خطاب الحداثة: ديوان” حلية الطراز” ورؤية عائشة تيمور لحركة التغيير الاجتماعي والسياسي في مصر
بين عامی ۱۸۷۲ – ۱۸۹۰
مقدمة :
من الممكن أن نقول إن شعر ونثر عائشة لم يحظيا باهتمام النقاد عامة ودارسي تاريخ المرأة المصرية. تعتبر مي زيادة الاستثناء لهذه القاعدة. فلقد قامت مي، كما هو معروف، بكتابة سيرة عائشة وقدمتها أولاً في شكل محاضرة ألقتها في عام ١٩٢٣ أمام عضوات” جمعية فتاة مصر الفتاة“. نشرت مجلة المقتطف في نفس العام الفصول الأخرى للبحث الموسع الذي قامت به مي عن حياة وأعمال هذه الكاتبة/ الشاعرة.
لأن مي وعائشة امرأتان ولأن مي حظيت بتشجيع وتأييد معظم أعلام الحداثة في مصر (مثل أحمد لطفي السيد، طه حسين، عباس محمود العقاد، الشيخ مصطفى عبد الرازق وسلامة موسى) بحضورهم لصالونها الأدبي، فلقد اعتبر النقاد والقراء أن رأيها في الشاعرة وديوانها غير متميز. اشترك هؤلاء أيضًا في الاعتقاد بموضوعية معايير الرؤية الحداثية التي تمثلها مي في تقويمها لهفوات الديوان وإنجازاته.
أود في هذه الورقة إعادة النظر في هذه المسلمات الخاصة بالرؤية الحداثية, رؤية مي لشعر عائشة وفهمنا لديوانها. ثانيًا، سأقترح أن” ديوان حلية الطراز” لعائشة تيمور يقدم لنا بشيء من التفصيل خصائص حركة التغيير الاجتماعي والسياسي في مصر بين عامین 1872- 1890. ثالثًا، أن الاعتقاد بتقليدية الأشكال كمعيار لتقليدية مضمون افتراض غير مفيد يحد من فهمنا وتقديرنا لآراء ورؤى الشاعرة.
تقدم می رؤی متناقضة لحياة وشعر عائشة تيمور تمثل نقاط ضعف أساسية في خطاب الحداثة عن هذه الشاعرة. أولاً، ترى مي أن عائشة” طليعة اليقظة النسوية” (1) في مصر ولكنها تصف شعرها بأنه يمثل كل مشاكل الشعر القديم مثل عدم التنظيم .., (عدم وجود) أثر للتاريخ – إلا في القصائد التاريخية في السطر الأخير فيها …, الإفصاح عن عواطفها باستعارات من سبقها … تستسلم في الغلو في شعر المجاملة. ترسم نفسًا ساذجة، مخلصة، عذبة تروى حديثها بأسلوب وجدانی وروائی (۲).
رغم أن مي تقدم عائشة على أنها طليعة اليقظة النسوية، إلا أن دورها الطليعي يتمثل فقط في ظهورها في مجتمع غلب صوت المرأة فيه. ولا شك في أن هذا مفهوم ضيق للغاية وساذج جدًا في وصفه لليقظة والنسوية! مثلاً تصف می شعر عائشة بأنه غير حديث ويمثل كل مشاكل الشعر القديم. يطرح ذلك على القارئ/ القارئة السؤالين التاليين: إذا كانت عائشة وإنتاجها يمثلان في مجتمع تقليدي، فلماذا لا تعيد مي النظر في وصفها لعائشة بأنها طليعة اليقظة النسوية؟ أما إذا كانت عائشة نتاج مجتمع حديث، ألا يحق لنا أن نتساءل عن تقدميته وبالتحديد تقییم می العنيف لديوان عائشة والذي يعكس اعتقادها بدونية الإنتاج الأدبي للمرأة في هذه الفترة وتخلفها في ركب الحداثة؟
لأن مي لا تحترم أشكال هذه الشعر القديم نسبيًا لها، فهي غير قادرة على تقييم قدرته على تقديم بعض المفاهيم الجديدة في أشكاله المألوفة. مثلاً، تتذکر می أحد مواويل عائشة الشائعة في ذلك الوقت والذي أنشده الكثيرون وكيف أنه مثل” فنًا وتغريدًا وإبداعًا.” ولكنها تصف المناخ العائلي والاجتماعي الذي أنتجه كما لو كان لم يتغير منذ القدم وعليه يمثل” زفرة من زفرات عائشة في وحدة خدرها وراء الحجاب” (۳). تقدم مي هنا المفهوم الاستشراقي الشائع للحجاب والخدر آنذاك. لا تلتفت إلى أن تعليم عائشة أتاح لها – عن طريق الموال وديوان حلية الطراز– الخروج المعنوي من الخدر ومن وراء الحجاب لكي تخاطب جمهورًا أوسع يعني ذلك أن الحجاب في هذه الحالة لم يمنع المرأة من مواكبة حركة التغيير كما أن وجوده لا يمثل بالضرورة– كما تفترض می – معيار التخلف أو عدم التقدم. إذا أخذنا عائشة كمثال، تقدم لنا الشاعرة في ديوانها تحليلاً رائعًا” لحجابها” الذي تستعد للتعبير عن حركة التغيير وأهمية الالتزام بقيم ثقافية إسلامية تفتخر بها. لا يوجد مكان لهذه العائشة في خطاب الحداثة الذي تستغله مي لبناء سيرة عائشة وتحليل أعمالها. هنا يحق لنا أن نتساءل عن الظروف التي اختارت مي الكتابة فيها عن عائشة تيمور كجزء من محاولة نقد هذا الخطاب وفتح النقاش عن عائشة بطرق أخرى.
