إعادة صنع النساء
النسوية والحداثة في الشرق الأوسط
عرض هالة شكر الله*
تتناول سلسلة المقالات في هذا الكتاب العلاقة المتعارضة والمتصارعة بين الحداثة والنسوية. وفي تحد للافتراضات المتعلقة بدور الحداثة في خلق التطلعات والحركات النسائية في عدد من دول الشرق الأوسط يبرز الكتاب ويناقش الديناميكات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة التي خلقت الإطار الذي شغلت فيه المرأة مساحات أكبر.
تركز معظم المقالات على مصر وإيران، وبشكل موجز على تركيا، من خلال شهادات محددة وحميمية في أغلب الأحوال، تصور العلاقة المعقدة بين النساء كفاعل نشيط في عملية “تحررهن“، والنساء كمفعول به، كجزء من مشاريع سياسية أخرى أوسع. وبشكل أكثر تحديدا تتناول المقالات الأشكال الجديدة من العلاقات الجائرة التي تعيد بناء نفسها فيما يتعلق بالحدود المتغيرة لدور المرأة في المجتمع.
تتناول المقالات في الجزء الأول من الكتاب كيف تم إعادة تشكيل دور وصورة المرأة في إطار عصر الحداثة في منعطف القرن في كل من مصر وإيران. في هذا السياق نري كيف تحدد وضع المرأة في إطار الفرص المتزايدة الناشئة عن المشاريع السياسية الكبيرة لعصر شهد تشكيل وظهور الدولة/ الأمة الحديثة مقابل التحالفات التقليدية والهياكل وأشكال القوى القديمة. لقد ظهرت أشكال جديدة من الخطاب في إطار الاحتياجات الجديدة لتلك الأمم، وضرورة إعادة تشكيل الأدوار، والعلاقات، والهويات الخاصة بالفئات الاجتماعية التي قد تدخل في المفهوم الجديد للأمة – الدولة. وسواء كانت قد تشكلت من الأمة – الدولة المأمولة أو من القوى المعارضة، فإن هذه المشروعات حتما قد “حملت” المرأة معها لتحديد هذه الهوية الجديدة للأمة المتخيلة / المتصورة.
أما القسم الثاني فإنه يبحث في فترة ما بعد الحداثة والتي استمر فيها الجدل الخاص بالحداثة والتقاليد، مستخدما أطرا جديدة من المرجعية الاجتماعية والثقافية. وفي مقابل المشروع السياسي لفترة الحداثة وفشله في توفير الحماية لملايين المواطنين الفقراء المحرومين من الحقوق السياسة، فإن الاتجاه للغرب والأصالة الثقافية يشكلان جدلاً جديدًا حول وضع المرأة، ودورها وهويتها في العديد من هذه الدول.
وفي ظل الأطر التاريخية والسياسية المختلفة، ظلت أفكار الحداثة هي الإطار المرجعي الأساسي وإن تمثلت في أشكال رمزية مختلفة، وقد ساعد هذا التمثيل في وضع المشروع تاريخيا وجغرافيا وقوميا في شكل يعكس مركزية السخط الذي استشعر ضد السيادة الغربية المفروضة، والحاجة لإيجاد سرد بديل. وحيث أن كل الأشياء مختلفة فقد ظل المشروع الذي يدور حول حقوق المرأة المشروعة في التعليم والعمل ثابتا بالنسبة للعلمانيين أو الإسلاميين التقدميين على السواء، وظل جسد المرأة ودورها في إطار البيت والأسرة يوضع في الحدود المقدسة التي تكون حمايتها واجب على الأمة بكاملها.
وعلى آية حال، هناك فجوة تاريخية ملحوظة بسبب غياب دراسة فترة ما بعد الاستعمار في الخمسينات والستينات ودورها في تثبيت تلك الحدود من خلال الرقابة السياسية والقضائية المباشرة، والتي لو وجدت لكان الكتاب قد استفاد من تمثيل أوسع للمنطقة التي يدرسها، أي الشرق الأوسط، نظرا لان التباين الجغرافي بتنوعه السياسي والاقتصادي والثقافي قد يقدم للقارئ شهادة أكثر ثراء وتعزيزا للنقاط الأكثر بروزا التي يحاول الكتاب أن يتناولها. وعلى كل ما سبق، فإن الكتاب يقدم مادة حية وطازجة وشيقة للغاية ويعتبر إضافة للجدل الدائر حول دور الحركة النسوية والحداثة وفترة ما بعد الحداثة.
في تحد لمشروع التحديث الذي قام به محمد على الحاكم العثماني المتمرد، يدرس فهمي ويعيد تقييم مدرسة الحكيمات التي أنشئت في مصر في منتصف القرن التاسع عشر (۱۸۳۲)، وهلل لها أنصار الحداثة من كل من الأوروبيين والمصريين كنموذج مبهر للحداثة والتنوير. ومن خلال سجلات الأرشيف والشهادات الخاصة يقدم الكاتب شهادة قيمة عن كيف كانت النساء تستعملن كجزء من مشروع سياسي أكبر، حيث كانت أدوارهن وهوياتهن وأجسادهن عرضة للتفحيص والرقابة والنقد الذي لا يلين من قبل كل من الدولة والمعارضة. وتوضح كيف أنه حتى أحد النتائج الثانوية لهذا المشروع وهي واقع عمل السيدات – في وقت كن فيه يعزلن في منازلهن– كان له أثر وظيفي بحت ومنعزل ولم يكن له أثر مستمر على وضع المرأة في المجتمع في ذلك الوقت. ولم تنشئ أول مدرسة ابتدائية للبنات إلا بعد عشرين عامًا على الأقل. ويحثنا هذا المقال على النظر في اتجاه آخر في محاولة لتتبع أثر بدايات كسر النساء لدورهن التقليدي وربط ذلك أكثر بطموح وجهود النساء أنفسهن فرادي أو جماعات وقدرتهن على خلق واستغلال الفرص.
في شهادة عن إحدى الشاعرات المصريات السيدة عائشة التيمورية التي عاشت وكتبت في القرن التاسع عشر، تتحدي كاتبة المقال مرفت حاتم – من خلال شهادة حميمة عن أسباب ونتائج الاختيارات التي قامت بها الشاعرة – الأفكار السائدة التي تعزي هذا الدور الجديد إلى كسر الأسرة الأبوية المصرية في القرن التاسع عشر. وتقول الكاتبة أن بروز عائشة التيمورية کشاعرة في ذلك الوقت قد تحقق في إطار الحدود الموجودة لدورها كأم وربة منزل. وعلى عكس الكتابات النسوية السابقة فإن كاتبة المقال تقول أن ذلك لم يكن من خلال دعم من الرجل بل من خلال نقل دورها التقليدي كربة بيت إلى ابنتها مما مكنها من تعضيد مكانها الجديد في المجتمع. وواقع أن هذه الابنة توفيت مبكرا بسبب غياب الأم يستخدم بشكل درامي ليثبت لنا الثمن الذي كان على الشاعرة أن تدفعه لاختيارها. إن الصراع الناتج من هذه التجربة المؤثرة وأثرها على الشاعرة يوضح بشكل درامي كيف أن المفاهيم المتعلقة بالأنوثة قد تمتد لتتجسد في أدوار جديدة إلا أنها تظل في إطار حدود اجتماعية ومنزلية معينة. وعندما كان يتم تجاوز هذه الحدود فقد كان ذلك بثمن باهظ للغاية يدفعه الأفراد في عزلة من المجتمع ككل وبدون تأييد منه.
إن صنع ربة بيت متعلمة (نجمابادي)، والأمهات خريجات المدارس (شاكري) والحياة المصرية لجان دارك (بوث)، تكشف كيف تشكل المفهوم الجديد عن المرأة في منعطف القرن في إيران ومصر. وعلى الرغم من أن النقد الذي قام به الكتاب الرجال المستنيرين أو النساء المستنيرات الذين دعوا للتغيير من أوضاعهن لم يتخط بأي شكل من الأشكال حدود التقاليد والدور المقدس للأم والزوجة، إلا أن تعريفات جديدة لهذا الدور نفسه تجسدت في معان تحررية اخترقت العبودية السابقة للمرأة ووسعت الأفق المسموح لها به داخل وخارج البيت. أصبحت السيدات مطالبات بأن تكن مديرات للمنزل وليس ربات بيوت، وأن تكن رفيقات للرجال وليس متاعًا له. وفي نفس الوقت صارت الدعوة لتعليم المرأة مشروعة في إطار توسيع دور المرأة كأم. وصارت من الجمل المأثورة في هذا الوقت أن يقال “إن الرجال يصنعون الأمم, والنساء تصنعن الرجال” حيث يقولها الرجال المحدثون والدعاة من النساء على حد سواء. وفي القلب من هذه الأفكار التحررية جاء دور العلم كأداة للتقدم والذي تقاطع مع كل من الخطاب القومي الحداثي والخطاب الاستعماري.
وعلى الجانب الآخر تدرس بوث في “الحياة المصرية لجان دارك” اختيار البطلات اللاتي كن تبجلن من خلال الجرائد والمجلات في منعطف القرن في مصر كجزء من تشكيل ذات نسائية جديدة في إطار تطوير مفهوم جديد عن الوطنية. وكان العمل المعقد لتغيير الأدوار والحدود هو أكثر الساحات التي يشكل عليها الصراع من أجل التحرر في إطار المفاهيم التقليدية والمقبولة عن الذات النسائية.
في كشف للخطاب في إيران ما قبل الثورة تقدم سوليفان مثالا عن كيف كان المصلحون الرجال ينظرون إلى بناء ذات جديدة للأنثى في إطار الأصالة القومية كمقابل للنموذج الغربي الاستهلاكي. وتم التمسك بشخصيات إسلامية من الماضي مثل فاطمة كمثال ثوري حقيقي يجسد في نفس الوقت القيم التقليدية والجديدة الهامة لبناء الأمة الجديدة. واعتنق كل من العلمانيين والإسلاميين (أي غير العلمانيين) شكل معين من الحداثة تستخدم فيه صورة المرأة (محجبة وغير محجبة) كمقابل لأعداء سياسيين معينين للأمة. والمعضلة التي تفرضها الكاتبة هي أن الدور التقليدي للمرأة – سواء كربة بيت أو أم– مثل في كلا المشروعين نقطة للخروج والعودة، وظل قضية غير محلولة ليومنا هذا.
وتعزز أبو لغد هذا الوضع في دراستها لأعمال كتاب التلفزيون العلمانيين في مصر والأشكال المنتشرة للثقافة الإسلامية. ومرة أخرى يتم التأكيد على واقع أن كلا المشروعين والمتحدثين الرسميين لهما رغم تعريف أنفسهما بشكل مختلف في العلاقة بالغرب والحداثة، فهم إما حاولوا التوفيق بين عمل المرأة والتعليم ودورها المنزلي، أو استبعدوه على أساس أنه يضر بهذا الدور ذاته. ونرى أن التشابه بينهما يكمن في هذا، وان المعضلة ليست في الخطاب السائد سواء كان قومي أو إسلامي، علماني أو غير علماني، ولكن في حياة النساء أنفسهن.
Remaking of Women: Feminisms and Modernity in the Middle East, edited by Lila Abou Loughd. The American University in Cairo Press, 1988.
* عضوة مؤسسة بمركز دراسات المرأة الجديدة. باحثة مهتمة بالدراسات والكتابة النسوية.