أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة
تاريخ النشر:
2004
عرض:
أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة لفريدريك إنجلز
صدر كتاب “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة .. لمناسبة أبحاث لويس هنری مورجان” لمؤلفه فريديريك إنجلز، الذي نعرفه من خلال أعماله المشتركة مع كارل ماركس، وتطويرهما المشترك للفكر المادي الجدلي، وقراءتهما للتاريخ من هذا المنظور. نشر هذا الكتاب للمرة الأولى في عام 1884 – أي بعد وفاة ماركس بعام واحد، واستغرق إنجلز في كتابته ما يقرب من شهرين .
تتكون النسخة العربية التي بين أيدينا – والصادرة من دار التقدم بموسكو، ترجمة إلياس شاهين، دون تاريخ – من مقدمة للطبعة الأولى، ثم مقدمة للطبعة الألمانية الرابعة (1891)، وتسعة فصول، إضافة إلى كلمة من دار النشر، وبعض الملاحظات الختامية، ودليل للأسماء الواردة في المؤلف، والشخصيات الأدبية والأسطورية، ودليل للأسماء الإثنوغرافية .
يشير إنجلز في مقدمة الطبعة الأولى إلى أن هذا العمل شكل من أشكال الوفاء لصديقه الحميم ماركس، الذي سبق أن بلور مجموعة ملاحظات حول أبحاث مورجان، بعد أن قام هذا الأخير بإعادة اكتشاف أمريكا من منظور المفهوم المادي للتاريخ.ويعلق إنجلز حول طبيعة المجتمعات في علاقتها بتطور العمل قائلاً: “بقدر ما يكون العمل أقل تطوراً، وكمية منتوجاته – وبالتالي ثروة المجتمع – أضيق حدودًا، بقدر ما تتجلى تبعية النظام الاجتماعي للعلاقات العشائرية بمزيد من القوة“.أما في مقدمة الطبعة الألمانية الرابعة.. فهو يشير إلى إدخال إصلاحات وتعديلات على الطبعة الأولى نظراً لتطور الدراسات المتعلقة بالأشكال البدائية للعائلة، خاصة ما جاء في كتابات المؤرخ الروسي مكسيم کوفالفسکی.
يعد هذا المؤلف أولى المحاولات لتقديم تفسيرًا ماركسيًا لسيطرة الرجال على النساء ؛ ففي هذا الكتاب يبحث إنجلز كيف تم الوصول إلى الأسرة العصرية، أي الأسرة النووية، وكيف أصبحت النساء خاضعة لسيطرة الرجال.وقد قام بذلك انطلاقًا من مقاربة تاريخية لمؤسسة الأسرة.
فقسم تاريخ البشرية إلى مراحل متعددة: أولى هذه المراحل هي مرحلة الوحشية التي قسمها مورجان إلى ثلاثة أطوار: في الطور الأدني، كان يعيش الناس أساسًا على الأشجار، ويحصلون على غذائهم من ثمارها، وقد تميز هذا الطور بظهور النطق.أما الطور المتوسط من الوحشية، فهو يبدأ باستهلاك الأسماك، والمأكولات البحرية والمائية، وباستعمال النار.وهذا ما جعل الناس في هذا الطور مستقلين إلى حد أكبر، فتمكنوا من الانتقال بين الأماكن، وبدأوا في إنتاج بعض الأدوات الحجرية البدائية.أما الطور الأعلى من الوحشية، فيبدأ مع اختراع القوس والسهم ؛ كما يتسم هذا الطور بتوسيع دائرة نشاط الإنسان من مجرد الصيد إلى إنتاج وسائل العيش، وبداية عمليات البناء.أما العلاقات بين الجنسين في مرحلة الوحشية، فكانت شبه متساوية ؛ صحيح أنه كان هناك نوع من تقسيم العمل على أساس النوع، مع ميل الرجال لممارسة الصيد، بينما كانت النساء أميل إلى الحصاد ؛ غير أن ذلك لم يترجم إلى سيطرة الرجال على النساء .