اختارت می سير النساء (باحثة البادية، عائشة تيمور ووردة اليازجي) للحديث عن دور المرأة في المجتمعات القومية الجديدة في مصر وفي لبنان في العشرينيات من القرن الماضي ولتقدم نفسها كحجة في تاريخ المرأة العربية وكتاباتها الأدبية. استفادت مي من هذه الكتابات لتأكيد هويتها النسوية ولتأصيل الخطاب الحداثي في الحديث عن المرأة، والذي أثبت إخلاصها للمشروع التنويري والذي كان كل دعاته في ذلك الوقت زوار صالونها الأدبي من الرجال. هنا تتضح انتهازية الخطاب القومي والحداثي لسير النساء كدليل على تقدميته.
اختارت می سيرة عائشة تيمور كموضوع لمحاضرة في لحظة قومية مهمة: عامی ۱۹۲۲– ۱۹۲۳ حين كان زعماء الحركة الوطنية وثورة 1919 يتفاوضوا مع الإنجليز على نهاية الحماية الإنجليزية على مصر والتي سخرت كل موارد مصر لخدمة الإنجليز والحلفاء في الحرب العالمية الأولى. أدت هذه المفاوضات إلى تصريح ۲۸ فبراير ۱۹۲۲ الذي أدى للاعتراف لمصر بأنها دولة مستقلة ذات سيادة مع تحفظات أربعة تقلل من هذه السيادة والاستقلال مثل: (۱) تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر، (۲) الدفاع عن مصر من كل اعتداء أجنبي، (۳) حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات، (4) السودان(4).
في هذا المناخ الوطني الفخور بإنجازاته، تقول مي أنها قررت اختيار” شخصية نسائية غنية تسجل للحركة النسائية في هذه البلاد مفخرة أخرى تثير فينا الرغبات ونستمد من وحيها المثل والمعونة والفائدة جميعًا. ثانيًا، أن الجمهور يعرف أنها شاعرة دون أن يلم بما تتكون منه شاعريتها .. ثالثًا، أن النظرة في مقدراتها إنما هو اكتناه للذات المصرية ليس من الجانب النسوي فحسب بل بوجه عام” (5).
من الواضح هنا أن الرؤية الوطنية والمناخ القومي أثر بشكل مباشر على بناء مي لسيرة عائشة. تقدم مي عائشة وعائلتها كامتداد للمشروع الحداثي المصري الذي بدأ تاريخيًا بحملة نابليون على مصر 1798 وتزامن مع وصول أسرة محمد على إلى السلطة والتي حكمت مصر على مدى قرن من الزمان وتبنت مشروع تحديث مصر. تقترح مي أن عائلة تيمور بأصولها التركية لعبت دورًا مهمًا في الحكومات المصرية المختلفة ومشروعيها الحداثي والقومي.
تُعَرف مي مشروع الحداثة بأنه نتيجة” تواصل الاحتكاك بمدنية الغرب سواء بواسطة النزلاء المقيمين في هذه الديار، وبعوث الشباب العائدين من أوروبا وقد تطعمت نفوسهم بجديد النزعات وحديث الآراء وجماعات خريجي المدارس المصرية وقد سرت إليهم عدوى الفكر العصري خلال ما تلقنوا من الدروس الأوروباوية. وقدم مصر جماعة من نوابغ السوريين وأحرارهم النازحين إثر النكبات فكان صدام أفكارهم بأفكار المصريين جزيل النفع للفريقين وللفكر الغربي“(6). يتضح من هذا الوصف للحداثة أنها لا تعتمد على تآلف القديم والجديد بل وتعتبر مشروع مناقصة للنظام الاجتماعي القائم. تعتمد الحداثة أيضًا على تحالف بعض المصريين مع الأوربايين والسوريين لنشر الفكر الغربي الذي ينفي الفكر المصري القديم لتخلفه وعدم صلاحيته للتقدم.
