التحرش الجنسي ضد النساء: قراءة ثقافية للمشهد المصري
إن التحرش، والعنف الجنسي ضد النساء قديم، ربما قدم الأبوية كنظام اجتماعي، وإن كان المصطلح نفسه لم يتبلور بمعناه الحالي سوى في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم يستقر كمصطلح، وينتشر كبديل لمفاهيم المعاكسة والمضايقة التي تتعرض لها الفتيات والنساء من قبل الرجال، سوى خلال العقد الأخير. وفي دراسة مهمة ورائدة لظاهرة التحرش والعنف الجنسي في مصر، بعنوان“استباحة النساء في المجال العام” (2014) (1)،أوضحت المؤلفتان الباحثتان، النسويتان ( هند زكي، وداليا عبد الحميد) درجات متنوعة من الانتهاك الجنسي،“الذي يبدأ بالتهديد، أو الملاحقة، أو التحرش اللفظي، ويصل إلى الاعتداء الجنسي الجماعي في الشارع” ( (ص 266) في إشارة إلى مظاهر التحرش، والعنف الجنسي ضد النساء في مصر. وأنطلق في هذه الورقة هنا، من مساحات التحرش الجنسي بالنساء في المجال العام، وأقسمها بالتالي إلى عدة أجزاء، يتطرق كل جزء منها إلى مساحة مختلفة من المجال العام. ففي الجزء الأول، تركز الورقة على انتشار الاعتداءات الجماعية ذات الطابع الجنسي منذ بدايات الألفية فيما يشبه الظاهرة الاجتماعية، مع التركيز على سياقات الاحتجاجات السياسية في السنوات الماضية. ثم أنتقل إلى التحرش بالنساء في الشارع، مع تسليط الضوء على حالات لجوء هؤلاء النساء إلى القانون. وفي جزئية مطولة، أتناول التحرش في سياقات مؤسسية، وأفرد مساحة لمناقشة ما عرف بـ“واقعة الإيميل” وتطوراتها وتداعياتها. ثم ألتفت في النهاية إلى أشكال مقاومة ومواجهة التحرش الآخذة في التبلور.
شهدت بدايات الألفية انتشارًا ملحوظًا للاعتداءات الجنسية الجماعية ضد النساء، ولعل من أولها هو ما عرف بيوم الأربعاء الأسود، يوم 25 مايو 2005، خلال مظاهرة لحركة كفاية في مدخل نقابة الصحفيين بالقاهرة؛ احتجاجًا على سعي نظام مبارك إلى تمرير تعديلات دستورية لتوريث الحكم لابنه. و كان من المعتاد في مثل تلك المظاهرات، وجود مجموعات من البلطجية، مهمتها الاعتداء على المتظاهرين وفض المظاهرات، ولكن غير المعتاد في تلك الواقعة، أنه لأول مرة تم استهداف المتظاهرات بشكلٍ مباشرٍ والاعتداء عليهن، لا بالضرب والركل والسحل المتعارف عليه، بل بالاعتداء الجنسي، وهو ما وصفته الصحفية (نوال علي) عضوة النقابة، وإحدى المتعرضات لذلك العنف، رغم تصادف تواجدها في مدخل النقابة، دون انتمائها إلى حركة كفاية:
” كانت أيديهم تعبث بصدري، ويتحرشون بكل المناطق الحساسة من جسدي، مزقوا ملابسي واعتدوا علي بأيديهم… وقعت بوجهي على الأرض وفوجئت بعدد كبير من هؤلاء البلطجية فوقي، يتحرشون بي مرًة ثانية ويعبثون بكل مناطقي الحساسة. بدأت في الصراخ طالبًة النجدة وظللت أصرخ إلى أن فقدت الوعي. لم يكونوا يحاولون أن يضربونني، ولكنهم كانوا يعتدون علي جنسيًا، و كانوا يمزقون ملابسي بكل وضوح. وانتهى بي الأمر وأنا عارية تقريبًا نتيجًة لذلك“… (حنان البدوي 2013)
إن شهادة (نوال علي) تلك تعتبر من أولى الشهادات التي تصف التحرش الجنسي كفعل جماعي ذي بعد سياسي، وقد تبعتها شهادات شبيهة، بل وربما أكثر عنفا ودموية منذ تزايد التواجد النسائي في الاحتجاجات السياسية، في أعقاب انطلاق ثورة يناير 2011، وتجلت مظاهر التحرش والاعتداءات الجنسية في محيط ميدان التحرير، بما في ذلك عند وصول مسيرة اليوم العالمي للمرأة إلى الميدان يوم 8 مارس 2011، حيث بدأ التحرش اللفظي عند نقطة انطلاق المسيرة أمام نقابة الصحفيين، ثم تفاقمت وتضمنت هجومًا مباشرًا على النساء المشاركات في المسيرة عند وصولهن إلى نقطة النهاية في ميدان التحرير. ولم يقتصر التحرش هنا على السباب والشتائم ذات الطابع الجنسي، وإنما تبلورت في شكل لوحات حملها المتحرشون تتضمن عبارات وإيحاءات جنسية مؤذية للنساء. وقد تفاقمت أشكال التحرش بالمتظاهرات خلال الشهور التالية، لتصل إلى حالات التحرش والاغتصاب الجماعي في محيط الميدان، كان يتم التعامل معها جميعا بالتشكيك والتهوين، بل والتذمر والتجاهل من قبل معظم أفراد المجتمع والقوى السياسية، حتى الليبرالية والتقدمية منها، وهو ما تشهد عليه الجهود التي قامت بها مجموعة من النسويات في إقناع جبهة الإنقاذ الوطني حينذاك بالحديث عن الاعتداءات الجنسية على النساء. وجاء الاعتراف الرسمي من الدولة بحدوث اعتداءات جنسية على النساء في المجال العام بعد زيارة رئيس الجمهورية للناجية خلال علاجها في المستشفى، عقب النقل التلفزيوني المباشر لاحتفالات تنصيب السيسي رئيسًا للبلاد في يونيو 2014 وما صاحبه من اعتداء جنسي على النساء في ميدان التحرير.