أما المرحلة التالية للوحشية، فهي مرحلة البربرية التي تم تقسيمها هي الأخرى إلى ثلاثة أطوار. يتميز الطور الأدنى بظهور الفن الفخاري، كما بدأت تتضح الفروق في الأحوال الطبيعية بين الأماكن الجغرافية المختلفة، وقد انعكس في توافر أنواع مختلفة من الحيوانات والحبوب.أما الطور المتوسط لمرحلة البربرية، فقد اختلف ما بين الشرق والغرب؛ حيث بدأ الشرق في تدجين الحيوانات المنزلية، بينما انشغل الغرب بتربية النباتات الصالحة للأكل بواسطة الري.وبذلك، اختلفت طريقة حياة البشر في المناطق من حيث التغذية التي يتناولونها، وهو ما أثر بالتالي على نمو الأطفال.يبدأ الطور الأعلى لمرحلة البربرية بصهر فلز الحديد، كما يشهد انتقالا حضاريا باختراع أشكال من الكتابة والحروف، استعملت لتسجيل الإبداع الكلامي.كما يتميز هذا الطور بتوسع كبير في ممارسة الزراعة، وبالتالي بزيادة الاحتياطي من المؤن الغذائية.في نهاية هذا القسم، يستنتج إنجلز أن تاريخ الانتقال من الوحشية إلى البربرية “مأخوذ مباشرة من الإنتاج” .
ثم يتناول إنجلز الدور الحاسم الذي تحتله علاقات القرابة في النظام الاجتماعي عند جميع الشعوب في مرحلة الوحشية والبربرية ؛ وكان نظام القرابة يختلف عن العلاقات العائلية الفعلية؛ فيسوق لنا مثالا قبيلة “سينيكا” (وهي أحد قبائل الإيريكوا)(1) حيث كان الزواج أحاديا، مما لا يدع مجالاً للشك حول ذرية الزوجين ؛ غير أن فرد هذه القبيلة لم يقصر تسمية أبنائه فقط بأنهم أبنائه وبناته، بل تمتد هذه التسمية إلى أولاد أخوته الذين يسمونه بدورهم بوالدهم.كما يشير إلى أشكال الزواج الجماعي القديم التي حل محلها اليوم العائلة الأحادية السائدة اليوم، والتي يرى أنها توطدت مع تطور الملكية الخاصة.كما يشير إلى وجود أشكال من التزاوج الثنائي – أو العائلة الثنائية – في ظل وجود الزواج الجماعي ؛ مع ظهور العائلة الثنائية على التخوم بين مرحلتي الوحشية والبربرية، غالبًا في الطور الأعلى من الوحشية.
في ظل الزواج الجماعي، كانت النساء تتمتع باحترام كبير باعتبارهن أمهات ؛ أي الطرف الوحيد الذي يمكن التأكد من قرابته بالأطفال.مع ظهور الزواج الثنائي، بدأ الرجال يشعرون بنقص النساء ؛ فانتشرت ظواهر خطف وشراء النساء انتشارًا واسعًا ؛ كما بدأت تحدث زيجات بين شخصين لا يعرفان بعضهما بعضا ؛ وكان فسخ الزواج ممكنا بناء على رغبة الزوجين ؛ غير أنه لم يكن أمرًا مستحسنًا ؛ فكانت تتم الواسطات لتجنب الفسخ.وفي حالة إخفاق هذه الوساطات، يبقى الأطفال مع الزوجة، كما كان يحدث في الأشكال الأخرى من الزواج.
حتى في الطور الأدنى من البربرية، كانت الثروة الدائمة محدودة، لا تزيد عن المساكن، والملابس، والحلى الخشنة، وبعض الأدوات للحصول على الطعام وإعداده.أما بعد ذلك، فقد دأبت شعوب الرعاة على التقدم، وتطورت ملكية الحيوانات التي لا تتطلب عناية فائقة (مثل: الخيول، والجمال، والخنازير، والماشية، إلخ ..)، والتي كانت في الوقت ذاته تدر الطعام الوفير وفي حين كانت تخص هذه الممتلكات – في البدء – العشيرة بأكملها، أصبحت شيئًا فشيئًا ملكًا خاصًا لرؤساء العائلات.كما تم اختراع العبودية، والتي لم يكن لها معنى أو قيمة بالنسبة لإنسان الطور الأدنى من البربرية. كما تم اختراع العبودية، والتي لم يكن لها معنى أو قيمة بالنسبة لإنسان الطور الأدنى من البربرية.فمع إدخال تربية الماشية، وشغل المعادن، والحياكة، ثم الزراعة، برزت الحاجة إلى وجود مزيد من الناس من أجل مراقبة القطيع، والقيام بالمهام المختلفة. كما بدأت تزداد الأشياء التي يمكن توريثها في حالات الوفاة .