في هذا السياق، تعطى في الاحتلال الإنجليزي محتوى إيجابي حداثی وتستعين بقاسم أمين في تأييد هذه الرؤية. تقول مي:” (وبعد أن) كان ما كان من احتلال إنجلترا وتفويضها إلى لورد دوفرن دراسة مختلف المشاريع وتنفيذها في مصر، استطرد التنظيم والتقدم بحيث تمكن القاضي المفكر قاسم أمين من أن يقول في رده الفرنسوي على الدوق داركور:” إن الحرية التامة سواء في التفكر والكتابة أصبحت مباحة وأن المصري يتمتع الآن بكل ما ضمنه الإعلان الشهير من حقوق الإنسان“(7).
من غير الواضح هنا، لماذا يريد المصريون الاستقلال من إنجلترا إذا كان الاحتلال أدى إلى التنظيم الاقتصادي والحرية والتمتع بحقوق الإنسان؟ هذه إحدى تناقضات خطاب الحداثة التي يطرحها علينا المد القومي. إن فترة الحرب العالمية الأولى أظهرت الوجه القبيح للاحتلال وعدم التزامه بالحرية واستغلاله لموارد المستعمرات لمصلحة الدول المحتلة وتدخله السافر في كل قرارات الحكومة. رغم كل ذلك، حاولت می استثناء قضايا المرأة والثقافة من هذا الوجه القبيح لمشروع الاحتلال الحداثي. حين تعقب مي عن التغيير الاجتماعي الذي واكب الحداثة، تقترح أن المرأة عائشة استفادت منه. تذكر مي أيضًا أن أسلوب الكتابة في الشعر والنثر استفاد من نقد الاهتمام الزائد بالسجع والجناس والاستعارة والتورية ومدح لغة وأسلوب الصحافة كأنجح الأساليب مثالاً(۸). رغم كل ذلك فإن القارئ لسيرة عائشة التي كتبتها مي لا يمكن أن يتغاضى عن إدانتها للنظام الاجتماعي المصري في هذه الفترة وإنتاجه الثقافي العربي مثل” حلية الطراز” والذي لا يمثل الحداثة كما تعرفها مي.
بما أن مي تنتقد” حلية الطراز” نقدًا عنيفًا، هل يا ترى يمكن للنقاد أن يقدموا قراءة أكثر توازنًا لهذا الديوان نستطيع منها رؤية عائشة على أرضية مستقلة خاصة بها وبعصرها؟ في ما يلي، سأحاول تقديم رؤية عائشة للقضايا الاجتماعية والسياسية التي عالجتها في ديوانها.
في المقدمة النثرية الديوان، تبدأ عائشة بحمد الله الذي” أطلع شموس البلاغة من سواطع مطالع العبارات وأينع غصون الفصاحة المورقة بأحاسيس البراعات“. في الجملة الثانية تؤكد عائشة المصدر الإلهي لهذه الاهتمامات الأدبية. تحسد عائشة الله سبحانه وتعالى على القرآن الكريم (البيان) والذي هو مصدر البلاغة والفصاحة العربية. لقد تملك هذا الكتاب الكريم القلوب كالسحر ونشر الاهتمام بالأدب كمصدر لتنبيه العقول. هنا تزيد عائشة أن الكتب الدينية لا تجحف الأدب حقه بل تشجع النقاش العقلاني للأمور الدينية. (9)
لابد من تركيز القارئ / القارئة على أن القرآن الكريم كان مصدرًا لدراسة اللغة العربية لفترة طويلة من الزمان. حين أبدت مي زيادة رغبتها في تعلم اللغة العربية في عام 1914، نصحها أحمد لطفي السيد أن تقرأ القرآن لكي تقتبس من فصاحة أسلوبه وبلاغته(۱۰). في مقدمة نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال، تزيد عائشة بذلك مطالعة الحكايات القرآنية وإدراك معانيها(١١). لأنها كانت من النساء المخدرات (أي المحظور خروجهن من بيوتهن)، لم تكن لديها فرصة لتعلم الأدب كما يتعلم الرجال. تقول عائشة في ذلك السياق، إن دراستها للأدب عن طريق القرآن تقدم تفسيرًا للآية الكريمة والتي تقصد إلى أن الله علم الإنسان ما لم يعلم. لقد تعلمت النساء الأدب عن طريق القرآن رغم اعتراض الرجال على ذلك في هذه الفترة.
