التاريخ الاجتماعي والثقافي لفترة 1890

المقدمة :

تمثل هذه الدراسة أهمية بالغة لسببين، الأول أن اتجاه المدرسة الحديثة لدراسة التاريخ يركز على الأساس الاجتماعي في رصد الأحداث ونقدها وتحليلها والوصول إلى أعماقها، والثاني أن تلك الفترة الزمنية التي تناولتها الدراسة لها من الكيان الإيجابي لأنها تنهى قرناً عاشت فيه مصر تحت أوضاع داخلية وخارجية مختلفة منذ أن أسس نهضتها محمد على وحتى خضوعها للاحتلال الإنجليزي، ومن ثم فإن هذا التوقيت تجمع فيه حصاد التفاعلات بين البشر والظروف التي خضعوا لها.

والحقيقة أنه عندما بدأت التسعينات من القرن التاسع عشر كانت القوى الاجتماعية قد أصبح لها الكيان الخاص الذي خضع لمختلف المؤثرات. كما كانت للمتغيرات التي طرأت على المجتمع نتائجها التي انعكست على الحراك الاجتماعي الذي وضح في الهجرة من الداخل إلى المدن التي اتسعت مؤسساتها وأصبح لها البريق الجذاب، مما أفضى إلى وجود النشاطات الاجتماعية، وتمثلت في الجمعيات الخيرية. وعلى جانب آخر فإن الحركة التعليمية في هذه المرحلة خضعت لسلطات الاحتلال الإنجليزي الذي حال دون النهوض بالتعليم واتخذ الإجراءات للحد من انتشاره، وبالطبع فإن تعليم المرأة شمل هذا المنهج.

ورغم المعوقات، فإن المرأة المثقفة زاولت نشاطها ونزلت إلى ميدان الصحافة وخاصة النسائية التي ولدت مع الشاميات، كذلك تألقت إبداعات الأديبات ودللت على التفتح والعقلانية. أما عن الأحوال الشخصية، فقد واجهت إشكاليات اختصت بالإحجام عن الزواج والإسراف في كل من تعدد الزوجات والطلاق، ورد الفعل في الصحوة التي حمل لواءها محمد عبده وتبعه قاسم أمين، وتلك المواجهة الفكرية التي أقدم عليها الأخير عندما أطلق سهامه بشأن تحرير المرأة في المشهد الأخير من القرن التاسع عشر.

 

مع العقد الأخير من القرن التاسع عشر كان البناء الاجتماعي قد اتخذ وضعاً ثابتاً، حيث تبلورت كل قوة من قوى المجتمع في شكل أعطاها السمات المتميزة، وتمثلت هذه القوى في كبار ملاك الأراضيالذواتوالأعيان والتجار والمثقفين والفلاحين والحرفيين، أيضًا كان للأجانب وضعهم الخاص، ومن ثم فإن الظروف التي عاشت في كنفها تلك القوى فرضت نفسها على الأرض المصرية إبان فترة الدراسة.

ومعروف كيف تدرجت الملكية الفردية منذ عصر محمد على وحتى فترة حكم توفيق عندما صدر قانون ١٤ سبتمبر ۱۸۸۰ الذي قضى بتسجيل الأراضي البور لمن يدفع عنها ضريبة الخراج. وبذلك دعمت الرأسمالية الزراعية، وساعدها على صب نشاطها في المجال الزراعي مسألة الري واهتمام الدولة به، مما ترتب عليه زيادة مساحة الأراضي، كذلك جاءت هذه الزيادة نتيجة للحرية الاقتصادية واتجاه التخصص والمحاصيل النقدية التي تمثلت في القطن والسلع الرأسمالية وارتباط ذلك بالسوق الأجنبية، بالإضافة إلى تغلغل الرأسمالية الأوربية بمشروعاتها المالية والاقتصادية داخل مصر والتي اعتمد عليها ملاك الأراضي للحصول على القروض التي مولوا بها زراعاتهم الواسعة ومضارباتهم بالأرض، وبالتالي انتهى الأمر بأن انصب الاهتمام على الأرض وركزت الرأسمالية عليها .

وعندما احتلت بريطانيا مصر عام ۱۸٨٢ خضعت للسياسة التي خططتها لندن بشأن الاهتمام بالزراعة وخاصة القطن لحاجة مصانعها إليه، ومن ثم أخذ كبار ملاك الأراضي موقعهم المهم على الساحة الاقتصادية، وعليه تولدت العلاقة غير العدائية بين هذه القوة والانجليز، فكانت لها المكانة لدى كرومر المعتمد البريطاني في مصر والذي سيطر على مقدراتها منذ الاحتلال وحتى رحيله عنها، حيث وجد في تلك القوة العنصر المتجاوب، فأطلق عليهاالجيروندوهم أصحاب الاتجاه المعتدل في الثورة الفرنسية. وقد شاركت هذه القوة في مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية ومجالس المديريات.

من اللافت للنظر أنه عندما وقعت عيون سلطات الاحتلال على كبار ملاك الأراضي من المصريين للتعاون معها، كان أيضًا بهدف استبعاد العنصر التركي بقدر المستطاع لما عرف عنه من التسلط والاستبداد، فلم يعد يشكل الأتراك مركزاً داخل الجيش الذي أنشئ عقب الاحتلال، ولم يشغلوا المناصب التي تولاها الأجانب خاصة الإنجليز والفرنسيين، زد على ذلك أنه إبان هذه الفترة كان قد توقف على وجه التقريب قدوم الأتراك إلى مصر. والواقع أن هؤلاء الأتراك والذين كانوا قد سبق أن استحوذوا على المكانة المرموقة وامتلكوا أجود الأراضي وأفضلها بدأوا يفقدون هُويتهم تدريجياً ويذوبون مع المصريين، بمعنى أنه حدث اختلاط بين العنصرين عن طريق الزواج مثلما حدث في زواج سعد زغلول من صفية ابنة مصطفى فهمي رئيس النظاروبالتالي أصبح الأتراك متمصرين. وبالطبع لم تدخل أسرة محمد على تحت هذا الشكل، إذ استمرت حريصة على طابعها التركي شكلاً وموضوعاً لفترة طويلة.