وبينما كان يتم التوريث سابقًا إلى أقرب الأنساب – أي إلى الأقرباء بالدم من ناحية الأم – بدأ السعى إلى تغيير نظام الوراثة التقليدى لصالح الأولاد ؛ فتم تدريجيًّا إلغاء النظام السابق، وأقر الانتساب حسب حبل النسل الرجالي، وتم تبنى نظام الوراثة حسب خط الوالد.ويرى إنجلز “إن إسقاط الحق الأمى كان هزيمة تاريخية عالمية للجنس النسائي؛ فقد أخذ الزوج دفة القيادة في البيت أيضًا، وحرمت الزوجة من مركزها المشرف، واستذلت، وغدت عبدة رغائب زوجها، وأمست أداة بسيطة لإنتاج الأولاد” .
وهكذا بدأت تظهر الأسرة البطريركية (الأبوية) التي تميزت بضم العبيد، وبالسلطة الأبوية.وكان لابد هنا الانتقال من الزواج الثنائي إلى الزواج الأحادي؛ لضمان بنوة الأولاد، حيث توضع الزوجة تحت السلطة المطلقة لزوجها، فإذا ما قتلها، فإنما يمارس أحد حقوقه.كما بدأت تظهر ما يسميه إنجلز بالمشاعة البيتية البطريركية – التي ما زالت موجودة عند بعض الشعوب – والتي تعيش في إطارها أجيال منحدرة من أب واحد، وقد تضم أيضًا بعض العبيد ؛ وتخضع المشاعة للإرادة العليا لرب البيت الذي يتم انتخابه ؛ حيث ليس من الضروري أن يكون أكبر الأعضاء سنًا.
يؤكد المؤلف أن التطور إلى الزواج الأحادي – مع وجود العبودية – قد أضفى على هذا الزواج منذ بدايته طابعه الخاص، حيث منح كل السلطات للرجل، وأصبحت أحادية الزواج صالحة بالنسبة للمرأة فقط.وهو يرى أن هذه العائلة تمثل أول شكل للعائلة لا يرتكز على الشروط الطبيعية، بل على الشروط الاقتصادية، نتيجة لانتصار الملكية الخاصة على الملكية المشتركة البدائية والعفوية. وبالتالي.. يعتبر أن الزواج الأحادي لا يمثل اتحاداً اختياريًا بين المرأة والرجل، بل يمثل استعباد جنس من قبل الآخر ؛ ويقول: “إن أول تضاد بين الطبقات ظهر في التاريخ يصادف تطور التناحر بين الزوج والزوجة في ظل الزواج الأحادي، وأول اضطهاد طبقى يصادف استعباد جنس النساء من قبل جنس الرجال“.كما يشير إلى استمرار العلاقات الجنسية الحرة – أي العلاقات الجنسية خارج الزواج بين الرجال والنساء غير المتزوجات – في ظل الزواج الأحادي.فمع ظهور التفاوت في الملكية – أي في الطور الأعلى من البربرية – أخذ العمل المأجور يبرز إلى جانب عمل العبد؛ كما ظهر في الوقت نفسه احتراف النساء الحرات للبغاء ؛ إلى جانب قيام الرجال بإكراه الإماء على مجامعتهم.وهو يرى أنه – على الرغم من الشجب الظاهري للبغاء – لا يقصد هذا الشجب إطلاقا الرجال الذين يمارسونه، بل يقصد النساء فقط.كما يشير إلى بروز تناقض ثان تطور في قلب الزواج الأحادي ؛ فنتيجة لقيام الرجال بالترفيه عن أنفسهم خارج إطار الزوجية، أصبحت الزوجة متروكة لحالها ؛ وهو ما يؤدى إلى بروز نموذجين اجتماعيين مميزين، هما: عشيق الزوجة الدائم، والزوج المخدوع.
ويرى أن طبيعة الزواج الأحادي لم تمثل التربة المواتية لتطور الحب الجنسي، حيث يستند هذا الزواج إلى سيادة الزوج ؛ واقترن عند الطبقات السائدة بصفقة يعقدها الآباء ؛ ويفند بعض الأمثلة من الحب الفروسي في العصور الوسطى، والذي لم يكن حبًا زوجًّيا على الإطلاق. ويستنتج أن أحادية الزواج تطبق على الزوجة فقط، لا على الزوج، ويقول: “…. وما هو جريمة من جانب المرأة ويستتبع عواقب وخيمة، قانونية واجتماعية، إنما هو بالنسبة للرجل أمر مشرف أو – في أسوأ الأحوال– لطخة أخلاقية طفيفة يحملها بسرور“، وهو يذهب إلى أن تحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة اجتماعية سوف يؤدى إلى زوال العمل المأجور، وزوال الضرورة التي تدفع النساء إلى بيع أجسادهن لقاء المال ؛ وهو استنتاج قد تتشكك فيه إلى حد كبير، حيث إن البيئة الاقتصادية ليست بمعزل عن البيئة الثقافية، والقانونية، والاجتماعية، والحقوقية.وبالتالي، لا نتوقع أن تزول تلقائياً أشكال الاستعباد للنساء، مع تغير الأوضاع الاقتصادية وزوال الملكية الخاصة .