أخيرًا، ترد عائشة الشهادة الإسلامية وتذكر فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرت في مباراته فطاحل البلغاء أي أنه كان من رجال الأدب والشعر، زيادة على مركزه الدینی.
بعد ذلك تؤكد عائشة على أن الشعر ديوان العرب وعنوان الأدب. يجذب هذا النشاط ذوى الذكاء وأولى الفضل. زيادة على ذلك هناك تاريخ طويل وقديم من ذوات القناع واللاتي رسخن أقدام النساء في هذا المجال مثل ليلى الأخيلية وولادة بنت المستكفي وعائشة الباعونية ووردة اليازجي. تمثل كل واحدة منهن دورًا لنا أو سيرة يحتذي. بها لا تسهب عائشة في سيرتهن ولكن من قاموس زينب فواز يمكن أن تذكر الإنجازات التالية: فليلى الأخيلية بدأت كموضع هوى توبة بن الحمير بن عقيل خفاجي الذي قال فيها الشعر. حين زوجها والدها غيره عصت أهلها واستمرت في رؤيته. حين أرادوا قتله، أنذرته أكثر من مرة. حين توفي توبة رثته بمرات كثيرة أثبتت قدرتها الشعرية المستقلة(١٢).
أما عن ولادة بنت المستكفي فلقد كانت واحدة زمانها ومشهورة بالصيانة والعفاف وكانت أدبية وشاعرة تفوقت على معاصريها وكان لها مجلس بقرطبة، وأخيرًا, فبالرغم من كثرة محبيها فولادة لم تتزوج قط(۱۳) بالمقارنة عائشة الباعونية كانت شاعرة فاضلة وأدبية لبيبة وأجمع العارفين على أنها تزيد عن الخنساء بين الجاهليين ولها شعر بديع في المدائح النبوية مثل عائشة تيمور(14). أخيرًا، وردة اليارجي كانت معاصرة لعائشة تيمور وتعلمت في أسرة ذات تاريخ في الشعر والأدب.
تعتبر عائشة كل واحدة منهن نموذجًا لكفاحها حتى تجيد الشعر والنثر. تمثل الأخيلية عصيانها ضد الأسرة في هذه المحاولة. بنت المستكفي تمثل عصيانًا من نوع آخر في رفضها للزواج، أي العرف الخاص بأدوار النساء، أما عائشة الباعونية فتمثل اهتمامها بالمدائح النبوية. كما تمثل اليازجي خلفية أدبية/ تاريخية مشتركة تركت أثرًا على كلتا الشاعرتين.
تذكر عائشة أنها تنظم الشعر باللغة الفارسية والتركية وفي بعض الأحيان باللغة العربية التي تعتبرها شريفة لعلاقتها بالقرآن الكريم. أصدرت أشعارها العربية خوفًا من تشتتها ورغبة في طلب والغفران من الله لحزنها الطويل ابنتها توحيدة. في نهاية هذه المقدمة، تحاول عائشة وصف أشعارها بمنتهى التواضع فتقول أنها مهما بلغت فهي مازالت قاصرة عن درجة أهل الفضل من أفاضل الرجال!
بعد نسبة نفسها لشاعرات قديرات وذكرها لقدراتها الشعرية بالتركية والفارسية، يحق لنا أن نتساءل إذا كان الهدف من تواضعها تجاه” أفاضل الرجال” هو تحييد النقاد الرجال.