وبناء على ما سبق فإن الأرستقراطية الزراعية من كبار ملاك الأراضي أصبحت تمثل الطبقة العليا التي لعبت دوراً مهماً في الحياة المصرية، وكان معظم باشاواتها غائبين عن أراضيهم، يعيشون في القاهرة والمدن الكبرى، ويشغلون المناصب الرفيعة, وهم لا يتحملون تجاه فلاحيهم أية مسئولية سواء اقتصادية أم اجتماعية، وإنما اهتموا بأنفسهم، والبعض منهم راح يقلد الأتراك في معيشتهم، والبعض الآخر تأثر بالأوربيين في جميع أشكال المعيشة بما فيها العادات والتقاليد، وجاء هذا الأمر نتيجة إما لسفرهم إلى الخارج أو لمحاكاتهم للأجانب المقيمين في مصر.

وبجوار هؤلاء وجد الأعيان، ويدخل تحتهم العمد والمشايخ الذين كانوا من أقوى العناصر الريفية نفوذاً وثراء، وتمتعوا بسلطات وامتيازات كبيرة، وبمكانة اجتماعية عالية، وامتلكوا الأراضي ونهموا في توسيعها، ومثلوا حلقة اتصال بين الحكومة والفلاحين لما لهم من مركز متميز بين الناس، ووضح نفوذهم السياسي حيث أنيط إليهم منذ البداية اختيار نواب المجالس التشريعية. وعلى جانب آخر، فإن الإنجليز قد ألقوا على كاهل هؤلاء أعباء إدارية، فخضعوا لأوامرهم ونفذوا سياستهم، وفي الوقت نفسه منحوهم بعض الاختصاصات القضائية في مواد العقوبات على فلاحيهم بهدف خدمة أعراض السياسة البريطانية بما يتفق مع مصلحة الزراعة.

وتمتع مشايخ البدو بما حظى به مشايخ الريف، ومارسوا سلطاتهم في المناطق التي امتلكوا أراضيها، واستطاع بعضهم أن يحصل على وظائف كمفتشين ومديرين مكنتهم من أن يزدادوا رفعة، كذلك فإنهم ترددوا على المدن الرئيسية ومارسوا الحياة فيها وحاول الأعيان تقليد الذوات فيما يتعلق بالمشاركة في الحياة الاجتماعية وفقاً للأنماط التي فرضت نفسها على هذه الطبقة، فتزوجوا منهم، فأصبح هناك إنتاج جديد دأب على السعي لإثبات ذاته.

أما عن التجار، فإنهم تأثروا بالظروف الاقتصادية التي عاشها المجتمع وخاصة وكما ذكرنا أن الرأسمالية المصرية ارتكزت على الأصول الزراعية، كما أن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي صحبها غزو الرأسمالية الأوربية وسيطرتها على السوق قد أثرت تأثيراً واضحاً على أوضاع التجار المصريين الذين عانوا من الضرائب من ناحية ومن سطوة الأجانب أصحاب الخبرة في الشئون التجارية من ناحية أخرى. ولذا فإن البورجوازية التجارية المصرية لم تتمكن من أن تقوم بالدور الإيجابي أمام العقبات التي واجهتها، ومما يذكر أن استثمارات أموال التجار لم تكن توظف جميعها في المجال التجاري، وإنما ذهب الكثير منها إلى امتلاك الأراضي، وذلك لأن المخاطرة بالنسبة لهم في مجال السوق لم تكن بالأمر الهين، ومن ثم قلت المضاربات التجارية، أيضا اعتقد البعض أنها مرتبطة بالربا خاصة إذا كان المكسب هو رائدها.

أما عن المثقفين، فمن المعروف أنهم قوة جديدة على المجتمع لم تكن لها جذور قبل القرن التاسع عشر، وعرفوا باسم الأفندية، وغالبيتهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى، وامتلكوا العوامل الخاصة بالبناء العقلي، واكتسبوا ثقافاتهم إما من خلال البعثات العلمية للخارج أو من التعليم في الداخل، كما كان قربهم من الخبرات الأجنبية التي استوردتها مصر له أكبر الأثر في تكوينهم. وقد حرصوا على تولى الوظائف الحكومية لما لها من أهمية وزهو، حيث كان لأصحابها المركز المرموق في المجتمع، وعانوا في فترة الاحتلال الإنجليزي من تسلط الأجانب على الوظائف الكبيرة، كذلك فإنهم امتهنوا المهن الحرة، فكان منهم الأطباء والصيادلة والمهندسون والمدرسون والمحامون والصحفيون، ومما يسجل أنهم تولوا هندسة الحركة الوطنية ضد الاحتلال كل وفقًا لميدان العمل الذي كان يمتهنه، بالإضافة إلى دورهم في الحياة الثقافية، وقد وضح ذلك تماماً على أصحاب المهنتين الأخيرتين.

أما عن الفلاحين، فقد مثلوا السواد الأعظم من الشعب، وعانوا طوال تاريخهم، وأثقلوا بالديون التي لجأوا إليها ليسددوا ما عليهم من ضرائب، فتدهورت ملكياتهم الصغيرة بفضل أحكام المحاكم المختلطة التي قست عليهم. ورغم أنه في عام 1893 ألغيت السخرة رسمياً، فإنها مورست لحالات المنفعة العامة، وذلك عند فيضان النيل وهجوم الجراد وظهور دودة القطن، أيضاً فقد ألغي استخدام الكرباج، لكنه عند التنفيذ كان يحدث الاستثناء. وجرت بعض المحاولات لتخفيف الضرائب، وحاول الإنجليز أن يروجوا بأنهم يعملون لمصلحة الفلاحين الذين أطلقوا عليهمأصحاب الجلاليب الزرقاءومما يسجل أن ما أقدمت عليه سياسة الاحتلال من حيث الاهتمام بالزراعة وخاصة القطن كان المحرك للمحافظة على من يزرعون هذا المحصول، ومن ثم حدث التوسع في مشروعات الري من ناحية والاهتمام بالفلاحين من ناحية أخرى لدرجةوكما ذكرنا أنها أعطت للعمد اختصاصات قضائية معينة حتى لا يترك من لديه قضايا من الفلاحين الزراعة ويذهبون إلى المحاكم في المدن فتتأثر الأرض بغيابهم ويقل عطاؤهم لها. وكان لذلك أثره في الريف لأن جهل العمد بالقانون والحساسيات بين العائلات والمصالح الشخصية أسقطت هذا النظام، لذا سعت سلطات الاحتلال في إنشاء المحاكم المختلطة فيما بعد.

أما عن الحرفيين، فمن المسلم به أن الرأسمالية المصرية لم تستثمر أموالها في الصناعة نظراً للمعوقات التي لاقتها سواء ما يخص الضرائب أم رواج المنتجات الأجنبية المتقنة التي غمرت الأسواق، ولذلك فإن الحرف الصناعية لم تعد تجد لها المكانة التي كانت تشغلها من قبل. وسرعان ما سقطت طوائف الحرف نتيجة للظروف التي مرت بها مصر في أواخر القرن التاسع عشر والتي تحكم فيها الاحتلال، كذلك فقد وضعت النظم التي استبعدت أن يكون هناك وسيط بين الإدارة والحرفيين, ووجدت المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية.

وفي عام ١٨٩٠ صدر القانون الذي تقررت فيه حرية العمل والصناعة، إذ أعلنت الحكومة عن منحها الحرية لجميع الحرف والمهن، وأسقطت نظام الاحتكار الذي كانت تتولاه الطوائف. وقد نتج عن ذلك ظاهرة اجتماعية، حيث بدأ انقراض امتلاك العبيد عندما أصبحت العمالة حرة، وحل الخدم مكان هؤلاء العبيد، وفي عام 1896 تمت مناقشة القوانين المتعلقة بالأخيرين، وما لبث أن أُقصيت العبودية.

وكان للإجراءات الحكومية نتائجها الإيجابية، إذ فتحت الأبواب أمام أصحاب الحرف للنزوح إلى المدينة، وتمكنت المشروعات الكبيرة من أن تستقطبهم، وبالتالي توحدوا وخضعوا لنظم أعدتهم لأن يخلقوا لأنفسهم وضعاً جديداً، وبناء على الظروف الصعبة التي خضعوا لها تحركوا، ففي عام ١٨٩٤ أضرب عمال الفحم والكراكات بشركة قناة السويس عن العمل مرتين بسبب سوء معاملة رؤسائهم وكثرة أعمالهم وقلة أجورهم، وشكوا للمحافظ الذي لم يستجب لهم، فحاول عمال الكراكات إغراقها في البوغاز، ولكن دفع لهم بقوة عسكرية أمكنها وأد الحركة. وفي العام نفسه أضرب عمال السجائر في القاهرة لانخفاض أجورهم، وتدخل البوليس واستخدم العنف مع العمال، وانتهى الأمر يرفع أجورهم. ومما يذكر أنه في عام 1896 أقدم هؤلاء العمال على تأسيس الجمعية الاقتصادية الشرقية بمصرلرعاية مصالحهم والمحافظة على حقوقهم، وقد توسعت هذه الجمعية واستطاعت أن تقوم بدورها في الإضراب الشهير الذي وقع في ديسمبر عام ١٨٩٩ واستمر حتى فبراير ١٩٠٠، وأسفر عن اتفاق أقر حقوق العمال وأصحاب العمل. وبناء على هذا الاتفاق بزغت الطبقة العمالية الجديدة التي أسهمت بدورها الفعال والإيجابي في الفترة اللاحقة.

أما عن الأجانب، فقد تتابع توافدهم على مصر بكثرة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك مع الانفتاح على الاقتصاد العالمي وتدفق روس الأموال الأجنبية، وعاشوا في أحضان الامتيازات الأجنبية التي كانت سيفًا مسلطًا على رقبة مصر، فلم تستطع أن تفرض عليهم أية ضريبة إلا بعد موافقة الدول صاحبة الامتيازات، وأصبح لمساكنهم حرمتها، تلك التي امتدت إلى محلاتهم، وغدا البوليس المصري مكتوف الأيدي أمامهم، فليس له حق الدخول أو التفتيش إلا ومعه مندوب القنصل, بل وعليه أن يخضع لقرار القنصل أولاً الذي يسمح أولاً يسمح بهذا الإجراء, وتمثلت في تلك الأماكن الرذائل بأنواعها، واتسع نهم القناصل، فأسبغوا حماياتهم على من يطلبونها في مقابل الثمن، وأغاروا على السلطة القضائية، وخاصة بعد أن استغل الأجانب حق تملك العقارات، وتمكنوا من سلبها من المصريين وفقاً لقوانينهم، وجاءت الأحكام القضائية دائماً لصالحهم، وفقدت مصر سلطتها التشريعية عليهم، كذلك دعمت المحاكم المختلطة من وجودهم سواء اقتصادياً أم اجتماعياً.

ولم يكن الأجانب أوربيين فقط، وإنما وجدت عناصر أخرى مثل الأرمن الذين برعوا في التجارة واحتكروا صنف الدخان، ودخل تحت الأوربيين اليونانيون الذين سيطروا على تجارة التجزئة بالإضافة إلى تواجدهم في بورصة الأقطان، والإنجليز الذين برزوا في تجارة المنسوجات الصوفية والقطنية والبياضات والفحم الإنجليزي, والفرنسيون الذين فاض السوق بمنتجاتهم الحريرية والدانتيلات. كما كانت هناك جنسيات أوربية أخرى تنوعت نشاطاتها الاقتصادية.

وتنافس الأجانب في امتلاك الأراضي، حيث كانت المجال المثمر لأموالهم, واستغلوا في ذلك الديون والربا اللذين غرق فيهما الفلاحون. وأيضا اتبعوا الأسلوب نفسه مع الذوات الذين انجرفوا وراء المدنية الحديثة مما أفقدهم الكثير من أراضيهم.

ومما لا شك فيه أن الأجانب وجدوا في الاحتلال المزيد من الأمان، إذ شجع وأيد المشروعات الاستثمارية وخاصة التي تحمل طابع الثقل العمراني، وبالطبع نال المستثمرون الأجانب الحظوة في الاقتصاد المصري إذ وظفوا رأسمالهم جيداً وسيطروا على المشروعات الكبرى وتحكموا فيها.