كما اهتم إنجلز بتحليل الهياكل العائلية في المراحل التاريخية الأولى، فتناول العشائر اليونانية والرومانية، والجرمانية، وعشيرة الإيريكوا ؛ متناولاً تطور هذه الهياكل بالتوازي مع تطور أساليب الإنتاج، وظهور الدول .هكذا يمكن اعتبار هذا المؤلف من الكتابات المهمة، التي أثرت الفكر الإنساني، وسعت إلى اكتشاف أسباب الاضطهاد الذي تعاني منه النساء على أساس مادی ؛ غير أن تحليل إنجلز يبدو لنا غير ملائم تمامًا اليوم؛ ويعود ذلك جزئيًا إلى ظهور عديد من الدراسات والاكتشافات الأنثروبولوجية لاحقًا، والتي تنفى بعض المعلومات التي استند إليها في تحليله ؛ كما أبى ماركس وإنجلز اعتبار أن العوامل الثقافية تلعب دورًا مستقلاً ؛ كذلك، لم يشرح لنا هذا الكتاب لماذا تواجد التقسيم الجنسي للعمل حتى أيام الوحشية والبربرية؛ أي قبل ظهور وتطور الملكية الخاصة؛ كما تختلف إلى درجة كبيرة مع بعض العلاقات الاستنتاجات التي يصل إليها ؛ فهو يرى أنه مع حلول المجتمع الاشتراكي، سوف تتحرر النساء أسوة بالرجال، وهو أمر أثبتت الخبرات التاريخية خطأه.كما يذهب في بعض صفحات كتابه إلى أن “.. الحب الجنسي لا يمكن أن يكون ولا يكون بالفعل قاعدة في العلاقات مع المرأة إلا في بيئة الطبقات المظلومة، أي – في أيامنا – في بيئة البروليتاريا (…) فهنا لا وجود لأي ملكية أنشئت من أجل صيانتها وتوريثها (…) ولذا، لا وجود هنا لأى حافز يحفز على إقرار هذه السيادة.. “، ومرة أخرى، نرى كيف يتم تجاهل العوامل الثقافية، وينسى أن البطريركية نظام اجتماعى مبنى على التراتب، والسيطرة، والطاعة .
إن التركيز على الإنتاج قد يبدو نقطة ضعف وقوة في تحليل إنجلز ؛ ففي حين لعب العمل والإنتاج الإنساني دورًا جوهريًا في هيكلة وتغيير المجتمعات البشرية، ظل الكتاب الذي قرأناه خاليًا من الإجابة عن بعض الأسئلة، مثل: كيف حصل الرجال على ملكية أدوات الإنتاج التي شكلت أساس الملكية الخاصة ؟ كيف تم تقسيم العمل على أساس الجنس ؟ وحيث برز هذا التقسيم قبل تطور الملكية الخاصة، فمن شأن هذا التقسيم للعمل أن يكون ناتجًا عن عامل آخر غير الملكية.ولو كان ذلك صحيحا.. فإن القضاء على الملكية الخاصة لن يؤدي بالضرورة إلى القضاء على عدم المساواة تلك، كما يبدو في التحليل تقليلا لقيمة العمل غير المنتج اقتصاديًا واجتماعيًا – أي الأعمال المنزلية، رعاية الأطفال رعاية المسنين، إلخ .
ورغم كل ما سبق، يظل هذا الكتاب على قدر كبير من الأهمية، نظرًا لاقتحامه مجالا جديدًا في الزمن الذي صدر فيه ؛ ولخوضه مناطق ما زال ينظر إليها على أنها من المحرمات، المحظور الكلام عنها ؛ وأخص هنا بالذكر مؤسسة الزواج التي تنظر إليها بعض الثقافات على أنها مؤسسة أبدية، ويجب أن تظل هكذا.
(1) مجموعة من قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية.