba Abugideiri, “The Scientisation of Culture: Colonial Medicine’s Construction of Egyptian Womanhood, 1893- 1929”, in Gender and History, 16: 1 (April 2004), 83 -98.
____________________________________________________
1 – انظر/ انظري:
Hibba Eltigani Abugideiri, “Egyptian Women & the Science Question: Gender in the Making of Colonized Medicine, 1893-1929″, PhD Dissertation, (Georgetown University, 2001).
2 – المصادر الآتية تستحق التنويه:
Peter Mansfield, The British in Egypt (New York: Holt, Rinehart & Winston, 1972); John Marlow, Cromer in Egypt (New York: Praeger Publishers, 1970); Afaf Lutfi Sayyid-Marsot, Egypt and Crome:: A Study of Anglo-Egyptian Relations (New York: Praeger Publishers, 1968); Robert Tignor, Modernization and British Colonial Rule in Egypt, 1882-1914 (Princeton: Princeton University Press, 1966).
المصادر الآتية تناقش الاستعمار البريطاني وعلاقته بالتعليم المصري:
Judith Cochran, Education in Egypt (London: Croom Helm, 1986); James Heyworth- Dunne, An Introduction to the History of Education in Modern Egypt (London: Frank Cass & Co. Ltd., 1968); Georgie D. Hyde, Education in Modern Egypt: Ideals and Realities (London: Routledge & Kegan Paul, 1978); Donald M. Reid, “Education and Career Choices of Egyptian Students, 1882-1922”, International Journal of Middle East Studies 8 (1977), 349-78: Michael Richard Van Vleck, “British Educational Policy in Egypt relative to British Imperialism in Egypt 1882-1922” (PhD.diss., University of Wisconsin-Madison, 1990).
3 – انظر/ انظري:
Timothy Mitchell, Colonizing Egypt (Cambridge: Cambridge University Press, 1988).
4 – انظر/ انظري المصادر الآتية:
Leila Ahmed, Women and Gender in Islam: Historical Roots of a Modern Debate (New Haven: Yale University Press, 1992); Margot Badran, Feminism, Islam and Nation: Gender and the Making of Egypt (Princeton: Princeton University Press, 1995)
Beth Baron, The Women’s Awakening in Egypt: Culture, Society and the Press (New Haven: Yale University Press, 1994).
5 – انظر/ انظري:
Ellen Amster, “Poison, Jinn and the Sleeping Child: Women’s Traditional Medicine and French Colonialism in Morocco, 1912-1935” (University of Wisconsin-Milwaukee, forthcoming): Nancy Elizabeth Gallagher, Medicine and Power in Tunisia, 1790- 1900 (Cambridge: Cambridge University Press, 1983); Cyrus Schayegh, “The Rise of Scientific Authority: Bio- Medical Bases of the Iranian Modernist Re-Definition of Gender, 1900s-1940s” (Columbia University, forthcoming); Suzanne Stimler, “Gender and Medicine in Protectorate Morocco: Maternities, Muwallidat, and “Modern” Mothering, 1936- 1956″ (Georgetown University, forthcoming): Elise G. Young, “From Daya to Doctor: Health, Gender, and the Race for Control of Knowledge Making in Mandatory Palestine, Thamyris 4 (1997) 347- 58.
6 – انظر/ انظري:
Sylvia Chiffoleau, “Médecines et médecins en egypte: Construction d’une identité professionnelle et projet de médicalisation (PhD. Diss., University of Paris, 1994). Khaled Fahmy, “Women, Medicine, and Power in Nineteenth Century Egypt”, in Lila Abu Lughod (ed.), Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East (Princeton: Princeton University Press, 1998) 35- 72; Nancy Elizabeth Gallagher, Egypt’s Other Wars: Epidemics and the Politics of Public Health (Syracuse: Syracuse University Press, 1990); Serge Jagailloux, La Médicalization de l’Egypte au XIXe Siècle, 1798- 1918 (Paris: Editions Recherche sur les Civilizations, 1986); Laverne Kuhnke, Lives at Risk: Public Health in Nineteenth Century Egypt (Berkley: University of California Press, 1990); Amira El Azhary Sonbol, The Creation of a Medical Profession in Egypt, 1800- 1922 (New York: Syracuse University Press, 1991).
7 – انظر/ انظري:
M. Jeanne Peterson, The Medical Profession in Mid- Victorian London (Berkeley: University of California Press, 1978).
8 – انظر/ انظري:
E. Cooper Perry Report Upon the Hospital and Medical School in Cairo (Cairo: National Printing Department, 1911).
9 – Abugideiri, “Egyptian Women and the Science Question”, 106- 22
10 – المصدر نفسه، ص 168 –۲۱۷.
11 – الأرقام المستخدمة هنا مستمدة من بيانات موجودة في جدول ۲ مـن Reid, “Education and Career Choices” المذكور في هامش رقم ٢ أعلاه، ص 363.
12 – Amir Boktor, The Development and Expansion of Education in the United Arab Republic (Cairo: The American University in Cairo Press, 1963), 99.
13 – Abugideiri, “Egyptian Women and the Science Question”, 236- 43.
14 – انظر/ انظري:
Naguib Mahfouz, The History of Medical Education in Egypt (Cairo Government Press, 1935).
15 – Abugideiri, “Egyptian Women and the Science Question”, 259- 64.
16 – David Arnold, Colonizing the Body: State Medicine and Epidemic Disease in Nineteenth Century India (Berkley: University of California Press, 1993), 10.
17 – Abugideiri, “Egyptian Women and the Science Question”, 323- 9
18 – المصدر نفسه، ص 404.
19 – Annual Report 1922, 49, 86: Annual Report on the Work of the Department of Health for 1927 (Cairo: Government Press, 1930), 185, 189
20 – Annual Report on the Work of the Department of Health for 1927 (Cairo: Government Press, 1930), 165, 189.
۲۱ – انظر/ انظري: Arnold, Colonizing the Body المذكور أعلاه في هامش 16.
22 – Abugideiri, “Egyptian Women and the Science Question”, 286.
23 – Sonbol, The Creation of a Medical Profession in Egypt, 1800- 1922, 85.
24 – المجلة الطبية المصرية، عدد يناير ۱۹۲٨.
25 – Abugideiri, “Egyptian Women and the Science Question”, 294- 6.
26 – Bulletin du Congres I (1928), 2.
۲۷ – هذا التعبير مستعار من لوندا شيبنجر Londa Shiebinger الذي أطلقه لكي يشرح كيف كانـت بعض الاكتشافات العلمية الغربية في علم النباتات وعلم التشريح خلال القرن الثامن عشـر تستخدم بوصفها تبريرات علمية لتيارات سياسية – اجتماعية أوسع. انظري:
Londa Shiebinger, Nature’s Body (Boston: Becon Press, 1993).
28 – المجلة الصحية، عدد أبريل 1901.
۲۹ – انظر/ انظري:
Ornella Moscucci, The Science of Woman: Gynecology and Gender in England. 1800 – 1929 (Cambridge: Cambridge University Press, 1990).
30 – البلاغ الأسبوعي، عدد أبريل ۱۹۰۷.
31 – المقتطف، عدد أبريل ۱۹۰۰.
۳۲ – المقتطف، عدد يناير ۱۹۰۲.
33 – المقتطف، عدد مارس ۱۹۰۰.
34 – المصدر نفسه.
35 – انظر/ انظري:
Lila Abu-Lughod, “Introduction”, in Lila Abu Lughod (ed.), Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East (Cairo: The American University in Cairo Press 1998) 3- 31.
36 – انظر/ انظري:
Mona L. Russell, “Creating the New Woman: Consumerisin, Education, and National Identity in Egypt, 1863-1922” (PhD Dissertation, Georgetown University, 1997).