وقد ارتفع عدد الأجانب في مصر، فوصل في عام 1897 إلى 112,574شخصاً، وعاش أغلبيتهم في المدن الرئيسية وخاصة القاهرة والإسكندرية وبور سعيد والإسماعيلية، نظراً لتمركز النشاط الاقتصادي فيها، وكان لهم الأحياء الخاصة بهم، تلك التي تمتعت بالمميزات العمرانية، أما اليونانيون منهم فإنهم انتشروا كذلك في القرى والنجوع.

وبطبيعة الحال، كان للأجانب التأثير على المجتمع المصري، فحثالتهم أضرت به لما قاموا به من مشاغبات واعتداءات على المصريين، ولم يكن هناك من يردعهم لتمتعهم بالحماية، أما أصحاب المستوى الراقي منهم فقد مثلوا الشكل الذي حاول بعض المصريين الاقتداء به من حيث الصبغة الأوربية ولا سيما المظهر وخاصة الملبس سواء بالنسبة للرجل أو المرأة والسهرات والعادات والتقاليد، ولكن مما يسجل أن ذلك كان محدوداً ووجد النقد من الصحافة، نظراً لتمسك باقي طبقات المجتمع بالأصالة، وهنا حدث رد فعل ثقافي جعل المفكرين يعقدون المقارنات مما أسفر عن وجود صراع تجلت صورته بوضوح مع ختام القرن التاسع عشر، واحتلت قضية تحرير المرأة فيه حيزاً.

مع إسدال الستار على القرن التاسع عشر بدت واضحًة تلك التغييرات التي طرأت على المجتمع المصري، وكان أول ما يلفت النظر ذلك الحراك الاجتماعي والذي ظهر جليا في الهجرة من الريف إلى المدينة وبالذات القاهرة والوجه البحري، فالظروف الاقتصادية الصعبة دفعت إلى الرغبة في الإطاحة بها، بالإضافة إلى الانبهار بالمدينة، وقد شجع المناخ على ذلك، حيث إن التنظيمات التي وضعها الاحتلال كانت في حاجة إلى خدمات ولا سيما ما يختص بالإدارة والمشروعات سواء العامة أم الخاصة بما فيها من عمران، فدخل تحتها المهاجرون الذين تنوع انتماؤهم الطبقي، فهناك العمال الذين جاء معظمهم من الصعيد، وهناك ملاك الأراضي الذين أصبحت لهم بيوت في المدينة وارتبطوا بها لتحقيق مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهناك الموظفون الذين كانوا حريصين على الالتحاق بوظائف الميري.

ونتيجة لذلك ازداد عدد السكان في القاهرة، إذ استقر فيها ما يزيد عن ٤٠٪ من مجموع السكان الحضريين في مصر، أيضا انتعشت الإسكندرية وخاصة بعد إنشاء المجلس البلدي عام ١٨٩٠، وهو نظام أوربي، وبمقتضاه فرضت بعض الضرائب على الأجانب الذين كان لهم من يمثلهم في هذا المجلس، وعن طريقه توسعت الإدارة المحلية وقدمت خدماتها للمدينة فيما يتعلق بالصحة والعمران والثقافة وقد سرى هذا النظام على باقي المدن المصريةومما يذكر أنه بعد أربع سنوات، تمكن أجانب الثغر من تأسيس جمعية الرفق بالحيوان، وتبعتها جمعية أخرى في القاهرة التي أقيم بها أول مستشفى لعلاج داء الكلب. كذلك تقدمت مدن القناة ودمياط ورشيد، ولم تفقد بعض مدن الصعيد أهميتها.

ومن اللافت للنظر أن الحراك الاجتماعي لم يمس فقط الفقراء، وإنما كذلك من هم فوقهم، فقد كان فيما سبق من الصعب أن يتغير الوضع الاجتماعي لشرائح بذاتها، ولكن سرعان ما أصبحت الرغبة في الانتقال إلى أوضاع أفضل هدفاً يسعى وراءه الكثير. أيضا مما يسجل أن هذا الحراك وجه اهتمامه اقتصاديا، ولم يهتم تماماً بالثقافة، ولكن على جانب آخر حدث نوع من التطور بإقصاء جزء من البناء القديم الذي حل مكانه بناء جديد تمثل في شكل من التحضر والتجديد.

وتمخضت عن هذه الأوضاع نشاطات اجتماعية تمثلت في بروز الدور الإيجابي والمتميز الذي أدته الجمعيات الخيرية وذلك بعد أن رسمت سلطات الاحتلال سياستها التي اتسمت بخطوط معينة تحد من التفاعلات الاجتماعية، ومن ثم ألقى على عاتق هذه الجمعيات الأنشطة التي ضمت بين دفتيها التعليم، فأسست المدارس ووضعت لها التخطيط الذي يتفق مع هُويتها، وشجعت الثقافة بمختلف روافدها، وأسهمت في الاقتصاد بإقامة الحفلات الخيرية واليانصيب، وقدمت الخدمات الصحية، وشاركت في معالجة مشكلة البطالة حيث أفسحت المجال لعمل الشباب، وساعدت الفتيات الفقيرات على الزواج، ووجهت عنايتها للأيتام والمحتاجين والمصابين. والواقع أن هذه الجمعيات قام معظمها تحت رعاية أعضاء من الأسرة الحاكمة، واعتمدت في تمويلها الأساسي على تبرعات علية القوم الذين رأوا فيها عملاً له قيمته الدينية من ناحية، ولكي تكون لهم البصمات على المجتمع وعن هذا الطريق يتمتعون بالوضع المتميز مما يؤهلهم لأن يصبحوا على مكانة قريبة من أصحاب القرار من ناحية أخرى.

حرص الاحتلال على وضع نظام معين للتعليم، هدف من ورائه إلى تحجيمه حتى يُقصى تأثير المتعلمين على المجتمع كي لا تستمر حركة الكفاح ضده، ونسج خطته حول إيجاد نوع من التعليم الأولى يُلحق به العدد الكبير، وإيجاد نوع أرقى من التعليم لتخريج الموظفين الذين يخدمون في الحكومة، وعلل كرومر أن هذا التحديد مبنى على أن خزانة الدولة لا تستطيع أن تتحمل تكاليف التعليم على المستوى العريض والمرتبط بالطابع الأوربي، وبالفعل فقد تم تخفيض ميزانية التعليم عام 1890.

وفي الوقت ذاته، واتباعاً للسياسة نفسها أُلغيت مجانية التعليم عام 1898 وسُجل أن الأغنياء يحصلون عليها وهم في غير حاجة لها. وتدريجياً وجد المعتمد البريطاني أنه من الأفضل أن يرسل الآباء أبناهم إلى الكتاتيب بدلاً من المدارس، واحتل التعليم المهني مكانة لديه، ورأى أنه من الأفضل وجود صنعة واحدة أو اثنتين من نوع واحد، كما هدف إلى أن يكون التعليم الفنى بسيطاً حتى يؤهل خريجيه لخدمة الأعمال اليدوية. أيضاً فإنه يعرج على البعثات، فيخفض من عدد الطلبة المبتعثين للخارج في البداية ثم يوقفها نهائياً منذ عام 1895 ولمدة اثني عشر عاماً، كذلك يبقى على مدرسة عسكرية واحدة، ويسعى جاهداً في عدم الإبقاء على الطابع الوطني في الثقافة المصرية، وكان توأمه في التخطيط دنلوب المفتش في نظارة المعارف العمومية الذي حرص على وأد اللغة العربية معبراً عن أنها لا تصلح لدراسة العلوم الحديثة، وذلك رغبة في طمس الشخصية المصرية بكل ما ترتكز عليه من أصالة، لأن اللغة العربية هي الأساس الذي تقوم عليه مقومات القومية. وعليه غدت اللغة الإنجليزية هي اللغة الأساسية في التعليم الحكومي، وتوارت اللغة الفرنسية حيناً رغم ما كانت تبذله فرنسا من مجهودات في العمل على تفوق لغتها.

وركب هذه الموجه بعض المثقفين المصريين، فتحولت المواد التي كان تُدرس باللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية، واندرجت تحتها مناهج التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية، وكان على مبارك قد قرر عام ١٨٩١ أن تقتصر اللغة العربية على تدريس العلوم الرياضية فقط، ولكن سرعان ما ضغطت سلطات الاحتلال وأحلت مكانها اللغة الإنجليزية.

ومضت السياسة البريطانية في التخطيط لاجتثاث جذور الوطنية من المدارس حتى لقد كان منهج التاريخ يُدرس فقط في الصف الرابع الثانوي، واقتصرت مفرداته على التاريخ الذي لا يخص مصر والعرب والإسلام، وانطيق ذلك على الأدب، وبالتالي تخرج طلبة مرشحون الوظائف ولا يتمتعون بثقافة واسعة، وهذا ما سعى إليه الإنجليز ليتخلصوا من الأرق الذي يمكن أن يسببه لهم أصحاب الثقافة.

وعلى أية حال فقد اعتبر التعليم هو العامل المهم الذي يؤدي دوره في الانتقال من طبقة إلى طبقة أخرى، وصحافة هذه الفترة تفيض بالموضوعات التي تحث على التعليم وتبين أفضاله ونتائجه، وتُحمس أصحاب الهمم في إنشاء المدارس الخاصة بأموالهم.

والسؤال الذي يفرض نفسه ما هو موقع المرأة على الخريطة التعليمية؟

مع سياسة الانفتاح على الغرب، ورغبة الخديوي إسماعيل في النهوض بالتعليم, دخل تعليم البنات في نطاق الاهتمامات، فتأسست مدرسة السيوفية عام ١٨٧٣، وكانت مدة الدراسة بها خمس سنوات، ووجدت التشجيع من مثقفي مصر مثل الطهطاوي وعلى مبارك، أيضا التحق البنات بالمدارس الأجنبية، حيث نشطت البعثات التبشيرية الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر، ومن اللافت للنظر أن الفتيات المصريات قد فاق عدد الأجنبيات في تلك المدارس. كذلك كانت هناك مدارس للبنات أقدمت على تأسيسها الشاميات اللاتي حضرن إلى مصر مع أسرهم منذ عهد إسماعيل، واستمر نزوجهن، ومارسن نشاطاتهن، وكانت منها تأسيس مدارس البنات، وأمام ذلك أقدم بعض المصريين من الموسرين على تأسيس المدارس الأهلية التي فتحت أبوابها للبنات محاولة لإيجاد نوع من التوازن في هذا الشأن. ومما يذكر أن المدارس التابعة للجمعيات الخيرية الدينية سواء أكانت إسلامية أم مسيحية أم يهودية قد أسهمت في تعليم البنات. ومع هذا يمكن القول أن السياسة العامة للاحتلال التي طبقتها على التعليم ومحاربتها التوسع فيه انطبق أيضًا على تعليم البنات.

ومضت مسألة إثارة وتحميس وتعميق الرأي العام بشأن تعليم البنات تأخذ جانباً من فكر المثقفين، بداية من الطهطاوي الذي ضمن آراءة في كتابالمرشد الأمين للبنات والبنين، وكان نبراسًا للمثقفين بعد ذلك، والذي رأى أن تعليم البنات بجانب الأولاد سوف يؤدي إلى زواج سعيد، ويُمكن الفتاة من الالتحاق بالوظائف التي تناسبها، ووضح أن المرأة والرجل يختلفان في الجنس فقط، وأن ذكاء المرأة لا تقلله عاطفتها، كما أن كتابهتخليص الإبريز في تلخيص باريسيتناول فيه الإصلاح سواء الذي يؤثر على المرأة أم الذي يعمل على تحديث الأمة. كذلك محمد عبده الذي واصل نداءاته من أجل تعليم الفتيات، وكيف أنه يرفع من مكانتهن. وأيضاً تلك الأفكار التي راودت قاسم أمين وطرحها في كتابهتحرير المرأة عام 1899 والخاصة بتربية المرأة وتعليمها لتأخذ حقها في التفكير والإدارة ولتسهم في جميع ميادين الحياة مثلما تفعل المرأة الأوربية.

والحقيقة أن مثقفي هذه الفترة لم تقتصر أفكارهم على مسألة تعليم البنات. إذ ارتبطت في نظرياتهم برقي المرأة ومسواتها بالرجل، خاصة في الزوجية والود والرحمة بين الطرفين، وأن تبنى العلاقة بينهما على التكافؤ بمختلف صوره، ولا سيما في العلم، وأن الإسلام قد كرم المرأة وأعطاها الحقوق.

لعب العنصر الشامي دورًا مهمًا في الحياة الثقافية المصرية, وكان وفوده إلى مصر في وقت اضطربت فيه الشام منذ الستينات من القرن التاسع عشر – واستنارت فيه مصر، فرحب به حاكمها الذي اتفقت رغبته مع الاستفادة من جميع الأدوات التي تعمل على النهضة المصرية. ولما كان الشوام قد تأثروا بالقيادات الثقافية الفرنسية في المرتبة الأولى، فإنهم عملوا بالصحافة لما لها من بصمات على تثقيف العقول وبلورة الرأي العام، ومما لا شك فيه أنهم أثروا تأثيراً كبيراً في الفكر المصري.

ولم يقتصر العمل بالصحافة على الرجال منهم، وإنما نزلت الشاميات للعمل في هذا الميدان، ووضعن القواعد، ومما يذكر وكما هو معروف عن مصر أنها تستقطب من يعيش على أرضها فتغمره بحنانها، وبالتالي فإنه يذوب في ذلك المجتمع الجديد ويعيش آلامه ويسعى لتحقيق آماله – فيما عدا القلة التي انتهجت منهجاً يتفق مع سياسة الاحتلال لتكون النهاية نسيجًا واحدًا ثبت تمكنه من العمل لخير مصر. ولكن ليس معنى هذا أنه لم يكن هناك ممن عمل بالصحافة غير الشوام، وإنما وُجد أيضاً المصريون الذين سجلوا بأقلامهم مكانتهم اللائقة، وكذلك المصريات اللاتي مضين في التحرك في هذا المجال.

وبدخول العقد الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ عصر الحريم في خطواته الأولى نحو التراجع على يد الشاميات، وذلك عندما مارسن مهنة الصحافة. والواقع أن كتاباتهن قد بدأت في صحف غير نسائية، ففي عام ١٨٨٨ تسطر مريم مكاريوس زوجه رئيس تحرير اللطائف مقالاً عن تعليم المرأة ومدى أهميته، وتتبعها سلمى قساطلي، إذ كتبت في المجلة ذاتها حول الموضوع نفسه. وفي عام ١٨٩١ سجلت الأميرة نازلي فاضل مقالها عن حقوق المرأة، وهي الأميرة التي تنتسب إلى الأسرة الحاكمة وكان يجتمع في صالونها مثقفو مصر وسياسيوهاهذا الصالون وما كان يجري بين جنباته هو الذي حول قاسم أمين من موقعه الذي لم يكن فيه يدافع عن المرأة إلى أن أصبح نصيراً لها – وفي عام ۱۸٩٢ نشرت زينب فواز مقالها عن إيجابيات تعليم البنات في مجلة النيل. هذا وقد اقترنت مسألة التعليم بقضية خروج المرأة للعمل.

وما لبثت أن ظهرت الصحافة النسائية، وجاءت البداية عندما أصدرت هند نوفل مجلة الفتاة بالإسكندرية عام ١٨٩٢، وهي تعد أول مجلة نسائية في الشرق، وبالطبع فإن اختيار الإسكندرية له دلالة على احتضان هذه المدينة للثقافة. وفي عام 1896 أسست لويزا هابلين مجلة الفردوس، وفي العام نفسه أصدر سليم سركيس مجلة مرآة الحسناء التي اهتمت بقضايا المرأة وسجلت آراءها، وفي عام ۱۸۹٨ صدرت مجلة أنيس الجليس لألكسندرا أفريتو التي أقامت في العام ذاته صالونًا أدبيًا في منزلها بزيزنيا بالإسكندرية، ومما يسجل أنها دُعيت في عام 1900 لحضور أول مؤتمر نسائی عالمي وكان يحمل عنواننزع السلاحكذلك فقد ظهرت شخصية وردة اليازجي في مقالاتها التي نشرتها عام ١٨٩٨ بمجلة الضياء، وتحدثت فيها عن المسائل التي تهم المرأة.

وبصفة عامة, فإن نهضة الصحافة النسائية أثرت في المجتمع إبان هذه الفترة, إذ طرحت كل ما يهم المرأة من قضايا وآراء، وطالبت بالنهوض بها وحثها على التقدم والعمل على رفع مستواها ومقارنتها بالمرأة الأوربية من حيث المعرفة. وهنا لابد من التنويه على أن الصحافة غير النسائية اهتمت هي الأخرى بأوضاع المرأة وخصصت بعض الأقلام للخوض فيها.

ولم يقتصر نشاط المرأة على الصحافة، وإنما ترددت على المسامع كتاباتها الأدبية، فأبدعت عائشة تيمور في كتابة الشعر الذي لم يكن باللغة العربية فقط، وإنما أيضًا باللغتين التركية والفارسية، وتركت لنا ثلاثة مؤلفات، أولهانتائج الأحوال في الأقوال والأفعالوثانيهااللقاء بعد الشتاتوثالثهامرآة التأمل في الأمورالذي وضعته في بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر لتفسير آيات القرآن الكريم فيما يختص بالنساء ومفهوم قوامة الرجل، وتمكنت بعينها الصائبة أن تلتقط الأوضاع المتدنية التي كانت تعيش في كنفها المرأة وتعاني منها، كما هدفت إلى المضي في مسألة تحديث العلوم الإسلامية والثقافة.

وتألقت زينب فواز، وكانت أول من كتب الرواية، وأصدرت في عام ١٨٩٣ مؤلفهاالدر المنثور في طبقات ربات الخدور، واستطاعت من خلاله أن تُحصى عددًا كبيرًا من الشخصيات النسائية بلغت 455 امرأة، وكتبت عنهن، وكانت لها الآراء المتفردة, وانغمست في قضايا المرأة وطالبت بحقوقها، وتزعمت الرد على أعداء الإسلام، وأسهمت بمقالاتها في عدة صحف، مما جعل لها البصمات على الساحة الثقافية, وبرزت تحركات ملك حفنى ناصف التي نظمت الشعر ونجحت في ممارسة نشاطها الأدبي والصحفي، وأعلنت حق تقرير المرأة لمصيرها.

كذلك طفا على السطح ما يشير إلى الاختلاف حول حجاب المرأة وسفورها، ولم يكن هذا الأمر بجديد تمامًا، وإنما سبق أن لاحت ملامحه، فقد كان الطهطاوي لا يؤمن بالارتباط بين نوعية ملابس المرأة سواء أكانت مكشوفة أم مستورة والعفة.

مما لا شك فيه أن الأحوال الشخصية تمثل أهمية كبرى في الحياة الاجتماعية, وهي من الأمور ذات الأثر على المجتمع، وكانت تصب في المحاكم الشرعية التي فاضت بها العيوب، نظراً لما وصلت إليه من تدهور. وقد تحكمت هذه المحاكم في القضايا الجوهرية والحساسة، فهي تتدخل بين الرجل وزوجته والوالد وولده والأخ وأخيه، وعليه فإنها مقر للأسرار، أيضًا كان لها حق النظر في الميراث وأصول الأوقاف والاستحقاق فيها. ومن أجل ذلك رئى أنه لابد من تقويمها وإعادة تصحيح مسارها، ومن ثم كُلف محمد عبده الذي بلغ قمة التجديد وانعكست آراؤه على كتاباته وفتاويهبتفقد أحوالها والنظر في خير الطرق لعلاجها، وبالفعل قام بالمهمة, ورفع تقريره لولاة الأمور عام 1899، وتعرض لسوء حالة المحاكم من حيث الأماكن والأبنية والأثاث والجهاز القضائي والإجراءات وقصورها، ووضع القواعد لإصلاحها،وقد دلت على تفتح عقلية صاحب التقرير, فطالب باهتمام الحكومة بها, وتوسيع اختصاصاتها، وفتحها للمذاهب الأربعة, وجعل الاجتهاد نبراسًا وهاديًا لها، وكسر جمودها بوضع كتاب أحكام المعاملات الشرعية يتطابق مع روح العصر وتبسيطها حتى لا تكون حكرًا على علماء الشريعة وحدهم.

وكانت أكثر الإشكاليات التي تعرضت لها الحياة الخاصة مسألة الزواج، تلك التي شغلت ركنًا أساسيًا من الأحوال الشخصية، وأخذت شكلاً واضحاً مع العقد الأخير من القرن التاسع عشر، حيث سرى اتجاه بين الشباب وتمثل في إحجامهم عن الاقتران بالفتيات، وبالتالي تأخر الأخيرات في الزواج، كما أن بعضهنكما يقالفاتهن قطار الزواج. ورغم الحملات الكثيفة الخاصة بالتوعية في هذا الأمر قد تصدرت صفحات الصحافة، فإن النتائج لم تكن مشجعة. ومعروف أن التغيير الاجتماعي الذي طرأ على المجتمع أثر ذلك الوضع الذي لم يقتصر أمره على الشباب وحدهم إنما أيضاً على الفتيات.

أما بالنسبة للشباب، فقد ارتفع مؤشر تقليدهم الأجانب الذين اختلفت نوعياتهم، فإذا كانت المخالطة بمن هم على مستوى عال، فإن التأثير يتبلور في أن الشباب المتعلم أصبح على درجة واعية من الفهم والوعي والإدراك والثقافة، وبالتالي فهو يريد أن تكون شريكة ورفيقة عمره على المستوى نفسه من التفكير، ولم يكن ذلك متوفرًا.أما إذا كانت المخالطة بمن هم على مستوى متدن من الأجانب، فالطريق مفتوح أمام اللهو والموبقات والمحرمات وخاصة مع وجود البغاء بنوعيه الرسمي والسري، ذلك لأن السهل سبل الفساد. أيضًا فإن الفقر لعب دوره في هذا الأمر، فالبطالة شكلت عقبة أمام الشباب، وحتى إذا توفر العمل فهو بسيط لا يثمر المطلوب من تكلفة الزواج ولا سيما بعد المغالاةٍ في المهور والتجهيزات والحفلات. هذا بالإضافة إلى العادات والتقاليد التي كانت لا تزال تتحكم في الكثير، وهي الخاصة بعدم اللقاء أو الرؤية بين الفتى والفتاة قبل الزواج مما جعل الشباب يخشون الانسياق وراء الزواج في مثل هذه الحالة، فتكون النتيجة الفشل والخسارة. كذلك يجب أن نضع في الاعتبار أن بعض الشباب المثقف أقدم على الزواج من الأجنبيات التي كانت مصر تزخر بهن وكن دون المستوى، مما قلص الفرص للبنات المصريات.

أماعن الفتيات فقد تم تجهيزهن للزواج منذ سن الثانية عشرة، وفي مثل هذه السن الصغيرة كان من الصعب عليهن أن يتحملن مسئولية تكوين أسرة، بالإضافة إلى الضعف الجسماني والنفسي في تلك الفترة المبكرة، وبالتالي تكون النتيجة عدم التوفيق في المعاشرة الزوجية. وعلى جانب آخر، فإن ما طرأ على بعض الفتيات وبالذات اللاتي ينتمين إلى الطبقة الأرستقراطية من تبرج، وذلك عندما قلدن الأوربيات في الملبس والخروج للمنتزهات وحضور الحفلات والسفر والاختلاط، ذلك جميعه وقف حاجزًا أمام إقدام الشباب على الزواج منهن. وهكذا أصبحت هذه الظروف السلبية عقبة أمام إتمام الزواج الذي أصيب سوقه بالكساد.

وشغلت مسألة تعدد الزوجات الأذهان إبان تلك الفترة، إذ شاع هذا الأمر في المجتمع، وخاصة بعد إلغاء نظام العبودية، ولم يعد مقياس الثروة يحدد تمامًا الشروع في التعدد، حقيقة أن العامل الاقتصادي له الدور في هذا الشأن، لكنه كان هناك من العائلات الثرية من لم ينتهج التعدد بناء على تقليد الأجانب والاكتفاء بزوجة واحدة. وقد أثارت مسألة تعدد الزوجات الجدل ولا سيما أن الإسلام جاء به لمصلحة وليس لهوى أوشهوة واشترط العدل. وعلى أية حال فإن النتائج السيئة لهذه المسألة انعكست ليس فقط على المرأة وإنما أيضًا على المجتمع بصفة عامة.

وارتبط الطلاق بمسألة تعدد الزوجات من حيث الظروف التشريعية والتطبيقية, فالإسلام جاء بالطلاق ليقوم المجتمع، ووضع لوقوعه شروطًا لابد من توافرها حتى تسير الحياة وفقًا لمنهج سلس بعيد عن التعقيدات، وأن يُلجأ إليه بعد إجراءات يتبين منها الاستحالة على الزوجين المضي في طريق واحد. ولكن كما أُسيء إلى استخدام ورقة تعدد الزوجات، لعبت الأيدي بالطلاق وفقًاً لمصلحة ورغبة الرجل الذي اعتمد على هذا التصريح المعطى له دون أن يعبأ بضرر النتائج التي تتولد عنه. وأصبحت قضية الطلاق مثارًا للنقاش، وعرض على بساط البحث كيف يمكن أن توضع له القواعد التي تحد من الإقدام عليه، ومضت طرق التنقيب في الأسباب التي تكمن وراء وقوعه.

وأدلى محمد عبده بدلوه إزاء هذه القضايا، ففسر أحكام القرآن الكريم في الزواج، وتكلم عن العلاقات الزوجية وحق المرأة في اختيار زوجها، ووضح صعوبة العدل في تعدد الزوجات وإجازة الحصر، وتعرض للطلاق وحتمية تقييده، كذلك ربط بين الإسلام وتحرير المرأة، وأثبت بذكائه وقدرته للمعارضين وجود المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والأعمال والذات والشعور والفعل.

وسرعان ما أعلنت صراحة الآراء الجريئة لقاسم أمين وذلك عندما أصدر كتابه الذي حمل عنوانتحرير المرأةعام 1899 وتضمن انتقاده لتعدد الزوجات وطالب بوضع الحدود له، ودعا إلى تأسيس القواعد لتقييد الطلاق الذي رأي فيه رخصة في يد الرجل يستخدمها وفقًا لأغراضه لينهي به العلاقة الزوجية وفقًا لرغبته.

ومما يذكر أن قاسم أمين قبل أن يبدي رؤيته في هذين الأمرين، يطالب برفع حجاب المرأة وسفورها، بما يتفق مع الشريعة الإسلامية، ويُبين أن الحجاب عادة وليس شرعًا ويردفه بالاختلاط، ويهاجم المجتمع الانفصالي، ويوضح الفرق بين المرأة الريفية التي اختلطت بالرجال ونالت حريتها وكيف تتصرف وبين امرأة المدينة المغمورة بالتأخر، ويفسر دور العامل الاقتصادي في سلوك المرأة وأنه إما يدفعها إلى الانحراف أو يجعلها خاضعة للرجل، وأنه لابد لها من الاستقلال الاقتصادي والخروج للعمل إذا كانت في حاجة إليه.

ولم يكن هذا الاتجاه الذي نحا إليه قاسم أمين يقره قبل أربع سنوات من صدور كتابه، ولكن خلال تلك المدة وما أثير فيها من مختلف الآراء، جعلته يقف وقفه أخرى مع نفسه ويتراجع عما سبق أن سجله، ومن ثم فإن ما وصل إليه كان عن إيمان واقتناع، وكما هو معروف فإنه كان لمحمد عبده الدور في ذلك التحول.

وقد أثار كتابتحرير المرأةمعارك فكرية كبيرة، مما دفع قاسم أمين إلى أن يصدر كتاباً آخر في العام التالي تحت عنوانالمرأة الجديدةليرد على الجبهة المضادة التي هاجمته من ناحية، وليثير قضايا أخرى يستكمل فيها منهجه الجديد, ويعقد المقارنة بين المرأة المصرية والأخرى الغربية ويعكس ذلك على مجتمعهما فيما يختص بالرقى، كما أراد للمرأة الجديدة الحرية التي تشمل استقلال الإرادة الإنسانية التي تضم قدرتها على أن تحرر نفسها وعقلها وذاتها وأن تؤدي دورها تجاه أسرتها ومجتمعها.

والواقع أن قاسم أمين قد انعطف على هذا المنحنى بعقلانية وحماس وخاصة بعد أن وجد المناصرين والمساندين له مثل محمد عبده وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد، ومن ثم تمكن من أن يضع يده على الفجوة الثقافية القائمة وحاول أن يملأها وقد استمرت حركة التيارات الفكرية بين الطرفين المؤيد والمعارض وتكون مناخ من الحيوية حيث الرأي والرأي الآخر، ولكن لم يستمر الأمر طويلاً، إذ تفوق أصحاب التنوير، وتمكنت المرأة من أن تحصد المكاسب مع بدايات القرن العشرين.

أعطت الصفحات السابقة صورة بانورامية للتاريخ الاجتماعي والثقافي لفترة ۱۸۹۰ والتي تمثل العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وقد وضح فيها تماماً تلك التركيبة التي أقيم على أساسها بناء المجتمع المصري، وكيف أن نهر المتغيرات الذي واصل تدفقه استقر بعد أن فاضت روافدة التي حملت معها مختلف مناحي الحياة, فاستقرت الخريطة الاجتماعية بعد أن توزعت عليها قوى كبار ملاك الأراضي والأعيان والتجار والمثقفين والفلاحين والحرفيين والأجانب، وقامت كل قوة بدورها، وخضعت للظروف التي طرأت على المجتمع واهتزت لها الثوابت، وأصبحت هناك أوراق اجتماعية جديدة، مثلت واقعًا كانت له الأبعاد، وذلك في وجود محتل جاثم على الأرض المصرية له تخطيطه ورسوماته. وبدا جليًا النشاط الذي أقدمت عليه المرأة وسجلت النقاط لصالحها، فأصبح الطريق ممهداً أمامها لتثبت شخصيتها وتحقق ذاتها، في وقت قوى فيه التيار الفكري المستنير الذي طرح أصحابه القضايا التي كان المجتمع يرزح تحتها وخاصة ما تعلق بالأحوال الشخصية وما تعانيه المرأة، فكان ذلك إيذانا بمولد صيحة مدوية ترددت أصداؤها، بحيث إنه لم يكد يمر العقد الثاني من القرن العشرين حتى تأثر المجتمع بتيارات اجتماعية وثقافية جديدة كانت في صالح التغيير والتقدم.

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات