عائشة تيمور وأسئلة النهضة
مقدمة :
لم تترك الحملة الفرنسية أرض مصر، في السنة الأولى من القرن التاسع عشر حتى كانت قد زلزلت أسس النظام العثماني – المملوكي القديم الذي ران على البلاد منذ ما يصل إلى ثلاث قرون. فوجها لوجه، وجد المصريون أنفسهم أمام آخر منتجات الحضارة الغربية، العسكرية والحضارية معا.
ولم تكد الحملة تغادر البلاد حتى راحت كل القوى التي أدركت أهميتها تسعى للسيطرة عليها، أتراك، مماليك، إنجليز، وفرنسيون. غير أن الشعب الذي عاش قرونًا عديدة وهو مجرد رعية من رعايا السلطان. قد فرض إرادته على الجميع باختياره محمد على واليًا على البلاد ( مايو ١٨٠٥) وهو الاختيار الذي لم يجد السلطان العثماني بدًا من الاعتراف به وإقراره. (۱)
وراح محمد على يسعى لتأسيس دولة حديثة، تكون مقدمة لتحقيق أطماعه في السيطرة على الشرق، وكان عليه في البداية أن يتخلص من بقايا النظام القديم الذين اعتبرهم حجر عثرة في سبيل بناء تلك الدولة الحديثة، وهكذا قضى على المماليك, والزعامة الشعبية من شيوخ الأزهر، ونظام الالتزام. ثم راح بعد ذلك يقيم دعائم الدولة الحديثة. وتنطلق جيوشه بعد ذلك لتستولى على الجزيرة العربية، ثم السودان، ثم الشام. ويصبح محمد على بأطماعه التي لا حدود لها أكبر العقبات في سبيل الأطماع الاستعمارية الأوربية – الإنجليزية خاصة. ومن هنا راحت بريطانيا تحيك المؤامرات، وتعقد التحالفات في محاولة للنيل من محمد على وقوته الصاعدة. (٢) حتى أتيح لها ذلك بعد تشكيل حلف دولي قوي في مواجهة محمد على، أجبره على الانسحاب من جميع المناطق التي استولى عليها، والاكتفاء بحكم مصر والسودان. وذلك في اتفاقية لندن (١٨٤٠ ) وهو نفس العام الذي ولدت فيه” عائشة تيمور” ( ١٨٤٠ – ۱۹۰۲).
وهنا ينبغي أن نتسائل: هل كانت مشكلة النهضة في عصر محمد على، تكمن في أطماعة التوسعية التي لم يكن لها مبرر سياسي؟ أم كانت المشكلة المشروع التحديثي الذي سعى لاقتباسه عن الغرب والذي كانت طبيعته العسكرية أهم سماته ؟ أم لأن محمد على حين سعى لإقامة ذلك المشروع التحديثي، فإنه قد أقامه مصنوعًا، مستوردًا مقطوع الصلة بالواقع والتاريخ والتربة التي حاول أن يغرسه فيها ؟ …
وهناك عشرات الأسئلة التي سعت إلى البحث عن إجابات مقنعة لسبب إخفاق أول مشروع نهضة حديث في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولم يكن مشروع محمد على هو المشروع الوحيد للنهضة كما لم يكن إخفاقه هو الإخفاق الوحيد بالطبع .. وهكذا تعددت أسئلة النهضة، وإجاباتها.
وتسعى هذه الورقة للبحث عن أسئلة النهضة كما رأتها عائشة تيمور. وخاصة أنها قد أدركت فترات هامة من تاريخ مصر الحديث في القرن التاسع عشر، سعی فيها الكثيرون من السياسيين والمفكرين إلى تقديم تصوراتهم حول النهضة وأسئلتها في تلك الفترة المؤسسة للنهضة المصرية الحديثة.
أدركت عائشة تيمور السنوات الأخيرة من عصر محمد على (1805- 1848 ) فقد ولدت في نفس العام الذي تآمرت فيه الدول الأوربية على محمد على ودولته – كما سبقت الإشارة – وبعد هذا التاريخ سنة ١٨٤٠ راحت مشروعات محمد على تنهار وتضمحل، فقد كان الجيش وتوسعاته محورًا لتلك المشروعات في مختلف المجالات في الصناعة والزراعة والتجارة والإدارة والتعليم. ولقد حاول محمد على إنشاء عدد من مجالس التشريعية، غير أن نزعته الاستبدادية لم تسمح بأن يقاسمه السلطة مجلس أو آخر.(3)
كما شهدت مصر في ظل محمد على عددًا من القيادات الفكرية الذين سعوا لتأسيس نهضة فكرية تسعى للتوفيق بين التراث العربي والإسلامي وثمار الحضارة الغربية، وكان على رأس هذا الفريق رفاعة الطهطاوي (1801- 1873), ولكن حصار الطهطاوي بين سلطة الدولة من ناحية وسلطة التراث من ناحية ثانية، قد أجهض محاولاته لصياغة أسس تلك النهضة.
ويمكن القول إن عصر محمد على لم يشهد نهضة حقيقية بالمعنى المعروف, وخاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أبعاد النهضة الثقافية والفكرية. ولكنه شهد محاولات لتأسيس بنية تحتية اقتصادية وإدارية وعسكرية للدولة الحديثة.
وتولى إبراهيم باشا ابن محمد على الحكم لبضعة أشهر فقط في خلال العام ١٨٤٨، وفي حياة محمد على نفسه، ثم تولى الحكم بعد عباس باشا الأول ( ١٨٤٨ – ١٨٥٤) الذي يطلق عليه عبد الرحمن الرافعي عهد الرجعية. فقد سعى عباس الأول للقضاء على البقية الباقية من مشروعات جده العظيم، فأغلق ما كان باقيًا من مصانع، وقام بتسريح ما تبقى من جيش الدولة وموظفيها. وسعى لتقليص ميزانية التعليم من مئة ألف جنيه إلى خمسة آلاف جنيه فقط.وأغلق المدارس كلها واكتفي بمدرسة وحيدة هي مدرسة” المغروزة“.
واختتم محاولات تدمير ما بناه محمد على بنفي رفاعة الطهطاوي إلى السودان. وشهد عصر سعيد باشا ابن محمد على (١٨٥٤–١٨٦٣ ) محاولات محدودة لإحياء النهضة المصرية، فسعى إلى إصلاح الزراعة وتمليك الأراضي الزراعية للفلاحين. وألغي عهد الذمة الخاص برعايا الدول من غير المسلمين، وقدم الكثير من المساعدات لبناء مدارس الإرساليات الأجنبية، وسعى إلى إعادة تأسيس الجيش المصري مرة أخرى.
أما عصر إسماعيل باشا بن إبراهيم بن محمد على ( ١٨٦٣–١٨٧٩ ) فيمكن اعتباره بحق عصر النهضة الكبرى في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وإذا كانت مشروعات محمد على مما يمكن اعتباره البنية التحتية للنهضة، فإن مشروعات الخديو إسماعيل في البناء الفوقي لتلك النهضة بما يشتمل عليه من ثقافة, وتعليم، وفن، ومؤسسات سياسية. (4)
فقد شهد عصر الخديو إسماعيل التوسع في افتتاح المدارس على اختلاف مراحلها، كما شهد أول محاولة لصياغة مشروع قومي لنشر التعليم في مختلف أنحاء البلاد فيما سمى بلائحة رجب التي صدرت سنة 1868. كما أنشأت أول مدرسة لتعليم الفتيات وهي مدرسة السنية أو السيوفية 1873، وصدرت بعض القوانين التي تحاول تنظيم التعليم الديني الأزهري.
وعلى المستوى الثقافي فقد صدر العديد من الصحف السياسية والثقافية والأدبية، وازدهرت مراكز ترجمة وتأليف الكتب، وأنشئت دار الأوبرا، وظهرت بواكير المسرح المصري على يد بعض رواده ممن فروا من الشام إلى مصر مثل: أبو نظارة. وأنشأت دار الكتب، وازدهرت الجمعيات الأهلية. كما ازدهرت العمارة الحديثة وراحت القاهرة الحديثة تتأسس في مواجهة القاهرة الفاطمية، وخاصة بعد إنشاء إسماعيل لقصر عابدين ليكون بديلاً عن قصر القلعة الذي ظل مقرًا للحكام منذ الدولة الأيوبية. وعرفت مصر كذلك في عهد إسماعيل العملة الورقية، والتقويم الميلادي. وغيرها من الإصلاحات والمستحدثات الحضارية.
أما على المستوى السياسي فقد عرفت البلاد أول مجلس الشورى النواب سنة ١٨٦٨، وأول وزارة (نظارة) بالمعنى الحديث سنة ١٨٧٨، كما شهدت أواخر أيام الخديو إسماعيل أول محاولة لصياغة دستور مصري سنة ١٨٧٩ (5)
غير أن أزمة الديون قد شجعت انجلترا على التدخل في شئون البلاد، ذلك التدخل الذي بدأ بسيطرتها على الشؤون المالية للبلاد ثم سعيها بعد ذلك لعزل الخديو إسماعيل، وتعيين ابنه توفيق باشا (1879- 1892) بدلاً منه. وقد ازداد التدخل الأجنبي في شؤون البلاد في بداية عهد توفيق، فاشتعلت الثورة العرابية التي كان على رأس أولوياتها إعادة الحياة النيابية، والتصدي للمطامع الاستعمارية، وتفاقم النزاع بين العرابيين والخديو توفيق وتدخلت بريطانيا إلى جانب توفيق لتنتهي تلك المرحلة بالاحتلال البريطاني للبلاد بعد معارك ضارية ( سبتمبر ۱۸۸۲ ) ويحاكم عرابي ورفاقه وينفوا إلى خارج البلاد. ويصبح حكم البلاد في قبضة المعتمد البريطاني” لورد كرومر” رغم بقاء الخديو والحكومة بقاء صوريًا، ويعمد الإنجليز إلى شغل فاعلية الحكومة, وتعطيل الحياة النيابية، وتحطيم التعليم والصناعات الوطنية.
ويتولى عباس حلمي الثاني حكم البلاد بعد وفاة أبيه توفيق ( ١٨٩٢–١٩١٤ ) ويحاول عباس انتزاع بعض سلطاته من قبضة لورد كرومر، فيعمد إلى بعث الروح الوطنية، والسماح للجمعيات الأهلية ذات التوجه الوطني بالعمل والنشاط ويقرب إليه العديد من رموز الإصلاح والنهضة مثل: مصطفى كامل، وقاسم أمين، ومحمد عبده وسعد زغلول.
وهكذا عاشت مصر في العقد الأخير من القرن التاسع عشر مركز نهضة قوية, تمثلت في إنشاء العديد من الجمعيات الأهلية مثل الجمعية الخيرية الإسلامية, والمساعي المشكورة القبطية. وقد راحت تلك الجمعيات تدعو إلى النهوض بحال الشعب، وإنشاء المدارس وتدعو للجامعة الأهلية، كما ازدهرت الصحافة، وأصدرت هند نوفل أولى صحف الشرق النسائية ١٨٩٢، وبدأت في التكون الجماعات السياسية التي أصبحت بعد ذلك نواة أحزاب: الوطني، الأمة، الإصلاح على المبادئ الدستورية.