يبدأ ديوان حلية الطراز بقصيدة تقدم تعريفًا جديدًا للأنوثة الإسلامية تتمسك عائشة فيها بالحجاب وبالأفكار النبيهة والموهبة الفذة. حين تذكر عائشة أن الكثيرات من ذوى الخدر والحسب قرضن الشعر تتحدى الدعاوى الحديثة التي تذكر أن ذوات الخدر لعبن دورًا رياديًا في التاريخ الإسلامي. من المثير هنا أن مي زيادة لا تذكر ذلك السلف الشهير من شاعرات العربية في العصور التي مضت. حتى لا تتهم بالفخر، تدعى عائشة أنها نظمت الشعر كفكاهة وتمرين لبلاغة منطقها وكتاباتها. ولكنها تصحح ذلك بسرعة لتقول للقارئ أن ليلى بنت المهدى وليلى الأخيلية – الشاعرتين المعروفتين – قدوة لها في هذا المجال. وتشير كذلك لتاريخ طويل من نساء عربيات طلبن العلا، وفي بعض الأحيان خصص حياتهن لهذا الهدف. هنا تعطي تيمور كلمة” عوانس“, التي عادة ما تستعمل كسلاح اجتماعي لإرهاب المرأة إلى زواج أي رجل، معنى جديدًا. هناك عوانس خصصن حياتهن لأهداف عليا مثل الآداب. هنا يتضح لنا لماذا اخترت عائشة ولادة بنت المستكفي كإحدى الشاعرات اللاتي تعجب بهن وتعتبرهن قدوة أدبية, شعرية واجتماعية. بالرغم من كثرة محبيها ومعجبيها فلقد اختارت ولادة ألا تتزوج. من تجربة عائشة الشخصية، لقد أدى الزواج إلى تأجيل طموحاتها الأدبية.
تقول عائشة إنها تستعمل دفاترها التي تكتب فيها الشعر بدلاً من المرآة التي تتزين فيها المرأة وبدلاً من الصبغة التي تستعملها بعض النساء لتزيين أياديهن, تستعمل عائشة الحبر للكتابة.عائشة فخورة بكل ذلك وبذكائها وتعتبر جمال أقوالها مثل عطر المرأة والماء الذي تروى به علاقات الأحباب. رغم أن عائشة فخورة بإنجازاتها، فمن الواضح أن نساء طبقتها يستعملن كتاباتها الأدبية لشن الحرب عليها. هنا تقول عائشة” لا تضرني مواهبي الأدبية وحسن تعلمي إلا أن الكثيرات يستعملنها لإلحاق الأذى بي! في نفس الوقت تشير عائشة إلى الدعاوى الحديثة التي تصف طراز ثوب المرأة المسلمة وحجابها كمعوق يمنعها من الوصول إلى المراكز العليا. تقترح أن الخمار والنقاب لا يمنعانها من كسب أي رهان أو سباق يخص المعرفة. تشير عائشة إلى تفوقها بكلمة” صول” والتي هي من أصل تركي عسكري لتصف درجة فراستها وحسن مساعيها. كل ما هنالك أن الأغراب (تعنى هنا الأجانب) لا يفهمون هذه الأسرار عن المرأة المسلمة. تصف عائشة المرأة المثقبة أو المخدرة أنها كالمسك في أدراج الخزائن والتي ما أن تفتح حتى تنتشر رائحتها الذكية أو كالمحارة التي تحتوى اللؤلؤ والتي لا تمسها يد الطلاب. في التشبيه الأول، تأخذ عائشة إحدى الممارسات النسائية مثل وضع المسك في الخزائن لتصف معنى جديدًا للأنوثة الإسلامية المتفوقة. هناك الكثير الذي لا يعرفه الرجال عن تفوق النساء في الخدور حتى يفاجئهم عطر إنجازاتهم. في التشبيه الثاني، تشير عائشة إلى رغبة الرجل الحديث في امرأة مسلمة مصونة كاللؤلؤة وفي نفس الوقت ذات مواهب وتعليم يزيد من قيمتها.
أما عن الجانب السياسي لهذا الديوان، فلقد كتبت الشاعرة سبع قصائد تعكس تأييدها للعائلة المالكة المصرية ممثلة في شخص الخديوي إسماعيل والخديوي توفيق. لقد اختار الخديوي إسماعيل أبا عائشة للانضمام إلى معية ولى عهده الخديوي توفيق. للأسف توفى إسماعيل تيمور بعدها بمدة قصيرة. زيادة على ذلك اختارت والدة الخديوي إسماعيل عائشة كمترجمة لضيوفها من العائلة المالكة الفارسية. هذه الحقائق تفسر مواقفها المؤيدة لهذين الخديوين. كتبت عائشة قصيدتين في الخديوي إسماعيل وخمس قصائد في الخديوي توفيق. بعض عناوين القصائد التي كتبتها عائشة في الخديوي توفيق كُتبت لتوضع على ألواح زينة بمناسبة عودة الخديوي بعد فشل الثورة العرابية مثل” قالت ليكتب على ألواح تعلق في زينة قدوم الخديوى” (ص ٢١) أو” قالت وقد كتبت في لوحات الزينة بمدينة بنها العسل عند مرور الخديوي المعظم” ص ٢٤. يعني هذا أن عائشة ظهرت في هذه الفترة كأحد شعراء الأسرة الحاكمة تكتب لكي تعبر عن تأييدها للخديوى ودعوة المصريين لتأييده. اهتمام عائشة بالسياسة ليس اهتمامًا عابرًا فالقارئ لكتابها” نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال” يعرف جيدًا اهتمامها بكيفية إصلاح أساليب الحكم الإسلامية ووسائل معالجة الأزمات السياسية التي تواجه الأسر الحاكمة في مصر وفي الإمبراطورية العثمانية. في” حلية الطراز“، تطوع عائشة لكتابة هذه القصائد لكي تستعملها الحكومة في محاولة تقديم عودة الخديوى بطريقة إيجابية يعتبر امتدادًا لاهتماماتها السياسية.
تصنف في هذه القصائد السياسية كمثال لشعر المجاملة باستثناء قصيدة واحدة خاصة برجوع الخديوي توفيق إلى مصر” بعد حادثة الثورة” كما تصفها عائشة. سأحاول فيما يلى تقديم رؤية مختلفة لهذه القصائد والتي تعتبر امتدادًا لاهتمام عائشة بالهموم السياسية في هذه الفترة الحرجة من تاريخ مصر الاقتصادي والسياسي. رغم أن العناوين التي اختارتها عائشة لهذه القصائد لا تشي بأهداف سياسية مباشرة إلا أن مضمونها سياسي بمعناه الواسع. هذه بعض العناوين لهذه القصائد:” تهنئة الخديوي السابق (إسماعيل) بقدومه إلى مصر“، قالت تهنئ الخديوى السابق“،” قالت ليكتب على ألواح تعلق في زينة قدوم الخديوي (توفيق)”،” قالت عند عودة مولانا الخديوى إلى مصر بعد حادثة الثورة“،” قالت وقد كتب في لوحات الزينة بمدينة بنها العسل عند مرور الخديوى المعظم“،” وقالت وقد تولى الخديوية مولانا الخديوي المعظم محمد توفيق باشا“.
إذا نظرنا إلى مضمون هذه القصائد كمجموعة، سنرى أن عائشة تقدم ضمن التهاني:(1) الحديث عن” مصر” و“آمالها القومية“, (2) ارتباط هذه الأماني بإنجازات الخديوي إسماعيل والخديوي توفيق، (3) إدانة الثورة العرابية، وزعمائها وأهدافها. في أربع من السبع قصائد التي تناقش الخديوي إسماعيل وتوفيق, تستعمل عائشة تعبیرات مثل بشراك يا مصر” مرتين،” مصر السعيدة” في قصيدة ثالثة و” نعم افتتاح الهنا يا مصر” في قصيدة رابعة. في هذه القصائد، تصف الشاعرة مصر بأنها قطر جغرافي يشير إلى جماعة وطنية. في قصيدة خامسة عنوانها” قالت عند عودة مولانا الخديوى إلى مصر بعد حادثة الثورة” تقدم عائشة من خلال العنوان فكرة لأن الثورة وزعماءها حاولوا التفريق بين مصر وحكامها الشرعيين. في قصيدة سادسة تشير إلى زيارة / مرور الخديوي بمدينة بنها العسل والتي هي جزء محلى من مصر القومية. في كل ذلك، تؤكد عائشة ظهور القومية المصرية بكل تداعياتها الجغرافية (القطرية والمحلية)، التاريخية والسياسية.
ماهي أماني مصر القومية التي يمثلها الخديوي إسماعيل وتوفيق؟ تبشر عائشة بأن عصر إسماعيل هو عصر إقبال / عصر تقدم وسعادة. لقد شرف إسماعيل” القطر” الذي يحكمه ويملكه. رغم أن عهد إسماعيل يمثل أفكارًا إصلاحية مثل التقدم الاقتصادي وازدياد فرص السعادة للبشر، فعائشة تقدم أيضًا تعريفًا سياسيًا للحاكم قديمًا وجديدًا في نفس الوقت. فكرة أن الحاكم يملك قطره توحي باستعباد الحاكم لشعبه أو أن الحاكم” مالك” بمعناه الرأسمالي الجديد والذي يقدم المالك على أنه مسئول عن حسن إدارة قطره. تذكر تيمور في هذا السياق، أن إسماعيل” عزيز على شعبه” والتي هي جزء من الفكرة الحديثة أن هناك علاقة وجدانية مهمة بين الحاكم والمحكومين. أخيرًا، تقترح تيمور أن عهد إسماعيل يمثل مبادئ سياسية جديدة مثل الشرف والحفاظ على العهود(١٥).
في قصيدة أخرى، تؤكد عائشة على العلاقة بين عهد إسماعيل وأهمية الشرف وسعادة مصر برجوع حاكمها الذي يعطف عليها. تمثل مصر على أنها امرأة تزينت وتجملت استعدادًا لرؤية رجلها / حاكمها بعد غياب. امتدت هذه السعادة إلى النيل والشعراء. وتذكر عائشة هنا اسمها الآخر (عصمت) لتقول إن قصيدتها تعبير عن سعادتها برجوع الخديوي إسماعيل إلى مصر.
في قصائد عائشة عن الخديوي توفيق، تستعمل الشاعرة نفس المواضيع التي أثارتها في مناقشتها لعهد الخديوي إسماعيل وتزيد عليها حين تولى الخديوي توفيق الحكم، تقوم عائشة بتبشير مصر بالفيض والبهجة والمصريين بالسعادة. تُّذكر المصريين بأن مصر الحديثة تمثل مرآة مصقولة وأن القطر المصري يدنو إلى العلا. الخديوي الجديد سيحكم بالهدي والعدل ولن يشغله سوى سعادة مصر وتقديم الخير المصريين. إن عهده سيحقق الإصلاح والرجاء المعقودين عليه. لذلك استقبل المصريون عهده باليمن والابتهاج والاستبشار بالفرج بعد اليأس ( هذه إشارة واضحة للأزمات الناتجة عن تفاقم ديون الحكومة المصرية للبنوك الأوروبية)(16).
في قصائد ثلاث تحتفل بعودة الخديوي توفيق إلى مصر بعد فشل الثورة تشمل عائشة الخديوي في الشعور القومي المصري فتذكر أنه عاد إلى وطنه وأن أرض مصر أضاءت فرحًا من حبها له. حين يزور/ يمر الخديوي بمدينة بنها العسل، تُذكر عائشة سكان هذه المدينة المحلية أن النصر كان حليف توفيق ولذلك لبست أرض مصر والمصريين أبهى زينة في لقائهم به. إن زيارته لهذه المدينة أطفأت عطش الأرض وأن القطر بأجمعه تهلل بشرًا(١٧).
أخيرًا، تمثل قصيدة تيمور عن الثورة العرابية محاولة متحزبة وميالة من عائشة لإعطاء محتوى سلبي للتعريف القومي الذي قدمته الثورة العرابية. تمثل القصيدة انقسام القطر وطبقاته المختلفة كما تمثل انقسام الحكام والمحكومين على حل المشاكل القومية. تصف الشاعرة طرفي النزاع في الثورة العرابية كقوى الشر (عرابي وأصحابه) وقوى الخير (حكومة الخديوي). في رأي عائشة، أن رجوع الخديوى إلى مصر أعطى دفعة إيجابية لقوى النظام/ الطبقة الحاكمة. تُهلل الله أكبر في الاحتفال بعودة” عزيزنا” (أي عزيز الطبقة الحاكمة) ولكنها تحاول القول أيضًا بأن هناك إحساسًا عامًا بالسرور. إن عودة الخديوي إلى بلاده تمثل انتصار قوى الحق وعودة العناصر الكريمة (التركية) إلى السلطة كما تقول بأن الذين يكفرون بسيادة الخديوى/الدولة المصرية عديمي العقل وزنادقة. لقد ظلم زعماء الثورة أنفسهم واستعملوا الخدعة والحيلة في سلب الحكم. كانت النتيجة أن المكر وضعهم في أسوأ موقف. لقد نجح الخديوي في تفريق شملهم وهم الآن يعانون ما جنوا على أنفسهم في المنفى. لقد انتصر الخديوي وسيعينه هذا النصر على قيادة شعبه في الحاضر والمستقبل والحكم بالعدل.
في هذه القضية تأخذ عائشة موقف الدفاع عن مصالح طبقتها التركية/ العثمانية ضد تهديد الحركة الوطنية المصرية. لأن ذلك يضعها في مواجهة الأغلبية المصرية، يجب أن نصف موقفها السياسي بالمحافظة على الأمر الواقع. في نفس الوقت، تعي عائشة أن انقسام المصريين يمثل تهديدًا من نوع آخر للدولة المصرية. ولذلك هي تقترح على القارئ/ القارئة أن انتصار الخديوي يمهد لبداية مرحلة جديدة يحكم فيها بالعدل بين الأطراف التي لعبت دور في الثورة العرابية. من الغريب هنا أن تيمور لا تذكر الاحتلال الإنجليزي الذي مهد الرجوع الخديوى وحجم من قدرته على الحكم. تيمور تفضل التذكير بالسلطة السياسية الشرعية التي يعترف بها المصريون ولابد أنها ترى في سلطة الاحتلال اغتصابًا لسلطة الخديوي. القصيدة الوحيدة في الديوان والتي تعتبر من شعر المجاملة للعائلة الحاكمة عنوانها” وقالت في مولد ولی العهد عباس بك نجل الحضرة الخديوية“. فيها تصف الشاعرة سعادة الجمهور بمولد عباس وهو اسم عم الرسول صلى الله عليه وسلم. تحاول الشاعرة أن تتنبأ لعباس بالرفعة بما أنه ابن التوفيق (أي الخديوي توفيق). بما أن توفيق أعاد الأمن للبلاد, فلابد أنه أخلف ابنًا خليقًا بالفوز في المستقبل.
إن خطاب الحداثة الذي استعملته مي زيادة في فهم ونقد ديوان عائشة تيمور أدى بها إلى التسرع في تصنيف هذا العمل بالتقليدية. لأن هذا الخطاب يعطى أهمية أولية للشكل على حساب المضمون، فلقد تجاهلت مي نجاح عائشة في عكس ومناقشة مفاهيم قومية ومواضيع اجتماعية. تمثل أجزاء مهمة من تاريخ السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر. الاستثناء لذلك هو قصيدة عائشة عن رجوع الخديوي بعد فشل الثورة العرابية والتي استعملتها مي للحديث عن مواقف عائشة المحافظة سياسيًا. إن نقد مي لشعر عائشة لعدم وجود أي أثر للتاريخ فيه نقد ظالم. بما أن مي تأخذ موقفًا معاديًا من الحجاب والنظام الاجتماعي المصري الذي أدانه خطاب الحداثة والحداثيون، فهي غير قادرة على أن ترى مناقشة عائشة للثقافة والممارسات والتاريخ الإسلامي كجزء من نقاش اتجاه التغيير. والأهم من ذلك عملية مواءمة القديم والحديث والتي هي الهم الأول للتيار والخطاب القوميين.
أخيرًا، لابد من التحليل النقدي لكتابة النساء عن النساء. لا يكفي أن تكتب المرأة عن المرأة لكي نفترض وجود تأييد نوعي أو موضوعية لا نفترضها الآن في كتابة الرجال عن النساء. صحيح أن مي تتعاطف مع الصعاب الشخصية التي واجهتها عائشة كطفلة تريد تعلم الكتابة وليس التطريز، كما تتعاطف معها كأم فقدت ابنة حبيبة لها. لكن حين تكتب مي الناقدة عن عائشة الشاعرة فهي تقدم رؤية مستمدة من خطاب حداثی معادٍ لخطاب تيمور الإسلامي وعليه فلم تعط هذا الخطاب أو ديوان تیمور حقه. لقد استفادت مي أيضًا من كتابتها لسير النساء بما فيهن عائشة في بناء سمعتها ككاتبة نسوية. تعريف الكاتبة النسوية في كتابات النساء عن النساء هو ما أقترح فتح باب النقاش فيه.
1- الآنسة مي، شاعرة الطليعة عائشة تيمور (القاهرة: دار الهلال، ١٩٥٦) ص 20.
2- نفس المصدر، ص ۱۲۱.
۳ – نفس المصدر، ص 26-27.
٤– عبد العظيم رمضان، تطور الحركة الوطنية في مصر من سنة 1918 إلى سنة 1936، القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، د ت، ص ۲۹۳ .
5 – الآنسة مي، شاعرة الطليعة عائشة تيمور، ص ۱۹.
6- نفس المصدر، ص ۳۷.
7- نفس المصدر، ص ٣٥.
8- نفس المصدر، ص ۳۷.
9- عائشة تيمور، حلية الطراز (القاهرة: ۱۸۹۲) ص ۲.
۱۰ – سلمى الحفار الكزبري، مي زيادة أو مأساة النبوغ، المجلد الأول (بيروت: مؤسسة نوفل,۱۹۸۷) ص ۱۸۱.
۱۱– عائشة تيمور، نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال (القاهرة: مطبعة محمد أفندى مصطفى,۱۸۸۸) ص3.
۱۲– زینب فواز، الدر المنثور في طبقات ربات الخدور (الكويت: مكتبة ابن قتيبة، د ت ) ص ٤٦٦– 476.
۱۳ – نفس المصدر، ص 545.
١٤ – نفس المصدر، ص ۲۹۳–٢٩٤.
15 – عائشة تيمور، حلية الطراز، ص ١٤ – ١٥.
16 – نفس المصدر، ص ٢٥.
۱۷ – نفس المصدر، ص ۲۱.