هذا وتنبه (إلهام عيداروس) إلى ضرورة“أن نحذر من تبني الرواية القائلة بأن المعتدين جميعًا هم مجموعات منظمة مأجورة“، حيث ترى أنهم منظمون، وإن لم يكونوا بالضرورة جميعهم مأجورين (2). هذا وتحمل وقائع التحرش والاعتداء والعنف الجنسي، التي جرت بتفاصيلها المتكررة سابقًا ولاحقًا، بعدًا مغايرًا لما كانت تتعرض له المتظاهرات المنتميات إلى تيارات المعارضة السياسية، والصحفيات القائمات بتغطية الأحداث السياسية الجارية حينذاك. فلم تتم تلك الاعتداءات في إطار نشاط احتجاجي بل في ظل أجواء احتفالية، ويمكن ربطها بالتالي بظاهرة أخرى عايشتها النساء منذ بدايات الألفية، ورصدتها وسائل الإعلام غير الرسمية (حين وثق وائل عباس تلك الواقعة على مدونته الشخصية)، وكذلك المؤسسات النسوية منذ عام 2006 تحديدًا، وهو التاريخ الذي أرجعت إليه (هند زكي، وداليا عبد الحميد) بداية الاعتداءات الجنسية الجماعية ضد النساء في شوارع مصر، وذلك خلال احتفالات الأعياد، وما شهدته من تحرش وعنف جنسي تجاه الفتيات والنساء، وخاصة في منطقة وسط مدينة القاهرة، وفي محيط دور السينما وأماكن الترفيه. ويظل السؤال عالقًا عن العلاقة بين هاتين الظاهرتين، وهل كان لإطلاق يد البلطجية ضد المتظاهرات والناشطات سياسيا يوم الأربعاء الأسود دور في تمادي هؤلاء البلطجية في الاعتداء على النساء، بصرف النظر عن السياق، إن كان احتجاجًا سياسيًا، أم احتفاليًا اجتماعيًا؟ أم أن إطلاق البلطجية على النساء ساهم في انتشار ثقافة بين فئات من الصبية والشباب تبيح أجساد النساء في المجال العام؟ لعل الإجابة تشتمل على هذا وذاك.
إن كل فتاة وامرأة مصرية تقريبًا تعرضت في حياتها إلى شكل من أشكال التحرش الجنسي، وذلك في مختلف مراحل حياة المرأة، وعلى تنوع انتماءاتها الطبقية، ومظهرها العام، ولجأت لأساليب خاصة بها لمقاومة ذلك. وأنا شخصيًا أذكر وَعيِي بالنظرات غير المريحة، وتعرضي لكلمات ولمسات وتلميحات على مدار حياتي، حتى قبل أن أتعرف على مصطلح التحرش، الذي لم يتبلور سوى خلال العقدين الأخيرين، و كان حديثنا عن” التحرش” يتم باستخدام مفردات تتفاوت ما بين“المعاكسة“، و“البصبصة“، و“البسبسة“، و“المضايقة” ،و“اللمس“، و“الاحتكاك“، و“المسك“، و“التلزيق“، وهي كلها وغيرها تناسيناها کمرادفات للتحرش، الذي صار مفهومًا شاملاً لكل تلك الممارسات… وغيرها. ومع انتشار التحرش باعتباره حقًا يمنحه المجتمع لأي فتى، أو شاب، أو رجل عابر، تجاه أية فتاة ،أو شابة، أو امرأة عابرة، ونعتبره نحن النساء انتهاكا واعتداًء مرفوضًا، إن لم يقنعنا المجتمع بكونه سنة الحياة، كانت واقعة (نهى رشدي) التي تصدت لمتحرش بها في الطريق العام، سابقة لا يستهان بها، وثورة في وعينا بالتحرش كجريمة تستحق العقاب.
ففي يونيو 2008، كانت الشابة (نهى رشدي) تسير برفقة إحدى صديقاتها حين اعترضها سائق سيارة نقل صغيرة وأمسك بصدرها، وأوقعها أرضا، وكان لضيق الطريق، وإصرارها على الإمساك به، ما حال دون هروبه، فأمسكت به، ونجحت في رفع أول دعوى تحرش ضده، انتهت بحصوله على حكم بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وغرامة قيمتها خمسة آلاف جنيه. وهو الحكم الذي وصفته الصحفية (ناهد نصر) في مقالتها“درس نهى رشدي” المنشورة عقب صدور الحكم بقولها” فأهمية الحكم الذي نالته (نهى) لم تكن فقط في نجاحها وبشجاعة نادرة في معركتها ضد امتهان كرامتها في الطريق العام. بل لأن الطريقة التي أدارت بها (نهى) القضية كانت بمثابة النموذج لملايين الفتيات اللاتي لا ترين طريقة لمواجهة التحرش الإجباري سوى الصمت، بينما واجهته (نهى) بجرأة” (2008). وقد جاءت واقعة (نهى رشدي) لتطرح قضية التحرش بالنساء على المؤسسة الحاكمة، حيث قام المجلس القومي للمرأة بإعداد دراسة بعنوان“غيوم في سماء مصر” حول قضايا التحرش باعتبارها ظاهرة متنامية(3).
ولعل آخر تلك الدعاوي هي التي تقدمت بها شابتان نسويتان هما (جهاد راوي، وروزانا ناجح) اللتان تعرضتا للتحرش والاعتداء بالسب والضرب، مساء عيد الأضحى الماضي 21 أغسطس 2018 في منطقة ميدان التحرير من قبل شابين. وقد تمكنتا من الإمساك بالشابين المتحرشين، والتوجه إلى قسم الشرطة، حيث اتضح أنهما شقيقان، فقدمت (جهاد وروزانا) بلاغًا بالتحرش، والسب، والضرب، وتم رفع الدعوى في المحكمة وجاء الحكم لصالح الشابتين، حيث ورد في تغطية صحيفة الشروق للواقعة خبر بقلم (محمد مجدي) بعنوان“جهاد وروزانا. . قصة فتاتين واجهتا التحرش والضرب يوم الأضحى وانتصر لهما القضاء” جاء فيه الآتي:”في غضون جلستين، قضت محكمة جنح قصر النيل، بمعاقبة أحد الشابين بالحبس سنتين مع الشغل والنفاذ عن تهمة التحرش، و3 أشهر حبس وغرامة 2000 جنيه عن تهمة الضرب، وغرامة أخرى قيمتها 10 آلاف جنيه في تهمة السب، وألزمته بتعويض الفتاتين بـ20 ألف جنيه عن الأضرار التي لحقت بهما، فيما قضت ببراءة شقيقه” (2018)
هذا وقد شهدت بداية العام الحالي رفع دعوى ضد متحرش في محاكم الصعيد، رفعتها (رانيا فهمي)، وهي شابة من محافظة قنا، تعرضت للتحرش اللفظي والجسدي من شاب في طريقها إلى السوق. و كانت قد تعرضت للإصابة ببعض الكدمات، وتمزق في أربطة اليد، فاستندت إلى كاميرات المراقبة الخاصة بأحد المحلات المطلة على الشارع، حيث وقعت حادثة التحرش، فتقدمت ببلاغ ورفع دعوى ضد المتحرش. وبالفعل تم الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات. هذا وقد علقت على الواقعة بحث الفتيات على الثورة على التحرش، وذلك في حديثها التلفزيوني مع وائل الإبراشي، مقدم برنامج العاشرة مساًء، وفي الخبر الوارد في صحيفة اليوم السابع، بعنوان” صاحبة أول حكم ضد متحرش في الصعيد: كنت حاسة إني رخيصة بس أخدت حقي” (أحمد عبد الرحمن 2018). هذا وقد كانت أول دعوى ضد متحرش رفعتها (ماري زكريا) في أسيوط منذ عدة سنوات.
وتطرح تلك الوقائع سؤالاً عن دور الإعلام، والثقافة، والقانون، في مواجهة التحرش؟ فهل يساهم تسليط الضوء على تلك القضايا إلى التقليل من الظاهرة، أم العكس هو الصحيح؟ وهل يعتمد قرار الشرطة والنيابة في تحريك البلاغ وحكم القاضي على ثقافة تقليدية ترى في التحرش تجاوزًا أخلاقيًا، أكثر مما تعتبره جريمة قانونية؟ وهل يكون المجتمع التقليدي المحافظ أكثر استعدادًا لعقاب المتحرش على أساس أخلاقي أكثر منه قانوني؟ وهل للانتماء الطبقي لطرفي قضية التحرش دور في طبيعة الحكم الصادر ؟ فهل تتاح لفتاة وامرأة الطبقات الاجتماعية الأدنى فرصة تقديم بلاغات ورفع دعاوي ضد متحرشين ينتمون إلى طبقات اجتماعية أعلى، بل وحتى بين طرفين ينتميان إلى نفس الطبقة الاجتماعية؟ إن الواقع يشير بالفعل إلى تقاطعات علاقات القوى الجندرية والطبقية والثقافية التي تحكم مسار التقاضي في وقائع التحرش الجنسي. وليس أدل على ذلك من واقعة منة (جبران) المعروفة إعلاميًا بواقعة“أون ساران“، والتي حدثت منذ عدة أسابيع، حين تحرش بها شاب من الطبقة الوسطى العليا، وهو يقود سيارته، ثم استخدم امتيازاته الاجتماعية في التنكيل بالناجية. كما أن الناجية تظل غير آمنة على نفسها من الانتقام حتى عند حصول المتحرش على عقوبة جنائية، مثلما حدث منذ فترة غير بعيدة مع (سمية)”فتاة المول” التي رش المتحرش على وجهها مادة كاوية على سبيل الانتقام.
وإذا كان للتحرش الجنسي الذي يتم في الشارع، وفي نطاق مجتمعي متسع أبعاده السياسية والقانونية، والثقافية، والاجتماعية، كما يتضح من التحرش المنهجي بالمتظاهرات، أو التحرش العابر في الطرقات، فلا يكون أمام المرأة التي تتعرض للتحرش سوى اللجوء إلى القانون، فإن التحرش الجنسي الذي يتم في إطار مؤسسة ما، أو م كان العمل، قد يخضع لتعقيدات إضافية؛ بسبب تقاطع علاقات القوى الجندرية مع جوانب خاصة بعلاقات السلطة المباشرة ما بين رئيس ومرؤوسة، وهو ما تداركته كثير من المؤسسات العالمية، بإدراج نصوص في لوائحها الداخلية، أو وضع سياسات مؤسسية لمناهضة التحرش. ويمكننا أن نتأمل عددًا من وقائع التحرش التي ذاع صيتها خلال الفترة الماضية؛ لندرك مدى التعقيد الذي تتسم به سياقات جريمة التحرش، وكيفية التعامل معها، وهي جريمة التحرش التي تمت بشابتين في الشارع خلال عيد الأضحى الماضي، وانتهت بحكم قضائي ضد المتحرش، وواقعة تحرش تمت في إحدى الصحف المصرية البارزة، بتحرش رئيس بمرؤوسته؛ بما دفعها إلى الإبلاغ عن التحرش وما زالت الواقعة قيد التقاضي، وغيرها من وقائع تنتهي بحفظ الدعوي، وهو ما يشير إلى تواطؤ السلطة مع المتحرش، سواء بالضغط لتنازل الشاكية عن الدعوى، أو بالعمل على حفظ الدعوى وغلق ملفها، وعدم مواصلة مسار التقاضي. وسأتطرق فيما يلي إلى واقعة عرفت بمسمى“واقعة الإيميل” لما تحمله من تعقيدات فيما يتصل بالتحرش في السياقات المؤسسية.
بدأت واقعة“الإيميل” التي هزت المجتمع المدني النسوي والحقوقي، برسالة بريدية تم تداولها عبر الإيميل في نوفمبر 2017 (مع بداية حملات الترشح لرئاسة الجمهورية)، ثم انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي كالواتساب، والفيسبوك في يناير 2018 لشابة مصرية تحكي واقعتي تحرش جنسي واغتصاب تعرضت لها، في إطار إحدى مؤسسات المجتمع المدني المصري منذ سنوات قليلة. وتختلف واقعة“الإيميل” عن غيرها من الوقائع والجرائم في كونها تستند إلى رسالة بريدية، وعدم لجوئها إلى القانون، بل وعدم انتماء طرفيها عند إرسال الإيميل إلى مؤسسة واحدة لها سياستها التي يمكن تطبيقها في التعامل مع اتهام بالتحرش، بينما كان الأطراف يعملون معا في مؤسسة واحدة عند حدوث الواقعة. ومما زاد الوضع تعقيدًا أن الشاكية/ الناجية لم تكن تعيش في مصر حين أرسلت الإيميل؛ مما صعب التواصل المباشر معها. كما تضمن الإيميل إشارة إلى واقعتين: إحداهما تندرج تحت التحرش الجنسي، بينما تشكل الأخرى حالة عنف واغتصاب. وفي الوقت الذي تعاملت فيه النسويات مع الإيميل باعتباره يشير إلى سياق متكامل من الانتهاك والعنف، تناولت الدوائر الأوسع الواقعتين بشكل مغاير، تم فيها الفصل بينهما على اعتبار أن إحداهما واقعة حظيت باهتمام كبير بسبب ارتباطها بمرشح رئاسي محتمل وما يتبعه من وضع سياسي.
وفضلاً عن تلك الجوانب الخاصة بالإيميل، فقد جاء في لحظة سياسية مهمة، حيث كان المشكو ضده قد بدأ في تشكيل حملته الانتخابية كمرشح لرئاسة الجمهورية في مواجهة الرئيس الحالي المرشح لفترة ثانية، وكان يتعرض هو وأعضاء حملته لضغوط ومضايقات وتهديدات للتراجع عن الترشح، ومتهمًا في قضية الإتيان بفعل فاضح تعبيرًا عن سعادته بتحقيق انتصار قضائي في قضية ضد تنازل الدولة عن جزيرتي تيران وصنافير. وكان المشكو في حقه يعمل في مؤسسة حقوقية قانونية، كان من ضمن مؤسسيها ومديرًا لها، كما كان في نفس الوقت وكيلاً لمؤسسي حزب يساري معارض تحت التأسيس. وبينما كان أعضاء حزبه في قلب حملته الانتخابية، إلا أنها ضمت العديد والعديد من شابات وشباب القوى اليسارية والليبرالية الديمقراطية الداعمة للتغيير. ولا يقتصر الأمر على البلاغات المقدمة ضد المرشح قبل وأثناء الحملة الانتخابية، وإنما يظل الحزب باعتباره حزبًا يساريًا تحت التأسيس مستهدفا حتى بعد انتهاء الحملة الانتخابية بفترة طويلة، حيث تم رفع دعوى جنائية ضد وكيل المؤسسين بناء على قيام الحزب بتحقيق داخلي للتعامل مع التحرش (4)،بالإضافة إلى الدعوى المرفوعة في القضاء الإداري تطالب بغلق مقر الحزب؛ بسبب التحرش (5)،تضم عريضة الدعوى بيان الحزب الخاص بالتحقيق في التحرش، والبيانات الصادرة عن المجموعات النسوية، إلى جانب بيان استقالة وكيل المؤسسين. وهو الأمر الذي يؤكد على أهمية بعد النظر تجاه السياق السياسي والالتزام المؤسسي.
ومن جانب آخر، جاء الإيميل في لحظة انخراط مجموعة من النسويات الشابات في الحملة الرئاسية والعمل السياسي، ومع ذلك استمر تكرار استبعاد قضايا النساء عامة، والتحرش والاعتداء الجنسي بشكل خاص، من بؤرة اهتمام الحملة والحزب، والذي تمثل في حالة انفصال تام بين أداء الحملة والحزب بالتواطؤ في إخفاء الشكوى الواردة في الإيميل من ناحية، وبين جيل النسويات الشابات اللاتي اعتبرن المساحات التقدمية مجالاً عامًا آمنًا للنساء، فإذا بأفراد في المجموعات التقدمية ممثلة في الحملة والحزب يعيدون إنتاج الخطاب المتعالي، والسلوك الأبوي تجاه النساء وقضاياهن، وهو ما أثار غضب عدد من الشابات النسويات داخل الحزب نفسه، ودفعهن إلى الخروج منه. وقد ارتبطت تلك الأزمة، كما أشارت (غدير أحمد) من واقع تجربتها كنسوية شابة، وإن لم تكن عضوة في الحزب، بسؤال النسويات حول“النساء في السياسة“. مسألة مهمة، سبق وأن طرحتها أجيال سابقة من النسويات حول قضايا النساء على برامج الأحزاب السياسية الليبرالية، واليسارية، منذ بدايات القرن الماضي، وإن كانت المسألة اكتسبت تعقيدات في ظل الإطار السياسي،والاجتماعي الحالي.
وهكذا في غياب آليات للتعامل مع شكوى التحرش الجنسي، وفي سياق لحظة سياسية محمومة، جاء خطأ الدوائر المقربة من قلب الحملة الانتخابية بتجاهل مواجهة“الإيميل“، على الفور، بدل التعامل معه على مستوى الحملة باعتباره، سواء كان يحمل شكوى صحيحة أو كيدية، أمرًا يستحق التوقف والتعامل معه، لا تجاهله باعتباره مجرد حيلة أمنية لتشويه مرشح رئاسي. ونتيجة للضغط داخل الحملة بدأت في إجراء تحقيق داخلي بشأن الشكوى، التي يتضمنها الإيميل ضد مرشح الحملة. ونظرًا لعدم استمرار حملة الانتخابات الرئاسية بإعلان انسحاب مرشحها من السباق الرئاسي، لم يعد للتحقيق في الشكوى سياق“مؤسسي“، وخاصة مع عدم تبني أية جهة أخرى معنية الشكوى، أو اتخاذ خطوات للتحقيق فيما ورد في الإيميل. فانتهى الأمر إلى قيام الحزب بمتابعة التحقيق، الذي ظل سريًا وامتد لفترة طويلة. ومما زاد الوضع تعقيدًا أن حتى الدوائر المقربة من الحملة والمنتمية إلى الحزب – لم تصارح أعضاء الحزب بالإيميل ومحتواه، ثم بالتحقيق ومساراته، فلم تعرف معظم عضواته وأعضائه بموضوع الإيميل إلا من خارج دوائر الحزب، ولم تعرف عن تفاصيل التحقيق من حيث أعضاء لجنة التحقيق وآلياته إلا في مرحلة متأخرة؛ مما أعاق عضوات الحزب ولجنة العمل على قضايا المرأة فيه عن التعامل الفوري مع قضية هي في قلب العمل النسوي، أي قضية التحرش الجنسي، لتجد لجنة العمل على قضايا المرأة في الحزب (وهي لجنة مفتوحة تضم نسويات من خارج الحزب) نفسها تستقي معلوماتها من خارج الحزب لتواجه بها قيادات الحزب من ناحية، ثم تفقد ثقة ودعم حليفاتها في الدوائر النسوية المتحالفة معها حول قضايا النساء.
ومع تسارع الأحداث، وعدم وجود أي سياق مؤسسي للتعامل مع شكوى الإيميل، سواء على مستوى كيان“الحملة الانتخابية” لدعم المرشح المشكو في حقه بالتحرش، أو على مستوى“المؤسسة الحقوقية” التي ينتمي إليها المشكو في حقه والتي كانت تنتمي إليها الشاكية، وأطراف عديدة متصلة بيوم الواقعة، ومع كون الحزب الذي يمثل المشكو في حقه أحد وكلاء مؤسسيه، قرر الحزب إجراء تحقيق داخلي للواقعة وتشكيل لجنة تحقيق محايدة، تتسم بالخبرات القانونية، والنسوية، والحقوقية، خاصة وأن الإيميل تطرق إلى واقعتين: إحداهما شكوى بالتحرش الجنسي ضد المرشح الرئاسي (المحامي ومدير المؤسسة الحقوقية والحزب)، وواقعة بالعنف الجنسي ضد أحد أعضاء الحزب (المحامي بالمؤسسة الحقوقية ذاتها)، دون الإعلان عن مسار التحقيق. وبالفعل بدأت لجنة التحقيق عملها في سرية تامة امتدت إلى عدة شهور، ازدادت طولاً بسبب تردد الشاكية/ الناجية في التعاون مع لجنة التحقيق، وهو أمر متوقع في ظل المعاناة النفسية الناجمة عن الاعتداء الجنسي، وما يتضمنه التحقيق من ضغط نفسي مضاعف لتذكر تفاصيل أليمة. وقد أدى ذلك من جانب آخر إلى إضعاف مصداقية التحقيق في اقتصاره على ما ورد في الإيميل. ونظرًا لغياب التعاون بين نسويات الحزب، والدوائر النسوية خارجه، في صياغة آلية مقبولة للتعامل مع الشكوى والتحقيق فيها؛ أدى ذلك إلى التشكيك في مسار التحقيق في حد ذاته. وهو التحقيق الذي انتهى بتقرير مطول اختزلته قيادات الحزب في بيان سعى إلى إرضاء جميع الأطراف، ففشل فشلاً ذريعًا، وإن كانت قد انتهت أزمة الإيميل باستقالة عضو الحزب في مرحلة مبكرة من الحزب، ثم إعلان المرشح الرئاسي استقالته من الحزب في مرحلة لاحقة. وقد كان، في رأيي، الأحرى بقيادات الحزب اتخاذ إجراءات احترازية أثناء التحقيق، كتجميد العضوية، على سبيل المثال، فور تشكيل لجنة التحقيق، وذلك إلى حين صدور نتيجة التحقيق، كتعبير عن جدية التعامل مع شكوى صاحبة الإيميل.
وقد أثارت مسألة الإيميل تلك تساؤلات عديدة، يظل معظمها بلا إجابات حتى اليوم. فكيف يمكننا أن نفرض وندعم أي شكوى بالتحرش باعتبارها أمرًا واقعًا حتى بعد مرور سنوات على حدوثها؟ وكيف يمكننا أخذ الأمور بقدر أكبر من الجدية والشفافية والالتزام بحق تداول المعلومات حين يتصل الأمر بشكوى بالتحرش باعتبارها مسألة نسوية نفسية لها أبعاد خاصة، تأخذ في الاعتبار أشكالية سكوت وإسكات النساء عن التعبير عن العنف الجنسي، وأشكالية معاناة الصدمة النفسية وتداعياتها طويلة الأمد؟ وإلى أي مدى يمكن للنسويات تصعيد قضايا نسوية تخص غيرهن من النساء، حتى في حالات عدم رغبة صاحبة القضية في التصعيد؟ وكيف يمكن بلورة آليات تمنع استهداف النسويات المتضامنات مع الناجيات من الاعتداءات الجنسية، وحمايتهن من أشكال العنف الذكوري المتضامن مع المتحرش والمعتدي؟ ما الشروط اللازمة لفتح تحقيق غير رسمي في واقعة تحرش؟ ما السياق المؤسسي اللازم لضمان نزاهة التحقيق غير الرسمي؟ ما الشروط التي تضمن مصداقية التحقيق غير الرسمي، وآلياته وتنفيذ توصياته؟ متى يجبر القانون لجنة غير رسمية تصعيد شكوى ما إلى الجهات الرسمية، بتحويل نتائج التحقيق إلى بلاغ رسمي؟ وإلى أي مدى يتوافق ذلك مع قيم التضامن النسوي؟ وما الظروف القانونية التي قد تضطرها إلى ذلك حتى في حالة عدم رغبتها، أو رغبة أطرافها في التصعيد، وتحويل الشكوى إلى قضية؟ ما الآليات التي يتم اللجوء إليها كبدائل للقانون الرسمي الوضعي في ظل إجراءات التقاضي الرسمية الأبوية؟ وما مدى فاعليتها؟ كيف نضمن لتحقيق غير رسمي، يتم على مستوى مؤسسي يحقق العدالة في ظل اقتصار عقوباته على عقوبة تأديبية؟ إلى أي مدى يحق للجنة تحقيق غير رسمية في قضية نسوية أن تصل لنتيجة تفرض عليها اتخاذ خطوات قانونية رسمية، أن تحول شكوى تحرش إلى بلاغ رسمي؟ ما مصير تحقيق غير رسمي يدين أحد الأطراف؟ ما طبيعة العلاقة بين القوانين الرسمية، واللوائح والسياسات المؤسسية، والعدالة البديلة؟ الأسئلة لا تنتهي. .. وفي إطار مجتمع أبوي تظل فيه سلطة القانون هي السائدة، ويصعب فيه إثبات التحرش الجنسي، ويميل فيه منفذو القانون إلى تبرئة المتحرش، وإدانة الشاكية، يظل سؤال أساسي عالقًا: كيف يمكن لآليات العدالة البديلة أن تضمن حقوق النساء التي لا يضمنها القانون؟ وكيف يمكن العمل على تعديل القوانين من منظور جندري بما يضمن حقوق النساء؟
كان لانتشار التحرش الجنسي بالفتيات والنساء، كظاهرة شهدتها التجمعات، سواء في الأعياد، أو المظاهرات، ما دفع بعض المجموعات الشابة إلى العمل على مواجهة الظاهرة، عبر تشکیل مجموعات ترصد الظاهرة، وتتدخل وتتصدى لها بتأمين الفتيات والنساء وتخليصهن، وتوفير الدعم النفسي، والقانوني لهن في أعقاب تعرضهن للتحرش الجماعي، أو الاعتداء الجنسي، إلى جانب النشاط القائم على التوعية بالتحرش، وسُبل مناهضته. وتجدر الإشارة هنا إلى الجهود الرائدة والمتواصلة لمبادرة“خريطة التحرش” (6) التي تأسست في عام 2010 استنادًا إلى رؤية تقوم على” بناء مجتمع يضمن سلامة الجميع من العنف الجنسي والعنف على أساس النوع” (7). كذلك نشأت“قوة ضد التحرش/ الاعتداء الجنسي الجماعي – أوبانتش OPANTISH” في عام 2012 التي تصف نفسها على صفحتها على الفيسبوك باعتبارها مجموعة“متطوعات/ متطوعين والعديد من الجمعيات والمبادرات تعمل من أجل التدخل السريع لوقف التحرش والاعتداء الجنسي الجماعي في المظاهرات والاعتصامات“. هذا وقد ظهرت العديد من المجموعات النسوية التي تأسست بعد يناير 2011، ومن جانبها كانت مؤسسة (نظرة) للدراسات النسوية من أكثر منظمات المجتمع المدني النسوي التي تبنت موضوع التحرش الجنسي في المجال العام، فقامت بعقد لقاءات لمناقشة الظاهرة، وإصدار بيانات متصلة بحالات تحرش جماعي في محيط ميدان التحرير منذ انطلاق ثورة يناير 2011؛ بهدف لفت الإنظار إلى حجم الظاهرة، وبناء تحالفات نسوية لمناهضتها، مستندة في ذلك إلى شهادات من فتيات، ونساء ناجيات من التحرش, والعنف الجنسي. كما حرصت مؤسسة (نظرة)،ومركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، إلى توفير الدعم للناجيات من التحرش والاغتصاب، وإصدار نشرات تتضمن معلومات بشأن الإجراءات الطبية والنفسية التي يجب اتباعها في حالات العنف، والاغتصاب، وكيفية دعم الناجيات من الاعتداءات الجنسية (8). وإلى جانب الدعم الطبي والنفسي، قد يتضمن الدعم تقديم المساعدة القانونية في الإبلاغ عن الجرائم, وسلك المسلك القانوني. أصدرت مؤسسة ( نظرة) في سبتمبر 2017 دراسة عن العنف الجنسي بعنوان:”ربيع العنف والنضال: تطور الحراك حول قضية العنف الجنسي ضد النساء بعد 2011″ توضح فيها دور المبادرات الشابة في التعامل مع العنف الجنسي ضد النساء, كما تسلط الضوء على” العنف الجنسي كقضية سياسية” من خلال عرض مواقف مؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية الناشئة بعد الثورة من قضية العنف الجنسي (9).
ويختلف التحرش والاعتداء الجنسي الذي يتم في الشارع، عن ذلك الذي يحدث في المؤسسات وأماكن العمل. وتمثل وحدة مناهضة التحرش والعنف ضد المرأة في جامعة القاهرة نموذجًا جيدًا للمبادرات المؤسسية لمناهضة التحرش. ويرد في صفحة هذه المبادرات على موقع الجامعة توضيح لدواعي صياغة سياسة لمناهضة التحرش:
يعد التحرش الجنسي ظاهرة عالمية تشكل خرقًا لحق الفرد في الأمن والأمان. وحتى أمد قريب اعتبر الكثيرون في المجتمع المصري موضوعًا حساساً، لا يصح الكلام عنه؛ مما دفع العديد من ضحايا هذه الظاهرة للسكوت خشية اللوم، أو وصمة المجتمع. ولكن مع بزوغ المد الثوري منذ بداية 2011، بدأ الصمت المحيط بموضوع التحرش الجنسي في الانحسار، نتيجة لتمكين العديد من النساء، ومشاركتهن في هذا المدي الثوري، مما جعل من آفة التحرش الجنسي موضوعًا لحوار ونقاش مجتمعي. واستجابة لمطالب مؤسسات المجتمع المدني المتمثلة في مجموعات تهدف إلى مجابهة التحرش، أصدرت الحكومة قانونًا يجرم التحرش الجنسي. وقد دفع هذا مجموعة من الأكاديميين المهتمين للمبادرة بتقديم سياسة لمجابهة التحرش الجنسي بجامعة القاهرة، شارك في صياغتها أيضًا ممثلون عن الطلاب، وبعض مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة في هذا المجال(10).
هذا ولا يقتصر الأمر على وضع آلية للتعامل مع حالات التحرش الجنسي في الجامعة، وإنما يتضمن نشاط الوحدة أيضًا لقاءات تثقيفية لتعريف طلاب وطالبات الجامعة بعمل الوحدة، وبسياسة مناهضة التحرش الجنسي، وكيفية التواصل مع الوحدة والإبلاغ عن حالات التحرش والعنف، وكذلك تدريب الأمن الإداري بالجامعة على أسس تطبيق سياسة مناهضة التحرش داخل الجامعة.
كما قامت الوحدة بإصدار كُتيب يضم سياسة مناهضة التحرش متاح على موقعها الإلكتروني ومنشور بقسم الوثائق في هذا العدد أيضًا(11). ويرد في مقدمة السياسة استنادها إلى محورين أساسيين:”المحور الأول يركز على اتخاذ إجراءات للوقاية والتوعية ضد التحرش في المجتمع الأكاديمي. ويتضمن المحور الثاني التدابير اللازمة للتعامل مع فعل التحرش في حالة حدوثه، ومعالجة الآثار المترتبة عليه“. وتشتمل السياسة على تعريف مفصل للتحرش الجنسي وأشكاله المتنوعة، كما توضح مسؤولية المجتمع الجامعي بأكمله عن تنفيذ تلك السياسة، ممثلاً في إدارة الجامعة، وهيئة التدريس، والعاملات والعاملين. كذلك تشير السياسة إلى تشكيل لجان قائمة على مناهضة التحرش والعنف ضد المرأة وتحديد اختصاصاتها ومهامها. وتوضح السياسة الإجراءات المتبعة في التعامل مع شكاوى التحرش الجنسي، کما تورد بالتفصيل العقوبات الإدارية التي يتم تطبيقها على المتحرش سواء كان من الطلاب، أو هيئة التدريس، أو العاملين بالجامعة، أو من غير المنتمين إلى المجتمع الجامعي. هذا وقد استعانت وحدة مناهضة التحرش والعنف ضد المرأة في صياغة السياسة بمتخصصات، ومتخصصين من مؤسسات المجتمع المدني المصري الفاعلة في مجال مناهضة التحرش والعنف الجنسي، وعلى رأسها مؤسسة (نظرة) للدراسات النسوية، ومبادرة خريطة التحرش. كما أنتجت الوحدة فيلمًا قصيرًا حول مواجهة التحرش منشور على موقع الوحدة، وكذلك على قناة (يوتيوب) الإلكترونية (12)، ويتم إذاعته من آن إلى آخر على الشاشات المنتشرة في أروقة الكليات.
وقد كان لما حققته وحدة مناهضة التحرش والعنف ضد المرأة على مدار السنوات القليلة الماضية، أن بدأت بعض الجامعات المصرية الأخرى في الاستعانة بخبرة وتجربة وحدة جامعة القاهرة، في تكوين وحدات شبيهة في الجامعات المصرية. ومع ذلك تظل بعض الأسئلة عالقة: هل تضمن تلك الآلية عدم التمييز بين المتحرشين أنفسهم بناء على مكاناتهم الاجتماعية والأكاديمية؟ هل تضمن الآلية تشجيع الطالبات على الشكوى ضد أساتذتهن دون أدنى خوف من تبعات ذلك؟ هل تضمن الآلية تشجيع الموظفات، أو عضوات هيئة التدريس، على الشكوى ضد متحرشين أعلى منهن في المكانة إداريًا أو أكاديميًا؟ هل تضمن الآلية تنفيذ العقوبات على الطالب المتحرش؟ وهل تضمن تنفيذها في حالات ثبوت التحرش على الأستاذ تجاه الطالبة، أو الموظفة، أو عضوة هيئة التدريس الأدنى منه مرتبة؟ هل تضمن الآلية عدم وجود تمييز في تنفيذ العقوبات ما بين طالب، وعامل، وموظف، وأستاذ، في ظل وجود تفاوت في العقوبات في حد ذاتها بين تلك الفئات؟ وفي حال تطبيق نفس الآلية في الجامعات الحكومية المصرية، كيف ستتدخل العوامل الثقافية المحلية في آليات التطبيق والتنفيذ؟
إننا حين نتناول قضية العنف الجنسي في المشهد المصري، لا يفوتنا التوقف أمام السياق العالمي، بل ويستوجب تأمل قضية التحرش الجنسي في سياق موجات الحركة النسوية المصرية والعالمية. وقد سبق لي وأن أوضحت، في دراسة بعنوان“لمحات من مطالب الحركة النسوية المصرية عبر تاريخها” (13)،إن طرح الحركة النسوية المصرية لمسألة التحرش الجنسي والعنف ضد النساء، وقضايا أجساد النساء منذ بدايات الألفية، واحتلالها موقع الصدارة خلال السنوات القليلة الماضية، إنما يمثل مؤشرًا على حدوث نقلة يمكن بمقتضاها أن نعتبرها من إرهاصات الموجة الرابعة للحركة النسوية المصرية، والتي سبقت الحركة العالمية التي تتناقش نسوياتها حاليًا عما إذا كانت الحركة العالمية تتخذ منحى جديدًا يمهد لتشكيل موجة رابعة في الحركة النسوية الغربية. ولا يفوتني هنا الإشارة إلى أن الاهتمام بقضية أجساد النساء يعود في مصر إلى خمسينيات القرن الماضي مع طرح قضايا ختان النساء على الساحة، ثم تبني النسويات لقضايا خاصة بالصحة، والحقوق الإنجابية، في العقود التالية، ولكنها مع ذلك، لم تطرح أبدًا كأولوية أو قضية محورية في نضال النساء من أجل حقوقهن. في حين أن تتبع الحركة النسوية المصرية خلال العقدين الماضيين يشهد تطورًا وتعدد مساحات العمل على قضايا أجساد النساء، وفي القلب منها قضية التحرش والعنف الجنسي، بما يعد طفرة في الفكر والعمل النسوي يؤسس بالفعل لموجة نسوية رابعة.
ولا تقتصر مقاومة ومواجهة التحرش والاعتداء الجنسي في الشارع، والمجال العام، على الجهود المؤسسية والنسوية المنظمة، بل لجأت النساء على مدار أجيال متتابعة إلى اللجوء إلى آليات متنوعة للكشف عن التحرش، وفضح المتحرشين، أبسطها الصراخ والفضح في الشارع، ومنها ما يتم عن طريق التصوير والنشر عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. ونظرًا لميل المجتمع الأبوي إلى تجاهل شكاوى التحرش، بل والانحياز إلى المتحرش، تلجأ بعض النساء الراغبات في اللجوء إلى القانون بالادعاء على المتحرش بالسرقة؛ كي تشجع المارة على مساعدتها في اصطحابه إلى قسم الشرطة، ثم يقمن بعمل بلاغات تحرش ضد المتحرش. ذلك إلى جانب ما تحمله معظم النساء من أدوات للدفاع عن النفس بدءًا من الدبوس الذي يستخدمنه في وسائل المواصلات العامة، بغرزه في جسد المتحرش ليبتعد، مرورًا برشاش الفلفل، أو جهاز الصاعق الكهربائي؛ دفاعًا عن أجسادهن. وهي كلها أمور تكشف عن غياب إحساس النساء بالأمان في الشارع، ورغبتهن في نفس الوقت حماية أنفسهن من التحرش والاعتداء الجنسي بشكل خاص، والكشف عن حجم الظاهرة؛ على أمل مواجهتها وتفعيل تجريمها بشكل عام.
أما على الساحة العالمية، فقد كان انطلاق حملة MeToo (وأنا أيضًا) منذ عامين؛ للكشف عن وقائع التحرش الجنسي بالنساء، وذلك عبر إفصاح النساء عما تعرضن له من انتهاكات من قبل شخصيات رجالية شهيرة، منها ما تم منذ سنوات عديدة، سواء بالتصريح عنها على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تقديم البلاغات واتخاذ خطوات رسمية لمحاسبة المتحرشين. وقد لفت انتشار تلك الحملة أنظار الكثيرين منطلقة من سياق عالم هوليود الفني؛ لتتردد أصداؤها عبر الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، وآسيا، وأفريقيا. وهكذا تابعنا تداعيات تلك الحملة في سياقات متنوعة، وبنتائج متباينة، ما بين عقوبات مؤسسية ومعارك سياسية. .. وغيرها. ولعل من أهم ما كشفت عنه تلك الحملة، وما زالت، أن النساء تعرضن ويتعرضن للتحرش والعنف الجنسي على مدار التاريخ، ومساحات الجغرافيا، وأن تلك الممارسات كانت أقرب إلى الممارسات المعتادة، التي تستوجب الصمت، إن لم يكن القبول. ولكن الحملة كشفت في الوقت ذاته عن وجود حالة عالمية من الوعي النسوي تدفع النساء على مواجهة تلك الجرائم، وتفكيك قيم المجتمع الأبوي العالمي. ولا يقتصر الوعي هنا على الإدراك، وإنما يمتد ليشتمل على المواجهة باتخاذ خطوات رسمية وقانونية، رغم تبعاتها والثمن الذي تدفعه النساء للكشف عنها.
ولعل من أهم ما تثيره الموجة الرابعة من الحركة النسوية والعالمية، هو مسألة التضامن النسوي، والذي يتضمن تضامن النسويات مع الناجية، وتضامن النسويات فيما بينهن عبر حدود انتماءاتهن الأخرى طبقية كانت، أم مؤسسية، أم سياسية، أم وطنية، أم إقليمية، أم دولية، والعمل معًا على بلورة آليات؛ لضمان أمان المصارحة، وعدالة المحاسبة، وتقنين تلك الآليات على مستوى العدالة الرسمية والبديلة. ويظل السؤال معلقًا: هل لنا كنسويات أن نتضامن أساسًا مع كل حالة فردية من حالات النجاة من التحرش والعنف الجنسي، أم نسعى أيضًا لبناء حركة تضامن نسوي حول قضية التحرش والعنف الجنسي في حد ذاتها؟ وكيف لنا أن نبني معًا حركة تضامن تساعدنا على تجاوز الخصوصيات، التي تفرضها موقعياتنا، وتقاطعات هوياتنا وانتماءاتنا السياسية، والثقافية، بل ومواقفنا الشخصية، عندما تجد كل نسوية منا نفسها وجهًا لوجه أمام حالة تحرش تستوجب التضامن، فتستدعي المقولة النسوية أن المسألة الشخصية هي قضية سياسية، وأن التحرش الجنسي بالتالي قضية نسوية سياسية
***
أتقدم بالشكر الجزيل إلى الزميلات (إلهام عيداروس، وسلمى شاش، وسلمى النقاش، وغدير أحمد) على ما أبدينه من ملاحظات بناءة في مراحل مختلفة من كتابة هذه الورقة، وإن كان ذلك لا يعفيني من تحمل مسؤولية كل ما كتبته هنا مسؤولية فردية تامة. وأعتذر عن أي تقصير
هالة كمال: أستاذة الأدب الإنجليزي ودراسات الجندر بآداب القاهرة، وباحثة نسوية من مؤسسات المرأة والذاكرة، وعضوة في حزب العيش والحرية (تحت التأسيس).
(1) نشرت هذه الدراسة على جزأين في مجلة جدلية في يناير 2014، ثم تم نشرها مجمعة عام 2016 في كتاب النسوية والجنسانية الصادر عن مؤسسة المرأة والذاكرة.
(2) إلهام عيداروس،“أيقونات جديدة تسقط أوهام الثورة الرومانسية“: (/ أيقونات – جديدة – تُسقط – أوهام– الثورة– الر https://correspondents.org
: 2013/02/12
(3) للمزيد حول اعتراف المجلس القومي للمرأة ممثلا للدولة بظاهرة التحرش الجنسي في المجال العام عقب قضية نهى رشدي، يمكن الرجوع إلى المقالة التالي https://www.alwatanvoice.com/arabic/content/print/130188.html)
(4) يمكن الرجوع هنا إلى الخبر المنشور بعنوان“بلاغ جديد للنائب العام يطالب بالتحقيق مع المحامي خالد علي في واقعة التحرش“، على موقع جريدة اليوم السابع بتاريخ 22 فبراير 2018.
(5) يمكن الرجوع إلى الخبر المنشور في صفحة الحوادث بعنوان“دعوى قضائية تطالب بحظر نشاط“العيش والحرية, بعد التحرش بناشطة في الحزب“، المنشور على موقع جريدة اليوم السابع بتاريخ 17 فبراير2018.
(6) للمزيد يمكن زيارة موقع مبادرة خريطة التحرش (/ https://harassmap.org/ar
(7) رؤية خريطة التحرش“كما ترد في صفحة التعريف بالمبادرة على موقعها
.(https://harassmap.org/ar/who-we-are)
(8) للمزيد، يمكن الاطلاع على ملف التحرش الجنسي على موقع مؤسسة نظرة للدراسات النسوية https://www.nazra.org/terms/sexual-harassment
(9)”ربيع العنف والنضال: تطور الحراك حول قضية العنف الجنسي ضد النساء بعد 2011″، ص19 – 32 https://nazra.org/sites/nazra/files/attachments/vaw-andHYPERLINK”https://nazra.org/sites/nazra/files/attachments/vaw-and-“-
.(movements.pdf
(10) للمزيد يمكن العودة إلى موقع مبادرة مناهضة التحرش في جامعة القاهرة. ( https://cu.edu.eg/ar/anti-harassment #)
(11) للاطلاع على سياسة مناهضة التحرش في جامعة القاهرة، يمكن الرجوع إلى الرابط التالي (https://cu.edu.eg/userfiles/Anti-Harrass-Book-CU.pdf)
(12) لمشاهدة الفيلم (https://youtu.be/zl3A7GA7Syg).
(13) يمكن الاطلاع على الدراسة على الموقع التالي (/ لمحات – من – مطالب– الحركة– النسوية– المصرية –
-
أحمد عبد الرحمن،“صاحبة أول حكم ضد متحرش في الصعيد: كنت حاسة أني رخيصة بس أخدت حقي“، اليوم السابع، 19 فبراير 2018 (صاحبة – أول – حكم ضد – محرش – في الصعيد كنت – حاسة – إني /https://www.youm7.com/story/2018/2/19/ /3656754
-
إلهام عيداروس،“أيقونات جديدة تسقط أوهام الثورة الرومانسية“، 12 فبراير 2013 (/ أيقونات – جديدة – تُسقط – أوهام – الثورة – الر/
.(https://correspondents.org/2013/02/12
-
حنان البدوي،“الأربعاء الأسود: هل تتذكر نوال علي؟ فلنراجع إذن تفاصيل الحكاية“، المدونة: المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، 24 مايو 2013 (الأربعاء الأسود: هل تتذكر نوال علي؟ فلنراجع إذن تفاصيل الحكاية.
( /https://www.eipr.org/blog
-
“ربيع العنف والنضال: تطور الحراك حول قضية العنف الجنسي ضد النساء بعد 2011″،
(-https://nazra.org/sites/nazra/files/attachments/vaw
.(and-movements.pdf
-
مبادرة خريطة التحرش (/https://harassmap.org/ar).
-
مبادرة مناهضة التحرش في جامعة القاهرة (-https://cu.edu.eg/ar/anti
.(harassment
-
مؤسسة (نظرة ) للدراسات النسوية. (https://www.nazra.org/terms/sexual-harassment)
-
ناهد نصر،“درس نهی رشدي“، اليوم السابع، 10 ديسمبر 2008 (درس – نهی–رشدی2008/12/10/https://www.youm7.com/story/ ).
-
هالة كمال، لمحات من مطالب الحركة النسوية المصرية عبر تاريخها، القاهرة:
مؤسسة المرأة والذاكرة، 2016 (/ لمحات– من– مطالب– الحركة – النسوية – المصرية-3/https://www.wmf.org.eg/publication).
-
هند زكي وداليا عبد الحميد،“استباحة النساء في المجال العام“، النسوية والجنسانية، القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، 2016، ص266-282.