كان هذا عصر عائشة تيمور.. فكيف تفاعلت مع الأحداث والتحديات التي طرحتها عليها وعلى مختلف المفكرين والمصلحين؟
حينما ولدت عائشة تيمور لم تكن هناك مدارس أو مؤسسات لتعليم الفتيات. فأول مدرسة عرفتها البلاد في العصر الحديث لتعليم الفتيات كانت لأسباب فنية مهنية تمامًا، حيث أنشأ محمد على سنة ١٨٣٨ مدرسة الولادة التي كانت تستقبل بعض الفتيات من بنات العاملات في القصر من الجواري والوصيفات، وبعد اجتياز فترة تمهيدية للتمكن من مهارات القراءة والكتابة، تنتقل الفتيات للدراسة التخصصية مثل: العمليات الجراحية البسيطة، الكسور البسيطة والكسور المضاعفة، الأمراض المتوطنة, الإسعافات الأولية، بالإضافة إلى مواد الولادة والولادة المتعثرة. ومن هنا نرى أن تلك المدرسة لم تكن مدرسة للولادة فقط كما أشاع اسمها وإنما كانت مدرسة للحكيمات بمعنى أصح. وإلى جانب تلك العلوم التخصصية كانت الفتيات يدرسن مبادئ الأدب العربي، والأدب التركي، ومبادئ اللغة الفرنسية.
وكانت خريجات المدرسة تنال كل منهن لقب أفندي، وحارساً شخصيًا، وحمارًا للتنقلات ومرتبًا شهريًا يقترب من خمسمائة قرش.(6)
كانت هذه هي المدرسة النظامية الوحيدة التي ولدت عائشة تيمور وهي تعمل. وبخلاف تلك المدرسة فقد أنشئت بعض المدارس التي تتبع بعض الطوائف المسيحية مثل: مدرسة راهبات الراعي الصالح بشبرا سنة ١٨٤٤ ومدرسة الأمريكان النموذجية بالفجالة 1856، ومدرسة راهبات الفرنسيسكان الإيطالية لبنات سنة 1859
ولم تنشأ مدرسة عامة نظامية للفتيات، إلا المدرسة السنية أو السيوفية التي أسستها ثالثة زوجات الخديو إسماعيل” جشم آفت هانم” سنة 1873 .(7)
وقد أحاطت بتعليم الفتيات في تلك المرحلة مشكلات عديدة، فقد رأى المحافظون أن تعليم الفتيات مدعاة للكثير من المفاسد والشرور، وخروج على التقاليد وآداب الحشمة والوقار التي تليق بفتيات الأسر الكريمة.
ومن هنا فقد كان المتاح أمام عائشة تيمور هو التعليم الخاص في المنزل، وقد درجت الكثير من الأسر الثرية على دعوة المعلمين والمؤدبين ومحفظي القرآن لتعليم فتياتهن داخل جدران منازلهم وكأنه درس خصوصي. وكانت تلك الأسر تتحرى أن تستأجر المعلمات إذا توافرن، أو المكفوفين من المعلمين الذين لا ينبغي أن يكشفوا أستار المنازل وأسرارها، أو المشهود لهم بالحشمة والوقار من المعلمين.
وكثيراً ما كان والد البنت هو الذي يقوم بتعليمها إذا كان يملك من العلم والرغبة في تعليمها ما يسمح بذلك.
وتقول عائشة تيمور وهي تؤكد تمردها على ما كان متاحًا للفتيات مثلها من إعداد لممارسة المهام النسائية داخل جدران المنازل، وإعداد على مهارات التطريز وأشغال الإبرة وغيرها مما كان يعد فنونًا نسوية.. فتقول:” فلما أن تهيأ العقل للترقي، وبلغ الفهم درجة التلقي، تقدمت إلى والدتي بأدوات النسج والتطريز وصارت تجد في تعليمي، وتجتهد في تفهيمي. وأنا لا أستطيع التلقي، ولا أقبل في حرف النساء الترقي، وكنت أفر منها قرار الصيد من الشباك، وأتهافت على حضور محافل الكتاب بدون ارتباك، فأجد هدير القلم في القرطاس أشهى نغمة وأتخيل أن اللحاق بهذه الطائفة أوفى نعمة” (۸)
وقد رزقت عائشة تيمور أبا متعاطفًا محبًا، ساعدها على التمرد وعلى الأعمال النسوية المنزلية، ووفر لها الفرص والظروف التي تمكنها من تحقيق ما طمحت إليه من التعليم وقد رتب لها أبوها أستاذين: أولهما: إبراهيم أفندي مؤنس وكان يعلمها الفقه والخط ويحفظها القرآن الكريم، والثاني خليل أفندي رجائي وكان يعلمها النحو والصرف واللغة الفارسية. ومن الضروري أن نشير إلى أن الطبقة الأرستقراطية المصرية، خاصة وأن جذورها لم تكن مصرية في أغلب الأحوال(٩)، وعلى سبيل فالأسرة التيمورية التي تنتمي إليها عائشة تيمور تتقاسم أصولها ثلاثة عناصر: کردی، ترکی، جرکسی(۱۰). كانت تلك الطبقة ترى في تعلم اللغة التركية والفارسية وسيلة تجعلها تمتاز عن المحيط المصري الذي تحيا فيه من ناحية ويقربها من الحكم والحكام من ناحية ثانية وقد كانت اللغة الفارسية إحدى أهم اللغات التي تحرص أسرة محمد على حتى منتصف القرن التاسع عشر على ترويجها. وربما وجدت فيها ما يؤكد استقلالها وتميزها عن تركيا نفسها، وتذخر الأسئلة والمساجد التي بنيت في هذه الفترة والتي ما زالت قائمة في شارع الصليبة، وشارع المعز لدين الله، ومسجد بالقلعة بآيات الأدب الفارسي.
واستمرت عائشة في تعلمها للعلوم العربية وخاصة العروض والنحو والصرف وواصلت ذلك التعلم على يد سيدتين هما : فاطمة الأزهرية، وستيتة الطبلاوية.
ومن المهم هنا أن نشير – بمناسبة ذكر فاطمة الأزهرية وستيتة الطبلاوية – إلى أن هناك الكثير من النساء اللاتي لعبن أدوارًا هامة في مختلف مجالات الحياة في مصر، غير أن انتماءهن إلى أسر فقيرة قد حال دون إلقاء الأضواء المناسبة على جهودهن. وتذكر كتب التراجم والسير مثل كتاب الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، العديد من أخبار وجهود هؤلاء النساء، وربما تتاح الفرص لعدد من الباحثين للقيام بجهد هام في هذا المجال.
وبعد ذلك راحت عائشة تيمور, تواصل التعلم اعتمادًا على نفسها وما كان يتوفر في مكتبة أبيها من كتب ومخطوطات، غير أنها، وخاصة بعد أن درجت مدارج الفتيات قد حرمت من مجالس العلم التي كانت تقعدن منازلهم وتقول:” وطالعت من التواريخ ما قدرت قدرتي أن تدانيه، وما أمكن فكرتي الخامدة أن تصل إلى فهم معانيه، حيث لم يمكن لي دخول محافل العلماء والمتفقهين، ولم تسعنى مجالس العلماء والمتبحرين. فكم التهب صدری بنار شوق رياض محافلهم اليوانع. وأدر جفني على حرماني من اجتناء ثمرات فوائدهم در المدامع، وقد عاقني عن الفوز بهذا الأمل حجاب خيمة الإزار. وحجبني قفل خدر التأنيث عن سناء تلك الأقمار. وأحلاني بسجن الجهل حليف أثقال وأوزار” (۱۱)
وفي النهاية من المهم الإشارة إلى أن عائشة تيمور قد أشارت إشارات عابرة إلى بعض العلامات الهامة في طريق تعلمها ولم تكن تقصد في كتاباتها إلى الترجمة نفسها، كما لم تكن تقصد أن تفرد حديثًا منفصلاً لذلك التعليم. ورغم ذلك يكتشف المطالع لما كتبته في نثرها. وشعرها. عن حصيلة هائلة من العلم، ربما لم تتوافر لما نعرفه من نساء النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ليس هناك تصور محدد لما ينبغي أن تكون عليه أسئلة النهضة، فمن المنطقي أن أسئلة النهضة تلك التي يطرحها المجتمع على مفكريه ورواده، وتختلف تبعًا للظروف التاريخية. فمفهوم المجتمع في أوج الثورة العرابية في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، يختلف بالضرورة عن المطروح من تلك الهموم بعد ذلك بعشر سنين فقط في ظل سيطرة الاحتلال الإنجليزي، وهيمنة لورد كرومر على الإدارة المصرية، ووجود جنود الاحتلال الذين يعيثون في أنحاء البلاد فسادًا.
كما تختلف أسئلة النهضة كذلك تبعًا لخلفية المفكر أو المصلح الذي يتصدى لتقديم رؤيته حولها، فلا شك أن رؤى المفكرين تختلف تبعًا لنوع وطبيعة دراستهم وتعليمهم وخبراتهم العملية، كما تختلف أيضًا تبعًا لخلفياتهم الثقافية وأوضاعهم الطبقية. غير أننا نظن أن هناك ملامح عامة تميز تلك الأسئلة، منها أنها لا تقدم تصورًا مقطوع الصلة تمامًا بالواقع ( يوتوبياوي ) وإنما ينبغي أن تتفاعل رؤية النهضة مع الواقع ومشاكله ومعطياته وطبيعة نظامه السياسي والاجتماعي وأنماط حياته وثقافته، سواء كان ذلك بتقديم تصورات للمستقبل تتجاوز عثرات الواقع وتسعى للانعتاق من وهدة التخلف والفقر والاستبداد، أو كان ذلك بنقد ذلك الواقع نفسه وتوضيح تناقضاته وأوجه قصوره ومكامن القوة والضعف في أبنيته وأنساقه المختلفة.
وليس من الضروري أن تتوقف قضايا النهضة عند الصراع مع الاستعمار، أو في مواجهة الاستبداد السياسي، أو حق المواطنين في تكوين الأحزاب والبرلمان والدستور.
بل إننا يمكننا أن نلاحظ مجموعتين من أسئلة النهضة تبلورت في آخر القرن التاسع عشر، دون الفصل التعسفي بينهما بطبيعة الحال.
المجموعة الأولى تدور كما أسلفنا حول قضايا النضال الوطني واستبداد الخديو والمجلس النيابي وحقوقه في مواجهة الخديو والإدارة من ناحية، والاستعمار من ناحية ثانية، وقد يرتبط بذلك حقوق المواطنين في التعبير عن آرائهم ومواقفهم السياسية وانضمامهم للأحزاب والجمعيات الأهلية وإصدارهم للصحف وغيرها من وسائل التعبير.
أما المجموعة الثانية من أسئلة النهضة فتدور حول الإصلاح الاجتماعي، وحقوق المرأة، وإصلاح التعليم، والاهتمام بنشر العلم والثقافة على نطاق واسع، والعمل على الارتفاع التدريجي بمستوى المعيشة والصحة والتعليم وغيرها من آليات ووسائل تدور حول الإصلاح الاجتماعي بمعناه العام والذي قد لا يكون بالضرورة في مواجهة السلطة السياسية.
ولا شك أن لدينا نماذج تعبر عن كل اتجاه من الاتجاهين السابق الإشارة إليهم فيمكن اعتبار جمال الدين الأفغاني، وأحمد عرابي، ومحمود سام ي البارودي, ومصطفى كامل من رواد الاتجاه الأول، ويمكن اعتبار على مبارك وقاسم أمين وعائشة تیمور من رواد الاتجاه الثاني.
ويعد عبد الله النديم ومحمد عبده نموذجين مثاليين للجمع بين الاتجاهين. فقد كانا كلاهما من أكثر المتحمسين للثورة العرابية، وقد كان محمد عبده مفتيًا للثوار، بينما كان عبد الله النديم دعائيًا شهيرٍا لمبادئ الثورة العرابية عبر جريدته” اللطائف” التي كان يطبعها في أتون المعارك بين العرابيين والإنجليز، وكانت توزع على الجنود أثناء تلك المعارك .
وقد انتهى الأمر بعد هزيمة الثورة العرابية ودخول الإنجليز مصر إلى نفي محمد عبده إلى لبنان ومنها إلى باريس ليصاحب شيخه وأستاذه جمال الأفغاني، وبعد موت الأفغاني يعود محمد عبده إلى مصر بعد عفو الخديوي عنه ويتولى منصب” مفتی الديار المصرية” حتى وفاته سنة 1905، وفي هذه الفترة بذل جهده لإصلاح الأزهر وإدخال العلوم الحديثة فيه وإصلاح نظام التدريس فيه، والدعوة إلى التوفيق بين الدين والعلم، وإصدار الفتاوى التقدمية والمستنيرة التي تتفق والتطور حتى لو خالفت بعض نصوص التراث الحقيقية والمختلفة.
أما عبد الله النديم فقد اختفى بعد هزيمة العرابيين، في ثنايا وتضاعيف ريف الدلتا حتى وفاة الخديوي توفيق ١٨٩٢ وإصدار الخديوى عباس حلمي الثاني عفوًا عامًا عن العرابيين. وهكذا عاد النديم ليصدر ثالث وآخر الصحف التي أصدرها في حياته صحيفة” الأستاذ” بعد” التنكيت والتبكيت” ثم” اللطائف” التي سبقت الإشارة إليها وفي صحيفة الأستاذ راح النديم يدعو إلى الإصلاح في التعليم والاهتمام باللغة العربية، وتعليم الفتيات، وغير ذلك من مبادئ الاتجاه الثاني من اتجاهات النهضة في مصر.
وهكذا نستطيع أن نقول إن عائشة تيمور إحدى رائدات هذا الاتجاه الاجتماعي للنهضة وليس الاتجاه السياسي، بل إننا نستطيع أن نقول أن عائشة تيمور كانت محافظة، بل شديدة المحافظة في مواقفها وآرائها السياسية، فهي ابنة لتلك العائلات التركية التي وفدت إلى مصر منذ قريب ولاذت بالحكام من أسرة محمد على ووجدت في كنفهم الحماية والرعاية والثراء ولم ترتبط أو إحداها بالشعب بالمعنى بالعام ومن ثم فلن تتبنى قضاياه السياسية وتروى مي زيادة في مقدمتها لديوان عائشة تيمور” حلية الطراز” أن هدى شعراوي قد شاهدتها وهي صغيرة، فوصفتها بقولها” أنها سيدة الأتوركا” والمقصود أنها أقرب إلى الأفكار والسلوك التركي. وقد قالت هدى شعراوی هذا التعبير في مواجهة التعبير الذي يصف شيوع ذلك النمط الغربي المختلف تمامًا عن النمط التركي والذي يوصفه ب” الأفرانكا” (۱۲)
ومن ناحية ثانية فقد كانت أسرة محمد على ذات فضل مباشر على أسرة إسماعيل باشا تيمور، بل إننا نستطيع أن نقول أن الأسرة التيمورية هي من صنائع أسرة محمد على، فقد أنعم محمد على على إسماعيل باشا تيمور بأراضٍ واسعة وتولى وظيفة كاتب الديوان الخاص بمحمد على، واستمر نجم إسماعيل تيمور في الصعود في ظل خلفاء محمد على إذ تولى حكمدارية مديرية الغربية، أهم مديريات الوجه البحري في ذلك الوقت. وتنتهي حياته وهو ناظر خاص لولي العهد توفيق(۱۳)الخديو توفيق فيما بعد.
وعائشة تيمور، تؤكد انتماءها ذاك للأسرة العلوية بأبيات من الشعر منها:
هذا الخديو الذي قرت بموكبه … عين الزمان وقالت للهدى ابتهج
يسوس بالعدل والإنصاف أمته … ويبذل الفضل الجدوى لكل رج
وهكذا تجد عائشة نفسها تمدح الخديو، بل ولا تضطر لتسميه ذلك الخديو، فلا فرق لديها بين إسماعيل وتوفيق وعباس حلمي، وهم الثلاثة الذين تلقبوا بلقب الخديو. على الرغم مما هو معروف عنهم تاريخيًا من تفاوت.
كما تؤكد الأبيات ما تراه عائشة من أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان فالخديو يسوس بالعدل والإنصاف أمته، ويبذل الفضل للجميع، ولا يرد من يقصده, وليس للناس بعد هذا مطلب.
وفي الأحداث العاصفة التي مرت بالبلاد أبان الثورة العرابية، اشتركت عائشة تيمور مع من كتبوا منددين بالعرابيين ووصفوهم بالعصاة والمارقين والخارجين على الشرعية فقد كتبت عن العرابيين:
كفروا بأنعم فيض جدواك التي … تربو على قطر الندى وتفوق
ظلموا نفوسهم بخدعة مكرهم … والمكر يصمي أهله ويحيق
فرقت شمل جموعهم فمكانهم … في الابتعاد وفي الوبال سحيق(١٤)
ولا تخرج عائشة تيمور في شعرها السابق عن ما كتبته تلك الفئة التي لاذت بالخديو وارتبطت مصالحها بمصالحه، فبعد عشرين عامًا من أحداث الثورة العرابية, وحين عفى الإنجليز عن أحمد عرابي وقد أصبح شيخًا هرمًا، وأعادوه إلى البلاد، يكتب مصطفی کامل مقالاً لاذعًا شديد الهجاء لأحمد عرابي بعنوان ..” أيها القادم المشئوم“.. يلقى عليه بالمسئولية كاملة عن الاحتلال الإنجليزي للبلاد سعيًا وراء مصلحته الخاصة ورغبته في السيطرة على حكم البلاد.
صغار في الذهاب وفي الإياب…أهذا كل شأنك يا عرابي
عفى عنك الأباعد والأداني…فمن يعفو عن الوطن المصاب
وعمومًا فإن مي زيادة تقول إن ما كتبته عائشة تيمور عن العرابيين يعد الغمزة السياسية الوحيدة في كتابات التيمورية (15) .
أشرنا من قبل إلى انضواء عائشة تيمور إلى ذلك الاتجاه الذي يتبنى مفهومًا اجتماعيًا للنهضة، وقبل أن نتناول كتابات التيمورية في هذا المجال، من المهم أن نشير إلى أن كثيرًا من الأسر ذات الأصول غير المصرية، كالأكراد والشركس والأتراك والشوام قد لعبت دورًا كبيرًا في النهضة المصرية، غير أن روحًا شوفينية تعصبية قد تجاهلت دورها، ويكفي أن نشير هنا إلى دور الخديو إسماعيل وزوجته الثالثة التي أنشأت المدرسة السنية أول مدرسة لتعليم البنات في مصر، ثم دور ابنته فاطمة إسماعيل في تأسيس جامعة القاهرة، ثم نشير إلى دور الأسرة التيمورية نفسها. فها هي عائشة تيمور، ودور أحمد تيمور في جمع التراث الشعبي ومكتبته الهائلة التي منحها هدية إلى دار الكتب المصرية، ومحمد تيمور كأحد رواد المسرح الحديث، وهناك قاسم أمين ودوره في تحرير المرأة، وأسرة نقاش الشامية ودورها في الصحافة المصرية، وغيرها من الأسر ذات الأصول غير المصرية كما أشرنا.
ونعود إلى عائشة تيمور، ويمكن أن تتناول جهودها في مجالات متعددة:
– موقفها من تعليم البنات:
يعد إصرار عائشة تيمور على التمرد على ما أعد لها ولمثلها من بنات الأسر الغنية من أعمال نسوية منزلية، تهيئهن لأداء دورهم التقليدي في خدمة الزوج والأسرة والأبناء، في حد ذاته نموذجًا لموقفها من تعليم البنات على الرغم من أنه كما أسلفنا لم تكن هناك مؤسسات لتعليم البنات، ولم يكن تعليم البنات القراءة والكتابة والأدب والتاريخ شيئًا مألوفًا وشائعًا في ذلك الوقت.
وحرصت عائشة تيمور على الارتباط بالعديد من النساء اللاتي قدمن نموذجًا للمرأة المتعلمة صاحبة القضية والتي تخرج عن المألوف، وترفض التقاليد البالية التي تحاصرها داخل جدران المنزل. مثل هند نوفل، ووردة اليازجي، وزينب فواز، وراحت عائشة تحيى جهود هؤلاء النساء في النشر والتأليف والكتابة.
ثم تكتب دفاعًا عن حق الفتاة في التربية والتعليم:” لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات” وهي ترى أن الفتيات إذا أحسن تعليمهن وتربيتهن فإنهن يعترضن عن قلق الجهل براحة العرفان، ثم توجه الحديث للرجال قائلة:” فيا رجال أوطاننا لم تركتموهن سدی.. وعلام ترفعون الكف الحيرة عند الحاجة كالضال المعنى وقد سخرتم بأمرهن، وإذ دريتم باشتراكهن معكم في الأعمال، واستحسنتم انفرادكم في كل معنى؟ فانظروا عائد اللوم على من يعود“.(16)
وتشترك عائشة تيمور بحماس في الحوار المحتدم والدائر حول الآثار الاجتماعية لتعليم البنات، بكتاباتها في صحيفة الفتاة لهند نوفل، فهي ترفض النتائج التي يخلص إليها المحافظون الرافضون لتعليم البنات والذين يرون أن تعليم البنات مفسدة لأخلاقهن ومبررًا لقراءة الروايات الرخيصة التي تمتلئ بمواقف العشق والغرام، وربما دفعتهن القراءة والكتابة إلى مراسلة من هم غير أزواجهن (۱۷) مما جعل التعليم نفسه مبررًا لا لانهيار الأخلاق فحسب بل لانهيار الأسر كذلك.
کما رفضت ما رآه هؤلاء المحافظون من أن التعليم” يرجل” الفتاة أي يجعلها مسترجلة إذا صح التعبير – ويبعد بها عن طبيعتها الأنثوية الرقيقة. وتعلق مي زيادة على تلك القضية بقولها:” إن ذلك رأى طائش وغبين ذا القائل بأن الاطلاع والعلم يرجلها، بل إنها لتتضاعف بالعلم أنوثتها.. ثم أليس من الغريب أن الرجل إذا هو برز في الشعر أو الفن أو الفلسفة” تأنث” بعض الشيء، بمعنى أنه يدق فكره وتصقل عواطفه ؟ فكيف تتحور العوامل التي يتأنث بها الرجل، فتكون عند المرأة مدعاة للترجل“.(18)
– الدور الاجتماعي للرجل والمرأة بين السلطة والمصداقية:
لم تسلم عائشة تيمور مطلقًا بسلطة الرجل الكاملة والمطلقة على المرأة باعتبار أن السلطة هي مشيئة الله، أو فروض الدين، وإنما راحت في كتابها: مرآة التأمل في الأمور” تحاول تقديم مرآة تعكس العلاقات المتوترة بين الأزواج وزوجاتهم في كثير من العائلات المصرية والتأمل في أسبابها، زيادة على ذلك تقدم الكاتبة محاولة جريئة تعتبر الأولى من نوعها من جانب امرأة متعلمة مسلمة للاجتهاد في مناقشة حقوق الرجال على النساء والنساء على الرجال” (۱۹).
وتبدأ الكاتبة بوصف المنهج الذي تستعمله في التطرق إلى موضوعها الحساس, فتذكر أن نور العقل يضئ أي يقوى على الهدى والإيمان. استعمل الرجال هذا المنهج العقلاني في التفسير الديني وحان الوقت لاشتراك النساء مع الرجال في هذا العمل. هنا تشرح لنا الكاتبة تخوفها ورهبتها من التطرق لهذا الموضوع الحساس وكيف أنها أمضت أيامًا وليالي تفكر في حكمة ذلك. وفي النهاية تقرر الإقدام على هذا المشروع المهم للأمة الإسلامية” (٢٠).
إن عائشة تيمور تربط قضية القوامة في الأسرة لصاحب الدور الاجتماعي وليس للرجل على الإطلاق، فهي ترفض أن تكون القوامة لذلك الرجل الذي ينطلق إلى الخان ومحافل الأخوان، بتلك الثروة المستعارة، وما يدرى بأنه واقع في حبال الخسارة فتارة يبتهج بحث الأوتار وضرب بالآلات وتارة يطرح أدوات المقامرات والنشاط يسمو ويزهو والندمان بالأقداح تروح وتلهو” (٢١)
وترى عائشة تيمور أن من المنطقي والحال كذلك إزاء هذا الزوج” أن تقابله الزوجة بأشد النفور، وتقوم بخدمته بقلب مكسور.. وجد الكف في التبذير .. والبيت لا يقبل في النفقة أعذار وحالة العسر تأبى الاستتار.. فتقوم الزوجة بإدارة ضررها وتقاوم هذا العناد بصبرها، ومن ثم انتقلت السلطة إلى الزوجات، وصرن ربات التدبير وآل النفقات وتخلت الرجال عما لهم من الزعامة التي أوجبت لهم الهيبة والوقار. وتلثمت شهامتهم ببراقع الأدبار من الجين والخجل” (۲۲)
وتختتم عائشة تيمور نقدها لتلك الأوضاع الجائرة التي تحياها المرأة داخل الجدران يقولها:” كيف تستقيم الزوجات. وهي تكظم الغيظ مع الزفرات، وأنى لهن السكوت والصبر ومن بين هجر وهجر، ونضارة عنفوان الشباب تلمع بنواصيهن, وطراوة صبا الصبا تلعب بذوائبهن. وحسرة ضياع ما لهن تومض بصدورهن، فلا غرو أن يكون هذا الحال مجلبة لكل أسف، ومقذفة لكل عار“. (23)
– السعى نحو أخلاق وضعية اجتماعية :
تعد فترات التغير والقلق الاجتماعي والانتقال من عصر إلى عصر، من الفترات التي تنشط فيها روح النقد للقيم والتقاليد والأخلاق، ويسعى المصلحون إلى وضع الأخلاق التقليدية موضع المساءلة وقد قامت عائشة تيمور بذلك في روايتها” نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال” (٢٤) وتقول مي زيادة عن نتائج الأحوال:” لقد وقف الفن القصصي بجمود اللغة ثلاثة قرون، ومن هنا فحكاية عائشة بعيوبها ورواسبها تجربة أولى في النزعة المتجددة ولا سيما في ما يختص بالأدب النسائي، إذ لا أعرف أن امرأة عربية وضعت قصة تامة قبل عائشة، فهي بتجربتها هذه من رواد المنهج الجديد“(25)
وفي أجواء شبه بأجواء” ألف ليلة وليلة” تجرى أحداث حكاية عائشة تيمور, حيث هناك الدسائس والمؤامرات والأطماع والتي تتصارع مع الخير والحق والعدل في ذلك الصراع الأزلي الخالد، وهي تطلق على أبطالها أسماء ذات دلالات أخلاقية فالملك هو العادل، وولي العهد هو الممدوح، والوزير الخير هو عقيل، بينما يمثل الشر شخصيتي أشنام وغدور.
وتخلص عائشة من حكايتها إلى أنه بعد أن عوقب الممدوح بنتائج ضلاله، ويوم ثاب واعترف بخطئه، وبعد أن أتمت المحن تهذيبه وتهيئته لمنصبه عادت إليه حقوقه، وتعلق مي زيادة على حكاية عائشة بقولها: أما أن الحياة تتصرف معنا على هذا النحو – تقصد انتصار الحق دائما في النهاية – فقد يحدث ذلك أحيانًا، ولكن سواه يحدث أيضا.. قد يتفق أن يعلو صوت الحق، ويفوز الصلاح، ويظفر المرء بما هو له بحكم الطبيعة والشرع، والكفاءة أو عمل الخير والتضحية، ولكن لماذا يفوز الشر، ويغلب الظلم، ويجار على صاحب الحق بجميع القوانين البديهية والمشروعة فيتألب الناس على سحقه وإهلاكه، وكل ذنبه الإخلاص والتفادي. وما كان أعدل الدنيا وأنصف الأقدار لو كوفئ كل بما يأتيه، وكان الجزاء حقًا من نوع العمل .. على أنه لا مندوحة لنا عن نشر المبادئ الأخلاقية والأخذ بها.. يحسن ذلك لأنه ينطبق على مبادئ الأخلاق العالية ما قاله فولتير ( الجاحد ) عن الألوهية:” لو لم يكن الله موجودًا لوجب أن نخترعه” (٢٦)
– التجديد في الشعر:
كانت عائشة تيمور تكتب الشعر في نفس الوقت الذي نصب فيه محمود سامی البارودي باعتباره أول المجددين للشعر العربي، وبدون شك فقد جدد البارودي كثيرًا من أغراض الشعر ومراميه ولغته وغير ذلك من أوجهه بعد أن ران عليه التخلف طول العهود المملوكية والتركية. غير أني لا أعرف لماذا أغفلت الدراسات شعر عائشة تيمور تمامًا, على الرغم من قدرتها التجديدية الفذة ويكفي أن نشير إلى بعض كتاباتها الشعرية، فهي تعبر عن قلقها الوجودي بقولها: (۲۷)
أين السلوك الذي أسرار لمحته … مصباح نور لمشكاة المناجاة
كيف الخلاص وأجداث الشقا الوطني … وقد رمتني بها أيدى الشقاوات
كيف المسير إلى أرض المنى وأنا … بطاعة النفس في قيد الضلالات
وهي تعارض بردة البوصيري بقولها:
أعن وميض سري في حندس الظلم … أم نسمة هاجت الأشواق من إضم
فجددت لي عهدًا بالغرام مضى … وشاقني نحو أحبابي بذى سلم
دعا فؤادي من بعد السلو إلى … ما كنت أعهد في قلبي من القدم
وفي الغزل تقول:
أفنيت صبري في هواك متيمًا … وقضيت عمري في جمالك مغرمًا
وتركت سرى بالتجلد مبهماً … فأنلتني تيها أباد وأعدمًا
حتى استبان لديك ما واريته
ولم تتوقف جهود عائشة تيمور على ميدان الشعر العربي، بل تعداه إلى الشعر والأدوار الغنائية العامية، ويقول الدكتور سيد العشماوي إن عبده الحامولي قد غنى بعض الأدوار التي كتبتها عائشة تيمور ومنها..
حياتي بعد بعدك نوح … ووعدى ضيعك منى
دا إنت إنت الغذا للروح … وليه ترضى البعاد عنى
****
سلامة مهجتى من الآه… تعا يا قلب ننعيها
لهو أنت القلب لا والله… دا قلبي من سكن فيها
****
يا حلو طبعك ظريف … وأنت فريد في الصفات
لو كنت لين لطيف ؟؟ … قاللي دا كان يوم وفات
(1) لويس عوض، تاريخ الفكر المصري الحديث، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1980,ص 34.
(2) عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد على القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة ٢٠٠٠، ص46.
(3) المرجع السابق، ص 316.
(4) عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، الجزء الأول القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة۲۰۰۰، ص ٢٤٧.
(5) – عصر إسماعيل، الجزء الأول القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة ٢٠٠٠،ص١٥٦.
(6) كمال مغيث، أول مدرسة لتعليم الفتيات في مصر، مجلة أنهار، العدد 7
(۷) عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، الجزء الأول، مرجع سابق، ص ۲۰۳. (۸) عائشة التيمورية، حلية الطراز: ديوان القصائد التي لم يسبق نشرها، القاهرة، مطبعة دار الكتاب العربي، سنة ١٩٥٢، ص 17
(9) أبو بكر الصديق محمد الصديق، أحمد تيمور وجهوده في ميادين الأدب والنقد والتحقيق،( رسالة ماجستير غير منشورة، كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر) ص۲۱.
(۱۰) عائشة التيمورية، حلية الطراز، مرجع سابق، ص 16
(۱۱) عائشة عصمت بنت المرحوم إسماعيل باشا تيمور، نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال. القاهرة، مطبعة محمد أفندى مصطفی، سنة ١٣٠٥ ه، ص ۳.
(۱۲) مي زيادة، مقدمة ديوان حلية الطراز، مرجع سابق، ص 57.
(۱۳) أبو بكر الصديق محمد الصديق، أحمد تيمور وجهوده، مرجع سابق، ص 4.
(١٤) عائشة التيمورية، حلية الطراز، مرجع سابق، ص ٢٤٢.
(١٥) مي زيادة، مقدمة ديوان حلية الطراز، مرجع سابق، ص 106
(16) عائشة تيمور، لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات، عن مقدمة مي زيادة لديوان حلية الطراز مرجع سابق، ص ١٤٦.
(۱۷) آمال محمود السباعي، عائشة التيمورية: حياتها وشعرها، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الدراسات الإسلامية، جامعة الأزهر سنة 1988، ص ۲۱۷.
(۱۸) مي زيادة، مقدمة ديوان حلية الطراز، مرجع سابق، ص ٦٢.
(۱۹) میرفت حاتم، مقدمة كتاب مرآة التأمل في الأمور، القاهرة، ملتقى المرأة والذاكرة، الطبعة الثانية، ۲۰۰۲، ص ۸.
(۲۰) المرجع السابق، ص ۹.
(۲۱) عائشة عصمت هانم كريمة المرحوم إسماعيل باشا تيمور، القاهرة: مطبعة المحروسة، سنة ۱۸۹۲، ص 4.
(۲۲) المرجع السابق، ص 6.
(۲۳) المرجع السابق، ص 15.
(٢٤) عائشة عصمت بنت المرحوم إسماعيل باشا تيمور، نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال, القاهرة: مطبعة محمد أفندي مصطفى، سنة ١٣٠٥ه.
(٢٥) مي زيادة، مقدمة ديوان حلية الطراز، مرجع سابق، ص ۱۳۹.
(٢٦) المرجع السابق، ص ١٤٠.
(۲۷) عائشة التيمورية، ديوان حلية الطراز، مرجع سابق.